حين سمع النداء لتناول العشاء، مضى على مهل، متألما، في صعود السلم المتعرج. كان يتوقف كل بضع درجات ويلتفت لينظر إلى الأمواج المتباطئة وهي تزحف على الرمال وتتراجع عائدة مرة أخرى، ثم قال في نفسه، إنه واثق ثقة مطلقة أنه سينزل إلى هناك ذات يوم ويضع ولو قدميه على الأقل في المحيط، وسوف يتسلق الجبل الصخري ويجلس على قمته المرتفعة في وقت متأخر من الليل كيفما يريد. وسوف يشاهد المحيط الهادئ وقد نسج فيه القمر بضوئه مليون مسار فضي. قد تهب عاصفة في وقت من الأوقات. وقد تهيج الأمواج حتى تكاد تصل إلى قمة ذلك الجبل الحجري الشاهق، وقد يدوي الرعد وقد يطلق البرق ألسنته المتشعبة، وقد تجن الأمواج فتأتي بأسوأ أفعالها في هيجان خارج عن السيطرة. عندئذ سيحرص على أن يقف على قمة تلك الصخرة، وسوف يشاهد عاصفة عناصر الطبيعة في ثورتها ويرى كم تتشابه مع العاصفة التي ظلت ثائرة في قلبه وعقله زمنا طويلا. إن مجرد بلوغ قمة تلك الصخرة العالية سيصبح شيئا لينشغل فيه، شيئا يعمل في سبيله، هدفا محددا نصب عينيه.
صعد بضع درجات أخرى وتوقف ثانية ليتفحص وجه البحر والقمة الباسقة التي أسماها في رأسه العرش. كانت عرشا، مكانا يسيطر فيه الإنسان على روحه. حيث يصبح الإنسان ملكا على كل ما يمكنه استعراض دقائقه ولو لوقت قصير على تلك القمة، وإنه من الأفضل أن تصبح ملكا ولو لساعة من ألا يكون لديك تطلع للملك قط.
ومن ثم ذهب جيمي إلى العشاء الذي أعدته مارجريت كاميرون من أجله، ولأن التسلق كان قد أنهكه للغاية، ولأن قدميه كانتا ترتجفان ألما لدرجة كادت تفوق احتماله من المسير الطويل غير المعتاد الذي أجبرهما عليه، فقد أقر بأنه لم يعد على ما يرام كما كان حين غادر المستشفى. وقد كان مخطئا خطأ كبيرا في ذلك. فمن الوارد أن يكون جسده قد أنهك إلى الحد الذي جعله خائرا، أما قلبه وعقله فقد خضعا لبعض التمارين التي أفادتهما بالتأكيد.
وبينما يتناول عشاءه، مرت مارجريت كاميرون على الحجرات، لتضع لمسة على إحدى الستائر هنا وهناك، وتمسح ذرات الغبار عن قطع الأثاث العتيقة الجميلة، مستطلعة بعينين غيورتين لترى إن كان الغريب قد أحدث أي ضرر بأملاك جارها الذي اعتادت، على مر السنوات، ليس فقط أن تحترمه ولكن أن ترعى وده بإخلاص عميق ودائم.
وسرعان ما جاءت من غرفة المعيشة وخرت جالسة في الحال على مقعد بجانب المنضدة التي كان جيمي يأكل عشاءه عليها.
وقالت: «أوتدري، لقد عانيت اليوم ما يكفي من المشكلات. إذ لدي أمور خاصة تشغل بالي. لدي ابنة واحدة فقط وطالما كانت فتاة مطيعة. فهي تؤدي فروضها المدرسية على أكمل وجه وكذلك برنامجها التدريبي، ولم تواجهها أي صعوبة في الالتحاق بمدرسة حين أرادت ذلك، لكنني لا أعلم سبب عزمها الذهاب بعيدا جدا عن الديار بينما كان بإمكانها الالتحاق بمكان هنا حيث تستطيع البقاء معي. ربما سئمت من المنزل الصغير والسيدة العجوز الصارمة دائمة التنظيف والتلميع، دائمة التذمر من أن الشباب مصيرهم أن يفسدوا. لا أدري إذا ما كنت أنا من دفعها إلى الابتعاد، لكنني متأكدة أن ابنة عمها مولي زينت لها الابتعاد. لست متأكدة إذا كان من المنطقي التفكير في أن الجيل الحالي مصيره أن يفسد. كانت أمي لديها الرأي نفسه بالضبط في بنات جيلي. حين كنت أريد الذهاب مع الفتى الذي تزوجته إلى حفل راقص أو لأحد تجمعات تقشير الذرة أو لنمتطي الخيل ذاهبين إلى نزهة أو حشد، كانت تظن بالطبع أننا نفعل شيئا لم يفعله الشباب من قبل قط، وأننا ماضون إلى هوة الجحيم. ربما كان الأمر كذلك، فما أدراني. إنني حزينة على لولي، على أي حال. فقد بدا لي أن ذهنها مشغول بشيء لا تريد إخباري بها. وليس هذا كل ما في الأمر.
وإنني لأقر صراحة بأنه في حال لم ينج سيد النحل من هذه الجراحة ويعد إلى منزله وجيرانه، فسوف يصبح سائر هذا العالم بلا طعم قطعا بالنسبة إلي. فقد عشنا هنا، جنبا إلى جنب، سنوات طويلة. فقد كنت آتيه وأساعده في إصلاح مسكنه، ويأتيني هو ويساعدني في إصلاح مسكني، وحين كان الصغار يخرجون في المساء ويمر الوقت رتيبا، كان يأتيني فنلعب الكريبيج (أحد ألعاب الكوتشينة) أو الداما. لم أتمتع قط بالذهن المتقد للعب الشطرنج بالأسلوب الذي قد يثير اهتمامه. كنت أحيانا آتي هنا ويجلس هو بجانب المدفأة ويقرأ بصوت عال من بعض تلك الكتب القديمة اللطيفة.» ثم أمسكت عن الكلام ونظرت إلى جيمي. وسألته: «هل تعرف كتاب «تبتلات» لجون دون؟»
فهز جيمي رأسه بالإيجاب.
وقال: «لقد كان في مكتبة أبي، لكن لم يخطر حتى لأحد أن يحتفظ بكتبه من أجلي. لقد قضى نحبه وأنا في الحرب، وفاضت روح أمي بعده بمدة قصيرة، وقد باع الجيران كل شيء؛ لم يحتفظوا لي ولو بقطعة من الملابس أو الأثاث. وبيع كتاب «تبتلات» دون مع بقية الأشياء. لا أعلم إلى أين، وقد حال المرض الشديد بيني وبين البحث عنها، كما أنني لم أمتلك المال الكافي. فاضطررت إلى البقاء حيث كانت الحكومة سترعاني. لكن يمكنني أن أتخيل كيف يصبح شعور من يشاهد سيد النحل وقد انعكس ضوء المدفأة على وجهه العجوز الجميل وهو يمسك كتاب جون دون بأصابعه الرشيقة.»
هزت مارجريت كاميرون رأسها بأناة.
Bilinmeyen sayfa