الفصل الخامس
الاشتراكية السلمية
طالما كانت النظريات المجردة والمذاهب الفلسفية مستودعا لمختلف الآراء يستخرج منها ما لا يتفق مع مرماها الأساسي أو ما يناقضه. ومن الأدلة على ذلك أن الاشتراكية مقتبسة من مذهب «هجل» الفيلسوف الألماني. وما الفلسفة الاشتراكية أو المادية الماركسية - كما يسمونها أحيانا - إلا تحريف الفلسفة الهجلية تحريفا قد يكون مقصودا ليتلاءم وحجة ماركس الكبرى في ثقته بفوز الاشتراكية التي أقامها على ما دعاه المادية التاريخية أو الأساس المادي التاريخي
matérialisme Historique
وهاك شرح هذه المادية التاريخية التي شاد عليها ماركس عقيدته:
سبقه المصلحون فقالوا بتدرج العالم ورقيه بالعوامل الفكرية والأدبية والأخلاقية، فنفى ماركس ذلك ليثبت أن كل تطور في السياسة والتشريع والأخلاق والفكر ناتج عن التكيف الآلي والتحول الاقتصادي. أي إنهم أرجعوا الرقي المادي إلى أصل معنوي، فقال هو بالعكس وجعل التغير الداخلي وكل تغير سواه آتيا من التطور الآلي والاقتصادي؛ لأن مبدع الأحوال ومحدث الانقلابات هو الاحتياج البشري؛ ذلك الاحتياج الذي يستنبط صنوف التصرف ويستخدم وسائل القوة ليظفر بتنظيم الاجتماع على ما يقضي به الزمان والمكان. فالفن والصناعة على أنواعهما من لوازم الحياة العمرانية وهما يفرضان بتقسيم العمل، فينتج عن هذا تغاير الوظائف الموجد المراتب الاجتماعية. وتتطور النظم في التاريخ على هذا النمط فتسود كل مرتبة - خلقتها الوظيفة طبعا - في أشد أدوار الاحتياج إليها؛ لذلك ساد رجال الدين وذوو الشرف الموروث يوم كان الدين كل شيء، وكان الملك سليل آلهة تخاطب العباد من وراء ستار الهياكل، وتنفذ الأوامر، وتسن الشرائع على لسان الكهنة والعرافين. وتسلط رجال الحرب يوم كانت البلاد في خطر إزاء هجمات الغازي لا يرده غير اليد المسلحة بالقوة والنار. وغلب أهل المال يوم استولوا على موارد الخير ومصادر الثروة. أما سيادة الغد فلليد العاملة التي لولاها لوقف اليوم دولاب الصناعة فشلت حركة العمران.
هذه هي «المادية التاريخية» التي تضمن لماركس وقومه تغلب الاشتراكية في المستقبل على الأنظمة الأخرى. ثم إن حركة المعاش تدور بالإنتاج، وما الإنتاج العالمي الضخم بعمل فرد أو جماعة أو شعب، بل هو عمل جيش العمال المنتشر في جميع أنحاء الكرة الأرضية ينتج الثروة ويمون العالم. وهو أمام هذا الخير الفائض فقير تعس شاظف العيش، ضئيل الممكنات، محروم الوسائل، يعمل ويكد وليس بواثق من قوت غده. فإذا كان الطور جديدا، والإنتاج جديدا، والثروة جديدة، فلماذا تظل شروط العمل قديمة؟ وإذا كان الإنتاج مشتركا، فلماذا تكون الاستفادة منه فردية؟ لماذا تشتغل الألوف والملايين ليتنعم الآحاد والعشرات؟ لماذا تتلامس الثروة والفاقة، والبذخ والعري، والعلم والجهل، والسعادة والشقاء؟ إن في هذا التناقض رأس الأوجاع الحاضرة ومصدر المشاكل الاجتماعية المختلفة. فقام دعاة الاشتراكية يعالجون الأمراض ويحلون المشاكل إنصافا لبني الإنسان وتعزيزا ل «المادية التاريخية». وأنشئوا يكونون شركات التعاون ويؤلفون نقابات التضامن لمحاربة الأثرة الرأسمالية. حتى إذا ما توفرت لديهم القوة الكافية لم تعد الاشتراكية حكومة في الحكومة كما يسمونها الآن، بل أصبحت الحكومة الوحيدة القائمة على أساس المساواة بين الجميع، وحذف فروق الدرجات والمراتب، وتكسير قيود الوطنيات والأديان والثروات والامتيازات. •••
يؤاخذها كثيرون - حتى المعجبون بما فيها من المبادئ السامية - بما يشينها من أوهام ونظريات تحول دون صيرورتها نظاما شاملا نافذا. غير أنها تظل عملية في بعض أغراضها. ولكن دعنا حينا من العمليات والنظريات؛ فالاشتراكية أقدم من ماركس وهجل والقرن الذي تتابعا فيه، إنها موجودة في الطبيعة، هي والفردية والنظم الأخرى جنبا إلى جنب. لقد ابتدأت الوحدات الإثنوغرافية بها حياتها الاجتماعية يوم كان أفرادها في غفلة الفطرة لا يرون ما بينهم من تعاريف الفروق، ثم تطورت إلى الملكية فما عداها. ولكن إن اعترى الاشتراكية الكسوف وراء النظم السائدة على تعاقب الغير فقد ظلت الفكرة منها ترود أدمغة الفلاسفة والكتاب. هي التي أوحت إلى أفلاطون كتاب «الجمهورية» فكانت فيه أرستقراطية يتساوى عندها المحاربون والأماثل والموالي. وأما طائفة العبيد وما حاذاها من الطبقة الدنيا فمنهمكة طبعا في الأعمال الحقيرة، غريبة عن الكمال الأخلاقي الأسمى الذي ينزع إليه أهل «الجمهورية» وقد ترابطوا للوصول إليه بروابط الاشتراكية والمساواة. هم جماعة حكماء لا يقيدهم متاع الدنيا ولا يربطهم نسب أو قربى، تخلصا من تلك الأنانية العائلية التي تخلق الأسرة فالعشيرة فالقبيلة فالأمة فالوطن، وتتسع هنا وهناك حتى يصير الاحتكاك بين مظاهرها منشأ الخلاف والحروب.
ومن تلك الكتب الشهيرة «يوتوبيا» ثومس مورس و«مدينة الشمس» لتوماسو كمبانلا، و«اليوتوبيا الجديدة» لويلز الإنجليزي معاصرنا الذي ما فتئنا نطالع طلي كتاباته الجامعة بين حقائق العلم وبدائع الخيال مما يشوق المفكرين.
ولم تكن الاشتراكية خيالا في الكتب فحسب، بل نفذت قانونا خضعت له جماعات وقفت حياتها للفلسفة أو العلم أو العبادة أو حب الإنسانية. منها المدرسة الفيثاغورية في بلاد اليونان، وجماعة الهشنيين على شطوط البحر الميت، والترييث؛ أي زهاد اليهود في مصر، والغنوستيون، وكثير من الجمعيات الرهبانية وغير الرهبانية ذات الصبغة الدينية أو المختفية وراء المظاهر الدينية. ومنها في الشرق المزادقة والخوارج والإسماعيلية والقرامطة والحشاشون والوهابية ... إلخ. وإن كانت هذه الجمعيات الأخيرة أقرب إلى الفوضوية منها إلى الاشتراكية، أو هي الوسط بينهما. بيد أن الاشتراكية لم تظهر قبل اليوم، كما هي اليوم دستورا منظما تنظيما علميا دقيقا في جميع فروعه، يجاهر بغايته الرهيبة التي هي قلب الحكومة، ونقض النظام، وهدم المجتمع الحالي من أساسه. ليس في بلد أو في شعب أو في جنس أو في قارة، بل في جميع البلاد والشعوب والأجناس والقارات ليقيم على الأخربة نظاما جديدا، ويمد سلطانه إلى جميع أنحاء المعمور فتخضع له الأمم قاطبة مترابطة بالوحدة الاشتراكية الشاملة وأخوة المساواة التامة. إن هذه المضاربة الاجتماعية الكبرى لأول مضاربة من نوعها في التاريخ، ولا يعادل الطمع فيها إلا إقدام أتباعها القائلين بصلاحيتها ومشروعيتها التي يزعمونها المشروعية الطبيعية الوحيدة، وأن ما عداها تعسف وطغيان واستغلال الإنسان للإنسان.
Bilinmeyen sayfa