ولما اتفقت الآراء بينهم على هذه الخطة الحازمة والتصميم الحكيم، بدءوا يفكرون في الشخصية البارزة ذات السمعة الذائعة التي يصح أن يكاشفوا صاحبها بما قد جاش في صدورهم، واختلج في جوانحهم، وسرى في أخلادهم من أفكار وخطط وتصميمات، فاجتمعوا على أن سعد زغلول هو الرجل الأوحد للفكرة، وبطل الساعة المرتقب، وصاحب تلك الشخصية الخليقة بالاعتزام والإقدام.
فكروا يومئذ في سعد، بينما كان سعد نفسه يفكر تفكيرهم، ويجيش في صدره ما كان يجيش في صدورهم، وكأنما تلاقت نفس مصطفى ونفس سعد في موجة من موجات الإلهام الروحي والوحي النفسي، وكأنما تجاوبا واتحدا في مسرى تيار واحد وسيال خفي عظيم الخطر، بالغ القوة، شديد الهزات، وكأنما تعارفا في الوطنية الصادقة قبل أن يتعارفا ويتصلا في حقيقة الحياة.
وشرع الجمع يبحثون في الخطة المثلى للوصول إلى سعد وإقناعه حتى لا يردهم خائبين إذا هو ظنهم شبابا إخوان سذاجة، وحسب أفكارهم مجرد أحلام مما يختلج في الأخلاد الصغيرة، وصور وهمية من خدع الأذهان.
فقال مصطفى إنه يعرف سعدا منذ كان وزيرا للحقانية، ولكنها معرفة رسمية سطحية، لا تمكنه من مفاتحته في أمر خطير كهذا الذي ائتمروا له واجتمعوا عليه، وقال أحدهم - وكان موظفا كبيرا - إنه يعرف عبد العزيز فهمي بك معرفة وثيقة تبيحه الحديث إليه في الموضوع، وإنه يرجو إذا تمكن من إقناعه واكتساب عطفه أن يحمله على مفاتحة سعد باشا بدوره، فوافق الجمع على العمل بهذا الرأي، وعهدوا إلى زميلهم بزيارة عبد العزيز فهمي بك، والبحث معه في هذا الشأن العظيم.
وفي اليوم التالي عاد إليهم الزميل، فنبأهم بأنه قد ذهب للقاء عبد العزيز فهمي بك، وخاطبه في شأن المهمة التي ذهب إليه من أجلها، ولكنه ما كاد يبدأ الحديث حتى قاطعة وأبى الإصغاء إليه قائلا: «إنه من العبث التفكير في هذا الموضوع، ولا فائدة من الاهتمام به؛ لأن مصر ضعيفة لا حول لها ولا قوة حتى تستطيع تحرير نفسها، مهما نادت، ومهما صاحت، ومهما احتجت وبذلت من تضحية ...»
سعد ومصطفى.
فلما سمع مصطفى ذلك غضب وثارت ثائرته، وجاشت حماسته، وقال لصاحبه: إنك يا عزيزي لم تعرف كيف تقنعه وتثير حميته، فدعني أزره معك لعل مجهودي يعزز مجهودك فنفوز بغايتنا، ووافق الجميع على هذا الرأي، واعتزم مصطفى تنفيذه من الغداة.
ولقي مصطفى عبد العزيز فهمي بك، فأعاد عليه الكرة هو وصاحبه الذي ذهب معه؛ فأبدى لهما ما كان قد أبدى من قبل من التردد قائلا إنه لا يظن أن حركة كهذه يمكن أن تؤدي إلى نتيجة عملية، فقال له مصطفى: «نحن نعلم أنكم بإقدامكم على هذه الحركة ستضحون تضحية غالية، وأن الإنكليز حتما عامدون يومئذ إلى القبض عليكم ونفيكم، بل قد يصنعون بكم شرا من هذا وأعظم بلاء، ولكن تضحيتكم هذه ستضرم نار الحماسة في قلوب أبناء الوطن وشبابه، فنخوض نحن الميدان من بعدكم، ستذهبون أنتم ونقوم نحن على آثاركم.»
هذه أول صيحة من صيحات التفدية انبعثت من أعماق مصطفى النحاس قبل مشتعل الثورة، بل لقد كانت هذه هي الثورة في كل جلالها قد اضطرمت في نفس رجل وقلبه، وجاشت في أعماقه وأغوار روحه صيحة الوطني الصادق الذي لا يتردد في بذل كل شيء مهما عز من أجل وطنه، وأي رجل هو يومئذ وليس يملك غير راتبه، ولا هو معتمد إلا على ربه، ولا مستند إلا إلى قواه ومشيئة الله فيه؟! رجل محدود الموارد، مجهول الغد، أعزب، ولكنه في التبعات أكثر من متزوج؛ لأن أبناء أخته عنده في معزة الابن والولد، وفي التشبيه قطع أو أفلاذ من الكبد، وله في بقية من أسرته بر وتعهد، وحنان غير مقطوع أبدا ولا ممنون.
ولكن كل هذا لا شيء، وسناده فيه هو الله قبل كل سند؛ بل ليس في العالم حائل ولا راد مهما عظم واشتد، كان يمكن أن يقعد بهذا الرجل يومئذ عن النهدة للبلد، والوثبة للوطن الراسف في القيد، فقد جاشت بالوطنية روحه، واشتعل بنارها خاطره وصدره، وانبعثت مع دافع العناية الإلهية عزمته وقوته؛ فاعتزم ثم تقدم وهو يعلم أن من ورائه الفاقة والشظف والبأساء والضر والحرمان، وأن من أمامه المعتقل والمحبس والمشرد والمنفى والإعدام ...
Bilinmeyen sayfa