وغير مهم بعد هذا أن تصبح النقطة شرطة، والشرطة خطا طويلا لا نهاية لطوله.
أبدا غير مهم.
العملية الكبرى
1
ما كان أصعب أيامها - وبالذات لحظتها - أن يشك! بل هو لا يزال لا يعرف كيف، كالبخار المتكاثف، بدأت تتجمع السحب؛ فالمهمة على غرابتها الشديدة بدت أول الأمر مجرد مهمة أخرى من المهام الكثيرة التي كان يوكل إليه بها. كل ما في الأمر أنها طريفة، وعلى وجه الدقة مثيرة لعجب طريف لا بد تمط له شفتيك، أو تهز كتفيك؛ فمع انتهاء العملية الكبرى، والجميع في قليل من الوجوم يتهيئون للانصراف، جاءه الأمر من الأستاذ الكبير أن يبقى بجوارها حتى تموت، ولأن لا طبيب بلا ممرضة، فقد ترقب همسة «الأخت تريزا» التي ستحدد الاسم، وما كاد يسمع «انشراح» التي نطقتها «انسراح» حتى وجم وكاد يغضب ويدفعه لطلب آخر، ثم رن في أذنه المثل: «خسرانة خسرانة!» وأصبح مناسبا جدا في نظره أن تكون «انشراح» بالذات هي شريكته في انتظار الموت.
وحين «صفصفت» الحجرة عليهما، ولم يعد هناك إلا هو وهي والموت الرابض على صدر السيدة، بدأت المهمة تتحول من روتين إلى نوع من الواجب الثقيل. لو كانت شريكته في انتظار النهاية ناهد مثلا أو سهير أو مديحة، أو حتى كاميليا لانقلب الواجب إلى متعة، أما المتوحشة البراوية «انشراح»، الغاضبة أبدا، المتنمرة تكاد «تخانق ذباب وجهها»، فأي أمل له في بعد ظهر هادئ حتى؟
بعد ظهر كان قد بدأ من زمن، وقفزات عقرب الدقائق في الساعة التي تتوسط الحائط من إحساسك ببطئها تبدو كل مرة كما لو كانت تفاجئك بحدوثها. بعد ظهر أصبح خوفه أن يطول ويطول حتى ليصل الظهر بالمساء، ومن يدري ربما بالليل أيضا؟ وما دامت ميتة ميتة، فلماذا هذا العذاب كله؟ وما دامت هذه الأنفاس المأخوذة على هيئة شهقات - مفاجئة أيضا كقفزات العقرب - خارجة بسرعة كالزفرة، ما دام هذا هو تنفس «طلوع الروح»، فما الداعي لعذابها باستمراره واستمراره؟ ما الداعي «يا ست انشراح» بلا أي «انشراح»، العاقدة ملامحك وكأن المسجاة هي السيدة والدتك، المنكبة حضرتك على إبر التريكو بأصابعك القمحية الرفيعة الطويلة كإبر التريكو تنسجين بداية «البلوفر» التي لم تزد رغم آلاف الغرز مساحتها، وكأنما حضرتها - لتغيظه - تنسج غرزة وتفك غرزة؟ ما الداعي؟
لو التفتت إليه لحظتها أو رفعت رأسها لكان - ودون نظر لأي اعتبار - قد بدأ الشجار؛ ذلك أن غيظه بعد انتظار دام إلى الآن ساعتين وبضع دقائق كان قد بدأ، وهو على وجه التأكيد ليس غيظه؛ فأي شيء كان يمت إلى الجراحة من قريب أو بعيد مهما تقبله الآخرون بضيق أو تبرم، ما كان ليأخذه هو إلا كآلام الحب لها نفس مذاق المتعة. الغيظ إذن غيظ وافد لا يزال لا يدري مصدره، غيظ يبدأ عند وجه «انشراح» الجميل، حتى في تنمره، ليتزايد كلما انتقل بعده إلى مجال آخر، وكلما اصطدمت عيناه، أو اصطدمت حواسه بشيء من آلاف الأشياء التي تحفل بها الحجرة.
بدايات غيظ جعلت روحه بالتدريج تنسحب من اندماجها التام في دورها الجراحي المحبب، ومن اختلاطها الكامل بكل شيء تحفل به حجرة العمليات - مهبط الوحي عنده وقدس الأقداس - لتبدأ تتخذ موقفا محايدا، وتعود ترى وكأنها لأول مرة ترى، ولتبدأ دهشة كدهشة الإفاقة من حلم تعتريه. لا ليست هذه حجرة العمليات أبدا، إنها مكان مرعب كئيب لم يره من قبل؛ فأي معركة شيطانية دارت ولا تزال آثارها طازجة؟ لا يزال الدم أحمر لم يغمق لونه بعد دم واصل حتى السقف الأبيض راسما خطوطا متقاطعة ومتقاربة ومتفرقة، خطوطا مكونة من مئات النقاط رسمها لا بد دم تفجر تحت ضغط شديد، انفجارات دموية كثيرة لا بد دارت هنا، إلى أعلى وإلى الجوانب ترتسم على جدران الحجرة الأربعة، وفي كميات تملأ زجاج الشفاط، وتكون بقعا كبيرة تلطخ المرايل والبلاطي البيض الملقاة هنا وهناك. دم يلوث كل مكان، حتى الأحذية المطاطية ذات الرقبة، حتى الأرض الكاوتشوك، بل لم يسلم منه أيضا زجاج الأضواء الكاشفة البراق والمصفر.
دم كثير من المحال أن تعتقد أن هذه السيدة النحيفة الراقدة يحفل وجهها بسلام كسلام أطفال نائمين، مصدره، ولكنها بلا شك كانت المصدر الوحيد، والواضح أنها الطرف المغلوب.
Bilinmeyen sayfa