وفي مدينة كبيرة كهذه مليئة بالذئاب، ذئاب الليل وذئاب النهار، ذئاب الأوتوبيسات وذئاب العربات، وحتى الأرصفة وطوابير الجمعيات الاستهلاكية لها ذئاب، وفي عمارة كبيرة كهذه لا يمكن أن يسلم الأمر من وجود ذئب.
والحقيقة أنه كان فيها أكثر من ذئب من العبث التصدي لهم جميعا، فيكفينا ذلك الشاب الأبيض الحليوة قاطن الشقة الوحيدة بالدور الأرضي، أخف سكان العمارة دما، وأكثرهم حيوية وتواضعا، كما أنه خدوم شهم يجيد احترام الآخرين ورفع الكلفة معهم، وكل هذا طبعا لا يعني أنه ليس بذئب؛ فالحقيقة أن هذا السطح البراق الخاطف للبصر كان يخفي ليس ذئبا فقط، إنما يخفي ضبعا شريرا لا ذمة له ولا ضمير؛ فهو مجنون بالنساء جميعا، وفي سبيل أن يظفر بالواحدة منهن مستعد أن يفعل المستحيل، مستعد أن يكذب أو ينافق أو يسرق أو يقتل أو يستعمل القنبلة الذرية لو كان يملك واحدة، والمرأة عنده ليلة واحدة يقضيها معها، وبعد هذا يبحث عن الثانية، وكأنه أخذ نساء الأرض جميعا مقاولة، وعليه أن ينتهي منهن قبل أن يفرغ عمره، وعمره الآن خمسة وثلاثون عاما، وسمعته كالذهب، أو عبقريته أنه استطاع أن يخفي حياته الأخرى هذه عن المجتمع الذي يحيا فيه، بحيث يمشي مع الشرفاء مرفوع الرأس لا يعرف ما بداخله سوى ضحاياه، وحتى ضحاياه كثيرا ما غفرن له، بل وبعضهن أحبه وتعلق به وذاق من العذاب أهوالا. بالطبع كان قد انتهى من كل من رقن في عينيه من سكان العمارة، وبالضبط وهو عائد ذات يوم من عمله، وبعدما حياه «حامد» بطريقة البوابين التي كان قد أتقنها، والتي كان يستطيع بها أن يوهمك أنه وقف بينما هو في الحقيقة لم يغادر مجلسه، و«فتحية» أمام باب الحجرة جالسة قد احتوت رضيعها تمنحه ثديها الأبيض الناصع الشديد البياض الضامر أيضا، الضامر إلى درجة لم يكن يملك معها الإنسان إذا رآه إلا أن يرثي لصاحبته!
ولكن أفندينا - الساكن - لم يرث؛ ألقى عليها نظرة، ثم بالتفاتة مقصودة أو غير مقصودة ألقى نظرة أخرى على «حامد» الذي عاد يمد ساقه النحيلة فوق الساق الأخرى، بحيث يمكنه أن يمد ذراعه، ويسند إليه يده، ويداعب مسبحة رخيصة ناقصة الحبات، بينما وجهه الأسمر الحافل بحفر تشهد أن الجديري قد زار طفولته، وجهه ذاك قد عادت تحتله ابتسامة طيبة مليئة بسعادة ساذجة البراءة، وبدا كما لو كان يعود لينهى - بحماس فاتر - ابنه الأكبر عن تخطيط رخام المدخل بقطعة طباشير عثر عليها، وكان سعيدا بابنه وشقاوة الذكورة فيه سعادة تجعل لسانه ينتقل في نشوة من تأنيب ابنه ونهره إلى مداعبة «فتحية» ومطالبتها بابن ثالث عله يطلع هادئا وديعا كأمه.
استوعب الأفندي الساكن هذا كله في الزمن القليل الذي استغرقه ليصل إلى باب شقته، ويضع مفتاحه في قفلها، وفي ومضة كان عقله المركب بطريقة لا بد غريبة بالغة التعقيد، فمشهد كهذا كان يمكن أن يهز بعضهم رأسه لرؤيته، أو يبتسم في رثاء مثلا، أو حتى إذا كان شريرا، فأقصى ما يفعله أن يسخر بينه وبين نفسه من هذه العائلة الطيبة المسكينة السعيدة. أما هو فقد كان موقفه أن اتخذ في الحال قرارا لا رجعة فيه، أن يلتهم «فتحية»، ويضمها إلى قائمة الضحايا. هو ليس إذن ذئبا عاديا، إنه ضبع، أشد ما يجذبه إلى الضحية هو بالضبط نفس الأسباب التي تدفع غيره من الذئاب لأن يبتعد. إن أسعد مغامراته تلك التي انقض فيها على أرملة في نفس ليلة وفاة زوجها العجوز، أو تلك التي بدأ بها تاريخه حين ضاجع أم زميله الذي كان يذاكر معه. أما تلك الخائفة المنكمشة على نفسها، التي ما خاطبها مرة إلا واستدارت بعيدا مبتعدة أو هاربة، ذات الثدي الأبيض الضامر وزوجة الأسمر الطويل الفلاح «حامد»، فلا علاج لانكماشها على نفسها وخوفها منه ومن مصر والمصاروة، إلا بأن يأتيها عساها تكف عن الانكماش، وتأنس إلى ناس المدينة.
وعبقريته، ولكل عبقريته الخاصة، أنه ما إن يتخذ قرارا كهذا، حتى يبدأ عقله يتفتق عن أفكار جهنمية، وعن طرق ووسائل لا يمكن أن تخطر على عقل بشر؛ فهو خامل كسول ممتعض الابتسامة إلى أن يحدث وتقع عينه على الواحدة منهن ويقر قراره، في الثانية التالية تجده قد استحال إنسانا آخر دبت فيه طاقات الحياة، وتفجرت في عقله الأفكار والخطط، وأقبل على الحياة بشهية مفتوحة، وأصبح كائنا آخر لا تكاد تعرفه.
وقبل أن يدير المفتاح كانت يده قد خبطت جبهته علامة الألم للنسيان، وكانت المحفظة قد أخرجت وخمسة جنيهات قد فردت أمام عيني «حامد»، وعلبة سجاير كليوباترا يا «حامد» نسيت شراءها، هاتها أنت من تحت الأرض بأي ثمن ولو بثلاثين قرشا، والورقة بخمسة جنيهات معك، لا تعد إلا بها يا «حامد»، حتى لو ذهبت إلى شبرا البلد.
يا لمكره وهو يفتح ل «حامد» باب الاختلاس المحدود على مصراعيه! الاختلاس المغري بالغياب وادعاء التعب. ويا لطيبة «حامد» وهو يبتلع «الطعم» في الحال! ويقرر حتى قبل أن يبرح مكانه أن ثلاثة قروش على الأقل ستدخل جيبه من هذه الصفقة، وعليه أن يبرهن أنه استحقها. أما أنت يا ست منكمشة - فبعدما تأكد من ذهاب «حامد» ها هو ذا يعود فاتحا باب شقته الذي لا يبعد عن باب حجرة «السلم» إلا بضع خطوات: مش تشرفينا؟ «فتحية» فعلا وأنت «فتحية»، وابنك الرضيع هذا؟ «سلطان؟» عاشت الأسامي، والثاني «عنتر؟» ياه! عيلة أبطال صحيح، والثالث؟ ما فيش ثالث؟
من هنا نبدأ، ونبدأ بلو كنت من «حامد» لكان الثالث على الأبواب، وعلى هذا الباب الأخير مضى الولد القاهري «المرقع» يدق دقا اكتشف أن «فتحية» بالكاد تعيه. أغباء هذا أم استغباء؟ على أي الحالين عليه أن يغير الأسلوب. المال؟ إن هذا النوع لا يقدر قيمة المال، فلا يعرف قيمة المال إلا من يعرف كيف يصرفه، إلا المتعامل بالمال. الحب؟ إن هذا الصنف أيضا لا يتطلع إلى الحب، أو بالذات حبه، هم لا يرفعون عيونهم أبدا إلى ما فوق الحواجب، ولا يتطلعون إلا لحب من في طبقتهم، أو ربما إذا تطلعوا فإلى الأعلى منها بقليل، أما هو البيه الوسيم الذي يعامل الخمسة جنيهات بهذا الاستهتار فمحال. من أين «أكلك» إذن يا «بطتي» النحيفة المعضمة؟ بخطة بعيدة المدى لا بد، خطة تجعل هذه الخائفة المنزعجة المذعورة تطمئن إليه أولا، وتكف عن الخوف منه، ثم يتقدم خطوة ويرفع الكلفة معها، ثم ينتهز الفرصة أو يخلقها خلقا، ويحاصرها حصارا لا تملك معه إلا السقوط.
وما كاد يبدأ التطبيق حتى أدرك أنه رغم كل ذكائه وفهلوته قد خانته فراسته هذه المرة؛ فهو ما كاد يبدأ الخطوة الأولى لتطمينها بالحديث معها، حتى أدرك أنه ليس أمام إنسانة، وإنما هو أمام حيوان كحيوان القواقع، ما تكاد تحس باقتراب صوت أو خيال، حتى تنكمش وتنكمش، حتى لتستحيل إلى كتلة صماء من اللحم والعظم غير قادرة على الإرسال أو الاستقبال. إنه للآن لم يرها رأي العين، إن هي إلا مرة رأى فيها وجهها، وما كادت تدرك أنه يراها، حتى كان وجهها قد اختفى، واختفى وهي أمامه لم تبرح مكانها ووسامته من أقوى أسلحته، وقد كان يريد لها أن تراه، كان متأكدا أنها إذا رأته مرة، وتطلعت إليه مليا، فإن شيئا ما سيحدث لها، تماما مثلما كان يحدث للعشرات اللاتي سبقنها، ولكن كيف تراه وهو كلما هم بالتحدث معها أحس أن شيئا في داخلها يمنعها أن تسمع، وإذا سمعت يمنعها أن تعي، وإذا وعت يمنعها أن ترد أو تجيب، أو حتى تتطلع لتعرف من الذي يتحدث؟
وقد كان من الممكن أن يحدث هذا ل «فتحية» في أول مقامها بالعمارة، أما بعد أن خرجت وجابت الشارع، وأصبحت تتعامل مع السكان وغير السكان، فهو موقف إذن من الأفندي وحده. «فتحية» في الحقيقة لم تكن تفعل معه هذا اعتباطا؛ فهي ليست غبية ولا فقدت الحذر، وحين تلا حديثهما العابر البريء الأول بحديث أحست به مصطنعا مفتعلا استيقظت فيها فجأة كل مخاوفها القديمة تجاه مصر والبحر والأيدي الممتدة، وملأها الرعب من ذلك الأفندي الذي كثيرا ما هتف به الهاتف، صحيح أن الهاتف لم يحدد شكل الأفندي، ولكنه أفندي تحس أنه عن عمد يتقرب إليها. أليس هذا كافيا لكي يجعلها تحس أنها أصبحت بين أنياب الخطر، وإن هي إلا كلمة تفلت منها أو لين تظهره تجاهه، حتى تنتهي هي وينتهي كل شيء. لقد أصبحت من فرط حذرها بالكاد تنام الليل، ووجود «حامد» نفسه لا يطمئنها، والباب الذي تغلقه وتتأكد أكثر من مرة أنه مغلق لا يفلح في كبت مخاوفها؛ فمصيبتها الكبرى أن الهاتف يؤكد لها أن ما يوسوس لها به سيقع، برضاها سيقع، برغم رضاها سيقع. إنها تكاد تجن، فلتجن أو فلتمت أو ليحدث أي شيء، ولكنها ستقاوم، ولن تسمح لصلة أو حتى كلمة أن تكون بينها وبين ذلك الأفندي، ولتدر المعركة في داخلها في صمت رهيب لا يعلم بها مخلوق، ولا تستطيع أن تبوح بها لمخلوق.
Bilinmeyen sayfa