جاء أمةً وحده في الافتنان، وامتطى جواد البراعة فأجراه طلق العنان. فهو في النباهة آية، لم تفته من مطالبه غاية. فكل خاطرٍ ينفد إلا خاطره، وكل سحابٍ يضن إلا سحابٌ يسح من فكره ماطره. ومكانته في السؤدد عالية، وساعة قربه ليست بالعمر غالية. تحلى بالزهد، وبذل في التخلي الجهد.
وشعره حجة متصابٍ وفتنة متناسك، إذا سمعه المشغوف لم يبق فيه إلا رمقٌ بلذاته متماسك. قالت الأصداف: الفخر لألفاظه الغر، فلذلك حشا الدهر في فمها الدر.
إذا ابتدأ معنًى أبرزه كهلال العيد، وأوقعه موقع فصل الخطاب وبيت القصيد.
وإن استعاره صيره خلقًا جديدًا، وجعله كليله في الفكر جديدا.
وأقام دعامته إن خفي رسمًا، وأعطاه روحًا إذا كان جسمًا.
وأنا ممن ألهج به ابتهاجًا وزهوًا، ولي بمحاسنه شغف المتيم بمن يهوى. تحركني إليها دواعي الوجد، فأولع بها ولوع ابن الدمينة بصبا نجد. وقد جئتك منها بما يملأ المسامع التذاذًا، ويجعل القلوب من الوجد جذاذا.
قال في الغزل:
رشأٌ تمكَّن من فؤاد التَّائه ... في قفر حُبِّيه وفي بيدائهِ
أسدٌ يجول بحلية الحسن التي ... فيها الأسود تكون من أُسرائهِ
ملكٌ ترى رمحَ القوم وقوس حا ... جبه وسيفَ اللَّحظ من نظرائهِ
قمرٌ تراءى نحو مرآة السَّما ... ءِ وفيه أثَّر بدره بإزائهِ
أترى أرى نفسي مفكَّهةً به ... ليلًا يحنُّ إليَّ في ظلمائهِ
فلكم تطاول نأيه عنِّي وذق ... تُ به عنًا لا ذقت طعم عنائهِ
في ليلةٍ تلقى الكئيب مفكرًا ... ممَّا به يرعى نجوم سمائهِ
لولا غزير الدَّمع أحرقه الحشا ... لولاه أصبح مغرقًا ببكائهِ
أمعنِّفي دع عنك تعنيفي فلي ... س يطيعني سمعي على إصغائهِ
لم يصغِ للتَّعنيف مسمع والهٍ ... رسخ الهوى والوجد في سودائهِ
يا صاحبيَّ سلاه هل من عودةٍ ... بزمان أنسٍ تمَّ لي بلقائهِ
أم هل وصالٌ أرتجيه منه أو ... وعدٌ فأبقى في انتظارِ وفائهِ
أم هل أسامر طيفه من بعد أن ... قاسيتُ فرطَ نفورِهِ وإبائِهِ
فهواه داءٌ ضمن قلبي لا يزو ... لُ وما لقلبي مَخلصٌ من دائهِ
فأنا المقيم على المحبَّة والوَلا ... وأنا الذي في الرِّقِّ من خُدَمائهِ
وله من قصيدةٍ كلها درر وغرر:
أما آن من نجم الشُّجون غروبُ ... وحتَّى متى ريح الفتون تنوبُ
تكلِّفني من بعد سلوان صَبوتي ... شَمالٌ تُعنِّي مهجتي وجنوبُ
سهرتُ لها نائي المضاجع فانبرى ... لها بين أحناءِ الضُّلوع لهيبُ
إذا ركدت ريحٌ وقرَّ نسيمها ... أبى منه إلاَّ أن يعود هبوبُ
وفي الصَّدر بدرٌ فيه لم تحظَ أعينٌ ... ولا صوَّرته للنُّفوسِ قلوبُ
محيَّاه روضٌ ناضرٌ في نثيرِهِ ... نظائم منها باهرٌ وعجيبُ
قناةٌ عليها للشُّموس مطالعٌ ... ومركزها دون الإزارِ كثيبُ
بعيدُ مناطِ القُرطِ سحرٌ لحاظُه ... ذَهوبٌ بألبابِ الرِّجال لعوبُ
بديع التَّثنِّي للهواء وللهوى ... نسيمٌ يباري لطفه ونسيبُ
يجول وِشاحٌ أو تَغصَّ دمالجٌ ... إذا لاح في بردٍ وماس قضيبُ
يُرى منه في ريمٍ مهاةٌ وضيغمٌ ... ويعرض في الأخلاء منه مهيبُ
يشوب الرِّضا بالصَّدِّ والوصل بالقِلى ... وما هو إلاَّ مسقمٌ وطبيبُ
تمنُّعُ إطماعٍ وإطماعُ مانعٍ ... ودرٌّ ودَلٌّ رائقٌ وخلوبُ
دعاني إلى الرُّجعى على حين غفلةٍ ... من الحسن والأهواءُ منه تريبُ
دعا سائري من كلِّ عضوٍ وكلَّما ... دعا منه داعيهِ أجابَ مجيبُ
1 / 23