وأتيت فيهم بفصول تشهد لهم بالتفضيل، وتقضي بأن كل وصف فيهم فضول، بالإجمال والتفصيل.
وإني محاسب لقلبي إذا مال، وللساني إذا قال. لا أمدح إلا ممدوحًا، ولا أقدح إلا مقدوحًا. ولا يستفزني رعد كل سحابة، ولا يستخفني طنين كل ذبابة. ورقمت من الكلام المصرع، والإنشاء السلس المرصع. ما استنبطته من ذوات الصدر، وألمعت به كالقمر ليلة البدر. فقرًا ابتدعتها وسجعتها، ومعاني آدابٍ اخترعتها وألمعتها. تطرزها الأقلام، وترقم بها أردية الكلام. ولم أودع إلا ما حسن إيداعه، ولطف مساغه وإبداعه. وأقنع من القول بطرفه، وأستجلب منه بدائع طرفه. إذ لا فخر للاقط، تناول كل ساقط. ولا فضل لمتخير، هو في لم شعث ما يأتي به متحير.
فكم من بيت إذا أخذ الإذن على الأذن تتجرعه ولا تكاد تسيغه، وكم من معنى إذا حاول ناظمه لم يتأت له كيف يصوغه.
وكنت عزمت على ألا أترجم أحدًا ممن ترجمه، ثم عدلت؛ لأني رأيت ألسنة النقاد عن زيف بعض تراجمه مترجمة.
فإنه وإن نوه بحزب، إلا أنه قصر في الإطراء بشعارهم، وإن أطنب في آخرين؛ إلا أنه لم يذكر عيون أشارهم.
على أنه نور الله مزاره، ومحى من صحيفته يوم العرض أوزاره أغفل من القوم حزبًا نقايا، وكأنه أومأ إلى قولهم: في الزوايا خبايا.
فذكرت من أغفله ذكرًا شافيًا، وأعدت مما فوته قدرًا كافيا. ومن نظر بعين الإنصاف، واتصف من المعدلة بأحسن الأوصاف. علم بأني أتيت بما يرضى في الجملة، ولم يقصر كل التقصير في الحملة.
فإن من أحسن قبلي وقبل كلامه، وقل في مثل هذا الغرض ملامه، إنما أحسن والدنيا شابة، وريح القبول هابة. والأيام مساعفة، والأوقات مساعدة. والسعود قائمة، والنحوس نائمة.
وأنا قد وجدت في زمان هرمت فيه البلغة، وفترت الدعوة وكسدت السلعة، وبطلت الصنعة.
وأعظم شيء في الوجود تمنعًا ... نتاج مرام من عقيم زمان
وقد رتبت الكتاب على ثمانية أبواب: الباب الأول: في محاسن شعراء دمشق ونواحيها.
الباب الثاني: في نوادر أدباء حلب.
الباب الثالث: في نوابغ بلغاء الروم.
الباب الرابع: في ظرائف ظرفاء العراق والبحرين.
الباب الخامس: في لطائف لطفاء اليمن.
الباب السادس: في عجائب نبغاء الحجاز.
الباب السابع: في غرائب نبهاء مصر.
الباب الثامن: في تحائف أذكياء المغرب.
وسميته نفحة الريحانة، ورشحة طلاء الحانة. والله سبحانه موفقي لما أردته، ومسدي فيما أوردته.
ولما شارفت فيه التمام، ووقفت في التبييض على طرف الثمام. نظرت فرأيت بقي علي من أشعار أهل الحجاز واليمن حصة يسيرة، كانت علي في التحصيل عسيرة. فحين من الله علي، وله المنة، والمنحة التي لا يشوبها كدر المحنة. بالحج والمجاورة في بيته المحترم، وبسمت لي من أهله ثغور الفضل والكرم. حصلت على ضالتي التي أنشد، ووفقت إلى من يوصل إليها ويرشد. ورأيت ثمة ممن لم أسمع بهم قومًا دعوا الأمل فلباهم، وتصرفوا بالأدب وأهله من منذ عقدت عليهم حباهم. من كل إمام شاب رأس المصابيح وما رأت له عديلًا، وخطيب تقوس ظهر المحاريب وما وجدت له بديلًا. وحكيم يبرأ به الزمان من مرضه، وشاعر يجري حياة النفوس في غرضه. هم نشاط الدهر وشبابه، وخالصة المجد ولبابه.
كأن الله قد أوحى إلى البلاغة أن تجري بمرادهم، وعهد إلى البراعة أن تكون ثنى أبرادهم.
فهبت لي منهم أنفاس ندية، وتنفست أسحارهم بروائح ندية. فكانت أعطر من نشر الخزامى، وأرق من أنفاس النعامى.
فتناولت من أشعارهم ما نمقته وشيًا مذهبًا بذكرهم، وفتقته مسكًا أذفرًا بشكرهم. وراسلوني بكل حسنة تستدعي عشر أمثالها، فقابلتهم كأنني المرآة ألقى كل صورة بمثلها. وأنا ورب الكعبة أ؛ بهم دينًا وجبلة، وأتخذهم حرمًا لأماني وقبلة.
وأشكرهم شكر الروض للسما، وأثني عليهم من الأرض إلى السما. ولما برزت الإرادة الإلهية بمفارقتي البيت والمقام، وبعدي عن ذلك المحل الذي خيم الرضا فيه وأقام. عزمت على الرحلة إلى القاهرة، لأسبر ذلك الجمع، وأطابق ما بين العيان والسمع. فمنعني حكم القضا، الذي لا يقابل إلا بالرضا. فوجهت وجهي نحو بلادين ونزعت إلى ما تركته من طريفي وتلادي. أستهدي طرف الآثار لأودعها كتاب التحائف، وأخط نونات المنى بأيدي العيس في تلك الصحائف.
1 / 3