وحين حبطت المفاوضات على تلك الصورة عادوا إليه ليجعلوا منه وعيدا جديدا، بل ليلغموا به الطريق أمام الوزارة التي تتولى الحكم بعد استقالة ثروت وخروجه، وقد كشف ذلك لورد لويد نفسه في كتابه فقال: «وكانت الإشاعات قد راجت يومئذ حول ما قد يحتمل أن يكون من تطورات الموقف ومفاجآته؛ فقد كان للوفد - وهو الحزب المتمتع بالمركز والسلطان، المشرف الآمر الناهي في البرلمان - الحق الواضح في ترشيح رئيس الوزارة الجديد من بين رجاله. ولم يكن لدينا سبب يحملنا على الاعتراض على هذا الأمر، إذ كان النحاس باشا ومؤيدوه على استعداد لتحمل المسئولية، ولكن كان بالطبع في مؤخرة المسرح الرجلان القديران الطموحان المنتميان إلى الأحرار الدستوريين، وهما محمد محمود باشا، وإسماعيل صدقي باشا، منشغلين بشد الحبال، وجذب الأستار، ولم يكن يدري أحد على التحقيق ماذا عسى أن تكون النتيجة من وراء هذه الحركات التي يصطنعانها، والألاعيب التي يدبرانها في الخفاء.
وفي الخامس من مارس لقيت الملك فعلمت أنه من المرجح أن لا شيء يحول دون استدعاء النحاس باشا، وكان ذلك مدعاة للنظر إلى المستقبل بعين القلق والمخاوف الشديدة؛ إذ لو تمكن الوفد في مدة حكمه من تنفيذ برنامجه التشريعي، فلا تمضي بضعة أشهر حتى يستولي تماما على اختصاصات السلطة التنفيذية في الأقاليم، وحتى يتم له النجاح في إنشاء نظام الإدارة العامة؛ فلا نجني من ذلك غير المتاعب الكبار، والنتائج الخطيرة.
ومن ثم لم يكن أمامنا من أمل غير ذلك الإنذار الذي كلفت توجيهه إلى الحكومة المصرية، إذ سيروح ذلك النذير «تحية مناسبة من جانبنا أو ترحيبا» بالرئيس الجديد في منصبه، فإذا هو رفضه كان لنا العذر إذا نحن أثرنا أزمة في سبيل مسئوليتنا الواضحة عن النظام والأمن في البلاد.
وفي اليوم ذاته، قبل النحاس باشا - بناء على دعوة الملك - تأليف الوزارة الجديدة، وكان الظاهر أن غرضه هو ورجال حزبه التعلق بالحكم طويلا، أو قدر المستطاع، حتى يتم لهم تعزيز مركزهم، وتوطيد سلطانهم؛ ولم يكن ثم محيص من تجنب المشاكل إلى حين. ... ولم تكن مساعيه في سبيل الحصول على معاونة الأحرار الدستوريين مضمونة النجاح، إذ لم يفز الذين كانوا منهم في صف هذا التعاون في الاجتماع الذي عقدوه يومئذ بالغلبة على النافرين والمعترضين إلا بمقدار بضعة أصوات، على حين ذهب صدقي باشا يجلس بجانب النافرين من التعاون والرافضين ...!»
وفي السابع عشر من شهر مارس سنة 1928 تألفت الوزارة الجديدة برياسة مصطفى النحاس باشا، وكانت الأغلبية فيها للوفد، ولم يدخلها من الأحرار الدستوريين غير محمد محمود باشا، وقد جعل على المالية، وأحمد خشبة باشا، وجعفر ولي باشا، وقد نجا بتأليفها الدستور من الخطر الذي ظن يومئذ أنه قد أحدق به، وكانت تلك أول مرة لنجاته في سلسلة التجاريب الاستعمارية التي امتحنت الأمة بها عبر السنين وفي مجاز الأعوام.
لقد وقف مصطفى النحاس في تلك الأزمة موقفا رائعا للغاية، موقف رجل عظيم لا يتردد أمام أكبر التبعة، ولا ينزوي من حمل المسئولية وهو أعرف الناس بخطرها وجسامتها، بل لقد تقدم إليها شجاعا جلدا فاحتملها، وهو يعلم أن هذه المهادنة التي التزمها الإنكليز، إن هي إلا مهادنة إلى حين، وأن من ورائها كمدا شديدا، وحقدا دفينا، وكظمة غضب مختنق، ونية سوء تستوجب الحذر البالغ، والفطنة الساهرة، والخاطر اليقظ المتنبه، والتدبير الحكيم.
وقد استن مصطفى سنة طيبة على أثر تقلده رياسة الوزارة، فقد ذهب لزيارة دولة ثروت باشا في داره، فلما لقيه قال باسما: «إن اختلاف وجهة النظر السياسية لا تؤثر في نظري فيما بيننا من العلاقات الودية التي بيننا، بل أرجو أن توثقها الأيام وتزيدها ارتباطا، وألا نحرم من خدماتك في المستقبل.»
وعند ذلك اغرورقت عينا ثروت باشا بالدموع، وقال: «هذه أول مرة أسمع فيها كلاما كهذا من رجل سياسي، وأنا لذلك به مستبشر مغتبط، وسوف تجدني دائما في خدمتك!»
ولكن لم يقيض الله لثروت باشا بعد ذلك أن يتقدم إلى بلاده بعمل، أو يحاول خدمتها من طريق آخر، فإن حياته السياسية كانت قد صارت إلى نهايتها بفشل مشروعه الذي كان آخر اجتهاده، ولم يكن صادرا فيه عن تفريط أو خيانة لحق وطنه، ولكنه كان صادرا عن عقيدة توحي إليه أنه ليس ثم سبيل إلى أكثر من ذلك، وأنه ليس في إمكان مصر أن تظفر يوما بأكثر منه أو أوفر نصيبا.
وقضى ثروت نحبه بعد ذلك ببضعة أشهر فجأة وهو في باريس، فتأثرت البلاد لموته وحزن الناس لمصابهم فيه؛ لأنه كان بلا شك من رجال مصر المعدودين.
Bilinmeyen sayfa