لقد تيسرت معالجة العوز المادي فتنظمت الجمعيات الخيرية تطعم الجياع وتكسو العراة وتعلم أبناء الفقراء. وها جمعيات التعاون تحرر العامل من تحكم صاحب رأس المال - أعني أن الأدوار تبدلت وأن التحكم صار الآن للعامل. ولكن، أي جمعية وأي شيوعية ترغم الطبيعة على بسط يدها إن منعت، وتغيير نظامها إن جارت؟ هاك زهرة نضرة في حقل الشوك والعليق، فما ذنبها؟ هاك شجرة فريدة وسط الصحراء، فلماذا تشقى؟ كل يرحم من قضى جوعا، ولكن من ذا يرحم قلبا جائعا إلى الحب العظيم، وفكرا له من يفهمه ويقدره، ونفسا طويت على الحنان وبذل الذات تترقب مجيء من تسعد بالتضحية لأجله فلا يجيء، كأن نهر الأعمار جرفه في تيار قديم؟ أي تفطر لمن صانع فلم يكافأ بغير التهجم ونكران الجميل؟ أي تعاسة لمن لا يؤذي الناس متعمدا فيحرم الصحة مثلا، أو النظر، أو النطق، أو يسلب عزيزا؟ وذاك الوالد الصالح الرصين، لماذا ابتلي بولد مستهتر أبله؟ وذاك الثري المحسن لماذا يحرم هو وزوجته نسلا قد يحسنان تنشئته، بينا ذلك السافل الشرير يستعمل أسماء أبنائه آلة للاحتيال وإرضاء الأهواء؟
هذه حرمانات قليلة من حرمانات عديدة خرساء لا اسم لها. ولقد قال بركليس زعيم الديمقراطية اليونانية: «عندنا لا يخجل أحد بفقره، وإنما يخجل إذا هو لم يكافح الفقر بالنشاط والعمل.» فإذا تيسرت معالجة الفقر - ولو معالجة نسبية - بالنشاط والعمل، فكيف تعالج حاجات أخرى ليس لموهبة أو صفة مهما شرفت وسمت أن تتغلب عليها؟ وما هذا النظام الذي يزعمون فيه الإنصاف والمساواة، وهو لا يتناول سوى الظاهر الممكن تعديله بلا سلب ولا فتك، في حين تظل جميع الحرمانات الأخرى تنشب في القلب أظافرها؟
قد تقولين الآن إن اليأس من شفاء المرض الواحد لا يبرر إهمال المرض الآخر، وهذا صحيح. وقد تقولين ما ينسبه إلي بعض أصحابي الاشتراكيين، وهو أني أرستقراطي النزعة وأن أحكامي العامة تقوم على اعتبارات خاصة. أما أني أبني أحكامي على مشاهدات شخصية فأسلم به، وأود أن أسأل كل ذي رأي، بل أود أن أسأل الذين سنوا الشرائع والأنظمة، وكونوا الجمعيات والأحزاب، وأحدثوا الثورات والإصلاحات ... أود أن أسألهم: هل يمكن الاقتناع بغير الاختبار الشخصي، وهل يكون اليقين يقينا إن لم يبن على اقتناع فردي؟
وأما أرستقراطيتي المزعومة فينقضها أني أكاد أرى رأي ذلك الكاتب الأمريكاني الذي أثبت بالأدلة التاريخية أن أكثر رؤساء الولايات المتحدة ورؤساء الجامعات في هاتيك البلاد، ومديري المصارف والشركات، وزعماء الأحزاب ... أن أكثرهم ينتسبون إلى شارلمان ملك الفرنسيس. وأقول معه إن الشعوب المختلفة لو عادت مئات السنين إلى الوراء لوجدت جدودا واحدة وسلفا واحدا؛ فنكون جميعا أبناء ملوك، وإن تاهت منا الأسماء خلال تشعب الأنساب. ومع تسليمي بصدق الوراثة على قياس خمسين في المائة تقريبا، فإني أذكر كذلك الامتيازات الفردية التي لم تجعل الإمبراطور ماركس أوريليس أنطونيوس أعظم من أخيه في الرواقية والنبالة الأخلاقية العبد أبكتتس، وأذكر أن أمونيوس ساكاس مؤسس الأفلاطونية الجديدة - التي ربما كانت أكبر مدرسة فلسفية عرفها التاريخ - كان حمالا، وأن فاراداي أحد أعاظم العلماء المكتشفين كان ابن معدمين وحصل قوته أعواما طويلة من بيع الصحف عاري القدمين في شوارع لندن ... وهلم جرا.
لقد تألمت في حياتي لأمور كثيرة ومن مختلف المراتب، وتألمت من مجموع الوراثات المتجمعة في التي أسميها «نفسي». وأعرف من جهة ظلم المجتمع، وظلم الحياة من جهة أخرى. وإني لمن الصائحين عاليا بالثورة على كثير من الأنظمة والعادات والاصطلاحات كما أني من الصائحين عاليا بوجوب الامتثال لأنظمة أخرى وقبول عادات واصطلاحات موافقة في تقديري. أعرف الحياة صالحة محسنة جميلة من الجانب الواحد، وخادعة غادرة قبيحة من الجانب الآخر. إلا أني «زرادشتي» من حيث إيماني بأن الغلبة النهائية للخير والصلاح والجمال. ولو أردت أن أعرف الحزب السياسي أو الاجتماعي الذي أنتمي إليه، لقلت إني أرستقراطي، ديمقراطي، اشتراكي سلمي، اشتراكي ثوروي، فوضوي، عدمي ... إلى آخره. كل ذلك دفعة واحدة وبوقت واحد. وإذا خطر لك أن تضحكي ذكرتك برينان الذي كتب يوما ائتوني بصفحة لأحد كتابنا فأبرهن لكم أنه في السطور العشرة الأولى ذو نزعة تختلف عن نزعته في السطور العشرة التالية، كما تختلف هذه عن السطور الأخرى. وما ذلك إلا لأن جميع النزعات موجودة في كل منا وإن تغلبت إحداها على الأخريات. وهذا التغلب وحده هو الذي يبرز منوعا في مختلف الأفراد فيسم الواحد منا بوسمه، ويضع له العنوان الذي يعرف به.
لو كنت ذا كلمة مسموعة بين حكومات العالم لجعلتها تعرض عن اصطخاب الأحزاب التي خلق كل منها لنفسه بيانا ذا ألفاظ يتمثل فيها قرع النواقس، ودوي المدافع، وخفوق الأعلام، وتنضيد الإعلانات، وحفر الخنادق، وحركات الهجوم والدفاع. كلهم يشكون الظلم وكلهم ظالمون، كلهم ينادون بسقوط الجاني وكلهم جانون، لكن أولئك الظالمين الجانين مظلومون أيضا بحكم الوراثة والأحوال والقدر؛ فهم لم يخلقوا أنفسهم مختارين، بل خلقتهم حوادث دهرية لم يكن لهم فيها يد ولها فيهم كل النفوذ. ولقد طال جهاد الإنسانية للتحرر من ظلم ما ورثت من غرائز غير مدركة، كما تطلب التحرر من طغيان الطبيعة واستبداد الأقوياء وبطش السلطات وسفالة الجبناء وحسد الخاملين؛ فصرنا اليوم في عصر الكلام الرنان تتلاطم فيه ألفاظ «الشرف والعظمة والحرية والاستقلال والمروءة والإحسان والتعاون»، وإنما هي ألفاظ فارغة قلما فكر مرسلوها في معانيها. كلنا نطالب ب «حقوقنا » وليس منا المهتم بتأدية واجبات تشرى بها الحقوق. ولعلنا حيال الثورة على رأس المال نحتاج إلى ثورة على الدعوى والغرور؛ ثورة حصيفة - إذا جاز نعت الثورة بالحصافة - تحدد الكفاءات، وتقسم العمل، وتعرف الواجبات، وتضع الناس في مراكزهم لا عن تحيز لامتيازات الوراثة ولا تملقا للمال أو مراعاة لآراء الأكثرية، بل وفقا للكفاءة الطبيعية الملزم المجتمع بإنمائها وتعهدها والاستفادة منها عند جميع أعضائه.
قلت إني لو كنت ذا كلمة مسموعة لسننت القوانين الآتية وأحكمت تنفيذها قبل إصلاح الشوارع وإنشاء المعارض وبناء المتاحف وإقامة الاحتفالات ونصب التماثيل، وهي:
أولا:
إيجاد مطاعم عمومية ومنازل للمبيت؛ فعار على المدنية أن يموت فيها أفراد من الجوع والبرد، وعار أشد أن يستعطوا قوتهم ويناموا على قارعة الطريق، أو أن يعمدوا إلى السرقة والنصب والتهجم على المثقلين بإعالة نفوسهم وإتمام أعمالهم العسيرة. ويجب ضبط النظام في تلك المطاعم لمنع الاحتيال؛ لأن الاستعطاء ليس دواما حاجة غذائية، بل كثيرا ما يكون فطرة وغريزة.
ثانيا:
Bilinmeyen sayfa