يبسطنى بارتياحه، ويغبطنى باستحسانه واستملاحه. قال لى: هذا الذى جمعته بهذه الرحلة الطويلة، والاجتهاد الكلى أنت فيه كما جاء فى الأثر النبوى:
«منهومان لا يشبعان طالب علم وطالب دنيا»، أم عامل بما قيل: تجمّع الفكر على قليل المحفوظ خير من تفرقه على كثير الملحوظ فإن ذلك داع إلى أن تبقى سلاح المذاكرة مصقولة، وأيدى المحاضرة غير مغلولة. ومع هذا هل تجعل عمره مقترنا بعمرى أم تجعله مقترنا بعمر الدهر، لتذكر به إذا نسيت، وتخبر إذا مت، فعلمت ما أشار إليه من تقييد العلم بالكتاب، وقلت كان والدى «١» قد جمع كتاب المشرق فى حلى المشرق وكتاب المغرب فى حلى المغرب، وجل جهدى فى تكميل هذين الكتابين على ما رسم لى. قال: وما الذى رسمه لك؟ قلت: إنه متى ذكر بلد ابتدىء فيه بالحلى البلاديّة بما هو داخل فى علم الجغرافيا، فترسم صورته ثم تذكر من حيوانه ونباته ومعدنه، وما يتركب من ذلك إلى ما يتعلق بوصف الأنهار والمتنزهات بما تتحلى به الحاضرة، ثم يعقب ذلك بالحلى العبادية، فيذكر أول من حل بذلك البلد ويؤتى بتاريخه على النسق إلى الوقت الذى صنف فيه الكتاب، ويذكر من أرباب رياستيه السيفية والقلميّة ومن انضاف إلى ذلك من الأعلام فى فنون الجد والهزل ما يمتع الجليس بنكت النثر والنظم والحكايات، ويعمر المجلس النبيل فقال: هذا مقصد جليل، ولا يرتهن فى الوفاء به إلا من جال أقطار الغرب والشرق، وشافه أعلامهما، وطالع خزائن مصنفاتها، وأعين على ذلك مع ما ذكر بالقوة الحافظة والفكر الوضاء، ورزق من الفصاحة والبلاغة ما يلخص به المتعقد، ويختصر الطويل، ويحسن العبارة بالألفاظ الصقيلة والمعانى النبيلة، وقد أعطى والدى القوس باريها، والدار بانيها، فكيف يكون لسانك فيمن تذكره من الماضين والمعاصرين؟ فقلت: قد عهد إلى ألا انقل فيما أجد فيه ذم أحد بنثر ولا بنظم، ولا أصنع مثل ذلك لحنق على أحد أو لفضول لسان دون ترة أو غير معرفة كما صنع ان ابن حيان «٢» فى
1 / 42