ومن أساطين هذا المذهب ومن أنبلهم غاية وأكثرهم بديعية بطرس لفروف، الذي يرى أن الحوادث الاجتماعية في تطورها العلمي أو الأخلاقي والفلسفي الثلاثي إنما منها ما يظل في نمو مستمر، ومنها ما يقف جامدا فيتقهقر إلى رجعية الانحلال والفساد. وبين ذلك النمو الحي والبقاء الميت يتعدى الماضي على المستقبل فيختل التوازن، ويظهر في ذلك الطور حدث جديد هو ما يسمونه المرض الاجتماعي. وليس لعلوم الاجتماع من غرض سوى معالجة هذا المرض وضبط التوازن في آلة المجتمع. ولقد كان حكماء الماضي يرون الخلاص بالاحتفاظ بالتقاليد، وإذا بالأحفاد يجدون في ذلك العلة الكبرى؛ إذ لا جمود في الخليقة. ولما كان المجتمع تابعا للطبيعة في سنة التحول تحتم عليه إحداث نظم تلائم احتياجات معقولة هي كل يوم في ازدياد.
يهدم التطور صورا قديمة ويبدع صورا جديدة على يد أشخاص يخلقهم التطور نفسه وقل من فهمهم في محيطهم، وكلما تعالوا إلى المثل الأعلى أفرط العامة في الاستخفاف بهم ودفعهم عنهم؛ لأنهم «لا يشبهون جميع الناس». على أن نفوذ هؤلاء الأفراد وفوزهم النهائي إنما يتعلق بما عندهم من شجاعة وإقدام واعتقاد بأن الحرية الفردية المطلقة يجب أن تكون دعامة المدنية الجديدة الحقة؛ لأن الإنسان حر، ولو كانت فكرة الحرية وهما لوجب الأخذ بها لأنها وهم ضروري للرقي.
وللرقي عنده وجهان: النظري والعملي. والعمل على غير معرفة وبال؛ فيجب تفهم الرقي في معانيه كلها سواء أوجدت عندنا أم رأيناها حوالينا، حتى إذا ما تشبع الفكر منا معرفة واستنارة انضممنا إلى أقلية المجاهدين في اتجاه معين ضد سخافة العصر واستئثار الماضي.
الفردية في هذا المذهب عظيمة أهميتها خالد أثرها؛ فالأفراد أحدثوا الحاضر الذي كان بالأمس يخال مستحيلا وقد أصبح اليوم وقوعه عجيبا؛ فعلى كل أن ينهض مناديا بفكرته قائما بتنفيذها بنشاط وقوة، ولتحمل بعد ذلك موجة القدرية التاريخية شخصيته ونتائج أعماله إلى محيط الشخصيات والأعمال العامة؛ فذلك لا ينفي أن إقدام الفرد الواحد أو إحجامه إنما هو في بناء المستقبل جزء لا ينحل.
ومع اعتراف لفروف بأن المشاكل الحاضرة موفورة التعقيد صعبة الحل، وأن الشرط الأعظم للإصلاح هو تبديل النظام الساري بنظام يرضي مطالب العمال وسواهم؛ أي إنه مع قوله بالحرية والمساواة في معناها العصري، فهو يعلق على الوحدة العائلية أهمية كبيرة. ورغم إنكاره جميع أنواع الحكم ومجاهرته بأن السيطرة الدينية لن تعود إلى ما كانت عليه، فهو أبعد المفكرين عن حذف الأخلاق الحميدة من الحياة الاجتماعية، بل هو يدعو كلا إلى تثقيف نفسه وإصلاحها لتكون حياته مثالا ولترى نظرياته محققة في أعماله. أما غرضه من تعظيم الفرد في فرديته وخبرته وعمله واستقلاله، فهو تهيئة عيشة حسنة هنيئة لملايين الأشخاص الضئيلة المجهولة المؤلفة المستقبل طوعا أو كرها. وهو لا ينفك عن مخاطبة الفرد قائلا: «جاهد لذلك المستقبل ولا تنس أن المندحر إنما هو ذاك الذي يعترف باندحاره.»
جهاد الأفراد لخير الإنسانية دين وغاية عند لفروف. وهو وإن كان عدميا متطرفا، إلا أن مبادئه الأخلاقية ومثل حياته الشخصية غيرت معنى العدمية التي لم تعد تعني النفي والإنكار على الإطلاق، بل نفي «المرض الاجتماعي» الحاضر وإنكار «تعدي الماضي على المستقبل». بيد أنه راسخ الإيمان يثق بمستقبل خير فيدعو إلى تهيئته بصوت محرض مقنع.
وأي متعلم زكي في هذا العصر وفي كل عصر لا يكون عدميا بعض العدمية على طريقة لفروف؟ أي مستنير يعلم أن التطور ناموس الحياة ولا يبصر الجثث الاصطلاحية التي ينحني المجتمع أمامها، والزوائد الخرافية التي تشين الأديان، والخلل في محاسن القوانين والشرائع؟ أي نفس تتألم وترى الآخرين يتألمون فلا تنهض محتجة سرا أو علنا؟ ومن ذا الذي يسميه الناس عظيما فتتناقل ذكره الأجيال إن لم يكن ذاك الذي يقضي على قديم ضار ويوجد جديدا نافعا في عالم الأدب أو العلم والتشريع والاجتماع والاختراع؟ ولكن ما كل جديد بالنافع ولا كل ثائر بالصائب؛ فكم من تمرد ليس إلا تطاولا ومباهاة! وكم من معدم كالجزار أو الجلاد يفعل ليتقاضى الأجرة! وكم من مدمر لا يسوقه سوى ما دفع ذلك الخامل إلى إحراق هيكل أفسس البديع يوم ولادة الإسكندر! •••
ولئن لم يكن جميع دعاة الثورة وأشياعها من درجة لفروف، فإن تلك العدمية لم تكن من الروس مكابرة وتعنتا، بل نتيجة لازمة لما قاسى الشعب من الجور وهضم الحقوق، ولم تجئ سنة السبعين حتى انتهى للعدمية طور الفكر وابتدأ طور العمل؛ ذلك أن الإصلاحات التي وعد بها القيصر ظل بعضها حبرا على ورق، ونفذ البعض الآخر تنفيذا ناقصا جاء بآلام جديدة دون أن يشفي الآلام الماضية؛ فأخذ العدميون ينتشرون في المدائن والقرى مختلطين بالشعب ليحيوا حياته ويطلعوا على احتياجاته فيبتون بينه روح الثورة بالمنشورات والخطب والأحاديث والتعاليم. بينا كان المنفيون اختيارا أو إرغاما يوصلون إلى الأمم صوت الشعب طالبا الانعتاق من نير الأوتقراطية. وقد انضمت النساء إلى الرجال في نشر المذهب الجديد وإنهاض تلك الجماهير الكثيفة من هوة الذل المألوف والعبودية المقبولة. وتعددت مراكز التآمر في أنحاء أوروبا، ومن أهم تلك المراكز مدينة زوريخ؛ حيث كثرت الطالبات الروسيات الثائرات، فجاءهن الأمر القيصري بمغادرة سويسرا والعودة إلى الروسيا، فعدن يذعن تلك الآراء المهيجة في الداخل، وكانت دعوتهن الممتزجة بدعوة الرجال صراخا وعويلا يستحث النفوس على الكفاح لخلاص الوطن وخلاص الإنسانية؛ فالتهبت القلوب، واستبسلت الجماهير، وامتدت تلك العدوى الوطنية إلى الكهول والشيوخ من ذوي الوجاهة والحيثية والمستقبل المكفول كالقضاة والضباط وسواهم.
وخشي القيصر تفاقم الشر فأوقف تنفيذ المشروعات الإصلاحية مطلقا يد الحكومة في الضغط والمقاومة لقمع الهياج؛ فاشتدت العدمية من جهة أخرى لا سيما بتأثير باكونين محرض الفلاحين على المطالبة بإتمام الإصلاحات الدستورية، وعصيان بولونيا، وانتشار الاشتراكية في أوروبا؛ فإذا بالعدمية فوضوية مجازفة مستهترة، وإرهاب دموي جنوني يناصب الكيان السياسي، غير متبصر ولا هائب في ارتكاب الجنايات، واغتيال ذوي المكانة، والتدمير والفتك المعتزم. وقد بلغ حده الأقصى في مقتل القيصر نفسه سنة 1881.
ومرت الأيام والعدميون يرهبون بالاغتيال والهدم والتشويش ويرهبون بالتعذيب والنفي والإعدام، وبقيت الحكومة تطاردهم ذرافات ووحدانا وتقضي على الزعماء والرؤساء منهم، حتى أدركوا الحقيقة القاسية وهي أنهم في هذا الصراع الهائل مغلوبون؛ فقل عددهم شيئا فشيئا، وضعفت حدتهم، واختفت حركتهم متوحدة والحركة الفوضوية إزاء الرأي العام.
Bilinmeyen sayfa