وكان على مصطفى النحاس أن يدلل على فساد ظنونهم، وكاذب تقديرهم مثبتا أن سعدا حي فيه، ماثل به، قائم في صدره، متحرك في خاطره، وأن ما بناه لن يهدم، وما أقامه لن يدك، وأن الوفد منيع لأنه فكرة، روحي لأنه فوق المادة، وأنه على حفظ التراث العظيم لقدير، وللقيام على التركة الحسنة الكبيرة كفء، وبالتبعات الجسام حقيق، وأنه قد وضع في مكانه، واستوى في محله، وساقت به الأقدار الرحيمة ليتولى هذا الأمر أهلا له، حريصا عليه، قويا متمكنا باذلا حياته إذا اقتضاها، متجردا من شئون نفسه ليستأثر الوطن به، وتستحوذ القضية العامة على كل شيء فيه.
وقد كان الائتلاف قبل بيعته ضرورة سياسية من أجل حماية الدستور من خصومه، والحرص عليه حيال أعدائه المتربصين دوائر السوء به، ولكن الأحزاب التي رضيت به مع سعد عادت يومئذ تظن أنه قد حان لها أن تفضه، وقرب أن تنزع أيديها منه؛ إذ كان اندماجها بادي الرأي فيه، انتقاما من فريق استبقها إلى الحكم وغلبها على الظفر به، وأصبح تعللها من بعد سعد أن تعود هي إليه، وتتولاه هي وحدها متهافتة عليه؛ لأنه إذا كان من الصعب عليها مغالبة سعد بسبيله، فلعله قد صار سهلا رد مصطفى عنه، أو خذلانه في أزمة من الأزمات ليخلو لها هي وجه السلطان تتبوأ مقعده، وتعيث في الأرض مفسدة.
وكانت ثم أيضا كراهية الإنكليز لمصطفى النحاس بالذات، بل كانت هناك كذلك بغضاء لورد لويد له خاصة، وخشيته من وقوع الزعامة له قبل أن يصير أمرها إليه، وانتواؤه تسديد ضربة قاضية في بداية رياسته للوفد وقيادته، حتى يمهل فيتمادى ويصبح القضاء على سلطانه عصيا.
ولا ننسى مع هذا أن محادثات كانت تجري بين ثروت باشا وبين الإنكليز، وأن نتائجها بلا ريب سوف تعرض عليه ليحكم فيها، ويوجه الوفد بسبيلها، وهو موقف خطير للغاية يقتضي منتهى الحكمة والحذر والفطنة، ويوجب اليقظة الدائمة والانتباه الشديد.
ووسط هذه العوامل المجتمعة: ائتلاف يترنح، والخير في إسناده، أو الحكمة أن يترك ليجيء تدهوره من ذاته، أو من صنع دسه وكيده؛ ودستور عزيز حورب له، وكوفح من أجله، وكتبت مواده بالدم الزكي جعل مدادا لكلماته؛ وتربص من جانب الإنكليز دائرة السوء به للتعجيل بانقلابه، وسط هذه العوامل مجتمعة، وجد مصطفى النحاس باشا نفسه مكتنفا؛ فثبت في موقفه، واستعان أقصى الحكمة والسياسة والرشاد في خدمة بلاده، وراح يرتقب الحوادث هادئ النفس مليء الصدر إيمانا وقوة وسكينة.
واستأنفت الدورة النيابية سيرتها في ذلك العام، فانعقد البرلمان في السابع عشر من شهر نوفمبر، وكان الملك قد عاد من رحلته في أوروبا، فافتتح البرلمان؛ كما رجع ثروت باشا قبل ذلك بيومين، فحضر افتتاحه، وألقى خطبة العرش، وفي الجلسة الأولى للنواب انتخب مصطفى النحاس باشا رئيسا له بالإجماع، فاكتملت له رياسة الشعب مزدوجة: قيادة الجهاد، وزعامة السياسة؛ فبرز هو في ردائهما جليلا حسن السمت، نظيف الثوب، وضاء باهر المطالع، تنعقد من حوله هالة بيضاء من ضياء.
وأشارت خطبة العرش إلى المحادثات إشارة خفيفة، لم تتعرض فيها للتفاصيل؛ فلبثت البلاد ترتقب من ثروت باشا أن يعلنها بما قد جاء به في حقيبته، ولكن طال الانتظار على غير طائل، وكان عذره كلما تحدث أحد إليه أنه لا يزال ثم بينه وبين السير أوستن تشمبرلن أخذ ورد في بعض المسائل؛ حتى استولى الضجر، واستحوذ التبرم، وسرى الاستياء.
وكان لورد لويد - كما ظهر فيما بعد من كتابه «مصر من عهد كرومر» - متململا من تلك المباحثات، واثقا من خيبة الرجاء فيها، موقنا بعقمها وقلة نفعها، وقد زاده تبرما بها وسخطا عليها أنها جرت بغير علمه، وكادت تنتهي على الاتفاق وهو فيها غير شريك؛ إذ حرص وزير الخارجية البريطانية يومئذ على أن تجري المحادثات بينه وبين ثروت باشا دون وساطته.
لقد كان لويد يرى أن الأمل في نجاح هذه المحاولة كان يومئذ بعيدا، ويعتقد أن وزارة الخارجية البريطانية بما صنعت في ذلك الحين «قد احتبلت ثروت باشا في فخ القدر المنصوب له، وراودته عن مصيره، جريا وراء نظرية غريبة، وهي أن استئناف المفاوضات معه قد يذلل له تأليف حزب يسمى «حزب المعاهدة» من أفراد «معتقلين» يتيسر لهم التغلب على نفوذ «المتطرفين»، بل لعله يستطيع به الفوز في عدد الأصوات في المجلس عليهم آخر الشوط ونهاية المدى»!
وقد كان ثروت باشا من طول استمهاله، وكثرة تسويفه، يلوح كأنما هو مدرك نهايته، عليم بنتيجة موقفه، وإذا كانت وزارة الخارجية البريطانية قد عميت عنها، فلم يكن هو بلا ريب عنها عاميا. وفي هذا يقول لورد لويد: «ولكن كان الأمل الوحيد لديه هو في الإلحاح كل حين في إجراء مناقشات ومباحثات أخرى، للظفر بتسامح جديد، وتساهل زائد، ولم تكن نجاته في النهاية ممكنة إلا بأعجوبة أو معجزة، فإذا لم تظهر هذه المعجزة، ولم تبادر إليه تلك الأعجوبة، فإن كل ما هو في استطاعته أن يرجئ - ما أمكنه - حلول موعد معركة الحياة أو الموت بالنسبة له، بل معركة «واترلو» - التي قضت على نابليون وحطمته تحطيما - وأن يؤجل يومه المحتوم وموعد هزيمته الساحقة.
Bilinmeyen sayfa