لم تزد الفتاة الواقفة بجواره على مجرد الموافقة. تولى جيمي مسئولية الإجراءات بكل الثقة بالنفس التي يتحلى بها رجل اعتاد على تولي زمام أموره. بغض النظر عما كانت المرأة الواقفة بجواره ستجنيه من هذا، عزم جيمي على أن يحصل على زفاف، وسوف يتم وفقا لطريقته. ومن ثم أخذ ذراع الفتاة الواقفة بجواره وقادها إلى مكتب الموظف. وسواء وصل لديها الانطباع الصحيح الآن أم لا، لم يدر جيمي، لكنه افترض أنها بعد الانتهاء من ذلك الزفاف ومضيها في حال سبيلها بالخاتم والوثيقة اللتين ستنقذان لها كرامتها، لا بد أنها ستمضي معتقدة على الأقل أنها قد تزوجت رجلا. كان قد نسي تماما أن يخبرها أنه قريبا جدا لن يعود موجودا؛ لكنه عزم على أن يتحلى بكل صفات الرجولة خلال الدقائق القليلة المقبلة.
هكذا تقدم بها إلى الموظف وأعلن أنهما أرادا ملء الاستمارات اللازمة للحصول على إذن زواج. وبينما كان جيمي يكتب اسمي أبيه وأمه وتاريخ ميلاده ومحل إقامته ومهنته وسائر الأشياء المطلوبة، وقفت إلى جانبه فتاة فارعة الطول، معتمدة على نفسها، وراحت تملأ فراغات الوثيقة التي أعطيت لها. بعد ملء هذه الوثائق كما يقتضي القانون، ليؤكد لفتاة العاصفة انطباع أنه رجل يفي بكلمته، التقطها جيمي ووقعها أولا، ثم ناولها إياها لتوقعها. ولما فرغ الموظف من حصته من الإجراءات وتقدم بالظرف الطويل إلى جيمي، أشار جيمي ناحية الفتاة التي تزوجها، فأعطاها الموظف الظرف. وجه الاثنان إلى مكتب قاضي الوصايا، ولم يمر وقت طويل مطلقا حتى وقعت الأوراق اللازمة وختمت وسلمت لجيمي، الذي ناولها لفتاة العاصفة، من دون أن يلقي عليها نظرة تفحص واحدة. سدد جيمي الرسوم وسار معها إلى الشارع من دون أن يعلم حتى لقب المرأة التي تزوجها. قد يكون سميث أو جونز أو براون. إنه لشيء غير منطقي، لكنه حقيقي أن لمسة يد، ولمحة من وجه أبيض زينته عينان داكنتان، و«أنا، أليس لويز، أتخذك، يا جيمس لويس، لتصبح زوجي شرعا وقانونا»، كانت كل المعلومات التي لديه عنها.
لقد تزوج «أليس لويز» إذن. لكنه لم يكن راضيا عن الاسم بالمرة. إذ لم يلق بها اسم أليس، ولم يناسبها البتة اسم لويز. لقد عرف عشرات باسم لويز على امتداد حياته، وكن دائما ذوات شعر أشقر، ودائما بعيون زرقاء، وكن دائما شخصيات ضعيفة متشبثة ومتواكلة. لم يعرف قط منذ أن وعى في الحياة امرأة بإمكانها أن تكافئ رجلا طوله ست أقدام طولا وتشمخ برأسها مثل إمبراطورة، وتمد يدا قوية تكاد تماثل يده ضخامة وتفوقها ثباتا بجلاء، وبصوت عذب رنان نابع من أعماق صدرها تجيب حين تنادى باسم لويز!
أمسك جيمي بيده مرفق أليس لويز فقط ليظهر لها أنه يعتبر نفسه رجلا جديرا برعايتها إذا احتاجته، فاقتادها إلى الشارع، وهناك، أثناء وقوفهما على الرصيف، نظر كل منهما إلى الآخر لأول مرة. تعمد جيمي أن ينتظر ليسمع ما لدى السيدة لتقوله، وبينما هو منتظر، أمعن النظر، محاولا اختراق الزي الأسود سواد الغراب ليثبت في ذاكرته هيئة المرأة التي أمامه وكل ما يستطيع رؤيته من وجهها.
كان قد وعدها بأنه لن يبحث عنها، لكنه لم يعد متأكدا أنه سيحافظ على وعده. لم يعد متأكدا من أنه لن يتبين من تكون، وأين تعيش، ولماذا لجأت إليه ليطيب قلبها وخاطرها، وينقذ جسدها من المحيط. بينما هو منتظر، ناظرا مباشرة في عيني الفتاة قبالته، رأى أن عضلات وجنتيها وشفتيها كانت ترتعش وأن العينين اللتين تنظران بثبات في عينيه كانتا ستنهاران في أي لحظة في سيل جامح من الدموع. وكانت الدموع تفعل بجيمي الشيء نفسه الذي تفعله بأي رجل حين تقر امرأة جذابة بأنها تواجه شيئا يفوق طاقتها، وأنها بحاجة إلى عونه. كان قد انتوى أن يحملها على الكلام، لكنه وجد نفسه غير قادر على مواجهتها. فقد وقف بجوارها وقال لها بنبرات خفيضة: «تمالكي نفسك! سوف تصبحين على ما يرام خلال بضع دقائق. هل ستستقلين الترام من هذه الناصية؟»
أومأت برأسها إيجابا فحسب، فقادها جيمي وسط الحشود، وما زال كفه يحيط بمرفقها، وساعدها على الوصول إلى الترام، بينما تدفق الناس بينهما. وأثناء مشاهدتها وهي تركب الترام وتمضي نحو أحد المقاعد أدرك أن «أليس لويز» و«قبلت» كان كل ما سمعها تقوله. لم يستمر في عزمه على حملها على الكلام. فقد شعر بأسف بالغ حيالها، وحين أدرك أنها على شفا انهيار قرر عدم الضغط عليها. لقد أثبت لها، على أي حال، أنه رجل قادر على تسيير أموره. حيث ساعدها على الوصول إلى ترام، والابتعاد عنه. وترفعا لم يرد ركوب نفس الترام. ومن ثم تراجع، وخلع قبعته، ورفع ذقنه، ونظر إلى الترام، لعلها تلقي صوبه نظرة عابرة قبل أن يمضي الترام ويحملها بعيدا عن النظر.
بعد ذلك ارتدى جيمي قبعته وعاد إلى الرصيف وقال محدثا نفسه بنبرات حزينة: «حسنا، يا للعجب!»
لم يكن يتوقع الكثير، لكنه توقع كلمة أو كلمتين، فلم يقتصر الأمر على عدم النطق بالكلمات، بل لم تلتفت السيدة برأسها حتى لترى إن كان سيركب الترام نفسه أم لا. لقد سارت في الممر، واتخذت مقعدا مولية إياه ظهرها، وجلست من دون حراك حتى ابتعدت عن النظر. لن يفيده في شيء معرفة خط الترام الذي ركبته أو في أي اتجاه ذهبت. فربما تستقل أي ترام وربما تتركه بعد ميدان أو ميدانين لتنتهز أسرع فرصة للهروب منه. لقد رحلت وهي السيدة جيمس لويس ماكفارلين، ومعها الوثائق اللازمة والخاتم الذي قدمه في اللحظة المناسبة لإصبع تردد في قبوله ، وها هو الآن قد ترك واقفا على الرصيف، وأفضل تصرف يمكن فعله هو تدبر الوسيلة التي يستطيع بها الوصول إلى المنزل سريعا وإعادة ملابس سيد النحل إلى مكانها المعتاد. لقد أدى دور العروس من دون شيء في المقابل، ولا حتى كلمة «شكرا». إذا أراد انتزاع أي مشاعر رومانسية من الأمر، فعليه أن يتذكرها من القبلات المالحة التي اجتاحت وجهه الليلة الماضية. وبكل أمانة، عليه أن يقر بأنه لو كانت الصخرة التي جلسا عليها هي وسيلة إنقاذ الفتاة، لربما كانت قبلتها بالقدر نفسه من الإقبال، أو ربما أكثر.
وقف جيمي على الرصيف وانتظر حتى قويت ركبتاه قليلا قبل أن يبدأ البحث عن الترام الذي سيستقله عائدا إلى حديقة النحل. وحين وجده وركبه وجلس على أحد المقاعد، قال على الملأ: «حسنا، تبا لكل الأعراس!» أدرك أنه قد نطق بها؛ لأنه سمع الكلمات، لكن لم يبد أن أحدا قد سمعها لأن الكل كان مشغولا بصحفه أو أصدقائه، أو إلى أين هو ذاهب.
وهكذا عاد جيمي إلى المنزل وأعاد الثياب المستعارة وارتدى ملابسه. ثم خرج إلى ضوء الشمس وجلس ليتفكر في الأمور. كان ميالا إلى إخبار مارجريت كاميرون بأن هذا اليوم هو يوم زفافه وأن بمقدورها أن تعد له وليمة من أي نوع تراه مناسبا للتقديم في مثل تلك المناسبة. وقد عبرت وجنتيه ابتسامة سخرية حين تخيل النظرة التي ستغشى وجهها إن أخبرها بذلك، وبعد ذلك ستتكلم وستسأل أين عروسه، وقد كان مكان العروس لغزا وكذلك قصة العروس نفسها. جال في ذهنه أنها إن كانت في المكان الذي عادت إليه في منتصف الليلة الفائتة فإنها ليست بعيدة جدا عنه في اللحظة الراهنة. اجتاحته رغبة عارمة في النزول والسير في الشاطئ ذهابا وإيابا، ليتفحص كل منزل قريب من الشاطئ ليرى إن بدا في أي منها طيف فتاة متشحة بأشد ملابس الحداد سوادا.
Bilinmeyen sayfa