وإن يكن متن بمعناه ورد
فشاهد وفاقد ذين انفرد
وربما يدعى الذي بالمعنى
متابعا وعكسه قد يعنى
وقد تتعدد الروايات التاريخية في أمر واحد، فتتوافق أن تتناقض، وحيث تتناقض يحسن بالمؤرخ أن يؤكد بدء وقوع التناقض. لأن ما يظهر من التناقض، لأول وهلة، قد يتلاشى لدى التدقيق والتحقيق. فقد لا تتفق الروايات في الزمان أو المكان أو الشخص المقصود أو ما شاكل ذلك. أما إذا ثبت التناقض فعلى المؤرخ ما يأتي: (1)
أن يترفع عن اتخاذ موقف وسط بين الطرفين. فإذا ما وقع مثلا على أصل من الأصول فيه أن عدد المحاربين في واقعة كان عشرين ألفا، وآخر فيه، أنهم كانوا أربعين ألفا، فإنه من الخطأ الفاضح أن يوفق بين الطرفين؛ فيزعم أن العدد كان وسطا بين الطرفين؛ أي ثلاثين ألفا. فإن ما يصح في علم الرياضيات يصح هنا. فإذا جعل أحدهم حاصل الرقمين 2 × 2 أربعة وجعل الآخر الحاصل ستة، فهل يقال إن الحاصل الحقيقي لا هذا ولا ذاك بل هو خمسة! (2)
أن يعيد النظر في الطرفين لعله يكشف الستار عن عيب في إحدى الروايتين لم ينتبه إليه أولا. أو لعله يجد ما يجعله يثق بالواحدة أكثر من الأخرى. فيسقط ما قلت ثقته فيه ويرجح القول الآخر. (3)
أن يمتنع عن الحكم بين الطرفين، إذا عم الشك وبانت قلة الثقة، فليس هنالك ما يضطره لإبداء رأيه وإصدار حكمه، والعالم من يعلم أنه لا يعلم، وما يصح عن التناقض بين روايتين يصح أيضا عن التناقض بين رواية من الجهة الواحدة، وروايتين أو أكثر من الجهة الأخرى. فلا عبرة للعدد في مثل هذه المواقف، والحقيقة العلمية لا تثبت بالصويت والأكثرية، وقد قال الفلاسفة القدماء:
Ne numerentur, sed ponderentur «الوزن لا العدد» وحيث تتوافق الروايات التاريخية يجدر بالمؤرخ المدقق أن يلتفت إلى أمور عدة، منها ما يأتي: (1)
عليه أن لا يتسرع في الحكم، فيظن أن جميع ما لديه من الروايات هو من النوع الذي يعول عليه. فالناس كثيرا ما ينقل بعضهم عن بعض، وهذه جرائدنا اليومية. ألا ترى أن مخبرا واحدا أحيانا ينقل الخبر نفسه إلى جرائد متعددة؟ وإذا فالمؤرخ المدقق هو من يتروى في الأمر، ويعيد النظر في الروايات ليؤكد عدم اعتماد الرواة بعضهم على بعض، والتأكد من الاعتماد أو عدمه ميسور لمن يسعى إليه، وقد سبق لنا أن طرقنا مثل هذا الموضوع في باب تحري النص والمجيء باللفظ، فأتينا على ذكر قاعدة عامة يقول بها المؤرخون في مثل هذه المواقف، وهي أن النساخ والرواة لا يتفقون على خطأ إلا ويكون أحدهم في الأرجح قد أخذ عن غيره كما وأنهم لا يتفقون منفردين إلا على الصحة. فليس على المؤرخ، والحالة هذه، إلا أن ينعم النظر في الروايات التي يدرس ليرى إذا كانت تتفق على خطأ معين، فيثبت لديه عندئذ اعتماد الواحدة منها على الأخرى وهلم جرا، فإن أعياه ذلك فعليه أن يعلق حكمه في الأمر ويبقى متمسكا بالشبهة والاتهام، ولا يخفى أن ما يصدق على الرواية بأكملها يصح أيضا على أجزائها. فيحسن بالمؤرخ أن يتأكد من هذا الأمر أيضا، قبل الفراغ من عمله. (2)
Bilinmeyen sayfa