أحسب الصُّبح العشا أبدًا ... فنهاري أوَّل السَّحر
لم تمل روحي إلى وطنٍ ... لا ولا قلبي إلى وَطَرِ
سل نجوم الأفق عن قلقي ... فعسى تنبيك بالخبر
لا وعينٍ فيك راقدةٍ ... لم تذق عيني سوى السَّهرِ
أيُّها البدر الذي حجبوا ... نوره الوضَّاحَ عن بصري
لو ترى حالي بكيت على ... قلبي المسجون في سقَرِ
كدت أخفى من ضنَى جسدي ... عن عيون الجنِّ والبشر
للشعراء في وصف نحول العشاق مبالغات غالبها محمولٌ على الإغراق، ومن أبلغها قول أبي بكر الخالدي:
مهدَّدٌ خانه التفريق في أمله ... أضناه سيِّده ظلمًا بمرتحله
فرقَّ حتى لو أنَّ الدَّهر قاد له ... حينًا لما أبصرته مقلتا أجله
وأعجب منه قول أبي الطيب:
ولو قلمٌ ألقيت في شقِّ رأسه ... من السُّقم ما غيَّرت من خطِّ كاتب
وغريب قول التمار الواسطي:
قد كان لي فيما مضى خاتمٌّ ... واليوم لو شئت تمنطقت به
وذبت حتى صرت لو زجَّ بي ... في مقلة النَّائم لم ينتبه
وقول المظفر بن كيغلغ:
عبدك أمرضته فعده ... أتلفته إن لم تكن ترده
ذاب فلو فتَّشت عليه ... كفَّك في الفرش لم تجده
وقول أبي الفضل بن العميد:
لو أنَّ ما أبقيت من جسدي قذًّى ... في العين لم يمنع من الإغفاء
وللعمري:
يا من يفوِّق لحظه ... سهمًا بسحر الهدب راشَهْ
أفديك ما ريمُ الصَّري ... مِ فذاك ينسب للوحاشَهْ
يرعى من الأرض الحشي ... ش وأنت مرعاك الحشاشَهْ
أجاد في التنظير، وأربى على قول الآخر:
يرعى القلوب وترتعي ال ... غزلان بروقه وشيحه
والبروقة: شجيرة تخضر إذا رأت السحاب؛ وذلك قولهم: " أشكر من بروقة ".
وعلى هذا المعنى حمل قول أبي الطيب:
أغِذاءُ ذا الرَّشاءِ الأغنِّ الشِّيحُ
بعد قوله:
جللًا كما بي فَليكُ التَّبريحُ
يقول: ليكن تبريح الهوى عظيمًا مثل ما حل بي، أتظنون أن من فعل بي يغتذي الشِّيحَ؛ ما غذاؤه إلا قلوب العشاق! وبه يتناسب شطرا البيت.
وله غلام بحنكه طابعٌ تمَّت به محاسنه، وكأنما هاروت ساكنه:
غصن بانٍ بدر دجًى ... يتجلَّى من أعالي فلكه
قد حمى برد اللَّمى من ثغره ... طابع الحسن الذي في حنكه
نصبت ألحاظه لي شركًا ... جلَّ من أوقعني في شركه
قوله: قد حمى إلخ يحتمل أن حمايته من جهة أنه كالخاتم، ختم به على برد اللَّمى، ويحتمل أن يكون حماه لكونه كالحفرة في طريق من يريد رشف لماه، فيخاف من الوقوع؛ وهذا تخيُّلٌ حسن.
وأحسن منه قولي:
وطابعه جبٌّ يُرَى ألف يوسفٍ ... به واقعًا من قبل رشفة ريقه
والطابع كالخاتم: في الأصل ما يطبع به، ولم أر إطلاقه على النقرة المعهودة، وإنما اسمها في اللغة: نونَة.
قال ابن الأثير في نهايته: وفي حديث عثمان ﵁، أنه رأى صبيًَّا مليحًا، فقال: دسموا نونته؛ كي لا تصيبه العين. أي سودوها، وهي النقرة التي تكون في الذقن.
وقد استعمل صاحبنا الأديب البارع إبراهيم بن محمد السفرجلاني النُّونة، وأجاد في تشبيهها جدًا، من أبيات أنشدنيها من لفظه، وبيت النُّونة منها قوله:
وإن أشبه التُّفَّاح خدِّيَ حمرةً ... فلي نونةٌ تحكي مناط عروقه
والأبيات هي هذه:
بروحي ساقٍ قد جلا تحت فرعه ... جبينًا كبدر التِّمِّ عند شروقه
سقاني بنجلاويه كأسًا من الهوى ... فأسكرني أضعاف سكر رحيقه
وقال افترع بِكرَ المعاني تغزُّلًا ... فلي منظرٌ يهديك نحو طريقه
فوجهي مثل الرَّوض إذ باكر الحيا ... جَنيَّ أقاحيه وغضَّ شقيقه
وإن أشبه التفاح....إلخ.
ثم أنشدني المذكور معنًّى اخترعه في تسويدها، وذلك قوله:
خافوا من العين ترميه بنظرتها ... فقلت ميلوا إلى تسويد نونته
1 / 7