وقد وجدنا باختبارنا عندما خطونا خطوة التقميش في تاريخ العرب في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أن الأصول لهذه الحقبة من تاريخنا ترد في العربية والتركية والإفرنسية والإنكليزية والألمانية والإيطالية والبولونية والروسية، وأهمها اللغات الخمس الأولى. فأسرعنا إلى التقاط ما ينقصنا منها، وكم كنا نود لو كان بإمكاننا أن نتعلم الباقي منها كي لا تكون استنتاجاتنا موقوفة على مقدرة المترجمين من هذه اللغات.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد؛ فإنه ليس لنا ما لبعض زملائنا في توريخ بعض الأزمنة مجموعات من التعريفات الفنية، ونحن، وإن كنا لا ننكر فائدة قاموس محيط المحيط للعلامة بطرس البستاني، فإننا لا نرى فيه جميع ما نطلبه من اللهجات العامية المحكية في عصره، وأما معجم المستشرق الهولاندي رينهاردت دوزي، فإن معظمه مبني على آداب العربية في القرون الوسطى؛ ولذلك فإن فائدته ضيقة النطاق محدودة الجدوى لمن يعنى مثلنا في تاريخ العرب في القرن التاسع عشر.
وهل لعلمائنا الأعلام أقطاب اللغة العربية وأعضاء مجمع فؤاد الأول للغة، أن يكفوا عن البحث في مثل الشاطر والمشطور والكامخ بينهما، والأرزيز والطرطران والعرعور والدويداء، فينصرفوا إلى التعاون في تنظيم العمل لوضع قاموس على مثال معجم أوكسفورد للغة الإنكليزية؟ فإنك لو طلبت كلمة أدميرل الإنكليزية في هذا المعجم العظيم تجد أولا مقدمة في أصلها العربي - أمير البحر أو أمير الماء - واشتقاقها منه، ووصولها إلى الإنكليز من عرب الأندلس وصقلية، بواسطة الإسبانية أو الإيطالية. وتجد ثانيا جميع معانيها الإنكليزية المستعملة الآن، العمومي والخصوصي الفني، مع الاصطلاحات المشتقة منهما، وتحت كل من هذه المعاني تجد كذلك الاستشهادات الكافية، باستعمالها في كتب أكبر أدباء الإنكليز وعلمائهم، منذ أن شاع استعمالها، في أوائل القرن الثالث عشر، حتى الجيل الذي دخلت فيه هذا القاموس العظيم. فقد ورد في الشرح على هذه الكلمة الدخيلة ما يزيد على الأربعين شاهدا، مأخوذة كلها من آداب اللغة الإنكليزية ما بين سنة 1205 وسنة 1888، ومرتبة جميعها بترتيبها التاريخي، لإظهار تطور المعنى، بتطور الظروف والأحوال. ومن محاسن هذا المعجم، أنك تجد فيه جميع هذه الاستشهادات مقرونة بذكر كاتبها الأول، وتاريخ استعمالها مع الإشارة إلى المجلد والصفحة الموجودة فيها، وقد ورد في الشرح على كلمة ست
SET
أكثر من مائة وخمسين معنى، وما ينيف عن الثلاثة آلاف وثلاثمائة استشهاد، من أهم كتب هذه اللغة ما بين سنة 900 وسنة 1900م.
ولدى إعادة النظر في بعض ما عثرنا عليه من الأصول المشار إليها، ألفينا رسائل رسمية متبادلة بين حكام ذلك العصر، توخى كاتبها نوعا خاصا من الخط العربي هو الديواني المعلق، ولا يخفى أن قراءة الخطوط العربية العادية لا تكفي للتيقن من قراءة الخط الديواني المعلق. فأخذنا عندئذ ندرس قواعد هذا الخط للتثبت من قراءة الأصول المكتوبة به، وقل الأمر نفسه عن الأختام المستعملة في هذه الرسائل. فلا بد لنا من معرفة المواد التي كانت تصنع منها هذه الأختام، وكيفية بصمها، مثلا، وعدد الأشخاص الموكلين بها، وغير ذلك من الأمور التي تقع اليوم في أوروبا، تحت علم «السفراجستيك».
ويشعر مؤرخ هذه الحقبة من تاريخ العرب بحاجة إلى أبحاث علمية، في أصول المخابرات الرسمية في مصر وسوريا والعراق وغيرها من البلدان المجاورة في القرنين الأخيرين؛ لأنه يظهر أن كتاب هذين القرنين كانوا يتمشون بموجب عادات مرعية، ففواتح مراسلاتهم، وغرضها المقصود، وخواتمها جميعها تنم عن وجود عادات في الكتابات الرسمية. قال أحد المقربين إلى الأمير بشير الشهابي الشهير - ولعله الشيخ ناصيف اليازجي: «وكل واحدة من هذه الطوائف (في لبنان) في الطبقتين أعني الأمراء والمشايخ، يلقبه الحاكم في كتابته له بالأخ العزيز. غير أن في ملحقات هذا اللقب اختلافا من وجوه كثيرة بين الأمراء. فإن الأمير، إن كان من بني اللمع يكتب له الحاكم، جناب حضرة الأخ العزيز الأمير فلان المكرم، حفظه الله - تعالى - أولا: مزيد الأشواق لمشاهدتكم في كل خير، والثاني كذا وكذا، وهذه الكتابة تكون في نصف طبق من الورق، وإن كان من بني رسلان: يكتب له مثل ذلك، ولكن، في ربع طبق من الورق، ولا يقول في أثناء كتابته، والثاني: وبعده، ومتى أراد أن يكتب اسم نفسه في آخر الكتابة قال: محبا مخلصا لا أخا، ولا يكتب لقب نفسه بل يكتب ثلاث نقط متصلة تحت اسمه، وتحتها نقطتان متصلتان. يشير بالأولى إلى شين شهاب وبالثاني حرف ب.»
1
وما إلى ذلك من قواعد منظمة متبعة كل الأتباع على ما يظهر.
وقد وجدنا بالاختبار أنه لا بد لنا في تحري الحقيقة التاريخية، من معرفة أنواع الحبر وألوانه، وأشكال الورق - من حيث الطول والعرض واللون والسماكة - وشركات إصداره إلى الأقطار العربية، وتمغاتها الشفافة عليه، وأصناف الأقلام وظروف استعمالها، في مختلف الدوائر والدواوين، ولا يخفى ما في درس هذه الأمور جميعها من الأهمية، لفهم محتويات المخابرات الرسمية وإيجاد تواريخها، وتثبيت أصالتها وعدم تزويرها، لا بد إذا من تعلم اللغات التي ترد فيها الأصول، ومن الاستعانة بمثل ما تقدم ذكره، من العلوم والفنون، وهل ننسى القرآن والتفسير والحديث ووجوب التضلع في هذه العلوم لمن يعنى بتاريخ العرب؟
Bilinmeyen sayfa