بينا كانت دول الحلفاء قائمة في وجه دول الوسط تهتف باسم الديمقراطية والحرية، قال الكونت أوكوما - أحد كبار ساسة اليابان - إن المدنية الأوروبية التي يزعم الحلفاء الدفاع عنها آخذة في التهدم والانهيار تحت معاول الاشتراكية. نعم، العالم يرى اليوم انتهاء طور وابتداء طور آخر. وقد قامت الديمقراطية المتطرفة تكتسح الديمقراطية المعتدلة التي لم يطل عمرها أكثر من قرن واحد بعد قرون الملكية؛ لأن الأمم نضجت بسرعة في هذا العصر، ولا شك أن سرعة النضج ستتزايد في العصور المقبلة.
لا بد أن تزول حضارة اليوم كما زالت كل حضارة سبقتها، ولا بد أن يحور النظام الحاضر كما حور كل نظام قبله. ها إن ظل الاشتراكية يمتد فوق هذا الجيل ونجد آثارها حولنا أنى نظرنا ففكرنا. لقد انتشرت شركات التعاون في كل مكان حتى في أقاصي اليابان، وهبت الشعوب تتسابق في الإنتاج الصناعي وفي التهذيب الفكري جميعا. واهتزت الأجناس لعاطفة الكرامة القومية؛ فعقد حتى زنوج أفريقيا مؤتمرا في لندن لتقرير المطالبة بما تطالب به أرقى أمم الجنس الأبيض من سيادة قومية واستقلال. ولقد كثرت جيوش العمال العاطلين في الشرق والغرب، وتعددت فتن الشيوعيين المهاجمين صرح الحضارة بفئوس الثورة والعصيان. ومهما جد النظام الحالي في الترميم، فالبناء متداع سيسقط في مستقبل قريب أو بعيد؛ لأن روح الاشتراكية انطلقت إلى أعماق النفوس واستقرت فيها منها المطامع والآمال.
يا للمطامع والآمال المتشابهة في قلب الإنسان! عند كل انقلاب وكل تحول يأتينا النظريون بالإصلاحات المنمقة والدساتير المزركشة مستشهدين بالعلم والفلسفة والتاريخ، وضامنين لنا بتنفيذ قوانينهم عصرا ذهبيا يدر على العباد لبنا وعسلا. ولكن هذا التاريخ وهذه الفلسفة وهذا العلم الذي يستهوون باسمه ألبابنا ويلطفون آلامنا، هو الذي ينقض وعودهم وينكرها. إن في «المادة التاريخية» التي يستند إليها ماركس وأصحابه أكبر مكذب لأماني الاشتراكية؛ لأنها إذا صدقت من حيث ظهور المرتبة الضرورية للاجتماع على المراتب الأخرى، فهي كذلك تثبت بلا إثبات وجود التغاير الملاصق للإنسانية في جميع تطوراتها.
إن تقسيم العمل ملازم لأنواع العمل ولدرجة عقول الناس ودرجة كفاءتهم، وهذا التقسيم المحتوم هو الذي يخلق المراتب المختلفة؛ لذلك كان هذا المذهب القائل بالمساواة أظلم ماحق لها، وكان هذا المذهب الداعي إلى الإنصاف أشد الطغاة طغيانا. أترى المساواة في سبك العسجد والطين في قالب واحد؟ وهل الإنصاف في تجريد الغني ليعطى المعدم؟ وهل الحرية في توحيد العقل الكبير والقلب النبيل مع الفكر السخيف والنفس الزحافة؟ وهل يقوم حسن التوزيع باستبدال صك بصك وعهد بعهد؟ وما هي لوائح «الوقت الاجتماعي» التي سيبدل كل بواسطتها نتيجة عمله؟ ما هي إلا شكل جديد من الأوراق المالية! ومن هم أولئك الموزعون؟ أهم ملائكة؟ فالملائكة سقطوا! أهم آلهة لتضمن لنا نزاهتهم وعدالتهم؟ وإذا كانوا على ذلك الكمال، فكيف ينظرون إلى ماركوني - مثلا - وإلى الخامل الذي يتطفل على الناس، بعين واحدة؟ ولو فعلوا فسووا بين النسر والضفدع، أفلا تكون هذه المساواة أعظم خيانة لأرقى صفات الإنسان، وأسخف ظلم لما هو فخر الإنسانية وشرفها؟
يقولون إن الشيوعية لم تنجح في الروسيا لأن الشعب ليس على رقي. التاريخ وراءكم أيها الفلاسفة الكلاميون، التاريخ القاسي والوراثة القاهرة. وهل الشعب فرد واحد ليرتقي كله على نمط واحد وفي درجة واحدة؟ ولماذا لم يتطور على هذه الصورة في عصور الملكية وما تلاها؟ ألأنه لم يتعلم؟ وهل كل من يتعلم يعلم؟ وهل كل من يدرس يحفظ؟ وهل كل من يحفظ يحسن التصرف بمحفوظاته وممتلكاته؟ إذن ماذا تفعلون بالفروق الشخصية؟ ماذا تفعلون بوجوه العقول ووجوه الاستعدادات، ووجوه الملكات التي لا تقل اختلافا عن وجوه الأجساد؟ لماذا لستم جميعا مثل لنين وكروبتكن وماركس ولاسال، حتى أنتم الأذكياء المتعلمون المخلصون؟ وماذا تفعلون بالأجسام العليلة، أتساوون بينها وبين الصحيحة؟ وماذا تفعلون بالأعضاء البتراء، أتقولون إن الفردية شوهتها؟
إن أكبر ما تعاب به الاشتراكية المتطرفة هو نفخ الخامل والكسول والجبان، وإيهامهم أنهم في الدنيا الكل في الكل. تعاب بالقضاء على تلك المكرمات الإنسانية وتلك الصفات النبيلة؛ صفات القناعة والنزاهة والخضوع والرقة والتهيب أمام الأشياء العظيمة الجليلة التي هي أثمن إرث في متحف العصور، والمناداة بصلاح ما يناقضها. المخلصون من دعاة هذا المذهب ينسبون خمول الخامل وكسل الكسول وجبن الجبان إلى جهله وعدم توفر وسائل التقدم له لينهض من دركته الفكرية والأخلاقية. وقد يصح ذلك في بعض الأفراد، ولكن ماذا نقول في الذين هم على هذا الانحطاط المعنوي والحسي رغم علمهم أو توفر أسباب العلم لهم، ورغم وجاهتهم وعظمتهم الاجتماعية؟ إن الذل الأخلاقي موجود بين الملوك وجوده بين الصعاليك، فما شأن المساواة في ذلك؟! نعم، إن عيوب الاجتماع كثيرة، نعم، إن الأوجاع الحالية مريرة، ولكن الدواء سيكون أمر والإصلاح أوجع؛ لأنه سيظلم كثيرين من الأبرياء ويقضي على جمال كثير. غير أني من الذين يثقون بالمستقبل أيا كانت أغلاط الحاضر؛ لأن التحول رائد الكون.
الغد للاشتراكية بلا ريب، ولكنها ستغلب على أمرها بعد أن تنيل الاجتماع ما تستطيع أن تأتي به من التعديل. الغد للاشتراكية، ولكنها لن تكون أوفى من الديمقراطية في تتميم عودها. الغد للاشتراكية، ولكن من بين الطبقات المتساوية بالمساواة الجديدة ستنهض فئة فتعلو وتطفو على الطبقات الأخرى، طبقة أرستقراطية المستقبل التي ستخلقها الكفاءة الشخصية وتقسيم العمل المحتم اليوم والأمس وفي الغد. الغد للاشتراكية، ولكن الفردية ستظل منتصبة قربها على الدوام. الغد للاشتراكية، ولكن ما بعد الغد لنظام آخر سوف ينبثق من قلب الاشتراكية التي هي مذهب إنساني؛ فهي بذلك خاضعة لطبيعة الإنسان تملأها الحسنات والسيئات ويستحيل فيها الكمال، إلا إذا بقي لها ذلك الكمال مثلا أعلى تتبعه ويظل هاربا أمامها إلى منتهى الدهور.
الفصل السابع
الفوضوية
نشرت جريدة «التيمس» في أوائل يوليو سنة 1920 رسالة بتوقيع كروبتكن الروسي أنكر فيها أعمال البلشفية التي دعاها «ديكتاتورية حزبية» جازما بفشلها؛ فسارعت الصحف العالمية المنددة بالبلشفية إلى تناقل هذه الرسالة مستعملة إياها كوسيلة لبث الدعوة ضد السوفييتية، ومعلقة عليها بما يعني أن كروبتكن الذي قضى عمره مضطهدا منفيا لخروجه على حكومة القيصر انفض عن شيوعية وطنه، وأخذ يناهضها بعد أن كان نازعا منزعها مواطئا لها. وفي هذا التلميح من أرباب تلك الصحف أحد اثنين: فإما تضليل لمن لا يعرف وجوه الاختلاف بين المتمردين السياسيين، وإما جهل محض توحدت عنده الاشتراكية والفوضوية.
Bilinmeyen sayfa