إن الجماعات إنما تعمل وتتقدم وتنجح وتحقق غاياتها وأمثلتها العليا باتحاد الجهود الفردية، واستثمار الرغبة الصادقة المنبعثة من أرواح الآحاد الذين يؤلفونها، واستخدام القوة الخفية الكامنة في الأفراد الذين يكونونها، وهذا يقتضي أن يكون للجماعات روح معنوي دافع ملهم محتث، يجمع جهودهم كلها لتحقيق الغرض العام، ومن مهمة الزعامة أو وظيفتها الاجتماعية في الشعب أو الأمة أن تخلق هذا الروح، وأن تبثه وتنميه وتعمل أبدا على توجيهه؛ وبغير الزعامة لا يمكن أن يكون للروح المعنوي وجود أو حياة.
وإذا صح أن النهضات العامة هي في الغالب ظل رجل واحد، وغراس مجهوده، وثمر زرعه بمفرده؛ فلا ينبغي أن ننسى أن نجاحها وتوفيقها وفوز هذا الزارع الأكبر، والغارس المثمر، هو أيضا فضل من حماسة الجماعة المتأثرة به، وصدق انبعاث النفوس على هداه، وحرارة المشاعر التي ألهبها، والأحاسيس التي ابتعثها، فوجدت في البيئة والمحيط تلبية ومستجابا.
وليست هذه الحماسة في الواقع وليدة الإرشاد فحسب وثمرة التوجيه، ولكنها أيضا نتيجة دعوة عامة واستجماع لكل قوى الرغبة في القيام بعمل صح الاعتقاد بخطره وتم الإيمان بنفعه ومست حاجة العصر إليه، وهي الرغبة التي يغذيها الزعيم ويتعهدها ويسقيها ويرعاها برعيه؛ فتنشأ من ثم هذه الحماسة المتقدة التي تسري في الجماعة وتدفع بها إلى المسير على حداء الإيمان واحتثاث اليقين.
إن مجهود الزعامة ليجد فسيح ميادين ، ويشمل عديد وجوه، ويغمر أفقا واسع النطاق؛ فإن الزعامة هي التي تضع التصميمات، وترسم الخطط وتحدد السياسات، وتعين المناحي والأساليب، وهي التي تنظم جهود الجماعات، وتوزع التبعات والمسئوليات، وتراقب الظاهرات والبوادر والمقدمات، وتشرف على الحركة الإجماعية والتقدم العام، كما تدرب الذين يلتفون حولها على حمل الأعباء، والاضطلاع بالفعال الجسام، بل هي أخيرا التي تبعث قوى الأفراد جميعا وتحفز المواهب الكامنة، والنباغات الهاجعة، والمزايا المستكنة، والكفايات التي بحاجة إلى التشجيع والبروز لتشترك في الغاية العامة، فيغمرها روح واحد ويشملها انسجام تام؛ فإن هذا الانسجام هو خلق جديد في ذاته، لقوات جديدة في نفسها، تروح بمثابة احتياطي ومدخر، ومستودع زاخر، لا ينفد منه المورد ولا ينضب المعين.
إن سلطان الزعامة هو الذي يدفع القوى العامة في الجماعة إلى مستوى رفيع، وهو الذي يرد الموافقة السلبية رضى إيجابيا، ويحيل النفور رغبة، والسكون حركة، والبرودة اشتعالا، والفتور حماسة وسعيرا، وقلة المبالاة اقتناعا ويقينا، والجمود عملا، والخصومة مودة، والعداوة مقلمة الأظفار.
بل إن سلطان الزعامة لأشبه شيء بفتح السيال الكهربائي الذي يحرك مختلف أجزاء الآلة وأجهزتها الدقائق، ومركباتها المتعددة؛ فتؤدي كلها وظائفها، وتبرز طاقتها، وتحدث حدثها المطلوب.
وليس من شك في أن الأفراد في الجماعة إنما يتحركون بالدوافع النفسية والبواعث الروحية، فتنشأ من هذه الدوافع والبواعث قوة إضافية، ومحركات جديدة، وتحتشد قوات أخرى لم تكن من قبل في التقدير والحسبان.
ومن هذا يخلص لك أن الزعامة هي المقدرة على التأثير في الجماعة لحملها على التعاون والتضافر في سبيل تحقيق غاية تدرك هذه الجماعة أنها أصلح شيء لها، وأنها وفق أمانيها، ورمز آمالها، ومجموعة رغباتها ومطالبها في الحياة.
وقد يكون هذا التعريف لسلطان الزعامة وسرها الخفي وأثرها الأكبر جديدا، إذ شاهدت الإنسانية قبل اليوم زعامات من غير هذا الطراز، بل لا نزال نشاهد الآن في بعض البلاد المتحضرة أمثلة لا تندمج تحت هذا التعيين ... زعامات آمرة ناهية، متحكمة طاغية، حتى في الخير وإليه، وحتى بالعنف والحمل عليه؛ أي أنها زعامات خلت من الشرط الأول الذي تتم به الزعامة الهادية المستجاب لها في غير اصطناع، المطاعة في غير غضاضة ولا ألم إرغام، وهذا الشرط هو أن يقابل الزعامة رضوان الجماعة، ويتلاقى عندها الانبعاث الصادق والطاعة، فقد أصبحت فكرة الزعامة في النظام النيابي متركزة في هذا المعنى بالذات، قائمة على هاتين الدعامتين المتقابلتين: رضوان الجماعة، وتوجيه الهداة القائدين.
وتقوم الزعامة عند حاجة الشعب إليها، وتظهر في الوقت الذي يتلفت الناس حولهم باحثين عنها، ملتمسين معونتها وهداها، فقد رأينا أكثر الزعماء يبرزون في مواقف الخطر العام، وساعات الفزع المنتشر، ومنتهى السرعة الواجبة لدرئه، والدافع الملح لمعالجته، ويوم تقتضي الظروف الزعيم المنشئ الباني المصلح القائد السائر بالجماعة إلى أمثلتها العليا؛ ينبري من لدن الطبيعة وبرحمة من الله، الرجل الذي تجد الجماعة فيه مطالبها فترتضيه لها، فإذا ما كان الزمن معه، ظهر ووثب وطفر، وكانت رغبة الشعب قوية متجلية، تقدم ليملأ الفراغ ويحتل المكان.
Bilinmeyen sayfa