وهو قول، على ما في ظاهره من حق، مردود. فنحن لا ننكر أن على العالم أن يكون خالي الهوى والغرض، ولكن هذا يجب أن لا يعني أن يكون خالي العقل. إذ لا يمكن للإدراك النشيط أن يتجرد من الفكر وأثر الاختبارات، وأن العقل الذي يخلو من الاتجاهات لكالبيت الذي ينقصه الأثاث، ومن يزعم من المؤرخين أنه باستطاعته أن يمحو ما بذهنه من الإدراك والاختبار، كما يمحو بالإسفنجة ما يكتب على لوحه الحجري، لهو مخدوع قد جهل أبسط حقائق الإدراك.
فالذي يجب على المؤرخ أن ينكره هو ليس الغرض العلمي الذي نبدأ به بحثنا، بل النظرية المغرضة أو المغررة التي تسيطر عليه. فقد جرت هذه كثيرا من مؤرخي عصرنا إلى الضلال المبين. فزعم بعضهم أن العوامل الاقتصادية مثلا هي الكل في الكل. ثم أخذ يدفع الحقائق ويسيرها طبقا لهواه.
وخلاصة ما نريد أن نقوله هنا هو أنه على المؤرخ أن يبدأ باستعراض الحقائق وإدراك كنهها، ثم يكون في نفسه فكرة عنها أو نظرية تخليها من ظواهر هذه الحقائق. ثم يتابع درسه جاعلا هذه النظرية أو «الغرض» أساسا يبني عليه عمله في التعليل والإيضاح. حتى إذا بدا له أن هذا الأساس لا يصلح للبناء الذي يريد أن يقيمه عليه، عاد فنقضه، وبحث عن فرض آخر، يقيم عليه بناء عمله، وهكذا دواليك، حتى يرى أن أساسه ثابت وأن بناءه متين.
وقد يعترض البعض على هذا، فيزعمون أن المؤرخ بتبنيه فرضا خاصا قد أصبح بحكم هذا التبني ميالا إليه يعطف عليه عطف الأبوة، وهنا يرد عليهم آخرون في أنه ليس من المحتم أن يكون في نفس المؤرخ فرض واحد، بل لا مانع من أن يضع فروضا متعددة في آن واحد. ثم يمضي في عمله حتى يتوصل إلى أحسنها ملائمة للحقائق التي يستعرض، وبهذا يترفع عن الغرض المزعوم، ويبعد عامل العطف الذي تالف في التبني.
فإذا اعترض معترض، في أن العقل لا يمكن أن يشغل نفسه في أكثر من فرض واحد في آن واحد، عدنا إلى الأخلاق. فإنها أساس العلم كما أنها أساس العمران، والعالم من يبتعد عن الهوى، ويتنزه عن مظان الزور ويخفض للحق جناح الذل والطاعة.
الباب الحادي عشر
العرض
لقد انتهينا من التحليل والتحقيق والتنسيق والتنظيم والتعليل والإيضاح، ولم يبق أمامنا سوى أمر واحد هو العرض، والعرض في عرف المؤرخين يتوقف على مكانة القارئ واستعداده لتقبل ما نكتب، وهو نوعان ما يدون للعلماء ورجال الاختصاص وما يقدم لجمهور القراء.
فحيث نعنى ببحث علمي دقيق ونكتب لزملائنا المؤرخين يجدر بنا أن ننتبه إلى أمور، منها ما يأتي: (1)
أن تكون رسالتنا وحدة تامة المعنى مرتبطة الأجزاء، وهو سهل المنال لمن يتبصر في الأمر، فيبدأ العمل بهيكل منطقي كامل شامل لجميع نقاط البحث، ثم يتروى في الكتابة، فيبدأ كل فصل من فصوله وكل فقرة من فقراته بملخص عام يستعرض فيه آراءه العمومية، ثم ينتقل إلى النقاط الفرعية والمواد الجزئية، وعليه أن يحسن الانتقال من فقرة إلى أخرى ومن فصل إلى فصل بجمل معينة تعيد ما قاله أولا وتبين علاقته بما يليه من الأقوال. (2)
Bilinmeyen sayfa