وأنت فقد تجد أحاسيس الغيرة من الآخرين الذين قد يتطلعون بأبصارهم إلى مركز زعامته ومحل رياسته، بارزة عند بعض الزعماء كدليل على الرغبة في التفرد بها والاستئثار المطلق، دون منازع أو شريك.
هذه هي طائفة من الحالات التي يستبد فيها الكلف بالسلطان بنفس صاحبه، فماذا يصح أن يصنع في علاجها، وما سبيل العمل على إزالتها واستئصالها من أصولها الدفينة وجذورها المستسرة ...؟
أولا دعنا نسأل لماذا نجد بعض الزعماء يظهرون أثرتهم من خلال زعامتهم على هذه الصورة المكشوفة البينة؟ هل ذلك راجع إلى محاولة التعويض عما في نفوسهم من الإحساس بالعجز، أو عما كان في صغرهم وحداثتهم من الضغط والتضييق والاحتجاز، أو ما غشي عهد تربيتهم ونشأتهم من خنق العاطفة، وتعطيل الملكات، ومحاربة الصفات الطيبة، والانبعاثات الحسنة الخيرة الفاضلة؟!
هذا هو ما ينبغي أن نفهمه ونتبين دقائقه قبل أن نعمد إلى المعالجة والإصلاح والتقويم، وقد يقتضي الأمر في بعض الأحيان وجوب حمل الزعيم نفسه على الشعور بهذا النقص فيه، وقد لا يغني في هذا مجرد الإيحاء الأدبي، أو التنبيه العقلي، فإن جذوره قد تكون متغلغلة في أعماق نفسه وأغوار منازعه ورغباته، وليس ثم كبير فائدة في محاولة التقويم والعلاج ما لم تفحص البواعث والأسباب فحصا، وتكشف على حقائقها تماما.
وقد تتكشف هي أحيانا وتتبدى للزعيم ذاته دون تنبيه أو إهابة بسبب حوادث تقع له، وخيبات تطالعه، كأن يسقط في الانتخابات عند محاولة إعادتها ، أو يلقي أمرا إلى الذين يتشيعون له فلا يهرعون إليه، ففي هذه الحالة ونحوها قد يهديه منطق الحوادث إلى مواجهة الحقيقة، والاعتراف بأن علاقاته بالمقودين لم تعد قوية مكينة صالحة، وإلى البحث في ذاته ومسلكه وتصرفاته عما عسى أن يكون العيب فيه والنقص الذي أدى إلى هذا الفشل الأليم.
وأحيانا أخرى قد يستطيع الناصح الأمين، والصديق المخلص، والمشير الغيور، أن يقنع الزعيم بأن تناهيه في حب السلطان مزيل له معجل به، وقد يكون هو على الأيام قد شعر بالخطأ وأدرك من تلقاء نفسه الغلط والمعاب، فإذا جاءت النصيحة من المشير مطابقة لما في صدره، مماثلة لما في خاطره، لم يبق غير التماس الأسباب التي أدت إليه، والبحث عن البواعث عليه، وحينئذ تنبغي معالجتها، ويصح العمل على إزالتها، وليس من الميسور هنا بيان الخطوات التي تتخذ في هذا السبيل؛ لأن لكل حالة علاجا، ولكل علة من العلل أشفية ودواء.
بيد أنه في الإمكان إبداء جملة من الملاحظات على وجه العموم، فقد يكون من الخير أحيانا أن يعمد الزعيم المستهتر - أي المولع - بالسلطان إلى توسيع مرمى تفكيره ومدى نشاطه حتى يتيسر لكلفه بالسلطان أن يجد أكثر من مجال واحد أو متنفس بذاته أو اتجاه ليس غير. ومما يصلح شأن الزعيم المفرط في الإعلان عن نفسه، المسرف في تحكيم نفوذه، المجاهر بأن عمله هو كل حياته، أن يوجد لنفسه ملهاة أو تسلية ما أو «غية» ينشغل بها قليلا عن حصر كل تفكيره في ذاته، فتخفف من حدة إحساسه بسلطانه، وارتكاز كل عاطفته في زعامته، وتهيئ له جوا أوسع للتأمل، ومرمى أفسح جوانب للتفكير المتزن، والخاطر السديد الراجح، كما تستنفد فرط نشاطه والزائد عن الحاجة من قوته في سبل لا تغري بالإسراف في إعطاء فكرة السلطان أكثر مما تستحق.
وليس بعيدا من الصواب ولا من المشاهد المحسوس في الجماعات الكبيرة والهيئات الواسعة النطاق، ألا يكون للزعيم سبيل منظم للاتصال الدائم الوثيق بأتباعه والمشايعين له، فلا تسنح له الفرص، ولا تتهيأ له الظروف لدراسة شعورهم نحوه دراسة جدية دقيقة، وفهم أحاسيسهم من نحو تناهيه في النفوذ واستبداده بالسلطان، فلا يتاح له اكتشاف ذلك إلا بعد فوات الأوان، حيث يصبح من الصعب عليه أن يزيل ما علق بأذهانهم من هذه الناحية، وحل في صدورهم من هذا السبيل.
ومن ثم تنهض حجة القائلين بوجوب إيجاد وسائل صالحة منظمة لاتصال الزعامة بأشياعها، والاجتماع بممثلي الجماعات المنضوية تحت لوائها، حتى يرى الزعيم الأمور على حقيقتها، ويمسك بالمرآة أمام الطبيعة لتنعكس له عن صدقها ودقائقها ومعالمها، فإذا ما رأى في نفسه اعوجاجا قومه، أو تناهيا في السلطة انحرف عنه إلى جانب الاعتدال والاتزان.
ومن أكبر المبررات البسيكولوجية لإقامة هيئات تمثيلية فرعية وإنشاء لجان متعددة، أن ممثلي الجماعات والناطقين باسمها والنواب عنها يستطيعون - إذا شاءوا - أن يحدوا من مناحي سلطان الزعيم وغلو اعتداده به، وأن يجعلوه دائما مدركا لرغباتهم، شاعرا بأمانيهم ومطالبهم، عليما بما ينبغي لهم قبله من حقوق.
Bilinmeyen sayfa