وعند ذلك قطع الرقيب غصنا ورماه عند قدمي كلوكلو فوقف منذعرا، والتفت إلى ورائه فرأى الألزاسي صاحبه بالأمس يضحك مقهقها ويقول له: ماذا تصنع هنا أيها الرفيق، ألعلك تصيد الضفادع؟
فاصفر وجهه من الغضب وذكر أنه هو الذي أسكره بالأمس، فقال له: وأنت ماذا تصنع هنا بدلا من أن تكون نائما في الفندق؟
قال: إني أتنزه. - وفي مثل هذه الساعة يتنزهون؟ - هي عادة قديمة جريت عليها. - أأنت هنا من زمن طويل؟ - منذ ساعة بالتقريب.
وقد غمز بعينه إشارة إلى أنه رأى ما حدث، وقال: نعم لقد رأيت ذلك الرجل الذي غاص في البحيرة ورأيتك حين اقتديت به. - إذن أصغ لما أقول. - ماذا تريد أن تقول؟ - أريد أن تذهب من هنا في الحال. - كلا لا أذهب. - أترفض طلبي؟ - نعم. - لماذا؟ - لأن الغابة حرة، ألم تقل لي هذا القول مرة حين كنت تراقبني في الطريق؟
فبرقت عيناه ببارق غريب، وقال له: من أنت؟
قال: أصغ إلي الآن بدورك إذ لم يبق فائدة من التنكر.
وقد نزع شعره المستعار ولحيته، وقال: أنا هوبتسون معاون قاضي التحقيق، أعرفتني الآن؟ - أتم العرفان. - إذن فاعلم أن اتفاقنا بعد ما جرى خير لنا من الخلاف، ولنبحث الآن بحث العاقلين؛ فإن كلينا يسعى لغرض واحد؛ فقد اختاروني لكشف الغامض عن مقتل فولون، فأنا أبحث عن القاتل. - كيف تبحث عنه وهو في السجن؟ - لأن السجين بريء، ولا يسر الدكتور جيرار مثل إظهار براءته، فيجب عليك أن تساعدني على إظهار الحقيقة؛ لأنك تبحث عنها مثلي، وأنت مخلص للدكتور فيما أظن. - نعم، وإني أحبه؛ فقد أنقذ أمي، وأنا وأمه من بلد واحد، ولي أسباب أخرى تدعوني إلى هذا الإخلاص. - لا أسألك أن تكشف لي أسرارك، وإني مخبرك بكل ما عرفته بغية نيل ثقتك؛ فإني أريد معرفة القاتل، وإذا عرفته أكون قد خدمت الموسيو بوفور والذين يحبونه أجل خدمة، فاعلم أن أول ما سعيت إليه معرفة المرضى الذين يعالجهم الدكتور جيرار، ولا بد للوصول إلى هذه الغاية من اقتفاء أثره أينما ذهب، فكنت أنت أيضا تقف لي كيفما ذهبت، وتنبه الدكتور بأناشيد اصطلحت عليها معه. - أعرفت ذلك؟ - دون شك، فاستنتجت منه أن الدكتور لا يريد أن يراقبوه، ولا تستطيع أن تنكر أنكما كنتما على اتفاق. - إذا لم يكن لديك غير هذا البرهان ... - [ هناك] برهان آخر، وهو أنك جئت في صباح اليوم التالي إلى الدكتور، فخلوت به هنيهة، وذهبت إلى الفندق الكائن تجاه منزل بوفور فاستأجرت غرفة فيه، فظهر لي جليا أنك تريد المراقبة، ولكني لم أعرف في البدء من هذا الذي تريد أن تراقبه، إلى أن خرجت من غرفتك لتقفو أثر صياد خرج من منزل بوفور، وكان هذا الصياد داغير كما أخبرني صاحب الفندق، فلماذا قفوت أثره؟ ألعلك أردت أن تسأله صدقة؟ - ما أنا من المتسولين، بل سألته إذا كان يريد أن أصحبه فأخدمه في الصيد. - وقد أبى، بدليل أنك ذهبت وحدك إلى الغابة بالرغم عن شدة ضعفه، فلم يبق لدي شك في أنك تراقب داغير. - أي غرض لي من مراقبته؟ - سوف أخبرك؛ أما مرضه فقد عرفته من صاحب الفندق ومن خادم منزله، ويظهر أن القبض على شريكه وصديقه كان السبب في مرضه. - كيف ذلك؟ - ذلك أنه مرض يوم حدوث الجناية ، وفي ذلك اليوم ذهب الدكتور جيرار لعيادته. - إنك تعرف من ذلك فوق ما أعرف. - ربما، فأصغ إلي يا كلوكلو؛ إن الدكتور جيرار ذهب منذ بضعة أيام إلى قاضي التحقيق وقال له: إن لدي برهانا يثبت براءة بوفور، فقال له القاضي: أتعرف القاتل؟ قال: نعم. قال: من هو؟ قال: لا أستطيع أن أذكره لك؛ لأن هذا السر علمته وأنا أمارس مهنتي، وواجباتي تقضي علي بالكتمان.
فلم يلح عليه بالسؤال ليقينه من أنه لا يجيب، ولكنه دعاني إليه وأخبرني بما سمعه من جيرار، ثم قال لي: إن الطبيب يكتم هذا السر ولكنه لا يستطيع أن يمنعنا عن معرفته بما لدينا من الوسائل، فإذا تمكنا من معرفة القاتل كان سرور الدكتور عظيما؛ لأنه ينجو من تقريع الضمير.
فقال له كلوكلو: أتقسم لي بأنك تقول الحقيقة؟ - أقسم لك بأن كل ما قلته صحيح، وأن الدكتور يعرف القاتل، ولكن واجبات مهنته تقضي عليه بالكتمان. - لقد بدأت أن أفهم. - هل أصبحت تثق بي الآن. - كل الثقة. - يسرني أن تثق بي فإننا إذا عملنا يدا واحدة وصلنا إلى الغرض الذي نسعى إليه. والآن فقد قلت لك كل ما أعلمه، بقي أن تخبرني عن هذا الرجل الذي رأيناه في البحيرة؛ فإني لم أر غير ظهره؛ أليس هو داغير؟ - هو بعينه. - هل تعلم لماذا نزل إلى المياه؟ - كلا. - أتقول الحقيقة؟ - نعم؛ فإن الدكتور أمرني أن أراقبه، وأن أخبره بكل ما يصنع، أما قدومي إلى البحيرة فلأجل أن أغتسل فيها على رجاء أن أستفيق من سكري، فغلبني النوم قبل وصولي إليها، ونمت حيث رأيتني. - ألا ترى ما أراه وهو أن داغير لم يأت إلى البحيرة لغسل ساقيه؟ - دون شك؛ فإن له مأربا، ولكن ما هو؟ - إذا بحثنا فقد نجده، ولو لم يرك وهو في البحيرة لعرفنا ما يريد، وقد أتينا إلى هذه الجهة ليلة القتل وبحثنا بحثا دقيقا فلم نظفر بشيء. - عم كنتم تبحثون؟ - عن أموال فولون المحفوظة في كيس من جلد؛ فإن القاتل لا بد أن يكون خبأها هنا . - لماذا لا يمكن أن يكون قد أخذها إلى منزله؟ - كلا، لأنه أصيب بجرح من مسدس القتيل ونزف منه كثير من الدماء، فخشي أن يغمى عليه قبل وصوله إلى المنزل، فإذا وجد الكيس معه كان ذلك أعظم برهان على جريمته. - أتقول إنه كان جريحا؟ - نعم، وهذا مثبوت من وجود الدم في الطريق. - لقد فهمت الآن كل شيء. - ماذا فهمت؟
فأطرق مفكرا ثم قال: لقد وعدت الدكتور جيرار ألا أفعل شيئا قبل إخباره به، فعدني أننا نخبر الدكتور بما نكتشفه قبل قاضي التحقيق. - إنك تطلب مطلبا صعبا. - وأنا لا أقول شيئا إلا إذا وعدتني هذا الوعد. - لقد رضيت؛ فإني واثق من العثور بالقاتل كيفما اتفق. - إذن فاعلم أني لقيت رجلا ليلة الجناية خارجا من الغابة، ورأيت ثيابه ملوثة بالدم ويده على صدره وهو يمشي ويقع شأن السكران، أتعلم من كان هذا الرجل؟ - داغير؟ - هو بعينه. - إذن لم يبق شك، فهو القاتل. - احذر أن تكون مخطئا باتهامه كما أخطأتم حين اتهمتم بوفور. - كلا؛ فإن جريمة هذا أصبحت واضحة لا متسع فيها للخطأ. - والآن ماذا نصنع؟ - ننصب الفخ الذي لا بد لداغير أن يقع فيه. - إني مستعد لمشاركتك فيما تريد. - ولكن لا بد لنا قبل العمل أن نتحقق من أمر؛ فقد قلت لك إننا بحثنا عن الكيس في الغابة فلم نجده؛ لأنه مخبوء في البحيرة، وإني أراهنك على زجاجة من الخمر ... - لا أقبل هذا الرهان؛ فقد عاهدت ربي ألا أذوق الخمر بعد سكرة أمس. - إذن هلم بنا نبحث؛ فقد أرشدنا داغير إلى الطريق. فوافقه ونزل الاثنان إلى البحيرة، فبحثا بحثا دقيقا دون أن يظفرا بشيء؛ إلى أن صاح كلوكلو صيحة فرح، فقال له الرقيب: ماذا حصل؟
Bilinmeyen sayfa