أما مرسلين فقد أصبح بقاؤها في قصر أبيها مستحيلا؛ لأن زلتها لا بد أن تظهر، فسافرت مع عمتها إلى سويسرا وبقيت هناك بضعة أشهر إلى أن وضعت غلاما دعته جيرار، فأودعته مرضعا بين جنيف ومدزان، وعادت مع عمتها إلى أبيها، وهي تقول لها: لقد انتزعت حياتي مني ولا أعلم ما تخبئه لي الأيام، ولكني لا أتخلى عن ولدي ولو فضحت به.
وفي الربيع التالي عادت مع عمتها إلى سويسرا وأقامتا في أحد فنادق برن، وقد كان جاء إليه في اليوم نفسه فتى يدعى بيير بوفور، وهو في العشرين من عمره توفي أبوه وترك له ثروة كبيرة.
وكان قد أجهد نفسه في درس الحقوق، فاعتلت صحته، وهو في كل عام يأتي إلى سويسرا فيقيم فيها كل الفصل عملا بإشارة طبيبه.
وقد التقى لأول مرة مع مرسلين في قاعة الفندق؛ فراقه جمالها وسمع حديثها مع عمتها فعلم أنها فرنساوية.
ولم يطل الزمن بمرسلين حتى أيقنت من تعلق هذا الفتى بها؛ فإنها كانت تلتقي به كل يوم في الفندق والطرق والمتنزهات، وتقول في نفسها: لقد جاء بعد فوات الأوان؛ فإني لا أستطيع أن أحب ولا أن أكون محبوبة؛ ولذلك لم يكن يلقى بوفور في نظراتها شيئا من التشجيع، ثم رأى أنها تجتنبه؛ فبرح الفندق فارتاحت مرسلين لبعده، ولكنها لم تكن تملك نفسها عن التنهد كلما خطر في بالها، دون أن تعلم السبب في تنهدها.
وبعد أسبوع برحت برن مع عمتها إلى مدينة بال، وكأنما الأقدار كانت تهزأ من جفائها وابتعادها؛ فإنها لقيته في بال ولم يكونا في فندق واحد، ولكنهما كانا يلتقيان في الحديقة العمومية وفي المعرض والكنائس، فأخذت مرسلين تألفه تباعا، فإذا أتت إلى منتزه عام تجيل نظرها باحثة على رجاء أن تراه، فإذا رأته أطرقت بعينيها وشعرت كل ذلك اليوم بسرور خفي، كل ذلك وهي لم تعرف اسمه بعد.
وكأنما زلتها وحرمتها جعلتاها بعيدة النظر، فكانت تكبح جماح هواها حين تفتكر به، وتقول في نفسها: إلى أين أنا صائرة، ألعلي جننت! أيحق لي أن أحب هذا الفتى؟ وإلى أية نتيجة يقودني هذا الحب؟
ولذلك رأت أن خير طريقة لاتقاء هذا الخطر الجديد هي أن تبرح هذه المدينة إلى مدينة سواها.
وقد اتفقت مع عمتها على ذلك، وفي اليوم التالي بينما كانت تنتظر في قاعة المحطة إلى أن تجيئها عمتها بتذاكر السفر، دخل بوفور في تلك القاعة فحياها بملء الاحترام، وقال لها بلهجة الوجل الخائف: أسألك المعذرة يا سيدتي لجرأتي، ولكني أشعر بدافع أشد من إرادتي يدفعني إلى مباحثتك.
إنك مسافرة يا سيدتي وقد لا أراك مدى الحياة، فلو تعلمين ... كلا، لا أستطيع ... إني بحثت كثيرا عمن يقدمني إليك فلم أجد من يعرفك، وكل ما أرجوه يا سيدتي أن أعرف اسمك فأتمكن في فرنسا من زيارة عائلتك، أما أنا فإني أدعى بيير بوفور، فإذا أردت ألا تجعليني أشقى رجل في الوجود، فلا تستائي مما قلته لك ولا تسيئي بي الظن. فلم تجبه بشيء ونهضت تحاول الابتعاد، فقال لها بسرعة وقد أصبح شبه المجانين: سيدتي إنك إذا سافرت فقدت أثرك؛ فقد قدر لي أن ألقاك اتفاقا مرتين، وأنا لا أعلم إلى أين تذهبين، ولكني واثق من أني سألقاك مرة ثالثة، فإذا أراد الله هذا اللقاء أتأذنين لي يومئذ أن أتعرف بك لتعرفيني حق العرفان؟
Bilinmeyen sayfa