فلا غرو أن قام بهم شعار الأدب وثبت، وغرس في قلوبهم شجر المحبة فسقي ذلك الغرس بمائها فنبت. وكللت حياض طروسهم الزاهية بجواهر كلامهم وكمالهم، وزينت بعقيان الدر من منطقهم المترجم عن حقائق أحوالهم وأقوالهم.
فمنهم: أبو بكر بن منصور العمري قدمت هذا الشيخ رعايةً لاسمه، مع أني أعلم أن له القيام على حد الأدب ورسمه. فهو الذي خاض في لججه أتم الخوض، وتفنن في أقسامه تفنن الأزهار في سرحة الروض.
إن نشط لمغازلة الغزلان فموصوف بظرف أبي عبادة، أو انتسب لنسيب قدود الغانيات فأين منه ابن ميادة. وإن انتدب لوصف الحميا والكاس، أنسى ذكر خمريات أبي نواس. وإن رثى عم مراثي أبي تمام، وأملى نياحة الفرخ على الحمام.
فهو أعوم في بحور الشعر من ابن قادوس، واصلح إذ جد وهزل من ابن حجاج وابن عبد القدوس. له فكرة في النظم صافية، ما عوقت له قط قافية. فإذا أملى من نظمه قطعةً واختالها من روض الجنان مقتطعة، لم ينته له إسراع، ولم يجف له في يده براع.
وليس بتزويق اللسان وصوغه ... ولكنه ما خالط اللحم والدما
وقد حلب الدهر أشطره، وملأ كتاب عمره أسطره. وحادث أحداثه، وبذ كهوله وأحداثه.
وأخبرني والدي، قال: رأيته ولحيته أنقى من الفضة، وأيام حياته قاربت أن تصير منفضة. ومع أن السنين لاكت قواه، لم يزل مع الركب اليمانين هواه.
ومضى زمنٌ وأدباء الشام به يحتفلون، ويحكم بينهم فيما هم مختلفون. وبلغني أنه كان يحضر السوق، وهو من كسب يمينه على جانبٍ من الوثوق عاملًا بالأثر: " لو كنت تاجرًا لاتجرت بالطيب إن فاتني ربحه ما فاتني ريحه ".
فانظر إلى ما ساقه كساد سوقه، وضيعة حقوقه. على أن له في سوقه الفضلاء أسوة، وكأنه استعار منهم لأشعاره كسوة.
هاتان الفقرتان للباخرزي، احتجتهما، ففي هذا المحل أدرجتهما.
قال: وهم؛ نصر بن أحمد الخبزرزي، وأبو الفرج الوأواء الدمشقي، والسري الرفاء الموصلي.
قلت: وهم الذين إذا تليت آياتهم المنسوقة، كان من تقدمهم من الأدباء عندهم سوقة.
أما نصر، فكان يصنع خبز الأرز بالبصرة وتجتمع الأدباء بحانوته.
وأما أبو الفرج فقد كان يسعى بالفواكه رائحًا وغاديًا، ويتغنى عليها مناديًا.
وأما السري، فقد كان يطرز الخلق، ويرفأ الخرق ويصف تلك العبرة، ويزعم أنه يسترزق الإبرة.
وكيف ما كان فالحرفة لا تخلو من حرفة، والصنعة لا تنجو من صرعة، والبضاعة لا تسلم من إضاعة، والمتاع ليس لأهله به استمتاع.
وأخبرت أنه كان سموحًا بما ملك، متخليًا عن الإمساك أيةً سلك. يضم يديه على النقدين، فلا يمسي إلا وهو منها صفر اليدين. وقضى عمره في بلهنيةٍ هنيةٍ، أغصان عيشها ما زالت جنية. لم يغادره بؤس، ولم يكدره يومٌ عبوس. بين رياضٍ مهزات نبتها ريانة، وغياضٍ أساجيع أطيارها مرنانة.
وقد وقفت من أشعاره الغضة التحف، ما به ديباجة كتاب اللطائف والبدائع تحف. فأوردت منه ما يهز له الشيخ عطف غلام، ولا يدرى أسحرٌ هو أم كلام.
فمنه قوله:
لو تم لي في الحب سعدي ... يا حب ما أخلفت وعدي
لكن مقادير القضا ... ء كأنها حكمت ببعدي
أو حظُّ كلِّ متيمٍ ... من حظه يرمَى بطرد
يا غائبًا في القلب من ... نيران فقدك أيَّ وقدِ
ما كنت أدري قبل بع ... دك أن سهم جفاك يُردي
صدِيَت لرؤيتك العيو ... ن علام ترميها بصدِّ
يا سيدي إن كان لي ... ذنبٌ فقل أخطأت عبدي
ما خنت عهدك في المحب ... ة كيف حتى خنت عهدي
كلا ولا أفشيت سرَّ ... هواك والأسرار عندي
ولهي بحبِّك لم يزل ... ولهي ووجدي فيك وجدي
أرضى بأن أفنَى وتب ... قى أنت يا مولاي بعدي
أخفيت حبك في الفؤا ... د فخطه دمعي بخدِّي
وعدا على جسمي النحو ... لُ فعاد للأسقام يُعدي
محن الهوى جمعت عليَّ ... فلست أحصيها بِعَدِّ
فالسُّقم يشهد والدمو ... ع بوحدتي في العشق وحدي
يا بدر سل عني السُّها ... إن السُّها أدرى بسهدي
1 / 5