Eski Pınar: Hikaye Tabloları
النبع القديم: لوحات قصصية
Türler
وذات يوم كنت أصعد السلم الرخامي المرتفع لمكتبة الجامعة، سمعت صوتا جهوريا ضاحكا يردد كلمة نيتشه المخيفة عن موت الله، ويمجد الفيلسوف الشجاع البائس الحظ بسيل من الكلمات المتدفقة الرنانة. وقفت أمان الشاب الأسمر ذي العينين الواسعتين والضحكة المجلجلة والشعر المهوش الطويل، وتطوعت لتصحيح ما سمعت. أوضحت بصوت هامس وخجول أن الكلمة المخيفة لم تقصد بمعناها الحرفي؛ لأن الله بحسب مفهوم الألوهية نفسه حي لا يموت، ولأن المراد منها - على الأقل في تفسير هيدجر الذي كنت قد سمعت أطرافا قليلة عنه - هو موت الميتافيزيقا الغربية ذاتها من أفلاطون إلى نيتشه نفسه، ونهاية تاريخ الفلسفة التقليدية وبداية فكر جديد وحصر جديد بشر بهما نيتشه نفسه، وأعلن متحديا عالمه كله بأنه سيكون هو عصر الإنسان الأعلى، الذي يجسد إرادة القوة ويذيع على الناس نبوءته أو سره عن العود الأبدي. أنصت إلي الشاب الأسمر الضحوك، وأقبل يسلم علي ويعلن للحاضرين من حولنا أن صداقة عمرنا المديدة قد بدأت في تلك اللحظة.
تعرفت بعد ذلك على رائد الشعر الجديد في مصر، صاحب «الناس في بلادي، ومأساة الحلاج، والأميرة تنتظر، وأقول لكم، وشجر الليل» وغيرها وغيرها من روائعه. وتعمقت صداقتنا مع تأسيس الجمعية الأدبية المصرية وقراءتنا المشتركة في شعر «إليوت ورلكه»، اللذين كنت أعشقهما وأجتهد أن أعديه بحبهما، وفي شعره هو الذي كان يشق قلبي ويحفر فيه مجراه بعمقه وحزنه وتجديده وأصالته. ها أنا ذا أمام شاعر موهوب وأصيل، فهل أحس في نفسي وفي شعري «الذهني» الرديء بأي حظ من الموهبة أو الأصالة؟ ألم ترفض زميلتي في الجامعة وحبيبة قلبي تلك القصائد التي كنت أعطيها إياها تقربا إليها، وتمحكا في كلمة منها، فتردها إلي وهي تبتسم، قائلة: القصيدة غامضة ولم أفهم منها شيئا؟! وأستاذي الذي كنت آخذ رأيه في شعري، ألم يكن يعيده إلي وهو يربت على ظهري عطفا أو سخرية، ويقول: الأوزان صحيحة وليس فيها أي خلل؟ في لحظة صدق مع النفس، وعبر أزمة روحية بلغت حد المحنة، قررت التخلي النهائي عن قول الشعر، أو بالأحرى قرر الشعر نفسه التخلي عني إلى الأبد! لكن هل تخلى عني حقا وإلى الأبد؟ ألم يسكن اللحم والعظم ويعشش في أركان القلب، بحيث يتسرب في كل سطر من مقال أو قصة أو مسرحية أو حتى بحث كتبته بعد التخرج واستكمال الدراسة بالخارج؟ بالفعل، ولم يكن من قبيل الصدفة أن يكون معظم الفلاسفة الذين شغلت بهم بعد ذلك من الفلاسفة الشعراء - من أفلاطون إلى نيتشه حتى هيدجر - وأن يكون أغلب الأدباء الذين ترجمت شعرهم ودرسته وحللته من الشعراء المتفلسفين أو المفكرين، من سافو وألكايوس الإغريقيين وشعراء الحكمة البابليين عبر جوتة وديوانه الشرقي بوجه خاص إلى بودلير وفاليري ورلكه وحتى أنجاريتي الإيطالي. وتراكمت مئات القصائد - حرفيا لا مجازيا - في بعض كتبي التي يكاد معظم المثقفين لا يذكرونني - إن ذكرني أو تذكرني أحد! - إلا بها (ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر، قصيدة وصورة، لحن الحرية والصمت، للحب والحرية، أزهار من بستان الشعر الغربي قديما وحديثا ... إلخ) وعندما أضع هذا الركام الهائل أمامي، عندما ألقيه في كفة ميزان العمر والجهد، أقول لنفسي وسكاكين الحسرة تشق قلبي: قصيدة واحدة أو حتى بيت واحد من الشعر الحقيقي في الكفة الأخرى كان من الممكن أن ترجح في الميزان، لكن ماذا أفعل وقد اكتشفت في لحظة المكاشفة التي سبق أن ذكرتها أنني لا أملك الموهبة ولا الأصالة التي لا بد منهما لكل شعر حقيقي؟ وهل سيعزيني أو يحمل إلى نفسي شيئا من الرضا أنني كنت أشعر أثناء إعادة إبداع ما سبق إبداعه - وهذه هي ترجمة الشعر الحقيقية - بقدر غير قليل من النشوة والغبطة؟ هل سيعزيني أيضا أن كنز الشعر المحترق المفقود إلى الأبد كان يشع أحيانا في كثير مما كتبت من قصص أو مسرحيات ومقالات؟ آه! حتى لو صح هذا، فيا له من عزاء هش ومخادع كالسراب الخلب الغدار!
القارئة الحجرية والمومياء الجرمانية
1
قرأت عنها وشاهدت صورتها في الجريدة اليومية، التي تصدر في المدينة الجامعية الصغيرة التي أدرس بها. كانت صورة التمثال الحجري الذي يمثلها وهي مستلقية على شاهد قبرها داخل إعلان كبير من شركة سياحية لجذب الزائرين لعاصمة الغابة السوداء. وكانت مع الصورة التي تحتل مكان القلب من الإعلان، صور لمناظر أخرى لبعض معالم المدينة العريقة؛ الكاتدرائية المهيبة ذات الأبراج الشامخة، تمثالا هوميروس وأرسطو على باب الجامعة القديمة، ساعات «الكوكوك» وغيرها من الصناعات الخشبية التي اشتهرت بها المدينة الراقدة في أحضان الغابة الساحرة الغامضة، بجانب بوابات عتيقة وواجهات مسارح ومتاحف قديمة وأزقة وحارات ذات سلالم صاعدة وجداول صغيرة جارية. توقفت عند صورة الفتاة المسجاة على الشاهد الذي أبدع الفنان نحته، وصور فيه القارئة الحجرية فاستطاع أن يعطف العين والقلب إليها. كانت تميل برأسها الجميل ووجهها الوديع المستطيل إلى اليمين قليلا، بينما تشابكت ذراعاها على صدرها وأمسكت يداها بكتاب كانت تقرأ فيه، عندما فاجأها الموت وأغمض عينيها إلى الأبد. لا أدري ما الذي جعلني أنبهر بالعروس العذراء التي خيل إلي أنها مفعمة بالحياة، وأنها تحرر نفسها في كل لحظة من أسر الحجر وتحلق فوقه على الرغم من التصاقها به واندماجها فيه. وأخذت الأسئلة تنهال علي: من هذه القارئة المسكينة وما قصتها؟ في أي زمن عاشت وكيف داهمها القدر وماذا كانت تقرأ قبل أن يسكت القلب ويسترخي الجفن على العين؟ وأخيرا من هو الفنان المبدع الذي صنع تمثالها وأفرغ فيه كل طاقته على العشق والحزن؟ أليس من الممكن أن يكون حبيبها أو عريسها أو المتيم الغارق في عبادتها سواء أثناء حياتها أو بعد موتها؟
حملت حيرتي ودهشتي إلى «إيفا»، زميلة دراستي العزيزة وراعيتي الوفية خلال سنوات إقامتي في المدينة. وعندما أطلعتها على الصورة التي انتزعتها من الجريدة ووضعتها على مكتبي، صاحت هاتفة: إنها القارئة الحجرية! أشهر من أنجبتهم فرايبورج في الجيل الماضي، وربما أقربهم إلى قلب كل امرأة ورجل وشيخ وطفل يعيشون الآن في المدينة. قلت مستفسرا: زدتني شوقا إلى رؤيتها والقرب منها، هل يمكن! قالت بحماسها الطفلي المعتاد: طبعا يمكن أن نزورها، إنها تحفة المتحف القديم ... سألت مرة أخرى: تحفة ومتحف ... ماذا تقصدين؟ قالت: أقصد أنها الآن أعز وأغلى أثر في المقبرة القديمة التي أغلقت منذ ما يقرب من مائة سنة، وصارت مزارا لأهل المدينة والسواح الذين يفدون عليها، ويقفون أمام القارئة في خشوع وإشفاق وتبتل لا نظير له ... قلت: وأنا أيضا أريد أن أقف مثلهم أمامها. متى نزورها؟ قالت، وهي تنظر في ساعتها مستأذنة: الأحد القادم؟ سترى بنفسك مدى التشابه بينكما. قلت ضاحكا، وهي تسلم علي منصرفة: التشابه؟ أتريدين أن كلينا ميت أم أن كلينا حجر؟ قالت مسرعة: الأفضل أن تحكم بنفسك ... إلى اللقاء ...
2
وجاء صباح الأحد، فذهبنا إلى المقبرة القديمة أو ساحة السلام كما يسمونها، وكانت تقع على الحدود الفاصلة بين المدينة والغابة السوداء. سرنا على طريق ضيق وصاعد تظلله أشجار السرو والصنوبر التي تزقزق فوقها العصافير، وتخشخش أرضيته المملوءة بالحصى والأوراق الذابلة تحت أقدام عابريه. بلغنا السور القديم الواطئ بقضبانه اللولبية السوداء، ودخلنا من البوابة الصغيرة المفتوحة لزوار يوم الأحد. أرسلت بصري إلى المقبرة الهادئة التي يلفها السكينة والنظام والتنسيق والجمال. قبور على اليمين واليسار، برزت فوقها شواهد مكتوب عليها الاسم والتاريخ بخطوط سوداء، محفورة في الحجارة والجرانيت. وعلى بعض الشواهد تماثيل صغيرة أو كبيرة لملائكة أو أطفال مجنحين، أو نقوش نباتية مختلفة. كان بعض الزوار قد سبقونا وأخذوا يتجولون في المماشي الضيقة بين الأضرحة الباذخة المترفة والقبور البسيطة الفقيرة. قالت إيفا: نلقي نظرة على هذه التحفة الرقيقة العتيقة. وأشارت إلى كنيسة صغيرة على اليمين يكسو بوابتها الضيقة والفتحة المثلثة في أعلاها فروع نباتية متدلية، ويزخر باباها بزخارف ونقوش خشبية بارزة. رسمت زميلتي علامة الصليب على صدرها قبل أن نقف على مدخل ساحة خافتة الضوء وممتدة في العمق، الذي يشغله المذبح وفوقه الشموع الكبيرة التي تتراقص أضواؤها على البعد، وأمامه صفوف المقاعد والأرائك التي يجلس عليها المصلون أو كانوا يجلسون عليها كلما أقيم قداس، ودقت الأجراس لاستقبال ميت جديد أو تكريمه. أخذت إيفا تشرح لي تاريخ الكنيسة الأثرية، وتشير بحماس واعتزاز إلى كنوزها المعمارية وزجاج نوافذها الملون بأشكال القديسين، وصور ومشاهد من حياة المسيح وعذابه ووجوه حوارييه. أشرت إلى رسم ملاك متجل للعذراء، وهالة الضوء تشع من وجهه الذي يحتل قبة الكنيسة المزدهية بألوانها الذهبية والفضية، وقلت وأنا أهمس بضحكة خافتة: كم يشبهك هذا الملاك، والعذراء المقدسة أيضا. هل رسم الفنان وجهك أو وقفت أمامه وهو يرسم؟ قالت غاضبة، وهي تلكز ظهري بقبضة يدها: أولا: أنا لم أكن قد ولدت عندما صور الفنان هذه الصور. وثانيا: لا تكن سخيفا ولا تصفني بهذه الأوصاف التي لا أستحقها. قلت مؤكدا: ولكنك في نظري ملاك وقديسة - هذا هو رأيي فيك - قالت باستياء شديد: احتفظ برأيك لنفسك. أنا إنسانة من لحم ودم على العكس منك ... وضعت يدي على فمي حتى لا تجلجل ضحكتي في الفناء المجلل بالسكون والخشوع والرهبة: تقولين على العكس مني ... وهل أنا حجر؟ قالت، وهي تضغط على يدي بقوة: العجيب أنك لم تكتشف هذا حتى الآن ... هيا بنا نترك القديسين والملائكة، ونذهب إلى حبيبتك الحجرية ...
3
كان قبرها على بعد خطوات قليلة من الكنيسة الصغيرة، خامس قبر إلى اليمين من الممشى الواسع المخضل بالعشب الندي. هتفت عندما طالعني الوجه الناعم الحالم، الذي تنسدل عن يمينه ويساره جدائل الشعر الأشقر الطويل: ها هي ذي العروسة الحجرية. قالت إيفا، وهي تدفعني من ذراعي: وأنت العريس الذي ظلت تنتظره عقودا لا أعرف عددها. اقتربنا من القبر الذي تجمع حوله عدة أزواج من العشاق، وقفوا أمامه خاشعين مذهولين قبل أن ينصرفوا وهم ينظرون إلينا ويتهامسون.
Bilinmeyen sayfa