مسند الفاروق
أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب ﵁
وأقواله على أبواب العلم
للإمام الحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الشافعي
المتوفى سنة ٧٧٤ هـ
يطبع كاملًا لأول مرَّة على نسخة بخط المؤلِّف
وعليها تعليقات بخط الحافظ ابن حجر
حقَّق نصوصه وخرَّج أحاديثه وعلَّق عليه
إمام بن علي بن إمام
1 / 1
الجزء الأول الطهارة - الفرائض
1 / 3
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، فإن من الأمور التي استفاضت واشتهرت عند أهل الإسلام أن أفضل هذه الأمة بعد نبيِّها هم أصحاب رسول الله ﷺ، أبرُّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلها تكلُّفًا.
وقد تنوعت النصوص الشرعية في ذِكر فضائلهم ومناقبهم، قال الله تعالى: ﴿وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ [التوبة: ١٠٠].
وقال تعالى: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾ [الفتح: ١٨].
وقال تعالى: ﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي
1 / 9
التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الفتح: ٢٩].
وفي «الصحيحين» من حديث ابن مسعود ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «خيرُ أمَّتي القَرْنُ الذين يَلُوني، ثم الذين يَلُونَهم، ثم الذين يَلُونَهم» (١).
وفي «صحيح مسلم» من حديث أبي موسى الأشعري ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «النجومُ أَمَنةٌ للسماءِ، فإذا ذهبت النجومُ أتى السماءَ ما توعَدُ، وأنا أَمَنةٌ لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعَدون، وأصحابي أَمَنةٌ لأُمَّتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أُمَّتي ما يوعَدون» (٢).
وفي «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تسبُّوا أحدًا من أصحابي، فإنَّ أحدَكم لو أنفق مثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا، ما أدرك مُدَّ أحدِهِم ولا نَصِيفَه» (٣).
ومن بين هؤلاء الصَّحْب الكرام الذي جاءت النصوص في ذِكر مناقبه وفضائله: الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ﵁، فمن ذلك:
_________
(١) أخرجه البخاري (٥/ ٢٥٩ رقم ٢٦٥٢) و(٧/ ٣ رقم ٣٦٥١) و(١١/ ٢٤٤، ٥٤٣ رقم ٦٤٢٩، ٦٦٥٨ - فتح) ومسلم (٤/ ١٩٦٢ رقم ٢٥٣٣) (٢١٠) واللفظ له.
(٢) أخرجه مسلم (٤/ ١٩٦١ رقم ٢٥٣١).
(٣) أخرجه البخاري (٧/ ٢١ رقم ٣٦٧٣ - فتح) ومسلم (٤/ ١٩٦٧ رقم ٢٥٤٠) واللفظ له.
1 / 10
١ - ما ثبت في «الصحيحين» من حديث ابن عمر ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: «بَيْنا أنا نائمٌ إذ رأيتُ قَدَحًا أُتِيتُ به، فيه لبنٌ، فشربتُ منه حتى إني لأرى الرِّيَّ يجري في أظفاري، ثم أَعطيتُ فَضْلِي عُمرَ بنَ الخطابِ»، قالوا: فما أَوَّلتَ ذلك، يا رسولَ اللهِ؟ قال: «العلمَ» (١).
٢ - ومنها: ما ثبت في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد الخدري ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «بَيْنا أنا نائمٌ رأيتُ الناسَ يُعرَضون عليَّ وعليهم قُمُصٌ، منها ما يَبلغُ الثُّدِيَّ، ومنها ما يَبلغُ دون ذلك، ومرَّ عُمرُ بنُ الخطابِ، وعليه قميصٌ يَجُرُّهُ»، قالوا: فما أَوَّلتَ ذلك، يا رسولَ اللهِ؟ قال: «الدِّينَ» (٢).
٣ - ومنها: ما ثبت في «الصحيحين» من حديث ابن عمر ﵄ قال: قال رسول الله ﷺ: «أُريتُ كأني أنزع بدلوِ بَكْرةٍ على قليب، فجاء أبو بكر فنزع ذنوبًا أو ذنوبين، فنزع نزعًا ضعيفًا، والله ﵎ يغفر له، ثم جاء عمر فاستقى فاستحالت غَرْبًا، فلم أر عبقريًا يفري فَرِيَّه، حتى رَوِيَ الناس وضربوا العَطَن» (٣).
_________
(١) أخرجه البخاري (١/ ١٨٠ رقم ٨٢) و(٧/ ٤٠ رقم ٣٦٨١) و(١٢/ ٣٩٣، ٣٩٤، ٤١٧، ٤٢٠ رقم ٧٠٠٦، ٧٠٠٧، ٧٠٢٧، ٧٠٣٢ - فتح) ومسلم (٤/ ١٨٥٩ رقم ٢٣٩١) واللفظ له.
(٢) أخرجه البخاري (١/ ٧٣ رقم ٢٣ - فتح) و(٧/ ٤٣ رقم ٣٦٩١) و(١٢/ ٣٩٥ رقم ٧٠٠٨، ٧٠٠٩ - فتح) ومسلم (٤/ ١٨٥٩ رقم ٢٣٩٠) واللفظ له.
(٣) أخرجه البخاري (٧/ ٤١ رقم ٣٦٨٢ - فتح) ومسلم (٤/ ١٨٦٢ رقم ٢٣٩٣) واللفظ له.
1 / 11
٤ - ومنها: ما ثبت في «الصحيحين» من حديث سعد بن أبي وقاص ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: «إيهًا يا ابنَ الخطابِ، والذي نفسي بيده ما لَقِيكَ الشيطانُ سالكًا فجًّا قطُّ إلا سلك فجًّا غيرَ فجِّك» (١).
٥ - ومنها: ما ثبت في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: قوله ﷺ: «إنه قد كان فيما مضى قبلَكم من الأمم محدَّثون، وإنَّه إنْ كان في أمتي هذه منهم، فإنه عمرُ بنُ الخطابِ» (٢).
بل بَلَغ من عظيم مكانته ﵁ أن الوحي نزل بتصديقه في عدَّة من الوقائع، فمن ذلك:
١ - ما ثبت في «صحيح البخاري» (٤٠٢) عن أنس بن مالك ﵁: قال عمر ﵁: وافقت ربِّي في ثلاث: قلت: يا رسول الله، لو اتَّخذنا من مقام إبراهيم مصلَّى، فنزلت: ﴿وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّى﴾ (٣)، وآية الحجاب، قلت: يا رسولَ الله، لو أمرتَ نساءَك أن يحتجبن، فإنه يكلِّمهن البرُّ والفاجرُ، فنزلت آية الحجاب، واجتمع نساءُ النبيِّ ﷺ في الغَيرة عليه، فقلت لهنَّ: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ﴾ (٤)، فنزلت هذه الآية.
٢ - ومنها: ما ثبت في «الصحيحين» من حديث عبد الله بن عمر ﵄ قال: لما تُوفي عبد الله بن أُبَي ابن سَلُول جاء ابنُه عبد الله بن عبد الله إلى
_________
(١) أخرجه البخاري (٧/ ٤١ رقم ٣٦٨٣ - فتح) -واللفظ له-، ومسلم (٢٣٩٦).
(٢) أخرجه البخاري (٦/ ٥١٢ رقم ٣٤٦٩ - فتح).
(٣) البقرة: ١٢٥
(٤) التحريم: ٥
1 / 12
رسولِ اللهِ ﷺ فسأله أن يعطيه قميصَه أن يكفِّن فيه أباه، فأعطاه، ثم سأله أن يُصلِّي عليه، فقام رسولُ اللهِ ﷺ ليصلِّي عليه، فقام عمرُ فأخذ بثوبِ رسولِ اللهِ ﷺ، فقال: يا رسولَ اللهِ، أتصلِّي عليه وقد نهاك اللهُ أن تصلِّي عليه؟ فقال رسول اللهِ ﷺ: «إنما خيَّرني اللهُ، فقال: ﴿استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة﴾ وسأزيدُ على سبعين». قال: إنه منافقٌ! فصلَّى عليه رسولُ اللهِ ﷺ، وأنزل الله ﷿: ﴿ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره﴾ (١).
وهذا الكتاب الذي بين يديك صنَّفه الإمام الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الشافعي ليجمع لك فيه ما استطاع إليه سبيلًا من فقه هذا الصحابي الجليل، سواء في ذلك ما رواه عن النبي ﷺ، أو ما أفتى به ﵁.
ولفِقه عمر ﵁ مزية خاصة، فقد طالت مدة خلافته، واتَّسعت رُقعة الإسلام في عهده، وكثُرَت الوقائع والمستجدات، فاحتاج إلى القول فيها، زد على هذا أن اللهَ تبارك تعالى حَبَاه بِثُلَّة من مشيخة المهاجرين والأنصار، فإذا نزلت بالمسلمين نازلةٌ جَمَعهم واستشارهم، فكانت فتاواه لا تمثل رأيه فحسب، بل تمثل رأي الجماعة من الصدر الأول.
إذا تبين لك هذا؛ عرفتَ قدر هذا العمل الذي بين يديك، فشَكَرت لمؤلفه صنيعه، ودعوت الله أن يجزيه خيرًا على ما قام به من جمعٍ لفقه هذا
_________
(١) أخرجه البخاري (٣/ ١٣٨ رقم ١٢٦٩ - فتح) ومسلم (٤/ ١٨٦٥ رقم ٢٤٠٠) واللفظ له.
1 / 13
الصحابي الجليل، فليس من السهل أن تتتبَّع ما في بطون الكتب لتقف هنا أو هناك على فتوى أو رأي في مسألة، إن هذا العمل الذي بين يديك هو ثمرة رحلة طويلة وشاقة، لا يصبر عليها إلا رجلٌ يريد بعمله اللهَ والدارَ الآخرةَ، فجزى اللهُ مؤلفَه خيرًا، وجعل عمله في موازين حسناته، وجمعنا به في دار كرامته.
وكتب
إمام بن علي بن إمام
في العاشر من شهر شعبان لعام ١٤٢٥ هـ
(الرياض) محمول: ٠٠٩٦٦٥٥٩٣٣٤٩٢٠
منزل: ٠٠٩٦٦١٤٤٩٠٨٦٥
(مصر) هاتف: ٠٠٢٠٨٢٢٢٤١٢٢٠
ثم أعدت النظر فيه حتى تم بحمد الله تعالى في العاشر من شهر رمضان المبارك لعام ١٤٣٠ هـ بدار الفلاح بالفيوم
1 / 14
منهج التحقيق
يتلخص عملي في هذا الكتاب على النحو التالي:
١ - الترجمة للمؤلف، مع ذِكر بعض شيوخه، وتلاميذه، وثناء العلماء عليه، وذِكر أهم مصنَّفاته.
٢ - إثبات صحَّة نسبة الكتاب للمؤلف.
٣ - منهج المؤلِّف في كتابه.
٤ - مزايا الكتاب.
٥ - موارد المؤلِّف في كتابه.
٦ - وصف النسخة الخطية المعتمدة في التحقيق.
٧ - منهج التحقيق.
٨ - نقد الطبعة الأولى للكتاب.
٩ - شكر وعرفان.
1 / 15
المبحث الأول: التعريف بالمؤلِّف (١)
هو الإمام الحافظ المؤرِّخ المفسِّر عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي الشافعي.
مولده:
ولد الحافظ ابن كثير ﵀ في سنة ٧٠٠ هـ، فيما قاله الحافظ ابن حجر، وابن العماد، والسيوطي.
_________
(١) مصادر ترجمته:
1 / 16
وذهب ابن تغري بردي، والدَّاوودي إلى أن ولادته كانت في سنة ٧٠١ هـ (١).
حياته العلمية:
حفظ القرآن الكريم، وهو ابن إحدى عشرة سنة على شيخه شمس الدين البعلبكي الحنبلي، المتوفى سنة ٧٣٠ هـ.
وسمع «صحيح مسلم» في تسعة مجالس بقراءة الوزير أبي القاسم الأزدي الأندلسي على الشيخ نجم الدين القسطلاني.
ودَرَس الفقه على الشيخ ابن الفركاح، وابن قاضي شهبة.
وحفظ «التنبيه» للشيرازي، و«مختصر ابن الحاجب».
وقرأ «تهذيب الكمال في أسماء الرجال» على شيخه الحافظ أبي الحجاج المزِّي.
ودَرَس أصول الفقه على أبي البقاء الأصفهاني.
ودَرَس النحو على عبد الله الزبيدي النحوي.
وتولَّى التدريس في دار الحديث الأشرفية، وتربة أم الصالح، الصالحية (٢).
مشايخه:
من أبرز مشايخه الذين تلقَّى عنهم العلم:
١ - ابن غيلان -شيخه في القرآن-:
قال عنه ابن كثير: الشيخ الصالح العابد، شرف الدين أبي الحسن بن حسين بن غيلان البعلبكي الحنبلي، إمام مسجد السلالين بدار البطيخ العتيقة، سمع الحديث وأسمعه، وكان يقرئ القرآن طرفي النهار، وعليه ختمت القرآن في سنة أحد عشر وسبعمائة، وكان من الصالحين الكبار، والعُبَّاد الأخيار، توفي يوم السبت سادس صفر، وصلِّي عليه بالجامع، ودُفن بباب الصغير، وكانت جنازته حافلة (٣).
٢ - ابن اللبَّاد -شيخه في القراءات-:
_________
(١) انظر: «أنباء الغمر» (١/ ٤٥) و«طبقات الحفاظ» (ص ٢٥٩) و«شذرات الذهب» (٦/ ١٣١) و«النجوم الزاهرة» (١١/ ١٢٣) و«طبقات المفسرين» (١/ ١١١).
(٢) انظر: «البداية والنهاية» (١٤/ ١٠٧، ١٤٩، ١٥٠، ١٧٩).
(٣) «البداية والنهاية» (١٤/ ١٥٠).
1 / 17
قال عنه ابن كثير: قرأت عليه شيئًا من القراءات، وكان متقلِّلًا من الدنيا، لا يقتني شيئًا، وليس له بيت ولا خزانة، إنما كان يأكل في السوق وينام في الجامع، توفي في مستهل صفر وقد جاوز السبعين، ودُفن في باب الفراديس ﵀ (١).
٣ - ابن الشِّحنة:
قال عنه ابن كثير: الشيخ الكبير المسنِد المعمَّر الرُّحْلة شهاب الدين أبو العباس أحمد بن أبي طالب بن نعمة بن حسن بن علي بن بيان الديرمقرني، ثم الصالحي، الحجار، المعروف بابن الشِّحنة، سمع البخاري علي الزبيدي سنة ثلاثين وستمائة بقاسيون، وإنما ظهر سماعه سنة ست وسبعمائة، ففرح بذلك المحدثون، وأكثروا السماع عليه، فقرئ البخاري عليه نحوًا من ستين مرة وغيره، وسمعنا عليه بدار الحديث الأشرفية في أيام الشتويات نحوًا من خمسمائة جزء بالإجازات والسماع (٢).
_________
(١) «البداية والنهاية» (١٤/ ١١٤).
(٢) «البداية والنهاية» (١٤/ ١٥٠).
1 / 18
٤ - برهان الدين الفَزَاري:
قال عنه ابن كثير: هو الشيخ الإمام العالم العلامة، شيخ المذهب وعَلَمه، ومفيد أهله، شيخ الإسلام، مفتي الفرق، بقيَّة السَّلَف، برهان الدين أبو إسحاق إبراهيم، ابن الشيخ العلامة تاج الدين أبي محمد عبد الرحمن، ابن الشيخ الإمام المقرئ المفتي برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم بن سباع بن ضياء الفزاري المصري الشافعي، ولد في ربيع الأول سنة ستين وستمائة، وسمع الحديث، واشتغل على أبيه، وأعاد في حلقته، وبرع وساد أقرانه وسائر أهل زمانه من أهل مذهبه في دراية المذهب ونقله وتحريره، ثم كان في منصب أبيه في التدريس بالبادرائية، وأشغل الطلبة بالجامع الأموي فانتفع به المسلمون، وقد عُرضت عليه المناصب الكبار فأباها ...، وكان مقبلًا على شأنه، عارفًا بزمانه، مستغرقًا أوقاته في الاشتغال والعبادة ليلًا ونهارًا، كثير المطالعة، وإسماع الحديث، وقد سمعنا عليه «صحيح مسلم» وغيره ...، وله تعليق كثير على «التنبيه»، فيه من الفوائد ما ليس يوجد في غيره، وله تعليق على «مختصر ابن الحاجب في أصول الفقه»، وله مصنَّفات في غير ذلك كبار، وبالجملة فلم أر شافعيًا من مشايخنا مثله، كان حسن الشكل، عليه البهاء والجلالة والوقار، حسن الأخلاق، فيه حدَّة، ثم يعود قريبًا، وكَرَمه زائد، وإحسانه إلى الطلبة كثير، وكان لا يقتني شيئًا ...، توفي بُكرة يوم الجمعة سابع جمادى الأولى بالمدرسة المذكورة، وصلِّي عليه عقب الجمعة بالجامع، وحُملت جنازته على الرءوس وأطراف الأنامل، وكانت حافلة، ودُفن عند أبيه وعمه وذويه بباب الصغير رحمه الله تعالى (١).
_________
(١) «البداية والنهاية» (١٤/ ١٤٦).
1 / 19
٥ - الإمام المزي: جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف القضاعي الدمشقي الشافعي، المتوفى سنة ٧٤٢ هـ.
٦ - شيخ الإسلام ابن تيمية:
قال ابن قاضي شهبة: لازم ابن تيمية، وعُرف بصحبته (١).
وقال ابن حجر: وأَخَذ عن ابن تيمية، ففُتن بحبِّه، وامتُحن لسببه (٢).
٧ - الإمام الذهبي: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز التركماني الدمشقي، المتوفى سنة ٧٤٨ هـ.
عقيدته:
كان -رحمه الله تعالى- سَلَفيَّ العقيدة، ولو لم يكن لدينا دليلٌ على صحة ذلك إلا تتلمذه لشيخ الإسلام ابن تيمية لكان كافيًا، ناهيك عن كُتُبه التي تشهد بصحة هذه النسبة.
فمن ذلك: تقريره لعقيدة السَّلَف في باب الأسماء والصفات:
* فقد ذَكَر في «تفسيره» عند قوله تعالى: ﴿ثم استوى على العرش﴾ (٣) ما نصُّه: للناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدًّا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح، مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم من أئمة المسلمين قديمًا وحديثًا، وهو إمرارها كما جاءت، من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يُشبهه شيء من خَلْقه،
_________
(١) «الدُّرر الكامنة» (١/ ٤٠٠)
(٢) «تاريخ ابن قاضي شهبة» (٣/ ٤١٦).
(٣) الأعراف: ٥٤
1 / 20
و﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾، بل الأمر كما قال الأئمة، منهم: نعيم بن حماد الخزاعي قال: مَن شبَّه الله بخَلْقه كَفَر، ومَن جَحَد ما وصف الله به نفسه فقد كَفَر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه. فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ونفي عن الله تعالى النقائص؛ فقد سلك سبيل الهدى.
* وذَكَر عند قوله تعالى: ﴿لا تدركه الأبصار﴾ (١) ما نصُّه: فيه أقوال للأئمة من السَّلَف: أحدهما: لا تدركه في الدنيا، وإن كانت تراه في الآخرة، كما تواترت به الأخبار عن رسول الله ﷺ من غير ما طريق ثابت في الصحاح.
ومن ذلك: ردُّه على الفلاسفة المنكرين للمعاد:
* فقد ذَكَر في «تفسيره» عند قوله تعالى: ﴿وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر﴾ (٢) ما نصُّه: يخبر تعالى عن قول الدُّهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد، ﴿وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا﴾ أي: ما ثَمَّ إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون، وما ثَمَّ معاد ولا قيامة، وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون المعاد، وتقوله الفلاسفة الإلهيون منهم، ينكرون البداءة والرجعة، وتقوله الفلاسفة الدُّهرية الدورية المنكرون للصانع، المعتقدون أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى، فكابروا المعقول، وكذَّبوا المنقول، ولهذا قالوا:
_________
(١) الأنعام: ١٠٣
(٢) الجاثية: ٢٤
1 / 21
﴿وما يهلكنا إلا الدهر﴾ قال الله تعالى: ﴿وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون﴾ أي: يتوهمون ويتخيَّلون.
ومن ذلك: ردُّه على الرافضة:
* فقد ذَكَر في «تفسيره» عند قوله تعالى: ﴿والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار﴾ (١) ما نصُّه: أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فيا ويل من أبغضهم أو سبَّهم، أو أبغض أو سبَّ بعضهم، ولاسيما سيد الصحابة بعد الرسول ﷺ وخيرهم وأفضلهم، أعني: الصديق الأكبر، والخليفة الأعظم، أبا بكر بن أبي قحافة ﵁، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة، ويبغضونهم، ويسبونهم، عياذًا بالله من ذلك، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة، وقلوبهم منكوسة، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن، إذ يسبُّون مَن ﵃، وأما أهل السُّنة فإنهم يترضون عمن ﵁، ويسبُّون مَن سبَّه الله ورسوله، ويوالون من يوالي الله، ويعادون من يعادي الله، وهم متبعون لا مبتدعون، ويقتدون ولا يبتدعون، وهؤلاء هم حزب الله المفلحون، وعباده المؤمنون.
* وذَكَر عند قوله تعالى: ﴿ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا﴾ (٢) حديث جابر بن سمرة ﵁ في «الصحيحين» (٣) قال: سمعت النبي ﷺ يقول: «لا يزال أمر الناس ماضيًا ما وليهم اثنا عشر رجلًا»، ثم تكلَّم النبي ﷺ بكلمة خفيت عليَّ، فسألت أُبَي: ماذا قال النبي ﷺ؟ قال: «كلهم من قريش».
_________
(١) التوبة: ١٠٠
(٢) المائدة: ١٢
(٣) «صحيح البخاري» (٧٢٢٢) و«صحيح مسلم» (١٨٢١).
1 / 22
وهذا لفظ مسلم. ومعنى هذا الحديث: البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحًا، يقيم الحق، ويعدل فيهم، ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم، بل قد وُجد منهم أربعة على نسق، وهم الخلفاء الأربعة، أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي ﵃، ومنهم عمر بن عبد العزيز بلا شك عند الأئمة، وبعض بني العباس، ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة، والظاهر أن منهم المهدي المبشَّر به في الأحاديث الواردة بذكره أنه يواطئ اسمه اسم النبي ﷺ، واسم أبيه اسم أبيه، فيملأ الأرض عدلًا وقِسطًا كما مُلئت جَورًا وظلمًا، وليس هذا بالمنتظر الذي يتوهم الرافضة وجوده، ثم ظهوره من سرداب سامرا، فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية، بل هو من هوس العقول السخيفة، وتوهُّم الخيالات الضعيفة، وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر؛ الأئمة الذين يعتقد فيهم الاثنا عشرية من الروافض لجهلهم وقلة عقلهم.
* وذَكَر عند قوله تعالى: ﴿محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم﴾ (١) ما نصُّه: ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمة الله عليه في رواية عنه بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة ﵃، قال: لأنهم يغيظونهم، ومن غاظ الصحابة ﵃ فهو كافر لهذه الآية.
ومن ذلك: ردُّه على الخوارج:
* فقد ذَكَر في «تفسيره» عند قوله تعالى: ﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما﴾ (٢) ما نصُّه: فسمَّاهم مؤمنين مع الاقتتال، وبهذا
_________
(١) الفتح: ٢٩
(٢) الحجرات: ٩
1 / 23
استدل البخاري وغيره على أنه لا يخرج عن الإيمان بالمعصية وإن عظمت، لا كما يقوله الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة، ونحوهم
* وذَكَر عند قوله تعالى: ﴿فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله﴾ (١) ما نصُّه: فإن أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج، وكان مبدأهم بسبب الدنيا، حين قَسَم النبي صلى الله علي وسلم غنائم حنين، فكأنهم رأوا في عقولهم الفاسدة أنه لم يعدل في القِسمة، ففاجأوه بهذه المقالة، فقال قائلهم، وهو ذو الخويصرة -بَقَر اللهُ خاصرتَه-: اعدل، فإنك لم تعدل. فقال رسول الله ﷺ: «لقد خبتُ وخسرتُ إن لم أكن أعدل، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني»، فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب، وفي رواية: خالد بن الوليد في قَتْله، فقال: «دعه، فإنه يخرج من ضئضئ هذا -أي: من جنسه- قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وقراءته مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن قَتَلهم» (٢)، ثم كان ظهورهم أيام علي بن أبي طالب ﵁، وقَتْلهم بالنهروان، ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونحل كثيرة منتشرة، ثم انبعث القدرية، ثم المعتزلة، ثم الجهمية، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق ﷺ.
ومن ذلك: ردُّه على عبَّاد القبور من الصوفية:
* فقد ذَكَر في «البداية والنهاية (١٠/ ٢٦٢ - ٢٦٣) في ترجمة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، ما نصُّه: قد بالغ
_________
(١) آل عمران:
(٢) أخرجه البخاري (٣٦١٠) ومسلم (١٠٦٤).
1 / 24
العامة في اعتقادهم فيها وفي غيرها كثيرًا جدًّا، ولا سيما عوام مصر، فإنهم يطلقون فيها عبارات بشيعة مجازفة تؤدي إلى الكفر والشرك، وألفاظًا كثيرة ينبغي أن يعرفوا أنه لا تجوز، وربما نسبها بعضهم إلى زين العابدين، وليست من سلالته، والذي ينبغي أن يُعتقد فيها ما يليق بمثلها من النساء الصالحات، وأصل عبادة الأصنام من المغالاة في القبور وأصحابها، وقد أمر النبي ﷺ بتسوية القبور وطمسها، والمغالاة في البشر حرام، ومن زعم أنها تفك من الخشب، أو أنها تنفع أو تضر بغير مشيئة الله فهو مشرك.
* وذَكَر أيضًا (١٤/ ١٢٤) في حوادث سنة ست وعشرين وسبعمائة مسألة شد الرِّحال لزيارة قبر النبي ﷺ، ما نصُّه: ثم يوم الخميس دخل القاضي جمال الدين بن جملة وناصر الدين مشد الأوقاف، وسألاه [أي: ابن تيمية] عن مضمون قوله في مسألة الزيارة، فكتب ذلك في درج، وكتب تحته قاضي الشافعية بدمشق: قابلت الجواب عن هذا السؤال المكتوب على خط ابن تيمية، إلى أن قال: وإنما المحزّ جعله زيارة قبر النبي ﷺ وقبور الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصية بالإجماع، مقطوعًا بها، فانظر الآن هذا التحريف على شيخ الإسلام، فإن جوابه على هذه المسألة ليس فيه منع زيارة قبور الأنبياء والصالحين، وإنما فيه ذِكر قولين في شدِّ الرَّحْل والسَّفَر إلى مجرد زيارة القبور، وزيارة القبور من غير شدِّ رَحْل إليها مسألة، وشدُّ الرَّحْل لمجرد الزيارة مسألة أخرى، والشيخ لم يمنع الزيارة الخالية عن شدِّ رَحْل، بل يستحبها ويندب إليها، وكُتُبه ومناسكه تشهد بذلك، ولم يتعرض إلى هذه الزيارة في هذه الوجه في الفتيا، ولا قال إنها معصية، ولا حكى الإجماع على المنع منها، ولا هو جاهل قول الرسول: «زوروا القبور، فإنها تذكركم الآخرة»، والله سبحانه لا يخفى عليه شيء،
1 / 25
ولا يخفى عليه خافية، ﴿وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون﴾.
تلاميذه:
من أشهر تلاميذه الذين تلقَّوا عنه العلم ما يلي:
١ - علي بن علاء الدين علي بن محمد بن أبي العز الحنفي. المتوفى سنة ٧٩٢ هـ، وقد صرَّح بتتلمذه على المؤلِّف في عدة مواضع من كتابه «شرح العقيدة الطحاوية»، فانظر: (ص ٢٧٧، ٤٨٠، ٦٠٣).
٢ - أبو عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله بن بهادر الزركشي، المتوفى سنة ٧٩٤ هـ.
٣ - محمد بن علي بن الحسن بن حمزة بن أبي المحاسن الشافعي، المتوفى سنة ٧٦٥ هـ.
٤ - العراقي: عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن الكردي، المتوفى سنة ٨٠٦ هـ.
٥ - ابن الجزري: محمد بن محمد بن الجزري الدمشقي، المتوفى سنة ٨١٦ هـ.
ثناء العلماء عليه:
أثنى عليه جماعة من الأعيان، فقال الذهبي في «تذكرة الحفاظ» (٤/ ١٥٠٨): له عناية بالرجال والمتون والتفقه، وخرَّج، وناظر، وصنَّف، وفسَّر، وتقدَّم.
وقال في «المعجم المختص» (ص ٧٤): فقيه، متفنن، ومحدِّث متقن، ومفسِّر نقَّال، وله تصانيف مفيدة.
1 / 26