فلتكوني جدة أو جنية، فالمهم أنك الآن أمامي أنثى، وأنا الذكر حتى ولو كنت أمي نفسها وأوصلتني إلى هذه الدرجة فلا تتوقعي أبدا أن تجدي في الابن.
يصبح الكلام بلا فائدة فتستعمل اليد، يدها، وتدفعه برفق دفعة الأم لابنها المناكف، فيعود يقبل عليها بإصرار الابن المناكف، تريه الشعر الأبيض في رأسها ليصدق، ليكتشف هو وتكتشف معه أن ناره لا تزيد إلا اشتعالا، وأنها كلما قربت نفسها من صورة أمه أو حاولت أن تستثير فيه الابن، لا يفعل هذا كله إلا أن يؤجج الشاب، الذي بدا وكأن ما أصبح يثيره فيها أنها أم، أمه، بل وصلت إلى ما هو مرعب أكثر، أنها هي كلما شعرت وأقنعت نفسها أنه لا يعدو كونه ابنا، كلما أحست ومنها له انطلقت من أعماقها الأنثى، أنثى ترعبها فهي أبدا ليست تلك التي عاشت ابنة مطيعة ورباها أب وأم وعلماها وزوجاها وأنجبت أبناء أنجبوا بدورهم أبناء، أنثى أكثر أنوثة من كل ما تصورته في حياتها عن نفسها كأنثى، أنثى حبيسة شيطانية تدمدم مهددة بانفجار لا يعلم سوى الله مداه، أنثى كأنها الأذرع الطويلة القوية لأمومتها تختلج متحركة في كل اتجاه، وتريد إرادة لا وسيلة لقهرها أن تطبق على الشاب الصغير إطباقة تبتلعه فيها وتحتويه ليعود مرة أخرى جزءا منها. الشاب الذي - وأولادها حاضرون محدقون شاهدون - تراه هو الغريب أكثر قربا وبنوة منهم جميعا. الشاب المضطرب بين خجله منها ورغبته فيها، الخجل حتى من ذكورته، بل خجل أكثر من أنوثتها. الشاب الذي وكأنما يريد اعتصار الأمومة فيها إلى حد الأنثى، أو يريدها كأنثى إلى درجة اعتصار كل ما قد يكون فيها من أمومة تخصه وحده دون سواه. ظمآن إلى المرأة من زمن، أما أو أنثى، لم يعد يكفيه أن يطوقها أو يرقد ساكنا في حضنها، وإنما يقترب منها بكل ما يستطيعه من اندفاع كي ينتمي إليها كما يذوب فيها ويتلاشى، وكأنه الكوكب يعود بعد طول دوران إلى أمه النجم.
ولكنها رغم هذا كله كان هناك في داخلها شيء لم يكف عن الصراخ أبدا، أو إشعارها بوجوده، شيء يقول بأعلى صوت ومذ كانا على عتبة السيدة: لا، لا، لا. شيء قد يضعف أو يخفق، ولكنه أبدا لم يمنح ولم يكف ولم يتوقف للحظة، بل ظل يستجمع نفسه بكل قواه إلى أن انتفضت مرعوبة ملتاعة دافعة إياه، وبكل ما تملك من قوة وعنف بعيدا عنها. دفعة كالصخرة ارتطمت برأسه فأفاق، وأحس أن كل ما راوده أحلام، وأنه لا يزال ذلك اليتيم المنبوذ.
وحينذاك، وحينذاك فقط ورغما عنه بدأت الدموع تتجمع في مأقيه وتطفر، بينما عيناه تنظران إلى أمام، تلك النظرة الملتاعة المفجوعة المتأكدة أنها وبلا أمل، قد فقدت حقيقة الأم.
نظرة اليتيم حين يرمق طوابير الرجال والنساء مقبلة تعانق أطفالها ويتقافز حولها الأطفال، وهو الوحيد الذي ليس له بينهم أم، بل وأب أيضا.
تلك النظرة الغارقة في الدموع التي لمحتها بربع عينها، وأحست بعدها أنها انتهت تماما، وأن على أي شيء أن يحدث، ولكنها أبدا لن تجعله يشعر بيتمه الثاني.
نظرة الأم لابنها في لحظة خطر يهدد أمومتها له أو بنوته.
وكان هذا الاندفاع والاحتضان والقبلات تغسل بها دموعه وتهدهد بها فوق ملامحه الكسيرة. - أمال بتزقيني ليه؟ - مش ح ازقك.
لم يكن ردا، كان قرارا وإلى جهنم مباشرة فلتذهب. - تعال، تعالالي.
وجاء ولم تحتوه أو يحتوها، إنما فقط ذابت المسافة التي استمرت طويلا بينهما، وذاب الزمن.
Bilinmeyen sayfa