57

Mustafa Nahhas

مصطفى النحاس

Türler

هنالك انفجرت الثورة في الهند، وقام غاندي ليتولى قيادتها إلى ساحة الجهاد وميدان الكفاح والنضال، ولكنه في سنة 1919 لم يشترك في الثورة القومية اشتراكا فعليا ظاهرا، وإنما الذي أسهم فيها كل الإسهام، وتقدم إليها بكل عزم وجرأة وإقدام، رجل آخر من طراز آخر، وهو لوكا مانيا بال جانجدبار «تيلاك»، رجل نادر خارق للمألوف نشاطا وقوة واعتزاما، رجل اجتمعت فيه المزايا الثلاث؛ العقل الكبير، والإرادة القوية، والخلق الرفيع؛ بل لعله كان أذكى من غاندي أو على الأقل أكثر «شرقية» منه وأعرف بالثقافة الآسيوية، إذ كان أديبا ورياضيا من كبار علماء الرياضيات، وقد ضحى بكل أطماعه الشخصية لكي يتوفر على خدمة بلاده.

وكان مثل غاندي أزهد الناس في الإعلان عن ذاته والتماس المجد لشخصه؛ لأن كل مطمحه هو نجاح مثله الأعلى وانتصار فكرته حتى يستطيع اعتزال الميدان السياسي، ويعاود عمله العلمي ودراسته وبحوثه القديمة.

لقد كان تيلاك يومئذ زعيم الهند جميعا، وليس يدري أحد ماذا كان سيحدث لو أن الأجل أنسأه وامتد به فلم يخترمه الموت في سنة 1920؟!

ولكن الظاهر أنه لو كان تيلاك عاش واستطال الأجل به لظل غاندي - الذي كان يعترف له بعبقريته، وإن اختلف عنه اختلافا جوهريا من ناحية أساليبه ومبادئه وسياسته واتجاهه - الزعيم الديني للحركة الهندية، بل يومئذ ما كان أروع مشهد الهند وهي تسير خلف هذه الزعامة المزدوجة، ولو قد كان ذلك لراحت الهند القوية المرهوبة لا تغالب؛ لأن تيلاك كان زعيما عمليا بالقدر ذاته الذي كان به غاندي زعيما دينيا أو زعيما روحيا، عظيم السلطان على الأرواح والأذهان.

غير أن القدر حال دون ذلك، وهو ما يؤسف له، لا من أجل تيلاك نفسه، بل من أجل الهند جمعاء، بل من أجل غاندي بالذات؛ لأن غاندي أصلح ما يكون زعيما للصفوة المختارة، أو زعيما للطبقة المتعلمة، وكان هذا هو جل ما يبتغيه غاندي نفسه ويتمناه، بل كان هذا أوثق شيء بالنسبة له وأنسب موضع لطبيعته، وكان - بلا ريب - سيروح السعيد المغتبط يترك صاحبه «تيلاك» يقود الأكثرية ويسود الدهماء، وكان غاندي بالأكثريات دائما قليل الإيمان، بينما كان ذلك شأن «تيلاك» وديدنه؛ فقد كان يؤمن بالجماعات، وكان «ديمقراطيا» بالغريزة، وسياسيا لا يبالي الاعتبارات الدينية، مناديا بأن السياسة لم تخلق للقديسين ولا لرجال الدين، ولو عاش هذا الرجل لضحى بكل شيء في سبيل انتصار وطنيته؛ لأنه وإن كان في حياته الخاصة مثال الرجل النقي الأمين المستقيم، لم يكن ليتردد في القول بأن في السياسة كل شيء جائز، وكل أمر مقبول.

ولكن غاندي لا يرى هذا الرأي ويأبى إلا أن يسمو بمبادئه الخيالية إلى أبعد الآفاق، فلم يتفقا ولم يتلاقيا عند رأي واحد، وإن ظل كل لصاحبه محترما قادرا حق التقدير؛ فقد كان غاندي يشعر بأنه إذا ما تعارض الحق والصدق مع الحرية والاستقلال في ناحية الأسلوب ووسائل الجهاد، فإنه بلا أقل ريب يفضل التزام الصدق والحق على الحرية بل على الوطن ذاته، على حين كان تيلاك يرى العكس، ويعتقد أن وطنه مقدم فوق كل شيء في هذه الحياة، وأن مصلحته تستبق كل اعتبار في الوجود.

وقد قال غاندي في ذلك: «إنني مقترن بالهند؛ لأنني معتقد تمام الاعتقاد أن عليها رسالة تؤديها إلى هذا العالم ... وليس لديانتي أو عقيدتي حدود جغرافية ولا تخوم، وإنما إيماني بها يعلو على كل شيء حتى على الهند نفسها.»

ولعل هذا هو سر خطط غاندي في جهاده الوطني، وتعليل مسلكه في محاولة تحرير بلاده، بل لعل فيه سر فشله الأخير وإخفاق جهوده؛ لأن هذه الكلمات النبيلة السامية هي مفتاح الرسالة الغاندية التي تولى أداءها هذا الزعيم الجديد الغريب على هذه الدنيا، الطارئ على هذا العالم، فإن عقيدة غاندي أشبه ببناء ضخم شاهق مؤلف من طبقتين؛ الطبقة الأولى منه هي القاعدة أو الأساس، أو هي الجزء الديني من تلك العقيدة، والطبقة الأخرى الناهضة من فوقه هي الجزء السياسي الاجتماعي، ومعنى ذلك أن غاندي ديني بالفطرة، فهو من ثم زعيم سياسي بالضرورة، وقائد وطني لمجرد الحاجة ومراعاة للظروف، وقد تتغير هذه وتتبدل، ويبقى غاندي الأصيل، غاندي الديني، قائما لا تحويل له ولا تبديل.

غاندي في تنسكه الديني.

وإن غاندي في ديانته وإيمانه لينزع بقلبه الإنجيلي منزع المسيحية المتسامحة إلى أبعد الحدود، بل هو تولستوي جديد، تولستوي آخر، ولكن أرق حاشية، وأروع وداعة، أو إن شئت فقل أكثر مسيحية؛ إذ لا ينبغي أن ننسى أن تولستوي لم يكن مسيحيا بالطبيعة والفطرة، وإنما كان كذلك بالمجاهدة والرياضة وقوة الإرادة.

Bilinmeyen sayfa