İnsan Bilimlerinin Sorunu: Düzenlemeleri ve Çözüm Olasılığı
مشكلة العلوم الإنسانية: تقنينها وإمكانية حلها
Türler
نعود إذن إلى العلوم الإنسانية، وبعد أن أحرزت كل ما أحرزته من نشأة ناضجة ونماء متواصل، وتقدم لا يستهان به، سوف يظل التسليم بالمنهج الاستقرائي هو الكفيل بجعل مشكلتها إشكالية، بل مأزمة لا مخرج منها، فقد أوضحنا أن الطبيعة النوعية التي تختص بها ظواهر العلوم الإنسانية شديدة التعقيد كثيرة المتغيرات، واستلقاط وقائع للملاحظة وسط كثرة متكثرة من المتغيرات، يجعل محض التعميم الآلي لها مشوبا بالقصورات والتحيزات، إن لم يكن مستحيلا أصلا تأسيسا على ما عرضناه من استحالة البدء بالملاحظة، إن الاستقراء منهج آلي يرسم طريقا للفرض - أي فرض - بغير مراعاة للطبائع النوعية المتغيرة لموضوعات البحوث.
أما التسليم بالمنهج الفرضي الاستنباطي فيفتح الباب على مصراعيه لإمكانية مراعاة الطبائع النوعية المتباينة، ما دام منهجا لا يرسم طريقا للفرض، طريقا ربما يصلح للفروض بشأن ظاهرة ولا يصلح لأخرى.
لقد ارتدت حيثيات مشكلة العلوم الإنسانية إلى عاملين هما العلاقة بين الباحث وبحثه، وطبيعة موضوع البحث، وبديهي أن الطبيعة النوعية لموضوع البحث بكل خصائصها وتميزاتها وتعقداتها، لا بد طبعا أن تنعكس في الفروض المصوغة بشأن الظاهرة، والمنهج الفرضي الاستنباطي يطلق العنان لطاقات العلماء الإبداعية لتنطلق فروض جريئة تلائم الطبائع المعقدة لظواهر العلوم الإنسانية، وتتعامل معها بنجاح. وكلما كانت الفروض أكثر جرأة، كانت محل ترحيب أكبر، وكانت أقدر على الإحاطة بالظواهر، ولا خوف البتة من جنوحات الجرأة ما دامت الفروض المصوغة - ومهما كانت جريئة - منهجيا سوف تخضع النتائج المستنبطة منها للاختبار التجريبي، ومنطقيا لمعيار القابلية للتكذيب، هكذا يحمل التساوق المنهجي (الفرضي الاستنباطي) إمكانات درء العامل الثاني، لا سيما في حالة الاستعانة بالخاصة المنطقية - معيار القابلية للتكذيب - الكفيلة بدرء العامل الأول، وقبل أن نعالج درء العامل الأول بشيء من التفصيل لا بد من الإشارة إلى أن مواجهة الطبيعة النوعية للظواهر الإنسانية لا تقتصر على إطلاق جرأة الفروض، بل إن الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة تعني خروجا منهجيا - أي على مستوى المنهج أو من زاويته - من مشكلة العلوم الإنسانية، ودخولا منهجيا إلى إمكانات تقدمية كالمتاحة للعلوم الطبيعية، وهذا هو موضوع الفصل التالي من الكتاب.
هوامش
الفصل السادس
الإبستمولوجيا العلمية المعاصرة والخروج من مشكلة العلوم الإنسانية
القابلية للاختبار والتكذيب التجريبي، والمنهج الفرضي الاستنباطي، هما التمثيل المنطقي المنهجي للإبستمولوجيا العلمية المعاصرة، والتي تخرج فعلا من مشكلة العلوم الإنسانية، من حيث إنه يتأتى في سياقها التقارب بين العلوم الطبيعية والإنسانية، وتشارك المشاكل، وتلاقي الطرق والمنعطفات، فيمكن أصلا حل مشكلة العلوم الإنسانية على ضوء الخاصة المنطقية للعلوم الطبيعية، وتساوقها المنهجي. إن الإبستمولوجيا المعاصرة هي معامل التسارع في معدلات تقدم العلوم الطبيعية، كما فصلنا في الفصل الأول من الكتاب، وفي البقية الباقية منه، استغلالها لمسارعة تقدم العلوم الإنسانية.
لقد رأينا كيف كانت الإبستمولوجيا الحديثة أو الكلاسيكية يلخصها ويبلورها مبدأ الحتمية العلمية، وأنه بفضلها وفضله عرفت الدراسات الإنسانية الإخبارية كيف تتلمس طريقها العلمي، وتمخر عبابه، بحيث كانت نشأة العلوم الإنسانية بعدا من أبعاد النجاح الخافق للعلم الحديث وإبستمولوجيته، وذلك النجاح الخفاق بأبعاده المترامية أكسب مبدأها الحتمي هيلا وهيلمانا لا مثيل لهما في عالم العلم، لكن العلم المعاصر يواصل التقدم ويسحق الحتمية ذاتها مؤكدا أنه بلغ من العمر رشدا، وقادر على الاستقلال.
كان العلم الحديث «من القرن 17 حتى القرن 19» مراهقا يشق طريق النمو والنضج، فكان في حاجة إلى راع وجده في مبدأ الحتمية، لكن المبدأ أدى دوره، بصفة خاصة انتهت مرحلة النشأة بالنسبة للعلوم الإنسانية، وبصفة عامة استنفد المبدأ مقتضياته، وتكشفت قصوراته، ووجب تجاوزه لاستيعاب المرحلة الأعلى من التقدم العلمي، وبعد أن تميزت معالمها نستطيع التأكيد أن تجاوز مشكلة العلوم الإنسانية في وقتنا هذا، وتجاوز تخلفها النسبي عن العلوم الطبيعية إنما يرتهن باستيعاب الإبستمولوجيا الجديدة التي تفتح الطريق إلى هذا، وبالتخلص من رواسب الإبستمولوجيا الكلاسيكية، ومبدئها الحتمي الذي أصبح يخلق المشاكل للعلم، ويعرقل انطلاقاته التقدمية، إن أزمة الفيزياء الكلاسيكية التي تخلقت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتي أشرنا إليها في القسم الأخير، أو الفقرة الأخيرة من الفصل الأول، وأوضحنا أنها أدت في النهاية إلى انقلابة أو ثورة النسبية والكمومية، هذه الأزمة لم تكن إلا عجز التصور الحتمي الميكانيكي عن استيعاب ظواهر وعلاقات جدت. فقد تعاملت فيزياء نيوتن مع الكتل الماردة: العالم الأكبر البادي أمام الخبرة العادية للحواس، ومع مطالع القرن العشرين كان العلم قد اقتحم بنجاح مظفر العالم الأصغر، عالم الذرة والإشعاع الذي ضرب عرض الحائط بكل ما له علاقة بالحتمية، واستعصى تماما على قوانين نيوتن، فلا تجرؤ على الاقتراب منه، ويستقل عنها رسميا ونهائيا بنشأة وتنامي، بل تعملق نظرية الكمومية
Quantum ، ولتقتصر نظرية نيوتن على الكتل الضخمة، ولنعلم أن ما بدا معها من حتمية ميكانيكية أتى من سطحية النظرة، لما يقع مباشرة في خبرة الحواس الفجة، بينما الحقيقة الرابضة في أعماق المادة: حقيقة الذرات التي هي لبنات هذا الوجود، تكشف عن خطل كل ادعاء بالحتمية والعلية والضرورة واليقين واطراد الطبيعية ... إلى آخر عناصر المبدأ الحتمي، ثم أصبح التصور الميكانيكي للكون أثرا بعد عين، حين تقدمت النظرية النسبية بتصور للكون يهدم الميكانيكية، فإذا كانت النسبية لا تمس الحتمية مباشرة، فإنها تحطم الإطار المفترض لها أو لعالمها.
Bilinmeyen sayfa