ثم عدت أنت في اليوم التالي بعد قولها لك: «إذا رجعت كنت تحبني بالرغم عن كل شيء.» فحسبت أنك اطلعت على كتابها وغفرت. - وماذا افتكرت حين رأت أني لم أشر أقل إشارة إلى كتابها؟ - قالت في نفسها إنك أكرم الناس خلقا؛ لأنها كانت كتبت لك في كتابها هذه الجملة:
ورجائي إذا عدت ألا تقول لي كلمة عما كتبته إليك، وألا تنظر إلي نظرة تدعني أخجل. - إذا كانت مرسلين كتبت إلي حقيقة هذا الكتاب فإنها لا تكون جانية. - أتشكك في أنها كتبت إليك؟ - ماذا يبرهن لي على صحة قولها. - شهادة كلوكلو؛ فإنه يقول الحقيقة حين تأذن له مرسلين. - أتريدين أن أصدق شهادة سكير؟ - إنه صادق كريم، ولك ألا تصدقه، ولكن يوجد برهان آخر؛ وهو أنها لو لم تكتب إليك هذا الكتاب فما الذي حملها على اليأس والهرب في اليوم التالي لزواجها؟ ألا تعلم السبب في فرارها؟ ألم ينبئك قلبك به؟ إذن فاعلم أنها كانت تحبك وأنها تزوجت بك على اعتقادها أنك تعرف ما فيها، ففي اليوم التالي لعرسها علمت أن الكتاب لم يصل إليك، وأنك لا تعلم حكاية ذلك الشقي الذي أغواها، وأنها أم أنت تحسبها نقية عذراء، فكبر عليها هذا الخطأ ورأت أنه لا بد أن يجيء يوم تقف فيه على الحقيقة وتتهمها أنها خانتك وخدعتك أقبح خداع، فهربت وهي لا تريد غير الموت، ولكنها ذكرت أن لها ولدا يموت بموتها فسافرت على ألا تعود. - أراك تدافعين عنها بملء الحماسة. - أما أتيت لهذا؟ - ولماذا أرسلتك إلي بعد ربع قرن، وإذا كان ما تقولينه حقيقة ولم تكن مجرمة فلماذا لم تحضر بنفسها؟ - إنها خافت غضبك أو دموعك. - وأخيرا فبأية مهمة أتيت إلي؟ - إن مرسلين عاشت بعد فراقك خمسة وعشرين عاما كانت في خلالها خير قدوة للناس، وكان الجميع يحترمونها ويحبونها، ولا يذكر أحد أنه رآها يوما تبتسم، وقد علمت ولدها خير تعليم على فقرها، فكان عزاءها الوحيد. - ماذا يشتغل؟ - إنه طبيب. - لماذا تترددين في قول ما جئت لأجله؟ - الحق أني أتردد. - لماذا، ألعل الذي ستقولينه أشد هولا مما سبق قوله؟ - إن مرسلين شقية؛ هي في حاجة إليك. - مهما كان ذنبها فإني أمنحها كل مالي. - ليست هي في حاجة إلى المال. - إذن ماذا تريد مني؟ - تريد مصادقتك على زواج بنتها. - لها بنت أيضا، ثم تقولين إنها مثال العفة والطهارة! فإذا قالت إن مولودها الأول كان من غاويها أفلا تكون بنتها من عشيقها؟ - كلا يا سيدي لم يكن لها عشاق، بل لها الحق أن تدعو بنتها بلقب أبيها. - من هو هذا؟ - اعلم يا سيدي أن مرسلين حين خرجت هائمة على وجهها من منزلك، وحين كانت تعاني عذاب الفقر والجوع شعرت أنها حاملة ، فارتعش بوفور وقال: متى كان ذلك؟ - بعد ما فارقتك بشهرين أو ثلاثة. - رباه ماذا أسمع! - أتريد أن أقول لك الآن ماذا تدعو مرسلين والد بنتها، إنها تدعوه بيير بوفور؛ زوجها.
فغطى وجهه بيديه وجعل يقول: رباه! رباه، هذا أكيد؟!
قالت: إني أقسم لك على صحة ما أقول، وفوق ذلك فإذا خطر لك أن تهين مرسلين الإهانة الكبرى وتتهمها بخيانتك؛ فما عليك إلا مراجعة التاريخ. - وثقت، وثقت. إذن إن لي بنتا. - نعم، وهي حسنة ممتازة بصفاتها. - وقد قلت لي إن مرسلين محتاجة إلى مصادقتي على زواج بنتها. - نعم؛ فإنها تحب فتى ويحبها وهو خير كفء لها، ولكنها لا تستطيع تزويجها إلا بمصادقة أبيها، وقد ترددت كثيرا في الأمر ولكن عاطفة الأمومة تغلبت عليها، وأبت أن تكون بنتها من غير نسب، وهي يحق لها أن تنتسب إليك، ولا سيما أنها حاولت الانتحار حين أرادت أمها أن تحول دون زواجها، فألقت نفسها في نهر الواز. - إذن أين تقيم؟ - في كريل. - أتقيم هنا معي وأنا لا أراها، ومن يعلم فقد أكون رأيتها فلماذا لم تصحبك؟ - أتريد أن تراها؟ - أتسألينني إذا كنت أريد ابنتي وأنا أعيش منذ خمسة وعشرين عاما في عزلة أندب حظي بزواجي، واليوم وقد بلغت حد الشيخوخة وعلمت أن لي بنتا تسألينني إذا كنت أريد أن أراها؟ - اذهبي بي إليها من فورك فلم أعد أطيق الصبر. - ولكن اذكر أنها ليست وحدها، بل مع أخيها وأمها، فكيف أذهب بك إلى البنت قبل أن أثق من صفحك عن الأم؟ - كيف يمكن أن أصفح بعد ما عانيت من العذاب؟ - إنها تعذبت فوق عذابك، ويجب أن تصفح عن الأم التي ليس لها ذنب يستوجب طلب الصفح. - أأنا أصفح ...؟ كلا، كلا لا أستطيع. - إذن لقد انتهت مهمتي، فأستودعك الله. - كلا، إنك لا تذهبين، فإني أريد أن أعرف ابنتي، وسأتبعك إلى أين سرت وأكون ألزم لك من ظلك. - اصفح عن الأم. - أهي مساومة تقترحينها علي؟ فإذا لم أصفح عن الأم ألا تردين إلي بنتي؟ إن ابنتي تحب ولا تتردد عن الانتحار في سبيل حبها ثم تؤثرين أن تموت، فقولي لمرسلين إنها ليست أما، وإنها غير جديرة بما تطلبه من الصفح. نعم، إني لا أرضى بهذه المساومة وأريد أن ترد إلي ابنتي من غير شرط، وإذا علمت بعد ذلك أن امرأتي استحقت الصفح بما عانته من الشقاء وبحسن سيرتها وحنوها على ولديها فقد أعفو، أما الآن فإني أريد ابنتي دون شرط.
فاصفر وجه مرسلين حتى خيل له أنها سيغمى عليها وركعت أمامه فقالت: لقد رضيت يا بيير ما تريده دون شروط، وسأرد لك بنتك فلا تصفح عني إلا بعد أن تعلم أني أستحق صفحك.
فطاش صواب بوفور، وقال لمرسلين: أأنت هي مرسلين؟ - نعم، أنا هي. - أتكونين مرسلين ولا أعرفك، نعم، إنها عيناك. نعم، أنت هي مرسلين.
وقد سقط عن الكرسي شبه مغمى عليه من فرط التأثر وقال: إذن إن الدكتور جيرار ذلك الفتى النابه الذكي الذي أخلصت له الود ... - إن جيرار هو الذي ولد في سويسرا. - من هو أبوه الذي أغواك وصيرك أما ثم نبذك حين علم أنك صرت فقيرة؟ - لماذا تسألني عنه؟ - لأني أريد أن أعرف ذلك، وهل هو حي؟ - لا أعلم. - بل تعلمين؛ لأنه لو كان ميتا لما ترددت لحظة عن قول اسمه، أريد أن أعرف اسمه يا مرسلين إذ يجب أن أعاقب هذا السافل. - ويلاه هذا الذي كنت أخشاه! - اسمه ... إني آمرك أن تقولي اسمه؟ - ارحمه يا بيير كما عفوت عني. - أتطلبين له الرحمة، ألعلك تحبينه وتخافين عليه؟
فقالت بلهجة تبين فيها الكره والاحتقار: أأنا أحبه؟ - إذن، لماذا تدافعين عنه؟ - لخوفي عليك. - لا تهينيني. - ليفعل الله ما يشاء؛ فإني لا أحب أن يبقى في قلبك أثر للريب. - اسمه؟ - جان داغير. - هو ... هو ... ألا تكذبين؟ - أقسم بولدي أني أقول الحق. - إذن سأقتله لا محالة، والآن لنهتم بأمورنا؛ فإن مودست التي رأيتها في حفلة فولون زينة الفتيات هي بنتي. - نعم، وأنت أبوها مرتين، فأنت الذي أنقذتها من الغرق منذ عشرين عاما، وهي تحب روبير بن فولون، فلم أكن أستطيع عقد الزواج بينهما؛ إذ لا بد من مصادقة أبيها، وأنت تعرف أن فولون لا يزوج ولده ببنتي قبل أن يعرف ماضي حياتي، بقي عليك أن تزيل هذا الحاجز. - وسأذيله دون شك؛ فإن فولون لا يتردد في الموافقة متى وقف على الحقيقة. - إذن قابله في أقرب وقت ممكن؛ فإن مودست في حالة اليأس وإني أشكرك لعواطفك النبيلة التي لم أشك فيها قط.
نعم، سأقابله اليوم، فهو هنا وقد لقيته صباحا عند النوتير الذي دعاني وإياه إلى العشاء، وسأصحبه عند عودتنا إلى قصره فأخبره بكل شيء. - ثم تخبرني عن جوابه. - دون تأخير، والآن فإني أريد أن أرى ابنتي فهلمي بنا إليها. - تمعن في الأمر يا عزيزي، فماذا تقول لها الآن إذا رأيتها؟ أليس الأجدر أن تأتي إلينا بعد اتفاقك مع فولون فأكون قد هيأتها لمقابلة أبيها؟ بل أكون قد نلت صفحها وصفح أخيها. - لا يحق لأولادك أن يكونوا قضاتك، وليس لهم أن يصفحوا عنك، بل كل ما عليهم أن يمسحوا دموعك، ولكن الأجدر أن تهيئيها لمقابلتي كما تقولين، أما أنا فإني ذاهب إلى النوتير حيث أجتمع بفولون.
فركعت أمام زوجها، وقبلت يده وهي تقول: اصفح عني.
Bilinmeyen sayfa