الجزء الأول: ملوك الطوائف
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
ملوك الطوائف وعواصمهم
الهوامش
الجزء الثاني: نظرات في تاريخ الإسلام
ديانة العرب في الجاهلية
بعد وفاة النبي
قواعد الإسلام
الهوامش
الجزء الأول: ملوك الطوائف
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
ملوك الطوائف وعواصمهم
الهوامش
الجزء الثاني: نظرات في تاريخ الإسلام
ديانة العرب في الجاهلية
بعد وفاة النبي
قواعد الإسلام
الهوامش
ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام
ملوك الطوائف ونظرات في تاريخ الإسلام
تأليف
رينهارت دوزي
ترجمة
كامل كيلاني
تصدير
بقلم كامل كيلاني
هذه فصول مترجمة من كتاب العلامة المستشرق «دوزي» وقد آثرنا نقلها إلى العربية لتبيان وجهة تفكير عالم أوروبي كبير، وهي - وإن خالفت آراءنا أحيانا في بعض مناحيها - جديرة أن تقرأ بعناية فائقة، فليس كل ما لا نرضاه من الآراء خليقا بالطرح والإهمال.
وإذا كان العلامة فخر الدين الرازي يقول في مقدمته لشرح «الإشارات» لابن سينا: «إن التقرير غير الرد، والتفسير غير النقد.»
فما أجدرنا أن نقول بدورنا: «والترجمة أيضا غير النقد.»
لهذا اقتصرت على نقل آراء ذلك المستشرق بلا مناقشة أو تعليق إلا ما يقتضيه المقام من توضيح لما أعتقد أن أكثر القراء في حاجة إليه. •••
على أنني لم أكد أنشر الفصل الأول من هذا الكتاب في «ديوان ابن زيدون» حتى نال من استحسان القراء أكثر مما كنت أقدره له.
وقد وعدت بإظهار هذا القسم كاملا بعد أن أنجز شرح «ديوان ابن زيدون» ثم منعتني عوادي الزمن ومشاغله عن إنجاز هذا الوعد، ثم تغلبت العزيمة على التردد والتسويف. ورأيت أن أفي ببعض ما وعدت به القراء، فأنجزت ترجمة هذا الكتاب وكلي أمل في أن ألحقه بالكتاب الثاني الذي وعدت به القراء وهو: «ابن زيدون: أدبه وعصره». فإذا انتهيت منه شرعت في إظهار «ديوان ابن حمديس». وأنا أستمد من الله العون على إنجاز هذا الوعد، وأستلهمه الرشد والسداد.
الجزء
ملوك الطوائف
الفصل الأول
(1) بعد إلغاء الخلافة
منذ سنين عدة تقلص ظل السلطة العامة عن الولايات الإسلامية في بلاد الأندلس وأصبح أمر كل منها بيدها، ولم يكن تفكك السلطة مما يرغب فيه أهل تلك الولايات عامة أو يتفق ومصالحهم وآمالهم.
وقد جزعوا لهذا التفكك وذهب بهم التفكير إلى أبعد مداه أسفا على الماضي وجزعا من المستقبل.
1
ولم يكن ليستفيد من هذا الانحلال والتفكك في تلك البلاد إلا ملوك الإفرنج وحدهم، وقد كان من نتائجه أن اقتسم قواد البربر جنوب الجزيرة فيما بينهم، وحكم الصقالبة الشرق، وأصبح ما بقي بعد ذلك من بلاد الأندلس نهبا مقسما بين ذوي المطامع من المغيرين المتوثبين على تلك البلاد، وبين آخرين من بقايا الأسر العريقة ممن سنحت لهم الفرصة وساعدتهم على الثبات أمام ضربات عبد الرحمن الثالث
2
والمنصور التي كانت مصوبة إلى الأرستقراطية.
وقد انتهى ذلك كله بأن تكون من المدينتين الكبيرتين قرطبة وإشبيلية حكومتان شوريتان. (2) قرطبة
أما قرطبة فقد اجتمع كبار أهلها بعد إلغاء الخلافة - وعمدوا إلى ابن جهور
3
فأسندوا إليه السلطة التنفيذية، وقد كان مشهورا عندهم جميعا بجدارته وكفايته لتقلد هذا المنصب والاضطلاع بالحكم، ولكنهم لم يكادوا يعرضون عليه قرارهم حتى رفض - بادئ ذي بدء - ذلك المركز السامي، ثم قبله بعد أن ألح عليه في ذلك جمهرة منتخبيه، ولكنه اشترط عليهم أن يكون إلى جانبه في الحكم زميلان له في مجلس الشورى، هما محمود بن عباس وعبد العزيز بن حسن وكانا من أعضاء أسرته.
فأجابه أصحابه إلى ما طلب، ولكن على شرط ألا يكون لهذين الزميلين إلا صوت استشاري فقط.
وقد حكم السفير الأول ابن جهور تلك الحكومة الشورية الجديدة متوخيا في أحكامه العدل والسداد، وكان مخلصا رشيدا، وإليه يرجع الفضل في استتباب الأمن ورفع المظالم، فلم يكد يتولى الحكم حتى أمن أهل قرطبة وأصبحوا لا يشكون شيئا من الإعنات والمظالم التي كانت تترى عليهم من قساة البربر الجائرين.
وكان أول ما عني به أن صرفهم عن الخدمة واحتفظ ببني يفرن وحدهم لأنه رأى أن من المستحيل عليه أن يعتمد على سواهم لما عرفه من ولائهم وطاعتهم له.
وقد استبدل بالآخرين الذين سرحهم من البربر حرسا وطنيا، وكان يظهر بمظهر من يريد استقرار نظام الحكم الجمهوري، فإذا طلب إليه تنفيذ أمر بعينه قال لهم: «ليس من شأني أن أقرر أمرا هو من اختصاص مجلس الشورى، وما أنا إلا منفذ لأمره وقراراته.»
وكان كلما وردت عليه قصة أو كتاب رسمي موجه إلى شخصه أبى أن يتسلمه، وأمر بتوجيهه إلى مستشاريه.
ولم يكن ليصدر قرارا قبل عرضه على مجلس الشورى. أضف إلى هذا أنه لم يكن يتظاهر البتة بمظهر الحاكم، فظل باقيا في مسكنه المتواضع الذي اعتاد سكناه دائما، وآثر الإقامة فيه على أن ينتقل إلى قصر الخلافة.
4
وكانت العقيدة في نزاهته ثابتة قوية لا تحوم حولها الشكوك والريب وقد رفض - مع هذا - أن يكون بيت المال في داره وتحت إمرته، فعهد بحراسته إلى أكبر الناس مقاما وأكثرهم احتراما في المدينة.
وكان - على حبه المال - يؤثر المصلحة العامة التي قضت عليه ألا يرتكب عملا غير شريف. والحق أن ابن جهور كان مقتصدا بل حريصا حرصا يكاد يصل به إلى درجة البخل، فقد أثرى حتى أصبح أغنى رجل في قرطبة ولكنه مع ذلك لم يأل جهدا من جهوده المحمودة في توفير اليسر والرخاء على الناس كافة.
وكان يبذل كل ما في وسعه في تحسين العلاقات الودية وتوثيقها بينه وبين الممالك المجاورة، وقد كتب له النجاح في ذلك وحالفه التوفيق فلم يمض وقت طويل حتى استتب الأمن وانتشرت التجارة والصناعة وهبطت أسعار المواد الغذائية، وأمنت السبل، فأم قرطبة طوائف كثيرة من السكان أعادوا بناء الأحياء التي دمرها البربر أو أحرقوها حينما أوقعوا النهب والسلب في المدينة. (3) إشبيلية
على أنه مع تلك الأعمال التي قام بها، فإن قرطبة عاصمة الخلافة القديمة لم تسترد مكانتها السياسية، ومنذ ذلك الحين أخذت إشبيلية - التي سنعنى بتاريخها عناية خاصة - تحرز الشأن الأول في المركز السياسي.
كانت إشبيلية - منذ أمد بعيد لا تزال - مرتبطة الحظ بقرطبة، متأثرة بما يجري من الحوادث فيها، متأسية بالعاصمة، خاضعة لملوك الدولة الأموية - على التعاقب - ثم لدولة بني حمود، ومن جراء ذلك كان للثورة التي وقعت في قرطبة أثرها السيئ في إشبيلية، فقد ثار القرطبيون على قاسم بن حمود وطردوه، فعول هذا الأمير على الالتجاء إلى إشبيلية حيث يقيم بها ولداه، ومعهما حامية من البربر تحت قيادة محمد بن زيري من قبيلة بني إيفورين.
وأرسل إلى الإشبيليين يأمرهم بإخلاء مئة مسكن لجنوده القادمين معه، وقد ترك هذا الأمر أثرا سيئا في نفوس أهل إشبيلية. هذا إلى ما عرف عن جنود قاسم الذين هم أفقر أبناء جنسهم من أنهم من شرار اللصوص.
وقد أظهرت قرطبة للإشبيليين أنه من الممكن أن يتحرروا من هذا النير الذي يضجون بالشكوى منه. فعولوا على أن يحذوا حذو قرطبة، إلا أن خوفهم من حامية البربر المقيمة بين ظهرانيهم حال بينهم وبين تحقيق أمانيهم. وبعد جهد نجح قاضي المدينة أبو القاسم بن عباد
5
في استمالة قائد الحامية وضمه إلى جانبه بعد أن صرح له بأنه من الهين السهل أن يصبح ملكا على إشبيلية، فأعلن حينئذ مناد ابن زيري استعداده لمساعدته، وسارع القاضي فعقد بينه وبين قائد بربر قرمونة محالفة تقلدوا السلاح - على أثرها - ضد ولدي قاسم وحاصروا قصره.
ووصل قاسم
6
إلى إشبيلية التي كانت مغلقة، وحاول أن يجتذب سكان المدينة إليه بالوعود الخلابة، ولكنه أخفق في هذه المحاولة، ولما أوجس في نفسه خيفة على ولديه اللذين كانا معرضين للهلاك داخل المدينة، قطع على نفسه عهدا أن يجلي - هو ومن معه من الجند - عن أراضي إشبيلية إذا ما أسلموا إليه ولديه وأموالهما وممتلكاتهما، فضمن له الإشبيليون تنفيذ هذا الشرط، وعلى أثر ذلك انسحب قاسم وعاد أدراجه، وثم سنحت للقاضي أول فرصة ليرضي حامية البربر.
ولما حصلت المدينة على حريتها اجتمع كبارها ليختاروا حاكما يولونه عليهم ، إلا أن الخواطر حينئذ لم تكن هادئة، والنفوس لم تكن مطمئنة، خشية أن تتمخض الحوادث عن ثورة، أو أن يعيد بنو حمود الكرة عليهم، وحينئذ لا يتوانون لحظة في معاقبة المجرمين الثائرين، ولهذا لم تبد من أحد منهم أية رغبة في أن يأخذ على عاتقه عبء المسئولية عما وقع. (4) بنو عباد
واتفق عامتهم على أن يلقوا عبء المسئولية على عاتق القاضي وحده الذي حسدوا ثروته واستشعروا سرورا خفيا في أعماق نفوسهم بدنو الساعة التي تصادر فيها هذه الثروة الطائلة.
فعرضوا على القاضي أن يتولى حكم المملكة، وكان - مع ما يجيش بصدره من مطامع وآمال - حكيما حازما، فرفض في إباء أن يتولى الحكم في وقت غير مناسب. ولم يكن القاضي متصل النسب بالسلالات العريقة، إلا أنه امتاز بحيازته أكبر ثروة، فقد كان يملك ثلث أرض إشبيلية وكانت له فوق ذلك منزلة سامية من الاعتبار نظرا لمواهبه العلمية، وكان يعوزه أن يضمن إلى هذه المؤهلات أن تندمج أسرته ضمن السلالات العريقة القديمة.
وقد تم له ذلك - فيما بعد - تدريجا، وكان يدرك أنه في حاجة ماسة إلى وجود عدد من الجند تحت إمرته، وليس لهذا العدد وجود، ولم يشك في أن الأرستقراطية العظيمة المجيدة في إشبيلية لا بد أن تثور على صعلوك مثله غير معروف النسب، يسمو إلى تسنم ذروة الخلافة، ولم يكن ثمة شيء غير هذا في الواقع، وقد وقع هذا حقيقة عندما أوشك بنو عباد أن يؤسسوا الخلافة لأنفسهم.
وثمة زعم آل عباد أنهم من سلالة ملوك لخم الذين كانوا يحكمون الحيرة قديما قبل ظهور محمد
صلى الله عليه وسلم
وكان الشعراء الذين يريدون إشباع بطونهم يتحينون الفرص للإشادة بهذا النسب العريق المزعوم، على أنه لم يوجد ما يبرر هذا الزعم، لأن بني عباد والمتزلفين إليهم ومن يتملقونهم لم يستطيعوا أن يقيموا الدليل على ذلك، وكل ما يربط هذه الأسرة بملوك الحيرة أنها تنتسب إلى قبيلة لخم اليمنية التي ينتسب إليها ملوك الحيرة. ولكن فرع أسرة آل عباد الذي تسلسل منه آباؤهم لم يقطن - على ما يظهر - الحيرة بتاتا، بل كانوا يقيمون أخيرا قرب العريش الواقعة على حدود مصر وسوريا في ناحية حمص.
وعلى الرغم من أن آل عباد بذلوا ما في استطاعتهم كي يصلوا نسبهم بملوك الحيرة فإنهم لم يستطيعوا أن يصعدوا به إلى أبعد من نعيم والد عطاف، وكان عطاف هذا على رأس كتيبة من جنود حمص، وقد رحل إلى إسبانيا مع بلج حيث أعطيت لجنود حمص أراض على مقربة من إشبيلية، وأقام على ضفاف الوادي الكبير، وقد انحدر عن أصل هذه الأسرة فروع فيما يقرب من سبعة أجيال أخرجت ببطء من ظلمة الماضي أناسا صالحين عاملين مقتصدين، وإسماعيل والد القاضي هو عنوان مجدها، وهو الذي خط بيمينه - في الصحيفة الذهبية لنبلاء إشبيلية - اسم عباد.
7
ولا غرو فقد كان إسماعيل من حملة الأقلام والسيوف، وكان رجل فقه ودين كما كان رجل حرب وطعان، فقد تولى قيادة فرقة في حرس هشام الثاني، ثم صار - فيما بعد - إماما لمجلس قرطبة الكبير، ثم قاضيا لإشبيلية، واشتهر بالفقه والذكاء والورع وإرشاد العامة، وإسداء النصح للكافة، وكانت شهرته في النزاهة تربو على شهرته في غير ذلك من الأمور، فهو - على الرغم من انتشار الفساد والرشوة - كان يتورع عن أن يقبل هبة من سلطان أو وزير، وكان كريما إلى أبعد غايات الكرم، وقد لقي القرطبيون منه كرم الضيافة، وحسن العشرة، فجعلته كل هذه المزايا والصفات جديرا أن يحرز أكبر ألقاب النبل والسؤدد في الغرب.
وقبيل العهد الذي نحن بصدده توفي إلى رحمة الله في غضون سنة 1019م.
وربما كان ابنه أبو القاسم محمد يماثله علما وأدبا، وإن كان لا يدانيه خلقا وفضلا، فقد كان أنانيا ذا أثرة وطمع وصلف وتكبر وإنكار للجميل، وقد حدث على أثر وفاة أبيه أن طمع في أن يخلفه في منصب القضاء، ولكن القوم آثروا عليه غيره، فتقدم بالرجاء إلى قاسم بن حمود فنال - بفضل قاسم - منصب القضاء الذي كان يؤمله.
وقد يرى المتتبع للحوادث فيما بعد كيف كان نكرانه لهذا الجميل . (5) قاضي إشبيلية
وفي مفتح هذا العهد - الذي نحن بصدده - أشار نبلاء إشبيلية وأصحاب الرأي فيها على أبي القاسم قاضي إشبيلية أن يتبوأ عرش المملكة،
8
ولما أدرك الغاية التي يرمون إليها أظهر لهم أنه لا يستطيع أن يقبل هذا الشرف الذي يولونه إياه إلا بشرط أن يشرك معه في الحكم أفرادا يعينهم هو بنفسه على أن يكونوا وزراءه وأعوانه في الاضطلاع بأعباء الحكم، بحجة أن هؤلاء الأشخاص الذين يشركهم معه في الرأي ستتألف منهم هيئة شورية تقوم على تدبير المملكة بحيث لا يصدر إلا عن رأيهم، ولا يتخذ أي قرار بدون مشاورتهم، فقبل الإشبيليون ما اشترطه القاضي من أن يكون حكمه على قواعد الشورى، فلا يحكم بمفرده، وطلبوا إليه إنفاذ ما اعتزمه من تعيين أولئك الزملاء والأعوان، فعين بعض كرام الأسر العريقة مثل ابن حجاج وآخرين كانت تسمو إليهم الأنظار وترمقهم العيون من نصرائه الذين أنجبهم العصر، وأطلعهم كواكب في سماء المصر، كأبي بكر الزبيدي العالم النحوي الشهير مؤدب هشام الثاني، وبعد أن تم له ما أراد من ذلك انصرف همه إلى تكوين جيش للمملكة، ورفع أعطيات وأرزاق الجند، فانضوى تحت لوائه كثير من العرب والبربر، ثم اشترى عددا كبيرا من المماليك ودربهم على القتال، وجرد منهم حملة على الشمال، وهي في الكثير الغالب كانت موجهة إلى أمراء آخرين، وقد حاصر قصرين في شمال «فيزي» أنشئا متقابلين على صخور يفصلهما سور، وأطلق عليهما اسم «الأخوين» وهما معروفان الآن باسمهما العربي وهو اسم «الأخوين» وقد حرفه القوم فهو يقولون «الأڨوين»، وكان يقطنهما إسبانيون مسيحيون كان أسلافهم قد عقدوا معاهدة مع موسى بن نصير، والظاهر أن هذين القصرين لم يكونا في العصر الذي نتحدث عنه في حيازة ملك ليون ولا في حيازة أمير مسلم، ولذلك استولى القاضي عليهما وأرغم الذين كانوا يدافعون عنهما - وهم زهاء ثلاث مئة فارس - على الانضواء تحت لوائه، وبذلك زادت نواة جيشه فبلغت خمس مئة فارس، وثمة اجتمع لديه من الجند ما يكفي للإغارة على الممالك المتاخمة له ، إلا أن حالته هذه لم تكن لتمكنه من صد هجمات قوية ضد إشبيلية.
وهذا ما وقع له سنة 1027: ففي هذه السنة جاء الخليفة الحمودي يحيى بن علي وأمير بربر قرمونة محمد بن عبد الله وحاصرا إشبيلية، ولما كان في منتهى الضعف بحيث لا يستطيع المقاومة طويلا أخذ الإشبيليون يفاوضون يحيى وأعلنوا أنهم مستعدون للاعتراف بسيادته عليهم، على شرط ألا يدخل البربر مدينتهم، فقبل يحيى هذا الشرط ولكنه شرط عليهم - ضمانا لوفائهم وإخلاصهم - أن يرسل بعض أعيان ونبلاء إشبيلية أولادهم ليكونوا عنده رهائن يضمن بها ولاء الإشبيليين، فلم يستطع أحد منهم أن يقدم ابنه خشية من البربر الذين يقضون على حياته لأقل شبهة، والقاضي وحده هو الذي لم يتردد في إجابة الطلب إذ أرسل إلى يحيى بنجله عباد. وكان الخليفة يعلم ما للقاضي من الجاه والنفوذ فاكتفى بقبول ابنه رهينة لديه، وبفضل هذا العمل المجيد الدال على الإخلاص للبلاد ازدادت مكانة القاضي عند الإشبيليين عامة، وأصبح - منذ ذلك الحين - لا يخشى شيئا لا من جانب الشعب، ولا من جانب الخليفة الذي اعترف بسيادته شكلا، وخيل إليه أن الفرصة السانحة قد أمكنته من الانفراد بالحكم.
ولما كان قد أبعد من مجلس الحكم مثل ابن حجاج وغيره، ولم يبق معه سوى زميلين رأى أن يصرفهما عن خدمته ونفى «زبيدي» وعين رجلا من خواص إشبيلية اسمه «حبيب» رئيسا للوزارة، ولم يكن «حبيب» هذا من رجال المبادئ إلا أنه كان مع هذا ذكيا مخلصا بكل معاني كلمة الإخلاص لمولاه، منصرفا إلى مصلحته.
وعلى أثر ذلك أراد القاضي أن يزيد في رقعة المملكة بالاستيلاء على باجة، وقد حلت أخيرا بهذه المدينة المصائب في غضون القرن التاسع عشر من جراء الحرب التي نشبت بين العرب والخائنين. إذ نهبت وخرب البربر جزءا منها، وعاثوا فيها سلبا، وأحرقوا ما صادفوه في طريقهم، وكان في نية القاضي أن يعيد تشييد ما خرب منها، ولكن لما اتصل بعبد الله بن الأفطس أمير بطليوس عزم القاضي، جرد جيوشه تحت إمرة ابنه محمد «الذي خلفه فيما بعد باسم المظفر» وتم استيلاء هذه الجيوش على باجة في الوقت الذي جاء فيه إسماعيل بن القاضي بجيش إشبيلية، وجيش حليف أبيه أمير قرمونة، فبدأ حصارها في الحال، وأمر فرسانه بالسلب والنهب في القرى الواقعة بين إيفرن والبحر، وعلى الرغم من المدد الذي جاء به ابن طيفور فإن محمدا كان سيئ الحظ كثيرا إذ بعد أن فقد نخبة فرسانه المحاربين وقع أسيرا بين يدي أعدائه وأرسل إلى قرمونة.
زادت هذه الانتصارات في حماسة القاضي وحليفه الأمير، فلم يكتفيا بالإغارة على بطليوس وحدها بل أغارا على قرطبة أيضا، فاضطرت حكومتها أن تستخدم للدفاع كثيرا من بربر ولاية سيدونا.
وبعد فترة من الزمن أبرم القاضي وحليفه صلحا أو سمه - إن شئت - هدنة مع بني الأفطس، وحينئذ أطلق محمد من الأسر برضى القاضي في
(مارس 1030) ولما أبلغه أمير قرمونة نبأ إطلاق سراحه عرض عليه أن يعرج في طريقه على إشبيلية ويبلغ القاضي شكره، ولكن محمدا لفرط اشمئزازه من القاضي قال لأمير البربر: «إني أوثر أن أظل سجينك على أن أقوم بما أشرت به علي، فإذا كنت مدينا لغيرك بإطلاق سراحي، وكان علي أن أشكر قاضي إشبيلية وفاء لهذا الحق، فإني أفضل أن أبقى حيث أنا في سجني.»
فاحترم الأمير شعوره وأرسله إلى بطليوس مشيعا بما يليق برجل عظيم مثله من واجب الإجلال والتكريم.
وبعد بضع سنين؛ أي في سنة 1034، انتقم عبد الله بطريقة قد تعتبر غير شريفة، وثأر لنفسه من تلك الشدائد التي نالته، وذلك بأن أباح للقاضي أن تمر بأرضه جنوده بقيادة ابنه إسماعيل وهي ذاهبة في طريقها للإغارة على مملكة ليون، ولما كان إسماعيل وجنوده في مضيق لا يبعد كثيرا عن حدود ليون باغته جيش بني الأفطس فقتل من جنود إشبيلية عددا كبيرا، وقتل فرسان ليون فلول الجيش عند لياذهم بالفرار، وأفلت إسماعيل من هذه المذبحة ومعه نفر يسير من رجاله، وفيما كان موليا وجهه شطر مدينة لشبونة الواقعة على حدود مملكة أبيه - من الجهة الشمالية الغربية - تحمل هو ومن معه أشد آلام الحرمان من حاجات المعيشة الضرورية.
ومنذ هذه الآونة صار القاضي الخصم الألد لأمير بطليوس، وليس لدينا معلومات تفصيلية عن المعارك التي دارت بعد ذلك بين أمير بطليوس وخصمه.
ومما لا ريب فيه أن هذه الحروب لم يكن لها نتائج ذات خطر عظيم لإسبانيا المسلمة، ولم تترك فيها أثرا يضارع ما تركه فيها حادث آخر سنتناوله فيما يلي.
قلنا إن القاضي اعترف بسيادة الخليفة الحمودي يحيى بن علي ولكن هذا الاعتراف كان تعهدا غير مجد، وقد بقي كذلك مدة طويلة، فقد قام القاضي بحكم إشبيلية بلا سلطان عليه ولا رقابة، وكان يحيى من الضعف بحيث لا يستطيع أن يلزمه بالمحافظة على حقوقه، وقد تبدلت هذه الحال تدريجا إذ وفق يحيى لأن يضم حوله جميع أمراء البربر تقريبا، فأصبح الآن بحق زعيم عامة الحزب الأفريقي بعد أن كانت هذه الزعامة اسمية فيما مضى، ولما كان معسكره العام في قرمونة التي طرد منها محمد بن عبد الله أصبحت جيوشه تهدد قرطبة وإشبيلية في آن واحد، وقد أوحى هذا الخطر المخيف المحدق إلى القاضي بفكرة وطنية لها خطرها وقيمتها لو لم يشبها الحرص والطمع والأنانية والجشع.
فقد رأى من الضروري أن يجتمع العرب والصقالبة تحت راية حاكم واحد حتى لا يغزو البلاد البربر الذين اتخذوا الأملاك التي سبق لهم غزوها.
وهذه هي الوسيلة التي تجعل البلاد بمنجاة من التعرض لمثل ما حل بها من المصائب من قبل، وكان القاضي يشعر من أعماق نفسه بهذه الضرورة، فقويت عنده الرغبة في أن يتألف حزب قوي كبير يندمج فيه جميع العناصر المعادية للحزب الأفريقي، وهو في الوقت ذاته يتمنى أن يكون رئيسه، ولم تكن العقبات التي يجب عليه أن يذللها لنيل تلك الغاية بخافية عليه.
فقد كان يدرك أن ملوك الصقالبة وأمراء العرب وشيوخ قرطبة يجرحون في كرامتهم متى رأوه يحاول أن يبسط سلطانه عليهم، على أن شيئا من ذلك لم يثبط همته ولم يجعل اليأس يتسرب إلى نفسه.
على أن المصادفات ستخدمه، فهو سيتمكن إلى حد ما أن يصل إلى الغاية التي يرمي إليها، ويدرك المشروع الذي كان يعمل على تحقيقه. وسنرى - فيما بعد - على أي نحو يتم له ذلك. (6) هشام الثاني
أسلفنا أن الخليفة التعس هشام الثاني فر من القصر في عهد سليمان الثاني. وقلنا إن أكثر الظواهر تدلنا على أنه مات في آسيا مجهولا لا يعرفه أحد.
ومع هذا فقد بقي الشعب غير مصدق أنه مات لشدة تعلقه بالدولة الأموية التي درت عليه أخلاف اليسر والرخاء، وكسته حلل الشرف والمجد، وكان عامة أفراد الشعب يتلقون الإشاعات التي كانت ترد إليهم من الخارج منبئة ببقائه على قيد الحياة باهتمام وشغف، وهناك أفراد كانوا يزعمون أنهم واقفون على تفاصيل حياته بآسيا، وقد أشاع بعض أولئك الزاعمين أنه رحل أولا إلى مكة ومعه خريطة مملوءة بالنقود والنفائس، فسلبه الزنوج الذين كانوا يرافقونه كل ما معه، وزعموا أنه استمر يومين لا يتذوق طعاما ولا شرابا، إلى أن رآه صانع فخار فرق له ورثى لحاله، فعرض عليه أن يعجن له الصلصال على أن يعطيه في اليوم درهما ورغيفا، فرجا صانع الفخار أن يعطيه الأجر سلفا، إذ قد مضى عليه يومان لم يذق فيهما طعاما، وبعد لأي ما استطاع هشام - على عجزه عن العمل - أن يكسب قوت يومه.
إلا أنه أنف هذه الحال فهرب، وسار مع قافلة ذاهبة إلى فلسطين، ووصل إلى بيت المقدس وهو في أشد حالات الإملاق، وإنه ليتنقل في بعض طرق المدينة، إذ وقف على دكان حصري، وأخذ ينظر إلى عمله بانتباه شديد، فسأله الحصري: «هل تعرف هذه الصناعة؟»
فأجابه محزونا: «كلا، وأنا آسف لأنه لا سبيل إلى أن أعيش وأكسب ما أسد به الرمق.»
فقال الحصري: «إذن فابق معي لحاجتي إليك في إحضار الخيزران، ولك أجرك.» فقبل مسرورا، وبقي عند الحصري حتى حذق هذه الصناعة.
وما زال على هذه الحال بضع سنين، وقد أذاعوا بعد ذلك أنه عاد إلى إسبانيا في سنة 1033، ونزل مالقة ثم تحول عنها إلى المرية فوصل إليها سنة 1035، فاضطر الأمير زهير إلى إبعاده خارج حدود مملكته، فرحل إلى قلعة رباح حيث ألقى بها عصا التسيار.
هذه الرواية التي صادفت رواجا وقبولا من الشعب لا تستحق - على ما يظهر - أن تنال شيئا من الثقة، والذي وقع حقيقة هو أنه في العهد الذي كان فيه يحيى يهدد إشبيلية وقرطبة كان في قلعة رباح رجل حصري اسمه خلف يشبه الخليفة هشاما الثاني تمام الشبه، ولكن لم يقم دليل على أنه هو بعينه، وقد نفى الأمويون شيعة هشام ومعهم ابن حيان وابن حزم المؤرخان ما دار حول هشام «المزعوم» من الروايات والأراجيف وعدوه ضربا من الحيلة السياسية والخداع والقحة، وإن كان من مصلحتهم أن يهتدوا إلى مكان هشام إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
ولم يتردد خلف حين طرق سمعه كثيرا أنه شبيه هشام في أن يدعي أنه هو نفسه الخليفة هشام الثاني، وقد جازت هذه الحيلة على أهالي قلعة رباح لأن خلفا لم يكن معروف النسب عندهم، والأغرب من هذا أنهم دخلوا في طاعته، وثاروا على أميرهم إسماعيل بن دحمان ذي النون أمير طليطلة، فجاء هذا وحاصرهم ولم تطل مدة مقاومتهم، وأخرج هشاما المزعوم من المدينة فهدأ ثائر الأهالي، وعادوا إلى السكينة والخضوع. (7) دهاء القاضي
ولم ينته دور خلف عند هذا الحد، بل رجع عودا على بدء حين علم قاضي إشبيلية بخبره، وعلم الفائدة التي يجنيها من وراء ذلك الرجل إذا هو أحضره إلى إشبيلية، وكان الذي يهمه إنما هو استغلال الموقف بقطع النظر عن شخصية الرجل، كما كان يسره كثيرا أن يرتضي الناس أنه هشام ليستطيع أن يكون باسمه حزبا ضد البربر، ويكون وهو رئيس الوزراء روح هذا الحزب وزعيمه. ولهذا بادر إلى دعوة الخليفة المزعوم إلى إشبيلية ووعده بتعضيده إذا نجح في إثبات شخصيته، ولما حضر الحصري إلى إشبيلية قدمه القاضي إلى نساء هشام بالقصر، فصرحن جميعهن تقريبا بأنه هو بعينه الخليفة السابق، وعول القاضي على قولهن، وبعث إلى شيوخ إشبيلية وأمراء العرب والصقالبة يعلنهم بأن هشاما الثاني عنده ، ويدعوهم إلى حمل السلاح معه دفاعا عن حقوقه، ومؤازرة لقضية الخلافة.
وقد كلل الله هذا المسعى بالنجاح، واعترف بسيادة «هشام» محمد بن عبد الله أمير قرمونة المخلوع الذي لجأ إلى إشبيلية وعبد العزيز أمير بلنسية ومجاهد أمير دانية وأمير طرطوشة.
وعلم عامة الشعب في قرطبة علما مقرونا بالسرور أنه لا يزال على قيد الحياة، إلا أن كبيرهم الحزم بن جهور كان أقلهم تصديقا للخبر حرصا على الحكم، فلم ينخدع، ولم تجد هذه الحيلة إلى نفسه مساغا، ولكنه لم يجد سبيلا إلى مقاومة إرادة الشعب، ومخالفة ميوله، ورأى ضرورة اتحاد العرب والصقالبة تحت راية حاكم واحد، لأنه كان يخشى في ذلك الحين أن يهاجم البربر قرطبة، فلهذه الأسباب لم يناقض أغراض مواطنيه، وسمحت نفسه بأن تتجدد البيعة لهشام الثاني من جديد.
وكان من نتيجة هذه الحوادث أنه بينما كان الحزب العربي الصقلبي يتسلح ضد يحيى، كان هذا محاصرا إشبيلية، مجدا في تخريب ما يتصل بها من العمران، موطنا النفس على الانتقام الهائل من القاضي الخائن، ولكن الملتفين حوله - من بربر قرمونة الذين أكرههم على الانضواء تحت رايته - كان هواهم مع هشام الثاني، خليفتهم السابق وكانت المخابرة بينهم وبينه سائرة.
وفي أكتوبر (سنة 1035) ذهب فريق منهم خفية إلى إشبيلية، وأبلغوا القاضي ومحمد بن عبد الله، أن من السهل مباغتة يحيى لأنه لا يكاد يفيق من السكر، ولم يدع القاضي وحليفه هذه الفرصة تمر دون أن يستفيدا منها، وهنا وجه القاضي ابنه إسماعيل ومعه محمد بن عبد الله على رأس الجيش الإشبيلي، وعندما أرخى الليل سدوله كمن إسماعيل مع أكثر الجند في كمين، وأرسل كوكبة لمناوشة قرمونة ليغري يحيى بالخروج إلى ظاهرها، وقد نجح في خطته هذه، إذ كان يحيى - حين بلغه مجيء ابن عباد على رأس جيش - ثملا، فنهض وكان متكئا على سريره وصاح قائلا: «يا لها من فرصة سعيدة، هذا ابن عباد مقبلا لزيارتي، والآن أيها الجند، خذوا أسلحتكم وامتطوا جيادكم قبل ضياع الوقت.»
وخرج في ثلاثة آلاف فارس، وكان النبيذ قد لعب برأسه، فلم يتمهل ريثما يعبئ جنده وينظم خططه، يضاف إلى ذلك أن ظلام الليل الحالك كان يحجب عنه كل شيء. وفوجئ الإشبيليون منه بهذا الهجوم المباغت، فقابلوه بجلد وعنف، وأخذوا يتقهقرون بنظام نحو المكان الذي كمن فيه إسماعيل.
ومن هذه اللحظة سعى يحيى إلى حتفه بنفسه، فإن إسماعيل انقض عليه بكل قوات الجند، واضطره إلى التقهقر، وقتل يحيى نفسه في المعركة، وكاد يأتي القتل على أكثر رجاله لو لم يحل محمد بن عبد الله دون ذلك، وقال له: «إن أغلب هؤلاء المساكين من بربر قرمونة الذين أكرههم هذا الطاغية على الدخول في خدمته مع كراهتهم واحتقارهم إياه.»
فأبقى عليهم وأمر جنده بترك تعقبهم وخف محمد بن عبد الله إلى قرمونة على ظهر جواده ليسترد ملكه، وأراد زنوج يحيى الذين استولوا على أبواب المدينة أن يحولوا بينه وبين الدخول لولا أن ساعده الأهالي على دخولها من ثغرة، وسار إلى قصر الإمارة، وسلم نساء الأمير يحيى إلى بنيه، واستولى على ما في القصر من كنوز ونفائس في (نوفمبر سنة 1035م).
وقد أحدث نبأ وفاة يحيى سرورا عظيما في إشبيلية وقرطبة، وعندما وصل الخبر إلى مسامع القاضي خر ساجدا شكرا لله، وحذا حذوه جميع من كانوا حوله والآن أصبح القاضي لا يخشى شيئا من جانب بني حمود.
وقد نودي بإدريس - أحد أشقاء يحيى - خليفة في مالقة، وقد كان يعوزه الوقت الكافي الذي يستطيع فيه أن يكسب بقوة نفوذه وما يقدمه من وعود، قلوب زعماء البربر، ليجعلهم في صفه، ولهذا لم يعد في استطاعته أن يخضع الجزيرة بعد أن نادى الزنوج فيها بابن عمه محمد خليفة.
ولما رأى القاضي أن الظروف خدمته، هم بأن يقيم هو وهشام الثاني المزعوم بقصر الخلافة في قرطبة، إلا أن يقظة ابن جهور، وتصميمه على عدم التخلي عن الحكم، وقفا حجر عثرة في طريقه، فقد نجح في إقناع أهل قرطبة أن الخليفة المزعوم لم يكن سوى رجل ماكر مخادع وأن اسم هشام قد ألغي من الإمامة، وعرف أن القاضي عند مجيئه بهشام إلى قرطبة سيلقى أبوابها مغلقة في وجهه، وثمة لا يستطيع التغلب على مدينة منيعة حصينة مثلها، فيضطر أن يعود من حيث أتى.
وعول - في بداية الأمر - على أن تعسكر جيوشه عند الأمير الصقلبي، وهو الأمير الوحيد الذي أبى الاعتراف بهشام الثاني، ذلك الأمير هو زهير أمير المرية، ومنذ أراد الخليفة قاسم أن يهون على الأمير، وأقطعه عدة أملاك، بدأ زهير يناصر الحموديين. ولما نودي بإدريس خليفة بادر بالاعتراف به.
ولما صار الآن مهددا من القاضي عقد محالفة مع حيوس الغرناطي ثم زحف جيش إشبيلية، وذهب لمقابلته بجنوده وجنود حليفه إذ اضطره إلى التقهقر.
ومن المحقق أن القاضي قد بالغ في الاعتداد بقوته، ولم يحسب حساب أعدائه، وكان عليه أن يخشى مجيء الوقت الذي تغزو فيه جيوش المرية وغرناطة - بدورها - إشبيلية.
وكثيرا ما خدمته المصادفات الحسنة التي شاءت أن يخلصه أحد أعدائه من عدوه الآخر.
الفصل الثاني
في العصر - الذي نحن بصدد التحدث عنه - ظهر رجلان طبقت شهرتهما الآفاق، وكلاهما كان يحمل لصاحبه حقدا قاتلا، وكانا هما اللذان بيديهما تسيير دفة الأمور في غرناطة والمرية. هذان الرجلان هما: المغربي ابن عباس، واليهودي صمويل.
فالربان صمويل هاليفي، وكان يدعى عبادة بن نغذلة، ولد في قرطبة ودرس التلمود على الربان هانوخ، الرئيس الروحي للجالية اليهودية، ثم انصرف بجد ونجاح إلى دراسة الأدب العربي وتثقف بأكثر العلوم التي كانت معروفة إلى ذلك العهد، ثم كان - بعد انقطاعه عن الدرس - بدالا صغيرا، وقضى في هذه التجارة مدة طويلة، أولا في قرطبة، وثانيا في مالقة التي أقام بها بعد الفترة التي استولى فيها بربر سليمان على العاصمة، ثم ساعفه الحظ وانتشلته بعض الفرص السعيدة من هذا المركز الوضيع.
ذلك أن حانوته كان قريبا من قصر أبي القاسم بن العريف وزير جيوش ملك غرناطة، وكان على رجال القصر في الغالب أن يراسلوا مولاهم فيما يعرض لهم من الشئون، ولكونهم جهلاء بفن الكتابة لجئوا إلى صمويل هذا ليحرر لهم ما تمس إليه الحاجة من تلك الرسائل التي أثارت إعجاب الوزير إذ ألفاها مكتوبة بأبلغ وأجزل أسلوب عربي، مما حمل الوزير عند عودته إلى مالقة أن يسأل عن المنشئ لتلك الرسائل، ولما علم أنه اليهودي استقدمه إليه، وخاطبه بقوله: «ليس خليقا بك أن تبقى صاحب حانوت، وما أجدرك أن تكون كوكبا يسطع لألاؤه في بلاط الملك، فإذا توفرت على ذلك رغبتك، فإني متخذك لي ناموسا خاصا.»
فتقبل منه هذه المنة شاكرا، وصحبه الوزير معه عند عودته إلى غرناطة، وازداد إعجابه به عندما أخذ يبادله الحديث في شئون الدولة، إذ وقف منه على رجل نادر الذكاء بين الرجال، بعيد النظر، سديد الرأي، حتى قال بعض المؤرخين اليهود: «إن النصائح التي كان يسديها صمويل كانت بمثابه أقوال صادرة عن إنسان ملهم يستوحي كلام الله ويستفسره.»
ولهذا كان الوزير يأخذ بها، ويخصه بجميل الثناء، ولما أحس الوزير بدنو الأجل في مرضه الذي مات فيه، جاء الملك يعوده، وقد داخله حزن عميق على وزيره، وخادمه الأمين الذي سيفقده ولا يجد من يخلفه، فانتهز هذه الفرصة وقال للملك: «لم تكن النصائح والآراء الرشيدة التي كنت أبديها لك أيها الملك في العهد الأخير صادرة مني بل كانت وحيا أتلقاه من صمويل ذلك اليهودي الذي آثرت أن يكون ناموسي الخاص، فأقصر نظرك عليه واتخذه أبا لك ووزيرا، أخذ الله بيدك، وشد به أزرك.»
وقد عمل حيوس الملك بهذه النصيحة، وأحل صمويل بالقصر
1
محل وزيره الراحل، وصار هذا اليهودي ناموس الملك ومستشاره.
وربما لا يحدثك التاريخ عن رجل يهودي حكم في دولة إسلامية حكما مباشرا وصريحا باسم وزير مستشار إلا في هذه المملكة الإسلامية.
على أن بعض اليهود قد تمتع - على الأرجح - بشيء من الاعتبار والحظوة لدى بعض ملوك المسلمين الذين كانوا يستعملونهم غالبا على وزارة المالية، ولكن التسامح لم يبلغ بالإسلام إلى حد أن يتولى يهودي منصب رئيس الوزراء، وإذا جاز هذا الأمر في جهات أخرى فلم يكن ليجوز في غرناطة تلك المدينة التي كثر عدد اليهود المقيمين بها حتى أطلقوا عليها اسم مدينة اليهود،
2
ولما كانت في أيديهم معظم الثروة فقد كانوا يتدخلون غالبا في شئون الدولة.
وصفوة القول أن اليهود وجدوا هنا أرضا أخرى غير الأرض الموعودة من الصحراء وصخرة حريب.
ويصح أن يفسر سمو صمويل إلى هذا المنصب بأسلوب آخر، فإنه لم يكن من السهل على ملك غرناطة، أن يعثر على من يقلده منصب الوزير الأول، إذ من المحقق أنه لم يكن في استطاعته أن يسند هذا المنصب الخطير لا إلى رجل من البربر، ولا إلى آخر من العرب. وقد كانوا يؤثرون - في ذلك الحين - أن يكون الوزير أديبا قد بلغ في الأدب الغاية وملك ناصية البيان، كي يستطيع أن يحرر الرسائل التي ترسل إلى الملوك بالنثر المبدع، والأسلوب الرائع الممتع، وقد كان ملك غرناطة يرغب في أن تتوافر هذه المواهب عنده، ومثله في ذلك مثل صعلوك يعمل على أن يكون من العظماء، ولما كان نصف بربري بذل كل ما في وسعه حتى لا يظهر بهذا المظهر، وكان يتمنى - من أعماق نفسه - أن يكون ذا علم وأدب، وكان يزعم - حتى لا ينسب إلى ضعة النسب - أن السلالة التي انحدر منها - وهي صنهاجة - لم تكن من عنصر البربر بل كانت من عنصر العرب.
3
فلكل هذه الاعتبارات كان لا بد له من وزير مضطلع بفنون الأدب لا نظير له عند جيرانه، ولكن أنى له أن يظفر بذلك؟
إن البربر الذين عنده كانوا لا يحسنون إلا عملا واحدا هو القتال والاستيلاء على المدن ونهب ما فيها من الأموال والذخائر وصرفها وتخريبها، ويعجزون بعد ذلك عن النطق الفصيح، أو كتابة سطر صحيح بلغة القرآن، والعرب الذين كانوا يخضعون لسلطانه كانوا لا يحملون هذا النير على عاتقهم إلا وهم يرجفون غضبا ويضطربون حمية وخجلا، ويرون خيانته عملا شريفا، فهو لا يستطيع أن يأمن جانبهم، وقد ساعفته الظروف فرأى يهوديا مثل صمويل شهد له علماء العرب أنفسهم بالاستبحار في العلوم وفقه أسرار لغة العرب، ومما يشهد له بالمهارة والحذق أنه مع حرصه على التمسك بدينه، كان لا ينحرف وهو يكتب لأساطين المسلمين عن أن يستعمل في رسائله ومكاتباته الصيغ والنصوص والعبارات الدينية المألوفة عند كتاب المسلمين، فلا بد أن يكون هذا الرجل قد أحرز من البلاغة العربية كنزا ثمينا كان ينفق منه كلما أراد الكتابة، ولهذا لم يشعر الملك - وقد رفعه إلى منصة رياسة الوزارة - بخجل، والعرب أنفسهم قد ارتاحوا إلى هذا الاختيار ووافقوا عليه، وعلى الرغم من عدم تسامحهم وارتيابهم في اليهود فقد أذعنوا اضطرارا واعترفوا بعبقرية صمويل ونبوغه ومزاياه، وفي الحق أنه كان متحليا بمختلف العلوم، زاخر العباب فيها، فهو الرياضي المنطقي الفلكي الذي يجيد - فوق ذلك - سبع لغات، أضف إلى هذا أنه - بوجه عام - كان كثيرا ما يكرم الشعراء ورجال الأدب، والكثير ممن خصهم بنواله، لم يقصروا في إطرائه ومدحه والثناء عليه، وقد دخل في غمار من مدحه الشاعر منفائيل.
ووجه إليه بالكلمة التالية التي لا يذكرها المسلمون، إلا مقرونة بفزع واستنكار عظيمين: «أيها العلم الفرد الذي جمعت في شخصك من المزايا والسجايا الحميدة ما لم يظفر سائر الناس إلا بجزء يسير منه، أنت يا من أطلقت الجود من محبسه بعد أن كان سجينا، إنك لأسمى الناس قدرا وأرفعهم منزلة في الشرق والغرب، فإنك كالذهب قيمة وسائر الناس كالنحاس ... إلخ.»
وأما الذي كرهه العرب من آثار ذكائه الحقيقي فهي الخدمات العديدة التي أداها للأدب العبري، فقد نشر باللغة العبرية مقدمة للتلمود، وقعت في اثنين وعشرين جزءا جعلها خاصة بالغراماطيق، ومن أهم كتب الغراماطيق وأوفرها مادة «كتاب الثروة» صنفه قاض من أقضى القضاة، وأكثرهم ثقافة ودراية، كان على دين صمويل الذي ازدهر بالمعارف والبحوث في القرن الثاني عشر، وقد وضع هذا الكتاب في المرتبة الأولى من الكتب التي بحثت في الغراماطيق، كان هذا المؤلف شاعرا أيضا، وقد نسج على منوال المزامير، وابن سيراخ، ولما كانت أشعاره مفعمة بالكنايات وأمثال العرب والحكم المختلسة من أقوال الحكماء والفلاسفة، والمعاني الشعرية التي اخترعها الشعراء المجيدون، فقد أصبح من العسير - إلا على الخاصة - تفهم معانيه. على أن أكبر علماء اليهود كان يتعذر عليه فهم غوامضه ما لم يستعن بالمتون والشروح والتعليقات.
ولما كان التعمق والبحث في آداب اللغة العبرية أكثر شيوعا منهما في اللغة العربية التي هي صورة منها، ونموذجا لها، كان الغموض لا يعد نقصا وعيبا، بل يعد من الدراية والكفاية العلمية.
وكان صمويل يسهر على مصالح اليهود، ويعنى عناية أبوية بالشبيبة اليهودية، يتفقد رقيقي الحال منهم، ويمدهم بما يسد حاجاتهم - عن كرم وسخاء - وكان في خدمته كتاب ينسخون المشنا والتلمود، فكان يوزع نسخها جوائز على التلاميذ الذين لا يملكون شراءها، ولم تكن مكارمه وخيراته وإحساناته لتقتصر على أتباع دينه في إسبانيا فحسب، بل كانت تتعداهم إلى أمثالهم في إفريقية وصقلية وبيت المقدس وبغداد، وقد أصبح اليهود في كل صقع وبلد يعتمدون على معونته وكرمه.
لهذا عمد اليهود في غرناطة إلى أن يبرهنوا على إخلاصهم وحبهم وولائهم واعترافهم له بالجميل عليهم وعلى أبناء دينهم، فمنحوه لقب «ناغد» أي زعيم أو أمير يهود غرناطة.
ولما كان زعيم أمة ورئيس دولة فقد ضم إلى رجاحة العقل وتوقد الذكاء يقظة وتبصرا وحزما، وصفات خلقية ثابتة جعلته في مصاف كبار الزعماء والرؤساء، فكان يتكلم قليلا ويفكر طويلا، وهذه في العادة من أعظم صفات الرجل السياسي المحنك.
وكان يهتبل الفرص فلا يدعها تمر دون أن يستفيد منها عن حنكة وخبرة ودربة، وكان عليما بأخلاق الناس وميولهم، خبيرا بالوسائل التي يتغلب بها على رذائلهم وشرورهم، وكان - فوق هذا - جميل الهندام حسن الهيئة مشرق الطلعة، ففي مجالس الحمراء البديعة كان يبدو أنيقا رشيقا حتى ليخيل للناظر إليه أنه نشأ منذ نعومة أظفاره في أحضان الأناقة الفاخرة، ولم يكن أحد ليجيد الكلام بلباقة وحذق مثله، ولا ليفنن في التظرف في الحديث ويتملق محدثه ويتملك بقوة بيانه مشاعر محدثه مثله، ويندر فيمن أسرعت بهم عجلة الحظ فرفعتهم فجأة من الحضيض إلى ذروة المجد ألا يكونوا على نمط أولئك الذين كانوا فقراء، فأصبحوا أغنياء، فإن كثيرا منهم يغلب عليه طبعه الأول فينحط إلى درجة صعلوك وقح مفتون، وصمويل لم يكن على نمط أولئك، بل كان كمن نشأ في السيادة والمجد منذ ولادته.
ولما كان ذا عطف محبا للجميع، فقد أضاف إلى سجاياه الكريمة خلقا نبيلا، متأصلا في نفسه، هو التخلي عن صفة الادعاء الكاذب، فهو - بدلا من أن يخجل من عمله الذي كان يزاوله من قبل فيعمل على إخفائه - كان يعلنه لمحدثه ومن يعيبه عليه، وكان يعلن ذلك في صراحة وبساطة تقنع محدثه أنه يعتزي إلى عمل شريف. •••
وأما ابن عباس وزير زهير أمير المرية فقد كان رجلا فائق الشهرة عظيم الخطر، وقد قالوا عنه إنه اختص بأربعة أشياء لا يدانيه فيها غيره: (1)
الأسلوب الإنشائي (2)
الثروة (3)
البخل (4)
الكبر
فكانت ثروته - على الحقيقة - لا تقع تحت حصر، وقد قدروها بما يربو على خمس مئة ألف دوكا.
4
وكان قصره - لفخامته - كقصر ملك مؤثثا بأفخر الأثاث والرياش غاصا بالخول والعبيد، فيه نحو خمس مئة قينة جميعهن ذوات جمال رائع نادر، ومما هو خليق بالإعجاب في قصره هذا مكتبته الفاخرة التي كانت تحوي عدا الكراسات المنفصلة زهاء أربع مئة ألف مجلد، وقد تمت السعادة لهذا الرجل فلم يعد ينقصها شيء، فقد كان بهي الطلعة جميلا شابا، قد أوفت سنه على الثلاثين، ينحدر نسبه من أسرة عريقة، يرجع أصلها إلى بعض قبائل العرب التي نصرت النبي
صلى الله عليه وسلم .
وقد كان لكثرة الثراء يسبح في بحر من الذهب، ولما كان عليما بفنون الأدب قديرا على التعبير عن آرائه في عذوبة ولطف ورقة، ذاعت شهرته الأدبية وتردد ذكره في المحافل والأندية، وتوافر الناس على محبته وتقديره. ولكن مما يؤسف له أن شيئا من الخوف والارتباك قد ملأ فؤاده، وتملك عليه مشاعره، وأصبح ينتابه من الوساوس والشكوك والاضطرابات المفزعة ما لا حد له، ومن جراء ذلك كثر أعداؤه، وقل أولياؤه، وكان أهل قرطبة من أشد الناس نقمة عليه - لكبريائه وغطرسته - فقد حدث مرة أن زار مدينتهم مع زهير، فواجه بكل احتقار وزراية أكبر رجل من عظماء قرطبة الممتازين بأصل أرومتهم وبمواهبهم الخلقية والعلمية، وكان مما جبه به ذلك العظيم قوله: «إني لا أرى في مدينتكم هذه سوى صعلوك سائل، أو مأفون جاهل.»
وفي الواقع كانت أوهام هذا الرجل ودعواه الجوفاء قد وصلت إلى حد السفه والجنون، وقد جاء في شعره من الغلو والإغراق في القول ما معناه: «لئن كانوا قد أصبحوا كلهم عبيدي، فإن نفسي لن يقنعها ذلك ولن تسكن إليه.»
ومن أبياته التي كان يرددها في كل مجلس وعند كل مناسبة، وبخاصة إذا كان يلعب الشطرنج ما مضمونه: «قد أمن الشقاء جانبي، وهو ممنوع البتة أن يحوم حولي، أو ينزل بساحتي.»
وهذه القحة التي كان يواجه بها القضاء، ويجبه بها القدر، كانت مبعث إثارة النفوس والخواطر ضده، مما حمل شاعرا جريئا على أن يجهر بما يعبر به عن الرأي العام، فأحال الشطر الثاني إلى ضد معناه، وذلك حيث يقول: «ولكن القدر الذي لا ينام سيوقظ راقد الشقاء.»
ولما كان ابن عباس عربيا قحا، أصبح يكره البربر ويحتقر اليهود. وربما كانت تقضي عليه ميوله بأن لا ينضم ملكه إلى الحزب العربي الصقلبي، ذلك الانضمام الذي تكون نتيجته اللازمة، إيداع زهير غيابة السجن بيد قاضي إشبيلية زعيم هذا الحزب. وقد كان امتعاضه من زهير شديدا لمحالفته ملكا من ملوك البربر، اتخذ له وزيرا يهوديا كان شديد الكراهة له، وهو يعلم ذلك، وقد تمالأ مع ابن بقية
5
وزير الحموديين بمالقة وعمل على خلع إسماعيل بأن اختلق لإدراك هذا الغرض عدة وشايات ودسائس لم تفلح، ثم عمد بعد ذلك إلى أن يوقع ملكه مع ملك غرناطة بأن يجعله يقدم مساعدته لمحمد أمير قرمونة وعدو حبوس، وقد نجح في محاولته هذه.
وبعد فترة من الزمن وافى الأجل المحتوم حبوس في يوليو سنة 1038
6
وقد أعقب ولدين باديس
7
وهو بكره، وبلقين، وهو أصغر منه. وأراد البربر وجماعة اليهود أن يتبوأ صغيرهما العرش، وآخرون من اليهود بينهم إسماعيل، ومعهم العرب، كانوا يميلون إلى جانب باديس. وكان لا بد - لهذا الخلاف - من أن تنشب حرب أهلية، لو لم يبادر بلقين إلى التنازل عن العرش لباديس والدخول في طاعته، فحذا حذوه أنصاره مكرهين.
8
وأول عمل عمله الأمير الجديد أنه بذل كل ما في وسعه لتوطيد أركان المحالفة بينه وبين أمير المرية، وقد صرح هذا الأخير بأن كل شيء تتم تسويته عند المقابلة. وخرج في حرس تام العدد والعدة، ومنظر يستوقف الأبصار، واجتاز حدود مملكة باديس - على غير علم منه - إلى أن صار فجأة على أبواب غرناطة، فأثر هذا العمل - الخالي من اللياقة - في نفس باديس. ومع هذا فقد قابله بكل حفاوة، وأولم له ولمن معه وليمة فاخرة، وغمر أتباعه بالعطايا والهدايا، وعلى الرغم من هذه الحفاوة البالغة، فإن المفاوضات التي دارت بينهما، على عقد تحالف وطيد، لم تسفر عن نتيجة، إذ لم يستطع الأميران ولا وزيراهما (كان إسماعيل لا يزال وزيرا في مكانه) أن يتفقا على شيء، وكان في مقابلة ما فعله باديس من الحفاوة بضيوفه، أن أميرهم زهيرا،
9
بتأثير وزيره ابن عباس حين اجتمع بباديس، تظاهر أمامه بعظمة تركت في نفسه أثرا سيئا، وجعلته يبيت النية على الإيقاع بأمير المرية، وتأديبه أدبا يكون كفاء لقحته وجفائه، وصمم على الإيقاع بوزيره أيضا لما بدا منه من عناد وفظاظة حين عول أخوه بلقين، وأحد قواده، أن يبذل آخر محاولة للتوفيق بينهما.
وتفصيل الخبر أن بلقين ذهب حين أقبل الليل إلى حيث مجلس ابن عباس وخاطبه بقوله: «اتق الله - أيها الوزير - واخش عقابه، فأنت الذي يحول دون اتفاق أميره، وقد رأيناه أطوع لك من بنانك، لا يصدر إلا عن رأيك، ولا يعمل إلا بمشورتك، ولعلك تدرك أكثر مما ندرك مبلغ ما وصلنا إليه من السعادة، ومواتاة الحظ، في الوقت الذي كنا نعمل فيه متفقين، حتى لقد حسدنا جميع أعدائنا. وإذن فواجبنا جميعا أن نعود إلى ما كنا عليه من الاتفاق والمحالفة. والشرط الذي لم يتم عليه الاتفاق بيننا، هو مبلغ المعونة التي تمدون بها محمدا أمير قرمونة. فلندع هذا الأمير وما يخبؤه له القدر من حظ - وذلك ما يريده أميرك - ثم لنتفق بعد هذا على تسوية جميع الشروط، فإن كل شيء - بعد نقطة الخلاف هذه - ميسور وسهل.» •••
فرد عليه ابن عباس بلهجة قاسية، تشف عن نفوذ وسلطان قاهر من جهة، وعن امتهان لمحدثه وزراية عليه من جهة أخرى. ولما حاول أخو أمير البربر وسفيره أن يعالجه من ناحية العاطفة، قام إليه معانقا باكيا، فلم يؤثر فيه بمعانقته ودموعه، بل قال له: «وفر عليك هذه المظاهر الكاذبة، والعبارات الفارغة، فإنها لا تترك أي أثر في نفسي، وإن ما قلته لك آنفا، هو ما أعيده على مسامعك اليوم، فإذا لم تعمل أنت وأصحابك على تنفيذ ما نريد، فسأعمل بعد على ما يدعوكم إلى الحسرة والندم.»
فأحرج بلقين هذا الرد وأجابه بقوله: «هل هذا هو جوابك الذي أحمله إلى المجلس؟»
فقال ابن عباس: «هو هذا بدون شك. ولك أن تبالغ في قولي ما شئت، وتزيد في لهجته شدة ما استطعت.» •••
فبكى بلقين حمية وغضبا لما لحقه من الإهانة والازدراء، وعاد إلى باديس، ومجلسه منعقد، فأفضى إليه بكل ما دار بينه وبين ابن عباس من حديث، وأصابه من عنت. فامتعض باديس صنهاجة امتعاضا شديدا وقال: «إن وقاحة هذا الرجل لا تحتمل. فقوموا جميعا، قومة رجل واحد للدفاع عن كرامة المملكة، وإلا فإنكم - وما تملكون - تصيرون ملكا لغيركم.»
وقد شاطره الغرناطيون هذا الغضب، وظهر بلقين، أشد من أخيه باديس حماسة وغضبا، وطلب إليه - في عنف - أن يتخذ أهل المرية في الحال، ما يلزم من التدابير نحو هذا الطاغية وملكه، فقطع على نفسه عهدا بذلك.
وكان لا بد لزهير في العودة، من اجتياز قنطرة لا محيد له عنها.
فأمر باديس بقطع هذه القنطرة، وأرسل جنوده فاحتلوا تلك المضايق والأوعار، ولم يكن حنقه على زهير شديدا كأخيه، ولم ييئس من عود صديق والده القديم إلى ما كان عليه من عواطف سامية، وميول شريفة، ولهذا عول على أن ينبهه في الخفاء إلى الخطر المحدق به، فعمد إلى حرسي من البربر من جند المرية، وبعثه إلى زهير رسولا، فوافاه ليلا وأسر إليه بما يلي : «أخبرك يا مولاي - وأنا صادق فيما أقول - أنك ملاق غدا من المخاوف والمصاعب، إذا أنت اجتزت القنطرة في طريق عودتك، ما تتعرض معه لأشد أنواع الخطر والهلاك. فأنصحك أن تخف للرحيل - منذ الليلة - قبل أن يتسع الوقت لجند غرناطة فيحتلوها ويضيقوا عليك الخناق. وإذا نجوت سريعا، وحدث أنهم تتبعوك، كان في استطاعتك أن تدبر معهم معركة في براح من الأرض بعيدا عن تلك المضايق، أو تلحق بإحدى قلاعك فتكون في مأمن من غائلتهم.» •••
ويظهر أن هذه النصيحة صادفت من نفس زهير قبولا، ووقعت منه موقع الإعجاب، إلا «ابن عباس» الذي كان حاضرا وقت أن أفضى الرجل إلى زهير بهذا الحديث، فقال له: «لا عليك أيها الأمير، فإن الخوف هو الذي جسم في خيال هذا الرجل أن يحدثك هكذا.»
فصاح الحرسي: «أي خوف هذا؟ ألمثلي تقول هذا الكلام، وأنا الذي اشترك في عشرين معركة في حين أنك لم تشهد في حياتك معركة واحدة؟ وسترى - عند معاينة الحادث غدا - أني لم أغش الأمير حين نصحته.» وغادرهما مغضبا.
وقد زعم أعداء ابن عباس (وقد قلنا سابقا إنهم كثير) أنه رفض نصيحة جندي البربر لا لأنه استهان بها، بل لأنه كان يرمي إلى هلاك زهير طمعا في الاستئثار بحكم المرية على أمل أن يقتل زهير في المعركة ويركن هو إلى الفرار، فينادى به ملكا عليها، وربما كان لهذا الزعم ظل من الحقيقة، وسنرى على الأقل أن ابن عباس سيفخر أمام باديس بأنه استدرج زهيرا حتى وقع في الشرك.
وفي اليوم التالي (15 أغسطس سنة 1038) ألفى زهير نفسه وراء تلك المجازات والمضائق محصورا، وقد أحاط به جنود غرناطة، فذعر جنوده ذعرا شديدا، وعمهم الحزن والكمد. أما هو فكان حاضر الذهن حيث رتب المشاة من الزنوج، وكانوا خمس مئة راجل، والمشاة من الأندلسيين وأمر القائد هذيلا، بأن يتقدم على رأس الفرسان الصقالبة وينقض على العدو فصدع هذا بالأمر، ولم تكد تبدأ المعركة ويلتحم الفريقان، حتى سقط هذيل عن جواده ولم يعرف سبب سقوطه، أمن طعنة رمح أم من كبوة فرسه؟ •••
وسرعان ما لاذ الفرسان بالفرار بغير انتظام، وفي نفس هذا الوقت المشئوم، خان الزنوج زهيرا - وكانت له فيهم ثقة عظيمة - وانضموا إلى أعدائه، بعد أن استولوا على ما لديه من عدة وسلاح ولم يبق معه - وهو على هذه الحال - سوى الأندلسيين وهم أخلاط من أردأ الجند غير مدربين على القتال. فأسرع هؤلاء أيضا بالهرب، وتبعهم زهير طوعا أو كرها.
ولما كان الجسر مقطوعا، وأطراف الشعاب والمضايق محتلة بجند غرناطة، لم يسع الفارين إلا أن يعتصموا برءوس الجبال. فأعمل الغرناطيون - في أغلبهم - السيوف، ومن لم ينله السيف منهم، تردى في مهاو عميقة، وطاح هذا العدد، وبقي زهير وحده.
وأخذ أرباب الوظائف - من غير الجند - أسرى، عملا بأوامر باديس، الذي أوصى رجاله بالإبقاء عليهم، وفي عدادهم ابن عباس، وقد صرح أن أخوف ما يخافه - وقد وقع في قبضتهم أسيرا - مكتبته الحاوية لأنفس الكتب وأكثرها عددا، وصاح قائلا: «رحماك ربي وعونك، إلى أي مصير تصير كتبي؟»
وجعل يتوسل بالجند الذين يسوقونه إلى باديس ويقول لهم: «اذهبوا إلى ملككم، وسلوه أن يعنى العناية كلها بكتبي وأن لا يحرق منها شيئا، فإن من بينها كتبا لا تقوم بوزنها ذهبا.»
ولما مثل بين يدي باديس، أراد أن يخدعه بقوله: «ألم تر أني قد خدمت مصلحتك حين أوقعت - في حبائلك - هؤلاء الكلاب؟ وأشار بيده إلى الأسرى من الصقالبة. وأريد في مقابلة ذلك أن تسعى بدورك في صالحي، وذلك بأن تأمر باستبقاء كتبي، والمحافظة عليها، فإنه لا شيء أعز علي منها.»
وفيما هو يخاطبه كان أسرى المرية يرمقونه بأنظار يتطاير منها الشرر حنقا وغيظا، وحمل الغيظ أحد رؤساء الجنود، وهو ابن شبيب على أن يقول لباديس: «أستحلفك - يا مولاي - بمن جعل النصر حليفك، ألا تدع هذا الخائن الذي أضاع مملكتنا، يفلت من يدك، فإنه هو وحده الذي جنى علينا كل ما وقع. وإذا أتيح لي أن أشهد مصرعه، وما يحل به من العذاب الأليم، فسأكون أول من يقدم نفسه عن اختيار لتضرب رأسي بعده.» •••
فافتر ثغر باديس عن ابتسامة لطيفة عند سماعه لهذه الكلمات، وأمر بإطلاق سراحه. وكان ابن شبيب هذا هو الوحيد الذي نجا بحياته من أسرى الجيش، لأن عامة الأسرى الباقين تسلمهم الجلاد على التعاقب لضرب أعناقهم، كما أنه أطلق سراح الأسرى الملكيين من أرباب الوظائف، وأبقى ابن عباس وحده على تلك الحال من الأسر والاعتقال. •••
والآن عرف هذا الوزير المتكبر مبلغ ما حل به من الشقاء الذي تقحمه بإقدامه الجنوني، وتحققت نبوءة شاعر المرية، وأيقظ القدر الذي لا ينام راقد الشقاء. وأودع ابن عباس سجنه في قصر الحمراء، وكبل بسلاسل وأغلال لا يقل وزنها عن أربعين رطلا، وعرف أن باديس مغيظ محنق قد اشتد غضبه عليه، وأن إسماعيل لا يرضى بغير موته، ومع هذا، فقد كان بعض الأمل يجيش بصدره، إذ عرض على باديس إطلاق سراحه مقابل ثلاثين ألف دوكا، فأجاب بأنه سينظر في طلبه بعين الاعتبار. ومضى شهران دون أن يبت في أمره. وفي غضون هذه المدة وفد على قصر باديس كثيرون، مطالبهم متعارضة في شأن الأسرى. فرسول قرطبة كان يطلب إطلاق الأسرى، وبخاصة ابن عباس وتلاه رسول آخر هو الأحوص بن صمادح صهر عبد العزيز حاكم بلنسية ورسوله، وطلب بإلحاح قتل جميع الأسرى، وفي مقدمتهم ابن عباس.
ومنشأ ذلك أنه - على أثر وقوع هذه الحوادث - كان عبد العزيز قد بادر بالاستيلاء على المرية بدعوى أن من حقه أن تئول إليه، لأن زهيرا كان من الأمراء التابعين لأسرته، وهو يخشى أن يطلق سراح ابن عباس والذين معه فينازعوه في هذا الحق. ولم يدر باديس إلى أي الجانبين يميل، فإن الطمع في ثروة ابن عباس، وحب الانتقام منه، كانا يتنازعان فؤاده.
وفي مساء ذات ليلة، بينما باديس وأخوه يتنزهان على صهوتي جواديهما خارج المدينة، إذ طلب باديس من أخيه أن يصرح له برأيه فيما عرضه ابن عباس عليه من الفدية، فقال له: «إنك عندما تقبل دنانيره، وتفك أسره، يثير عليك حربا تكلفك ضعف ما تأخذه من الفداء، وعندي أنه يجب أن تودي بحياته وشيكا.»
ولما عاد من المتنزه بادر باديس إلى استدعاء أسيره وأخذ يعدد عليه أخطاءه، وما بدر منه من ألفاظ جافة مقذعة، وابن عباس مستسلم مصيخ بسمعه لما يوجهه إليه من جارح القول.
ولما فرغ الملك من كلامه، قال ابن عباس: «أتوسل إليك يا مولاي، بكل عزيز عليك أن ترحمني وتنقذني من آلامي.»
فقال له باديس: «سأريحك من آلامك اليوم.»
ولمح باديس على أسارير أسيره الحزين الممتقع اللون، بصيصا وشعاعا من الرجاء، فصمت لحظة يسيرة، ثم استأنف كلامه، وكشر عن أنيابه بابتسامة فيها كل معاني الانتقام والوحشية، وقال له: «إنك لا محالة ذاهب الآن إلى حيث تزيد آلامك.» •••
وتراطن مع أخيه بلغة البربر التي لا يفهمها ابن عباس. ومن كلام باديس الأخير وابتسامته الرهيبة، وشكله المروع الغاضب، لم يبق عند ابن عباس شك في أن ساعته الأخيرة قد دنت، فجثا على ركبتيه وقال: «أستحلفك بالله أن تبقي على حياتي وتشفق على زوجاتي، وترحم أولادي الصغار، ولك أن أقدم ثلاثين ألف دوكا بل ستين ألفا.»
وكان باديس مصغيا لكلامه، لا ينبس ببنت شفة، ثم عمد إلى رمح قصير وطعنه به في صدره، وحذا حذوه أخوه بلقين وتبعه علي بن القروي، وانهالوا عليه بالطعنات، ولم تنقطع استصراخاته وتوسلاته، إلا بعد أن برد في مصرعه عند الطعنة السابعة عشرة.
10 •••
وسرعان ما ذاع الخبر في غرناطة بمقتل ابن عباس، ذلك الغني المتكبر المتعجرف، وقد كان سرور الإفريقيين عظيما. وكان أعظم الناس سرورا إسماعيل الذي لم يبق أمامه إلا عدو واحد خطير، وخصم لدود، هو ابن بقية. وكان «لإسماعيل» هاتف خفي يعتاده في الحلم، قد ألقى في روعه أن هذا العدو سيلقى حتفه ويلحق بابن عباس عاجلا. واليهود في هذا كالعرب، يتوهمون أن سرا من الأسرار يلهمهم وهم في نومهم بنبوءات عن المستقبل. وعاده الحلم ذات ليلة، فسمع في نومه هاتفا يردد ثلاثة أبيات بالعبرية هذا معناها: «لقد هلك ابن عباس وشيعته والملتفون حوله، وهذا الوزير الآخر الذي كان يظاهره ويتآمر معه يوشك أن يقتل مثله، ويوطأ كالجلبان ويداس، فماذا كانت عاقبة ثرثرتهما وحمقهما واعتدادهما بقوتهما؟ لقد دارت الدائرة على أحدهما، وعما قليل يلحقه الآخر، فلله الحمد والشكر.» •••
وبعد بضع سنين تحققت نبوءة إسماعيل - وسنضطر إلى ذكر مقتل هذا الوزير فيما بعد - وصح الآن أن الشعور بالخوف، أو الحب، يجعل في الشخص سرا غريبا يدرك به بعض الأمور الغيبية.
الفصل الثالث
في الوقت الذي باغت فيه باديس زهيرا وجنى عليه، كان قد أدى - مرغما، وبدون قصد منه - خدمة جليلة للحليفين اللذين اعترفا بهشام المزعوم كخليفة. وقد ذكرنا أن عبد العزيز
1
أمير بلنسية، استولى على إمارة المرية، ولم يكن في استطاعته في الواقع أن يمد حليفه - قاضي إشبيلية - لاضطراره للدفاع عن مملكته ضد إغارة مجاهد
2
الذي كان يرى - بعين الحسد - اتساع مملكة جاره وما كان القاضي ليخشى وقوع حرب بينه وبين المرية فاطمأن من هذه الناحية.
وبدأ يفكر في مهاجمة البربر مبتدئا بمحمد
3
أمير قرمونة لنزاع قام بينهما، وكان في الوقت نفسه يتآمر سرا مع فريق من الغرناطيين، ويبادلهم الرسائل، ويعمل على إشعال نار الثورة بها. •••
وبدأ كثير من أهل غرناطة يظهرون نفورا واستياء من باديس. ويرجع هذا إلى ما قطعه على نفسه من عهود ووعد به من أماني معسولة، في بدء توليه الحكم، وعلى أثر ذلك صار يبدو قاسيا غليظ القلب شيئا فشيئا، ويظهر بمظهر الخائن اللئيم السفاك، وعكف على الشراب، فعم الاستياء منه، وأخذ الناس يلومون ويتألمون، ويشكو بعضهم إلى بعض، ثم أخذوا يتمتمون خفية ويتناجون، ثم صرح الشر فعادوا يتآمرون. •••
وكان زعيم هذه المؤامرة وروحها رجل أفاقي يقال له أبو الفتوح.
ومن حديث هذا الرجل أنه ولد بعيدا عن إسبانيا من أسرة عربية كانت في جرجان.
وقد تلقى الأدب والفلسفة والفلك على أشهر أعلامها ببغداد، فكان عالما مستبحرا، وأديبا شاعرا، وفوق ذلك كان فارسا كميا، وشجاعا باسلا، يمتطي الجواد الأصيل، وينتضي السيف الصقيل.
هبط أبو الفتوح أرض إسبانيا سنة 1015 ليجني ثروة على الراجح. وبعد مدة اتصل بجناب مجاهد دانية، وكان هذا الأمير عالما لغويا وجرت بينهما مباحثات في الأدب، واشتغلا معا بشرح «المجمل» في النحو، ثم قاتل في صف أمير سردينيا.
وكثيرا ما كان يعالج المسائل الفلسفية العويصة ويحاول استكناه المستقبل بواسطة علم النجوم وسير الكواكب. ثم رحل إلى سرقسطة مقر المنذر، فرحب به هذا الأمير أولا، ثم اتخذه صديقا، وعهد إليه بتأديب ابنه. ولكن يؤخذ مما رواه المؤرخ العربي الذي ننقل عنه ها هنا، أن العهد قد تغير، وتغير معه الأشخاص، إذ أبلغه المنذر يوما، أنه في غنى عنه، وأن عليه أن يبرح سرقسطة.
فرحل أبو الفتوح إلى حيث تطيب له الإقامة في غرناطة، وجلس للتدريس، فكان يلقي محاضرات عن الشعر القديم، وبخاصة ديوان الحماسة، وكان إلى جانب هذا العمل العلمي، يقوم بعمل آخر، هو التنبؤ بالمستقبل، وقد خلق أعداء كثيرين لباديس حين تنبأ على أحكام النجوم، بأن ياسر ابن عمه يطمع في الملك، وأن باديس سيفقد عرشه، ويتبوءه ابن عمه مكانه ثلاثين عاما. •••
وكانت نتيجة هذه النبوءة أن وفق إلى تدبير مؤامرة اكتشفها باديس قبل حلول الموعد المحدد لتنفيذها، وتمكن أبو الفتوح وياسر، وأركان المؤامرة، من الفرار إلى خارج المملكة، حذرا من انتقام باديس، ولجئوا إلى قاضي إشبيلية، الذي كان - لا ريب - شريكهم في هذه المؤامرة. ومحال أن نعرف إلى أي حد كان نصيبه فيها.
وفي هذه الفترة هاجم القاضي بجيشه الذي جرت العادة بأن يقوده ابنه إسماعيل، خصمه محمدا أمير قرمونة، فانتصر انتصارا باهرا واضطرت مدينتا «إشبونة» و«أستيجة» إلى التسليم، وحوصرت قرمونة نفسها.
ولما اشتد الضيق بمحمد أمير قرمونة، طلب المدد والعون من إدريس أمير مالقة، ومن باديس كذلك، فلبيا طلبه. ولما كان إدريس مريضا، أرسل جنوده - بقيادة وزيره ابن بقية - وقاد باديس جيشه بنفسه وتلاحق الجيشان، وانضما إلى بعضهما.
وكان إسماعيل واثقا كل الثقة من بسالة جنده، ووفرة عددهم، فوطن نفسه على منازلة خصومه. ولكن باديس، وابن بقية
4
حين حسبا أن خصمهما يفوقهما، أو يدانيهما عددا، أبيا أن يشتبكا معه في القتال، وآثرا أن ينسحبا ، ويتركا أمير قرمونة برهة، فعاد أولهما أدراجه إلى مالقة.
ووصل الآخر بجنوده إلى غرناطة، واقتفى إسماعيل في الحال أثر الغرناطيين. وكان من حسن حظ باديس، أنه بعد أن فارقه ابن بقية بنحو ساعة، أرسل إليه رسولا على جناح السرعة يستنجده وإلا سحق جيشه في لمحة بجنود إشبيلية، فطار إليه باديس ووقف الجيشان على مقربة من «أستيجة»، على تمام الأهبة والاستعداد للقاء عدوهما، بثبات ورباطة جأش.
وقد وهم الإشبيليون، إذ حسبوا أنهم إنما يتعقبون جيشا منهزما، فإذا بهم أمام جيش كامل العدة والعدد، فأفقدتهم تلك المفاجأة قوتهم المعنوية.
ووقع في صفوفهم الاضطراب عند الصدمة الاولى، وعبثا حاول إسماعيل تعبئة الجيش للقتال، وبرز أمام الصفوف فكان أول الذاهبين ضحية المعركة، فلم يسع الإشبيليين إلا الفرار طلبا للنجاة.
وملك باديس ناصية الحال بعد هذا الانتصار البسيط المفاجئ، وبينما هو في معسكره قرب «أستيجة» عرته دهشة إذ وجد أبا الفتوح قد انحنى أمامه متراميا على أقدامه. وكان الذي حدا هذا الرجل إلى تلك المحاولة الخطرة، أنه حين عجل بمغادرة غرناطة - خوفا على نفسه من باديس - ترك للقضاء أمر زوجه وولده الصغير وبنتيه، وكان قد وصل إلى علمه أن باديس أرسل إلى «قوادم» الزنجي، فألقى القبض على زوجه وأولاده بوساطة خواصه المقربين إليه، وأودعهم السجن. وكان معروفا بأنه شديد الشغف بزوجه الغادة الأندلسية الفتية، كثير الحنو على ابنه الصغير وبنتيه، بحيث لا تطيب له الحياة دونهم. •••
وقد خشي أن ينتقم باديس منهم في شخصه، فجاء يلتمس الصفح عن زلته، وهو يعلم ما ركب في طبع عدوه من حب الانتقام، وما جبل عليه من الظلم والجبروت. جاء على أمل أن يرق له، ويعطفه عليه ما عطفه على عمه والد الزعيم الفار الذي كان رأس شركائه في المؤامرة.
وحين جثا أبو الفتوح أمام باديس قال له أبو الفتوح: «مولاي، حنانيك ورحمة بعبدك الجاني أمامك، وأنا أحقق لك ما تقطع معه أني بريء مما عزي إلي.»
فكاد باديس يتميز غيظا وحنقا، وصرخ في وجهه وعيناه يتطاير منهما الشرر : «كيف استطعت يا هذا - مع شناعة جرمك - أن تمثل أمامي؟ لقد بذرت بذور الشقاق بين أفراد أسرتي، ثم جئتني الآن تزعم أنك بريء مما جنته يداك! أتحسب أنه من السهل عليك أن تخدعني؟»
فقال له: «مولاي، أقسم عليك إلا ما رحمتني. ولا تنس أنك غمرتني بإحسانك وشملتني بحسن رعايتك، وهذه البلاد التي أنا ربيب نعمتها من العسر الشاق علي أن أفارقها. وفي الوقت الذي أبعد فيه عنها أكون تعسا شقيا. ولا أكذب مولاي الحديث فإني ما فررت حين فررت مع ابن عمك، إلا لما تأكد بيننا من صلات يعرفها مولاي، وأخشى أن يحل بي العقاب كشريك له في الجرم، وها أنا ذا بين يدي مولاي أعترف بالفرار وأكرر أن الذي ألجأني إليه محض الصداقة، وأؤكد أني بريء، وأطمع في عفو مولاي وصفحه، وأنتظر أن يعاملني كملك عظيم ومولى كريم لا تحمل نفسه الكبيرة حقدا على صغير مثلي، فارحم لهفتي، ورد إلي أسرتي، وعاملني بما أنت أهله.»
فقال له: «سأعاملك - إن شاء الله - كما تحب، وبما أنت خليق به، فارجع إلى أهلك بغرناطة، وسأنظر في شأنك عند عودتي إليها.» •••
واطمأن أبو الفتوح إلى هذا الكلام الذي لم يدرك مراميه لأول وهلة، وسار إلى غرناطة يحرسه فارسان. ولما كان بظاهر المدينة أرسل «قوادم» الزنجي - تنفيذا لأمر مولاه - بعض غلمانه، فألقوا القبض عليه، وحلقوا رأسه ولحيته وأركبوه جملا، وأردفوه زنجيا جلدا استمر يصفعه على التتابع، والجمل يطوف به أحياء المدينة ويجوس به خلال ديارها حتى أفضوا به إلى السجن حيث أودعوه في غرفة من غرفه ضيقة لبث فيها هو وجندي من البربر أسر في معركة «أستيجة» وكان أحد شركائه في المؤامرة. •••
وعاد باديس بعد أيام إلى غرناطة ولم يكن قد بت في أمر أبي الفتوح بشيء، ولم يستطع أن يصنع به كما صنع بابن عباس لأن أخاه بلقين حال دون ذلك، ولم يعرف السبب الذي جعله يهتم بشأن هذا الفيلسوف إلى هذا الحد، إذ عمد إلى إظهار براءته، ودافع عنه بكل قوة حتى خيف أن يفضي ذلك إلى الاستياء. ولهذا تردد باديس في الفصل في أمر أبي الفتوح إلى أن حدث أن سكر مرة بلقين كما يقع ذلك كثيرا مع أخيه باديس فأمر أخوه بلقين - وهو في غفوة الشراب - بإحضار أبي الفتوح وزميله المرافق له في السجن، وحين وقع عليه نظره أشبعه سبا شنيعا وإيلاما وتقريعا، وقال له: «وهل صدقتك كواذب الطوالع أيها المنجم الخائن الكاذب، وما هي الفائدة التي عادت عليك الآن؟
ألم تعد أميرك ذلك السافل المغرور الذي خدعته، ومنيته الأماني الكواذب المعسولة أني سأكون تحت سلطانه؟ وأنه سيظل في الحكم ثلاثين عاما، فلماذا لم تر نحس طالعك حين بدا لك سعد طالع أميرك، حتى كان يتسنى لك أن تتفادى ما حل بك من هذه المصائب الأليمة؟ إن حياتك الآن أيها الأفاك الأثيم رهن يميني.» •••
فلم ينبس أبو الفتوح بكلمة لأنه ما غامر بحياته إلا طمعا في لقاء زوجته المعبودة، وطفله وبنتيه المحبوبتين، ولأن عاطفته الملتهبة نحو أهله هي التي أكرهته على المغامرة بحياته والاستشفاع والتوسل إلى باديس واختراع الحيل والأكاذيب. أما الآن وقد صار على يقين من أن ذلك الطاغية الجبار لا محالة قاتله، فقد استعاد إليه حواسه، وتلقى زئير باديس وزمجرته بهدوء ورباطة جأش.
واستعاد إلى نفسه عزتها وكرامتها، وظهر طبعه المتين، وخلقه الرصين بالمظهر الحقيقي، فأطرق مليا، وشاعت على شفتيه ابتسامة مطمئنة ساخرة، وصمت صمت من يشعر بكرامة نفسه وعزتها. وقد زاد هذا الموقف الشريف الهادئ من استعار نار الغضب عند باديس فأرغى وأزبد، وكاد يتميز من الغيظ، فأسرع إلى سيفه فاستله من غمده، وأغمده في صدر ضحيته، فتلقى الضربة دون أن يبدي حراكا أو يظهر أنينا مما جعل باديس يصيح صيحة المتعجب من هذا الرجل، وهو يلفظ النفس الأخير، ويستقبل الموت بصمت عميق، ورباطة جأش، ونادى الجلاد أن اقطع رأسه، وارفعه على رمح عبرة لغيره، وادفن جثته إلى جانب ابن عباس كي يرقد عدواي كلاهما في مرقدهما الأخير جنبا لجنب إلى أن تقوم الساعة. •••
والتفت إلى الجندي الأسير بعد أن فرغ من ضحيته الأولى، وقال له: «والآن جاء دورك فاقترب أيها الجندي.» فجزع البربري، واضطرب اضطرابا شديدا، وجعل يصيح ويستشفع، ويستغيث، وجثا على ركبتيه يستغفر باديس بكل ما في استطاعته ليبقي على حياته، ولكن باديس قال له: «هل ذهب منك الحياء أيها الشقي؟ ألم تر إلى ذلك المنجم الحكيم، كيف تلقى الموت - بكل ثبات - فمات كريما عزيزا، لم تبدر منه كلمة تشف عن جبن، فكيف وأنت جندي قديم معدود في عداد الجند البواسل تصل إلى هذا الحد من الجبن؟ إنك إذن لا تستحق رحمة ولا هوادة.»
وضرب عنقه في (20 أكتوبر سنة 1039). •••
ثم وريت جثة أبي الفتوح التراب كما أمر باديس إلى جانب ابن عباس وحزن لمقتله جماعة العلماء والأدباء النابهين في غرناطة وصاروا كلما مروا بقبر هذين الرجلين العظيمين يتهامسون: «لله قبر يضم رجلين حكيمين أبيا أن يقيما على الضيم والذل، فماتا كريمين رحمهما الله رحمة واسعة. والبقاء لله وحده.»
الفصل الرابع
أخذ طاغية صنهاجة وجبار غرناطة يقوي نفوذه شيئا فشيئا إلى أن أصبح زعيم حزبه السياسي على رأس البربر
1
ولم يكن يعترف للخلافة الحمودية بمالقة إلا بمجرد السيادة الاسمية، وقد بلغ الحموديون الغاية في الضعف حتى جعلوا لوزرائهم السلطان عليهم، وكان بعضهم يعمد إلى إهلاك بعض، إما بتجريد السلاح أو دس السم. وهم عوضا عن أن يوجهوا نظرهم إلى أتباعهم من أمراء البربر الأقوياء فيشدوا بهم أزرهم كانوا يركنون إلى الدعة، ويرون السعادة كل السعادة في أن يظفروا بالحكم في مالقة، وطنجة، وسبتة، وإن فقدوا النفوذ في البلاد التي تخطب باسمهم على المنابر. •••
وكان ثمة خلاف كبير بين بلاطي غرناطة ومالقة، ففي غرناطة كان البربر وعلى رأسهم باديس ووزيره إسماعيل يعملون لصالحهم وهم على وفاق تام في الخطط ووجهات النظر، وفي مالقة كان الأمر على النقيض من ذلك، لوجود الصقالبة الذين تتنافر مصالحهم مع مصالح البربر، هذا إلى ما وقع للصقالبة أنفسهم من التحاسد والتطاحن، واستعانة بعضهم على بعض بأعدائهم من النصارى، وهذه العوامل بعينها هي التي كانت سببا في سقوط الدولة الأموية.
وقد حدث أن الخليفة الحمودي إدريس الأول كان مريضا في الوقت الذي جرد فيه جيوشه على جند إشبيلية، وقد أسلم الروح بعد أن وصل إليه الخبر بمقتل إسماعيل في معركة «أستيجة» بيومين، فاختلف الوزير البربري مع الوزير الصقلبي على تعيين الخليفة، فالأول يريد أن يتبوأ عرش الخلافة يحيى بن إدريس البكر، لتكون السلطة في يده وليقوم هو بالأمر، والوزير الصقلبي يعارضه في ذلك ولا يقره عليه. ولما كان هذا وزير الممتلكات الإفريقية قام بالبيعة لحسن بن يحيى ابن عم يحيى وأعد العدة ليجوز البحر به إلى مالقة. وقد أذعن لخطة الوزير الصقلبي وزير البربر لتردده وقلة ثباته، وكان من جراء التردد والتواني في أخذ الحيطة أن أهمل التدبير اللازم للدفاع في الوقت المناسب، فرأى بغتة الأسطول الإفريقي وقد ألقى مراسيه في مياه مالقة، فعجل بالفرار مع الخليفة الذي كان يريد أخذ البيعة له. •••
ولما استقر حسن بعاصمة ملكه أرسل وزيره إلى وزير البربر يمنحه العفو، ويرغبه في العودة، فوثق بكلامه، وعاد ليلقى حتفه، وقد تحققت النبوءة التي كان إسماعيل اليهودي رآها في منامه، وبعد ذلك قتل المدبر لدولة حسن أيضا وهو «نجاء» الذي ارتكب الجريمة كما ذهب إلى ذلك بعض المؤرخين، كما أن حسنا كان جديرا بأن يقتص منه، فقد قتل مسموما بيد زوجه شقيقة يحيى المسكين، ومن ذلك الحين أراد «نجاء» أن يزيد في نفوذه، فرأى أنه ليكون كملك مستأثر بالحكم يجب أن تكون السلطة في يده وحده، وأن تكون سيادة الخليفة اسمية، فعمد إلى قتل ابن حسن، وهو في ريعان الشباب، وزج بشقيق إدريس في غياهب السجن، وبعد أن تم له ما أراد من ذلك عرض نفسه على البربر كخليفة، وأغراهم بالوعود البراقة ليجتذبهم إلى جانبه، ولكن البربر كانوا ينطوون على ألم ممض، وغيظ كامن في الصدور، من جراء جرأته البالغة، وطمعه في منصب الخلافة طمعا يمس بالدين، فإنه كان يظهر للسلالة الهاشمية احتراما مزيفا يوقع في الريبة والشك. وعلى أثر ذلك فكر البربر في الانتقاض عليه والاقتصاص منه، وأخذوا يتربصون به الدوائر ويتحينون له الفرص، ولكي يخفوا ما انطووا عليه من البغضة وإضمار الشر، تظاهروا بإجابته إلى غرضه، وصارحوه بأنهم طوع أمره، وأقسموا له اليمين، وبايعوه على الطاعة والنصرة. ورغب «نجاء» حينئذ في انتزاع الجزيرة من محمد الخليفة الحمودي الذي كان يحكمها، وجرد عليها جيشه والتحم الفريقان، ولكن حدث في المعارك الأولى التي دارت رحاها مع العدو أن لاحظ الوزير الصقلبي أن البربر يقاتلون بتراخ، وأنه ليس في الإمكان التعويل عليهم، فرأى من الحكمة أن يصدر أمره للجنود بالارتداد، واعتزم أن ينفي عند عودته إلى العاصمة البربر الذين تحوم حولهم الشكوك والريب، وأن يجذب إليه العنصر الصقلبي بقوة المال، وأن يلف حوله من الصقالبة أكبر عدد ممكن، ولكن أعداءه الألداء من البربر عرفوا خطته، وتبينوا ما يرمي إليه، وانتهزوا فرصة مروره بالجيش وسط مضيق محصور، فانقضوا عليه وقتلوه في غرة (5 فبراير سنة 1043).
2 •••
وعلى أثر مقتل ذلك الغاصب لم يستطع البربر أن يخفوا صيحات الفرح والسرور التي كانت تتصعد من أعماق صدورهم. ووقع الاضطراب الشديد بين الجنود، فأركن الصقالبة إلى الفرار مخافة أن يصيبهم مثل ما أصاب زعيمهم المقتول، وأسرع فارسان من القتلة إلى مالقة ينهبان الأرض على جواديهما، ولما بلغا المدينة أخذا يصيحان بأعلى صوتهما: «بشراكم، بشراكم: لقد قتل المتوثب الغاصب.»
ثم أدركا صاحب شرطة «نجاء» فأردياه قتيلا، وعمدا إلى إدريس شقيق حسن فأخرجاه من السجن، وأقاماه خليفة، ومن ذلك الحين طويت صحيفة من تاريخ الصقالبة في مالقة، على أن السكينة التي استتبت فيها، والطمأنينة التي لابستها زمنا لم تدم طويلا.
لم يكن إدريس الثاني في الحقيقة قوي الدهاء كبير العقل، ولكنه كان وديع النفس، كريم الخلق، طيب القلب، خيرا تقيا، يصرف جميع أوقاته في عمل البر وفعل الخير، ولو أن الأمر كان بيده وحده لما بقي في بلاده رجل واحد يئن من الفقر ويشكو الحاجة، وقد مكن المنفيين والمبعدين - مهما كانت جنسياتهم وأحزابهم - من العودة إلى أوطانهم، ورد إليهم ما أخذ من أملاكهم، وما كان يصيخ بسمعه إلى الوشايات والسعايات. وكان جوادا سمحا ينفق على الفقراء والمعوزين كل يوم خمس مئة دوكا، وكان - لرقة طبعه وسذاجة قلبه - يعطف على عامة الشعب، ويميل إلى التحدث إليهم، ولا يحجب جواريه عنهم، مما تنبو عنه تقاليد الملك ورسوم الخلافة. •••
ولما كان «الحموديون» من سلالة الرسول
صلى الله عليه وسلم
فقد كان عامة الشعب يرفعونهم إلى درجة التقديس، ويرونهم في أعينهم كأنصاف آلهة. ولكي يزيدوا من عقيدة الشعب رسوخا، ويكسبوا محبتهم، ويشعروا قلوبهم المهابة والاحترام لهم، كانوا يظهرون أمامهم في الأوقات القليلة النادرة، وقد حاطوا أنفسهم بالأسرار.
وكان إدريس - على ميله إلى البساطة والتحرر من التقاليد المرعية - يضطر إلى أن يأخذ بالقواعد التي سنها سلفه من الخلفاء، ومن ذلك أنه كان يختفي عن عيون محدثيه فلا يكلمه إنسان إلا من وراء حجاب. ولكونه مثال البساطة المجسمة كان ينسى هذا التقليد، ويغفل هذه السنة التي درج عليه سلفه، فقد حدث يوما أن شاعرا من «إشبونة» كان ينشده قصيده يمتدح فيه كرمه، ويشيد بطيب عنصره، وشرف أرومته، وكرم محتده، وقد جاء فيه بلهجة أهل الجهات الغربية من جزيرة الأندلس قوله:
وكأن الشمس لما أشرقت
فانثنت عنها عيون الناظرين
وجه إدريس بن يحيى بن علي
بن حمود أمير المؤمنين
3
يا بني أحمد يا خير الورى
لأبيكم كان وفد المسلمين
نزل الوحي عليه فاحتبى
في الدجى فوقهم الروح الأمين
خلقوا من ماء عدل وتقى
وجميع الناس من ماء مهين
انظرونا نقتبس من نوركم
إنه من نور رب العالمين
وكان الخليفة يستمع إلى مادحه من وراء ستار، وكانت رسوم الخلافة لا تسمح بقبول رجاء هذا الشاعر، إلا أن الخليفة فعل ما لم تجر به العادة، وقال لحاجبه: «ارفع الستار.»
فكان هذا الشاعر أسعد حظا من عشيقة «جيوبيتر» التي ذهبت ضحية ميلها إلى رؤيته، حيث رأى ما ينبعث عن ذلك المحيا من النور الذي - وإن لم يكن سناه يذهب بالأبصار ويبهر الأنظار - فهو على الأقل يطبع في ذهن من يجتليه وينظر إليه أجمل صورة من صور السماحة والإحسان وطيب القلب، وربما كان هذا أحمد أثرا في نفسه مما لو عاين من صورته الحسية مشرقا من مشارق الأنوار، وشاهد تلك الصفات التي ذكرها في شعره. ومن المحقق أن الخليفة أجازه بجائزة سنية وانصرف شاكرا مسرورا. •••
ومما يؤسف له نظرا لمركز الخلافة وأمن الدولة أن إدريس كان يضم إلى سماحة النفس وطيب القلب، وصفا آخر هو التناهي في الضعف والمواتاة والاستسلام، ففي استطاعته أن يوافق ويسلم بكل ما يراد ويطلب منه كائنا ما كان، فلو أن أميرا من الأمراء الذين يستظلون بحكمه - كباديس أو غيره - طلب إليه أن ينزل له عن قصر الخلافة أو يهبه أي أمر آخر لفعل، وقد حدث أن باديس بعثه إليه ملحا أن يرسل وزيره ويمكنه من التنكيل به لضغينة في نفسه، فصرح إدريس لوزيره الذي يحقد عليه باديس أنه كاتبه في شأنه وطلب أن يسلمه إليه وأنه لا بد فاعل حيث لا يستطيع أن يرفض طلبه، فأذعن الوزير لحكمه ولم يشفع له عند إدريس أنه الخادم الأمين القديم لأسرته، وقال: «لك يا مولاي أن تفعل ما يريده هذا الطاغية، وعلي أن أستسلم لما يأتي به القضاء، وما يخبؤه لي القدر، وسترى أني ملاق حتفي غدا وسأقابله باستسلام ورباطة جأش وقدم ثابتة.»
وقضي الأمر، ووصل وزير إدريس إلى غرناطة حضرة مملكة باديس فأمر به في الحال فضربت عنقه، وكان هذا الضعف الظاهر من إدريس مما أحفظ عليه البربر وأوغر صدورهم، كما أغضبهم من قبل لينه المفرط، وعطفه الذي كان يبديه للشعب بنزعاته الاشتراكية. بهذا تحرجت الحالة وانطوت قلوب البربر على بغض هذا الخليفة الضعيف المستسلم وكراهته، ولما كان أولئك الزنوج يطغيهم الضعف ويغريهم اللين، ولا يردعهم إلا إعمال السيف في رقابهم، وإنضاج جلودهم بالسياط، وتعليق المشانق لإزهاق أرواح مجرميهم، لم يزدهم ذلك إلا استخفافا بالخليفة وازدراء به وجرأة عليه، ذلك الخليفة الذي لم يصدر قط حكم على أحد بالقتل في زمنه، فلا جرم إذا كان الاستياء عاما شاملا، ولا غرابة في أن يحدث رئيس حصن «إيرش» ثورة في داخله، ويطلق صاحب شرطته سراح ابني عم إدريس وينادي بمحمد البكر منهما خليفة، ولا في أن يثور الزنوج الذين يؤلفون حرس قصر الخلافة بمالقة، ويهيبوا بمحمد أن يكون بينهم، على أن السواد الأعظم من أهل مالقة لم يتخلوا عن خليفتهم في ساعة الخطر المحدق والبلاء الداهم، إذ كانت قلوبهم تفيض حبا وعطفا على خليفتهم الخير المحسن، فسارعوا إلى نجدته، وطلبوا أن تخرج لهم الأسلحة من دار السلاح، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلا ولو أنهم كانوا متقلدي السلاح في ذلك الوقت لم يبق من الزنوج الثائرين أحد في القصر، وقد أبى إدريس أن يمكنهم من السلاح حقنا للدماء وإطفاء للنائرة وشكر لهم هذه العاطفة، وخاطبهم بقوله: «عودوا إلى دوركم فإني لا أرغب في أن يسفك دم من أجلي.»
وبهذا لم تقم أية عقبة في سبيل إقامة محمد خليفة مكان إدريس الذي حل محله في حصن «إيرش»، وبهذا تبادل كل منهما مكان الآخر (1046-1047).
ولم يكن الخليفة الجديد على شاكلة سلفه، بل نزع لأمه، وهي حسناء باسلة، يطيب لها العيش في الخلاء حيث تشاهد عن كثب الاستعداد للقتال، وإدارة المعارك الدموية، وضرب الحصار على الحصون المنيعة، وحيث تنثر على الجند من درر كلامها، وصرر نقودها ما يلهبهم حماسة وشجاعة ونجدة، وقد بلغ محمد في البسالة والإقدام شأوا بعيدا، وكان مع هذا قاسيا غليظ القلب سفاكا للدماء، وإذا كانت القوة قد أعوزت إدريس فإن محمدا (على رأي محدثي الثورة) كان له من البأس والقوة أوفر نصيب، وقد كان مثله في ذلك مثل الضفدعة التي طلبت من «جيوبيتر» أن يقيمها ملكة على مملكة الضفادع، وعالم الضفادع هذا كما أسماه «لافونتين» هو جماعة البربر والعبيد، أولئك الذين لم يلبثوا إلا قليلا حتى حنقوا على الخليفة الرهيب، وحملوا له الإحن في صدروهم، وندموا على سلفه الوادع المسالم الذي كان وجوده كلا وجود.
وسرعان ما دبرت مؤامرة، وشرع مدبروها يتفاوضون مع رئيس حصن «إيرش» الذي سارع إلى الانضمام إليهم بسهولة فأخرجوا إدريس الثاني من السجن، ونادوا به خليفة. •••
وفي هذه الآونة لم يحجم إدريس عن إثارة حرب أهلية؛ لأن ما عاناه في سجنه ذهب بما كان في نفسه من نزعات شريفة، واتفق أن محمدا - وقد ألهبته أمه حمية وحماسة - قاتل خصومه ببسالة وشدة حتى ظفر بهم وألجأهم إلى وضع السلاح، ومع هذا لم يسلموا إدريس لخصمه، بل أرسلوه لإفريقية، وتولى الأمر هناك اثنان من البربر، وهما: صاحب شرطة سبتة،
4
وصاحب شرطة طنجة فقابلاه بحفاوة وإكرام بالغين، وأخذا له في البيعة وخطبا باسمه على المنابر، على أن ذينك الرجلين استأثرا دونه بالسلطة الحقيقية، وكانا لحرصهما على الاستئثار بالسلطة والنفوذ يراقبانه عن كثب، ويحولان دون ظهوره للجمهور، واقترابه من الشعب، وقد تمكن بعض مضمري العداوة لهما من أمراء البربر أن يقولوا للخليفة: إن هذين المملوكين اعتقلاك في القصر وحالا دون أن تتولى الحكم بنفسك، فخولنا السلطة ونحن نخلصك منهما، ولكن إدريس - لوداعته - رفض اقتراحهم، وأفضى بما دار بينه وبينهم من الحديث إلى وزيريه، فصدر أمرهما في الحال بإبعاد أولئك الأمراء.
وخشي الرجلان القائمان بإفريقية أن يصغي إدريس لما يدس إليه مرة ثانية من الوشايات والدسائس فأوعزا إليه أن يرحل إلى الأندلس فجاز البحر إليها، واستقر عند صاحب رندة
5
على أنهما لم يزالا يعترفان به كخليفة ويقران الخطبة باسمه على المنابر.
وفي هذه الأثناء طلب المتذمرون في مالقة من باديس أن ينضم لمساعدتهم، فقام وأعلن الحرب بادئ ذي بدء على محمد ثم أبرم معه صلحا، ثم بايعوا أمير الجزيرة الخضراء، واسمه محمد أيضا، ونادوا به خليفة، وكان الخلفاء بالأندلس إلى هذا العهد أربعة، وهم: الخليفة المزعوم المشبه بهشام في إشبيلية، ومحمد في مالقة، ومحمد صاحب الجزيرة، ثم إدريس الثاني المستقر في رندة.
ولم يكن لاثنين منهما في الحقيقة شيء من النفوذ والسلطان، أما الآخران فكانا أميرين صغيرين لا خطر لهما، ولا يستحقان أن يحملا لقب الخلافة ولا أن يتسمى كل واحد منهما بأمير المؤمنين.
أما أمير الجزيرة فقد فشل في هذه المحاولة، وانفض من حوله الداعون له باسم الخلافة، فعجل بالعودة إلى بلاده، ومات بعد أيام قلائل أسى وخجلا (1048-1049).
وبعد أربع أو خمس سنوات توفي محمد الخليفة القائم بمالقة، وتطلع إدريس الثالث أحد أبناء أخيه إلى منصب الخلافة، ولكنه لم ينجح هذه المرة، وأقيم إدريس الثاني خليفة، وشاءت الأقدار أن تسالمه فبقي في هدوء وطمأنينة إلى أن قضى نحبه سنة (1055).
وأراد حمودي آخر أن يخلفه في الحكم فناوأه باديس وقضى على آماله.
ولما كان باديس صاحب غرناطة هو الرئيس الحقيقي للبربر، فقد كره أن يرى أمامه خليفة تستظل بلاده بحكمه، ومن ذلك الحين عقد النية على أن يقضي على الحموديين، وأن يدمج مالقة
6
وأعمالها ضمن ولاياته، وقد أمضى عزيمته هذه، وأنفذ مشروعه دون أن يصادف عوائق كبيرة.
إلا أن العرب لم يكونوا ليذعنوا لسلطانه إلا على كره منهم لذلك، ولما كان قد كسب إلى جانبه أمثال الوزير أبي عبد الله الجذامي لم يحفل بالباقين، أما البربر فكانوا مقتنعين بضعف أمرائهم، وبأن الضرورة تقضي عليهم بأن ينضموا إلى إخوانهم من بربر غرناطة، ليتقووا بهم، ويستطيعوا أن يواجهوا الحزب العربي الذي يزداد كل يوم قوة وتوسعا في الجانب الغربي الجنوبي، لهذا كله ناصروا باديس وأيدوا خططه ومشروعاته ولم يعارضوها، وأصبح باديس بفضل عون البربر والتفافهم حوله ملكا على غرناطة ومالقة وما يتبعهما من أعمال،
7
وتمكن من نفي الحموديين والقضاء عليهم، وهم وإن كانوا قد لعبوا دورا آخر في إفريقية إلا أن دورهم الذي مثلوه في الأندلس كان قد انتهى.
الفصل الخامس
لكيلا نقطع تسلسل الحوادث في هذه العجالة اليسيرة عن تاريخ مالقة اضطررنا لأن نلم بالحوادث إلمامة يسيرة، ولما كنا سنلقي نظرة على التقدم الذي أحدثه الحزب العربي في غضون هذه المدة، فمن واجبنا أن نعود إلى بعض حوادث السنين الماضية.
لما توفي أبو القاسم محمد قاضي إشبيلية في أواخر يناير سنة 1042 خلفه ابنه عباد، وكان في السادسة والعشرين من عمره، ولقب حينئذ بالحاجب أي الوزير الأول لهشام الثاني، واشتهر بعد ذلك في التاريخ باسم المعتضد، ولو أن هذا الاسم لم يطلق عليه إلا بعد فترة من الزمن، فإنا سنطلقه عليه الآن تفاديا مما عساه أن يقع في اللبس عند تغييره.
إن هذا الزعيم الجديد للحزب العربي في الجنوب الغربي من الجزيرة، قد حقق بشخصيته القوية الفتية لهيئة من الهيئات الحزبية القوية ما لم تحققه الشيخوخة اللدنة الضعيفة، فقد كان في كل الشئون المنافس الجدير لخصمه باديس زعيم الشعبة البربرية المعارضة.
كان هذا الزعيم الجديد كمنافسه كثير الشكوك حقودا غادرا لئيما ظلوما جبارا قاسيا سفاكا للدماء، وكان مدمنا للخمر مثله، إلا أنه قد بزه في الخبث والدعارة، وكان ثائر الطبيعة جامح الشهوة، يواصل اللذات ولا ينقطع عن الشهوات، حتى إنه لم يجتمع في قصر ملك من الملوك ما اجتمع في قصره من الحظيات والسراري. يقال إنه دخل قصره - على التتابع - ثمان مئة من الشواب والصبايا الحسان.
وبالرغم من التوافق بين هذين الملكين في كثير من النزعات الشريرة والشهوية، فإن أخلاقهما وميولهما وعاداتهما لم تكن متوافقة في نواح كثيرة.
فأمير البربر كان من البربر أو أقرب إلى خشونة البربر منه إلى شيء آخر، ساخرا من آداب اللياقة، بعيدا عن الحصافة والثقافة، لا يعنى بأساليب الحضارة، ولا يترك لها عادات البداوة، ولم يكن الشعراء لتطأ أقدامهم أبهاء الحمراء ليمتدحوا بالشعر العربي ملكا لا يعرف غير رطانة البربر.
أما المعتضد فقد كان على النقيض من ذلك، قد أخذ بطرف مناسب من الثقافة والتعليم الحسن، ولم يكن - في الحقيقة - قد توسع في العلوم حتى يكون جديرا في زعمه أن يوضع في مصاف العلماء ويستحق لقب عالم، ولكنه أوتي من المواهب، ودقة الشعور، ولطف الإحساس، وسلامة الذوق، وحدة الذكاء، وقوة الذاكرة، ما جعله يعلم ما لا يعلمه رجل عادي.
وشعره الذي نظمه قصائد ومقطعات له قيمته إذا أريد الوقوف على كنه أخلاقه، بغض النظر عن قيمته اللغوية والأدبية، على أن هذا الشعر قد أكسبه بين مواطنيه مكانة شاعر مجيد
1
وكان محبا للأدب شغوفا بالفنون أريحيا جوادا يغمر الشعراء بالعطاء الكثير ، على المديح القليل، له ولع شديد بتشييد القصور الفخمة، وكانت أساليبه في الظلم مقرونة بشيء من المهارة، ينهج في ذلك منهج خليفة بغداد الذي انتحل لنفسه لقبه، واختط في أحكامه خطته، بينما كان باديس لا يعرف من أمر هذا الخليفة شيئا بل ربما كان يجهل العصر الذي كان فيه.
وكلا الملكين كان مولعا بشرب الخمر كما عرفت إلا أن باديس - لخشونته وجفاء طبعه - كانت تتمثل في مجلس شرابه الوحشية والجفاء، وكان لبربريته الجافية لا يمنعه الخجل أن يسف في شرابه إسفافا معيبا.
أما المعتضد وهو ذلك الرجل المثقف المهذب، والإنسان الرقيق الحاشية، والملك العظيم الشأن، فما كان يقدم على هذا الأمر إلا بشيء من الرقة والدعة واللطف، وكان لما يمتاز به من الذوق ولطف الإحساس وقوة التمييز، لا يخلو مجلس شرابه من شروط اللياقة، وجمال الذوق، وحسن التنسيق، وكان يتعاطى الخمر بطريقة غير معتدلة، وكان هو وندماؤه ينشئون في امتداح هذه النقيصة الخمريات البديعة التي تكون آية في لطف الشعور، وجمال الذوق ودقة التعبير، وقد ساعدته قوته الجسمانية على مواصلة أعمال الدولة والقيام بأعباء الملك مع إدمانه الشراب، وانكبابه على الشهوات واللذات، وقد كان من آيات نشاطه للعمل، وانصرافه لمهام الدولة، أن يكف عن شهواته في الأوقات التي يتطلبها العمل، فيعنى بمهام دولته كملك، ويبذل في ذلك جهد الطاقة ليوفر من أوقات العمل وقتا للهو والراحة واستجمام القوى يعود فيه إلى شرابه، ويلهو فيه بلذاته. •••
ومن الغريب أن هذا القاسي الجبار - مع ما كان يلقيه في قلوب حرمه وجواريه الحسان من الفزع والرعب بنظراته المفزعة المروعة - كان ينظم فيمن يقع في حبالتهن من أولئك الغيد الحسان أشعارا تجمع إلى الرقة والسلاسة اللذة والمتعة.
فبين باديس إذن وبين المعتضد من البون الشاسع في الفساد ما يفصل بين الفاسد المتبربر الخشن، والفاسد المتحضر الظريف، ولكن مما يجب الاعتراف به هنا أن البربري كان أقل من زميله فسادا وخبث نفس، فقد كان باديس في جرائمه وشناعاته على جانب من النزاهة والصراحة، بينا عينه المتفرسة الباحثة تتحسس الأفكار الخفية في نفس غيره وتتبحثها لتكشف عن مكنوناتها، دون أن يظهر ذلك في معارف وجهه، أو نبرات صوته. •••
ولم يمت ملك غرناطة في فراشه بل طاح في ساحة القتال، أما ملك إشبيلية فقد كان - على خوضه غمار كثير من المعارك والحروب - دونه شجاعة وبسالة، لأنه لم يتول بنفسه قيادة الجيش في هذه الحروب سوى مرة أو مرتين في حياته، وكان من دأبه أن يضع الخطط الحربية للمعارك، ويدع تنفيذها لقواده، وهو منزو في خبائه بعيدا عن خطوط القتال، كما روى ذلك بعض مؤرخي العرب.
وكانت حيل باديس في النكاية بأعدائه جافة سقيمة،
2
مما يجعل إحباطها بسرعة ميسورا وسهلا، أما حيل المعتضد فكانت دقيقة لينة يمس المخدوع منها في لينها ما يمس من ظهر الحية الرقطاء تحت أنيابها السم ناقع، ولهذا كان يندر فشلها، ويصعب إحباطها، وجانب الدهاء وسعة الحيلة من الجوانب القوية في المعتضد، ويروون في هذا الصدد حكاية يجدر بنا إيرادها، وذلك أنه حدث في الموقعة التي أوقعها المعتضد ضد بربر قرمونة أنه كان يتبادل مع رجل من عرب هذه المدينة رسائل سرية يقفه فيها على حركات وخطط البربر، ولكيلا تضبط هذه الرسائل، ولا يرتاب فيها أحد، كان مضطرا لأن يتخذ كثيرا من الحيطة والحذر.
ولكي يصل إلى غرضه من تبادل الرسائل مع جاسوسه، كان قد اتفق معه على خطة معينة، وبناء على تلك الخطة أشخص إلى قصره رجلا ساذجا طيب القلب من بدو إشبيلية ولما مثل بين يديه قال له: «اخلع رداءك هذا الخلق، والبس هذه الجبة الثمينة الجميلة التي أتركها لك هدية إذا قمت بتنفيذ ما آمرك به.» فارتدى الرجل الجبة وهو يفيض بشرا وسرورا، ولم يدر أن في بطانة جيبها قد خيطت رسالة من المعتضد إلى عينه بقرمونة، وأظهر الرجل استعداده لأن يؤدي بدقة وأمانة كل الأوامر التي يكلفه بعملها، فاستحسن المعتضد منه ذلك وقال: «أصخ بسمعك إذن لما آمرك به: عليك أن ترحل من الآن إلى قرمونة، فإذا حللت بسيطها وكنت بظاهرها، فلا تدخلها إلا بعد أن تجمع من الحطب حزمة تدخل بها المدينة وتعرضها في السوق مع باعة الحطب، ولكن عليك ألا تبيعها إلا لمن ينقدك في ثمنها خمسة دراهم.» ومع جهل الرجل سر هذه الأوامر الغريبة بادر إلى الطاعة، وغادر إشبيلية، ولما كان على مقربة من قرمونة أخذ يحتطب، ولم يكن ذلك من عادته، وقد يجمع المحتطب المتعود مقدارا كبيرا يستطيع جمعه، إلا أن هناك فرقا بين حزمة صغيرة وأخرى كبيرة.
دخل الرجل المدينة يحمل مما جمعه من فروع الأشجار تلك الحزمة الصغيرة ليبيعها في السوق، فوقف على حزمته تلك أحد المارة وسأله: «كم ثمن هذه الحزمة؟»
فأجابه البدوي: «ثمنها خمسة دراهم كاملة غير منقوصة، فإن شئت دفعت الثمن وأخذتها، وإن شئت تركتها» فأغرب الرجل في الضحك وقال له: «عجبا، لعلك لا تشك في أن حزمتك هذه من خشب الآبنوس.»
وجاء آخر، فقال: «لا، بل هي من العود الهندي الذكي الرائحة.»
وهكذا أخذ كل من وقف على سلعته الحقيرة وعرف ما يطلبه ثمنا لها يمزح معه هازئا به ساخرا منه.
وبقي على حاله تلك في السوق إلى أن مال ميزان النهار، وآذنت الشمس بالمغيب، فدنا منه حينئذ عين المعتضد يتظاهر بشراء حزمة الحطب، واتفق معه على أن ينقده ثمنها إذا قبل أن يتبعه بها إلى منزله، يحملها على كاهله، فتبعه الرجل إلى منزله حتى وضعها هناك، ولما أخذ الدراهم الخمسة، قام يتأهب للعودة، فقال له صاحب الدار: «لقد أمسيت فإلى أين تذهب الساعة؟»
فأجابه: «إني رجل غريب، ولست من أهل المدينة، ولا بد لي من العودة إلى إشبيلية.» فقال له: «وهل ترى ذلك ممكنا الليلة، وهل تأمن عادية اللصوص في الطريق؟ انزل هنا على الرحب والسعة، وسأقدم لك طعام العشاء. ويمكنك أن تبكر بالسفر غدوة إلى حيث تريد.» فقبل منه الرجل ما اقترحه عليه، وقابل تلك الحفاوة البالغة بالشكر والثناء، وأنساه كرم الضيافة، وطيب الأكل ما لقيه بالنهار من سفه وسخرية، وبعد أن تناول طعام العشاء ، وفرغ من تلك الأكلة الشهية، أخذ يسمر مع مضيفه إلى هزيع من الليل، حيث دار بينهما هذا الحوار. - الآن أيها الضيف الكريم، خبرني من أي البلاد قدمت وما موطنك؟ - قدمت من بسيط إشبيلية حيث المزارع، وحيث موطني الذي أقيم فيه هناك. - إني أرى أنك - أيها الأخ - شجاع مقدام جريء لأنك استطعت أن تخاطر بنفسك وتصل إلى هنا، وأنا أعلم مبلغ ما وصل إليه البربر من القسوة والوحشية، هم بلا شك يسرعون إلى قتلك، ويرون ذلك أمرا سهلا ولا بد أن يكون هناك من الأسباب القوية ما حملك على المجيء هنا، والتعرض لأخطار الطريق. - ليس هناك من الأسباب القوية ما حفزني على المجيء، ولست أظن أن أحدا من الناس بالغا من القسوة ما بلغ يتعرض لرجل أعزل مثلي في الطريق أو يصيبه بأذى.
وما زالا يتحدثان إلى أن أثقل الكرى جفن الضيف، فأخذه المضيف إلى حيث المكان الذي أعده لنومه، وهم الفلاح أن ينام دون أن يخلع جبته، فقال له القرموني: «يحسن أن تخلع جبتك كي تنام مطمئنا، وتستيقظ مستريحا، لأن هذه الليلة دافئة حسنة الطقس كما ترى.»
فعمل الفلاح بإشارته، وسرعان ما استغرق في نوم عميق، ولما أيقن أنه لا يشعر بحركته تناول جبته وحل بطانتها، وفيها رسالة المعتضد فأخذها وقرأها، وكتب جواب الرسالة سريعا، ووضعه في نفس المكان وخاطه كما كان.
واستيقظ الفلاح في صبيحة تلك الليلة مبكرا، وبعد أن ودع مضيفه وشكر له كرمه وحسن ضيافته عاد أدراجه راحلا إلى إشبيلية، ولما ألقى بها عصا التسيار استأذن على المعتضد ومثل بين يديه، وقص عليه نبأ رحلته فغمره بلطفه، وجميل رعايته، وقال: «إني من عملك هذا لمسرور، وأرى أنك تستحق عليه جائزة سنية.» وأمر أن يلقي ما عليه من وعثاء السفر، وأن يخلع جبته هذه، ويكسى عوضها حلة كاملة، فأحس من أعماق نفسه بسرور وارتياح، وأخذ الثياب الجديدة وترك جبته التي هي محور الرواية، وخرج من القصر مزهوا يروي ما وقع له مع الملك لأهله وجيرانه ومعارفه، ويذكر لهم ما اختصه به الملك من عطف وصلة ما أجازه به من كسوة ملكية من كسى التشريف التي لا تمنح إلا لرجال الدولة وذوي الشأن وأرباب المناصب، ولم يقف على سبب هذا العطف الملكي، ولم يدر أنه استخدم من حيث لا يشعر جاسوسا وبريدا من برد الحرب يحمل إلى بلاد الأعداء رسالة فيها أنباء خطيرة كانت تودي بحياته لو أن البربر عثروا عليها، ولكنه لم تحم حوله أية ريبة.
كان المعتضد عظيم الدهاء واسع الحيلة، في كل ما يدخل في باب الحيل والخدع السياسية، وفي متناول يده الأشراك والفخاخ التي ينصبها لاقتناص من يريد الإيقاع به، والويل لمن يثير كامن غضبه، ولو أن إنسانا أحفظه ومضى سريعا ليختفي في الجانب الشرقي من المعمور لأدركه انتقام هذا الملك، ويقال إنه استصفى أموال رجل مكفوف البصر، وأخذ معظمها، ونفد ما بقي منها في يد الرجل فخرج إلى مكة حاجا يتكفف الناس، وهناك في الحرم أخذ يدعو على ذلك الملك الظالم ويسبه ويلعنه حيث أفضى به ظلمه إلى ذل المسألة وذل الاغتراب. فاتصل بالمعتضد خبره وأنه يدعو عليه ويشهر به، فاستدعى رجلا إشبيليا من رعيته كان قد أزمع الرحلة إلى مكة لأداء فريضة الحج، وأحضر علبة فيها دنانير مسمومة، وقال له: «إذا وصلت إلى مكة ورأيت الإشبيلي الضرير، فصله بهذه العطية وأقرئه مني السلام واحذر أن تفتحها.» فصدع الرجل بالأمر، ولما وصل إلى مكة تفقد الضرير حتى عرفه، وأعطاه العلبة، وقال: «هذه هدية المعتضد إليك.» فسمع وسوسة ما بداخلها من الدنانير فطار لبه، وقال: «يا عجبا! كيف يفقرني المعتضد بإشبيلية أمس، ويغنيني بالحجاز اليوم؟»
فأجابه الرجل: «لعله تذكر ما تحيفك به من الظلم، فضميره الآن يخزه ويؤنبه، وعلى كل حال فإنما أنا رسول ومبلغ وقد قمت بما عهد به إلي خير قيام، ومن حقك وحسن حظك أن تقبل هذه الهدية الثمينة التي لم تكن تحلم بها، والتي فيها غناك وسعادتك.» •••
فاقتنع الضرير وبالغ في شكره، وحمله شكره وولاءه للملك إذا هو عاد إلى إشبيلية ، ثم أخذ العلبة ووضعها بين ذراعه وخاصرته، وخف مسرعا إلى كوخه يهرول بقدر ما تسمح به حالة مكفوف ضرير، ودخل كوخه ذلك الحقير وهو بين مصدق ومكذب، وأحكم إرتاج الباب، وفتح العلبة وأفرغ منها كومة ذهب من دنانير، ولا تسل عن ذلك الأعمى وقد طفح قلبه بشرا وسرورا، حين وجد الفرصة السعيدة تواتيه بالثروة والغنى فجأة، بعد أن عاكسه الدهر، وعانى من الفقر الأمرين، أخذ يقلب بين يديه تلك الدنانير البراقة، ولو أن عينيه لم تكونا مقفلتين بحكم العمى لشعر بتمام اللذة، على أن حاستي اللمس والسمع قد عوضتا عليه ما فاته من تلك المتعة واللذة، فقد كان يقبض تلك الدنانير بأصابعه ويملأ بها راحتيه، ويتحسسها بأنامله، ويتسمع رنينها بأذنه، ويلهو بعدها المرة بعد المرة، وقد غمرته اللذة، وعمه السرور، وذهبت به الأماني والأحلام كل مذهب، إلى أن فعل السم به فعله، وسرى في جسمه سريان الحمى في المحموم، ولم يرخ الليل سدوله على هذا المسكين الذي أوقعه القضاء في حبالة المعتضد حتى أمسى بفعل السم جثة هامدة. •••
إذن فباديس والمعتضد كلاهما قاس شديد البأس، وإن كانت قسوتهما ترى بألوان مختلفة، فباديس في ثورة غضبه يقتل بيده ضحاياه، والمعتضد في أحوال نادرة يتعدى على وظيفة جلاده، وتحت تأثير غضبه وحنقه الشديدين اللذين بز فيهما صاحبه يسمح ليديه الأرستقراطيتين على كره منه أن تتلطخا بالدم، أما باديس فلم يكن يتطلب لشفاء نفسه أزيد من انغماس يده في دم عدوه، ومن دأبه بعد ذلك أن يعلق رأس القتيل على رمح ليطاف به في المدينة، وبهذا تبرد غلته، وأمير إشبيلية على عكسه فإن غضبه من عدوه لا يشفيه مجرد القتل، فهو يتتبعه إلى ما بعد الموت، وما كان يتوقف لحظة عن إثارة أشلاء قتلاه وإخراجها من عيابها وصناديقها المقفلة إرضاء لنزعاته الوحشية.
وكان يضع - أسوة بالخليفة المهدي
3 - جماجم أعدائه على نصب من الخشب إلى جانب الأزهار بحديقة في قصره، ويعلق في أذن كل جمجمة بطاقة يكتب عليها اسم صاحبها، وكانت تلك الحديقة المثمرة برءوس القتلى، تبعث في نفسه السرور والانشراح كلما رآها أمامه، وكثيرا ما كان يصرح بذلك في أقواله، على أنه لم يكن بين تلك الرءوس التي هي قرة عينيه رءوس من فتك بهم من أعدائه الأمراء، لأنه كان يحفظ رءوس أولئك في صناديق مقفلة قد أودعها في مكان بعيد من القصر.
ونقول: «إن مما يبعث على الدهشة أن ذلك المارد الوحشي القاسي كان يعتبر نفسه الأمير الخير بين الأمراء، ويرى أنه مثل «طيطوس» الذي كون تكوينا خاصا ليكون على يديه سعادة الجنس البشري، وكان مما يقوله في شعره هذه العبارات:
إن إرادة مولاي القدير لو اقتضت أن يمتد سلطاني على جميع الأحزاب المختلفة من العرب والبربر والصقالبة لخيمت السعادة على ربوع الأندلس، وإن مما يقوي عندي الأمل في سعادة الناس وعزهم وطمأنينتهم، أني لا أزال أسلك معهم سبيل الجادة، وأني لم أنحرف قط عن الصراط السوي، وما عاملت أحدا من رعاياي إلا بما يوجبه علي كرم عنصري وشرف نفسي وعلو همتي، من رعاية العدل وحب الإنصاف، ولست أنفك أدفع عنهم شر المعتدين، وغائلة المفسدين، وأزيل أسباب المصائب التي تنزل بساحتهم، وتنصب فوق رءوسهم.»
الفصل السادس
بعد أن قضى المعتضد على حياة «حبيب» وزير أبيه ومشاوره في الحكم، وأصبح منفردا وحده لا منازع له ولا مشاور، وجه عسكره إلى البربر، وبدأ بجيرانه بربر قرمونة وكانت تعتاده هواجس نفسية، ويجسم عنده الوهم أنه إذا لم يكن على قدم الاستعداد والأهبة لمباغتة أعدائه والقضاء عليهم، فإنهم - بلا شك - قد عقدوا النية، ووطنوا أنفسهم على الإيقاع به، وانتزاع المملكة منه ومن عقبه، وكان بعض المنجمين قد تنبأ بأن جيلا من الناس سيولد خارج مملكته يكون على يده انتزاعها من أيدي بني عباد، وهذه الظنون التي كانت تذهب به كل مذهب ما برحت تجعله يحاول أن يوقع بالبربر كلما أمكنته الفرصة ليبيد خضراءهم، ويستأصل جرثومتهم، وقد استمرت هذه الوقائع والحروب مدة طويلة قتل خلالها محمد أمير قرمونة، حيث خدع واجتذب إلى كمين وقع فيه (1042-1043) وكان من نتائجها اتساع المملكة في الجهة الغربية.
وفي سنة (1044) قهر ابن طيفور
1
واستولى على «مرتولة»
2
ثم هاجم بعده ابن يحيى أمير «لبلة» ولم يكن هذا الأخير من البربر بل كان عربيا، وما دام المعتضد يريد أن تتسع رقعة مملكته، فليس يقفه عن قصده أي شيء، ولما ضيق الخناق على ابن يحيى
3
استنجد بالمظفر صاحب بطليوس فتقدم لمعونته فصده المعتضد فلجأ إلى بربر غرناطة وأنشأ يؤلف ضد المعتضد حلفا قويا انضم إليه باديس ومحمد أمير مالقة ومحمد أمير الجزيرة الخضراء، وحدث على أثر ذلك أن أبا الوليد بن جهور الذي خلف أباه كرئيس لجمهورية قرطبة سنة (1043) بذل كل ما في وسعه للتوفيق والصلح بين الفريقين فلم يفلح، وذهب سعيه عبثا، ولم يستمع لرسله الذين أرسلهم لإصلاح ذات البين أحد.
وأعد الحلفاء من البربر خطة الزحف على إشبيلية ريثما يجمعون شتات جيوشهم ويتصل بعضهم ببعض، وعرف المعتضد ذلك فانتهز فرصة وجود المظفر في منطقة نفوذه بعيدا عن حلفائه بحيث لا يستطيع الدفاع عن نفسه وبلاده، فعمد - أول الأمر - إلى تخريب كورة بطليوس ثم سار مخالفا عادته على رأس جيشه، وزحف على «لبلة» وهجم أعداءه في مضيق على مقربة من أبواب المدينة، ورد فريقا منهم إلى «الأحمر»، ولكن المظفر وفق لجمع رجاله، وحمل بهم حملة صادقة اضطرت المعتضد أن يتقهقر نحو إشبيلية، وتمكن المظفر حينئذ أن ينضم إلى حلفائه.
ولكن بينما هو يوقع التخريب في البلاد التابعة لإشبيلية خرج ابن يحيى من حلف هؤلاء، وانضم إلى المعتضد ودخل في حلفه - على كره منه - وقد عاقبه المظفر بالاستيلاء على أمواله التي كانت مودعة عنده، وأعمل السلب والنهب في كورة «لبلة»
4
فاستصرخ ابن يحيى بالمعتضد إشفاقا على بلاده من التخريب والتدمير، فعمد هذا إلى إرسال جنوده لمقاتلة جند بطليوس، فاستدرجوهم إلى كمين وتمت الهزيمة على عسكر بطليوس، فاضطروا إلى التقهقر، ولم يقتنع بهذا الانتصار بل عمد إلى تخريب جهات «يابره» بواسطة ابنه إسماعيل، ولكن أمير بطليوس أمر أن يتقلد السلاح كل من يستطيع القتال من الرعية ، وبذلك تمكن من صد هجمات جيوش إشبيلية، ولما اتصلت به الإمدادات من إسحاق أمير قرمونة سير رجاله لمنازلة العدو، وعبثا حاول بربر قرمونة أن يقنعوه بالعدول عن عزمه الذي صمم عليه بدافع الغرور والجهل بقوة عدوه، ومما قالوه له: «إنك - بلا شك - لا تقدر جيش إشبيلية قدره، وتجهل وفرة عدده، ونحن أعرف منك بذلك، فقد وصلت إلينا أنباؤه فضلا عن أننا رأيناه رأي العين، ووقفنا على ما فيه من عدد وعدة.» ولكن تحمس المظفر وحدة طبعه أبيا عليه أن يعمل بمشورة ناصحيه، أو يصدق لهم قولا، ومضى في سبيله بدافع الجرأة التي كلفته ثمنا باهظا، فقد حلت به الهزيمة وتقهقر تاركا ثلاثة آلاف قتيل على أقل تقدير، وكان من بين من قتل في هذه المعركة ابن أمير قرمونة الذي كان يتولى قيادة جيش أبيه، وقد حملت رأسه إلى المعتضد، فوضعها في صندوق مع رأس جد هذا الأمير الشاب. •••
بعد هذه المعركة المشئومة ظهرت بطليوس مدة طويلة في مظهر مزعج، ومنظر مخيف، تستوحش منه النفس، وينقبض له الصدر، إذ دامت حوانيتها مقفلة، وأسواقها مقفرة، بعد أن قتل في هذه المعركة المستأصلة صفوة أهلها، ومما زاد الحالة سوءا وبلاء أن الإشبيليين إبان المعركة أتلفوا المزارع ودمروا الحصاد، فأناخت المجاعة بكلكلها على أنحاء المملكة، ولم يستطع المظفر عمل شيء بإزاء هذه الكارثة المجتاحة، وتخلى عنه حلفاؤه بعد أن حاول عبثا أن يستعين بهم على تخفيف هذه النازلة التي حلت ببلاده، وظل ساكنا ببطليوس يحرق الأرم، وتتآكل نفسه غيظا وندما.
ومع ما هو واقع فيه من سوء الحالة وتحرجها لم يشأ أن ينزل عن عزة نفسه وإبائها، ويقبل صلحا شريفا بواسطة ابن جهور، بينا عدوه الظافر قد أظهر تمام الاستعداد لقبول هذا الصلح.
ولم يكتف بهذا بل تظاهر أنه غير مكترث لما أصابه من خسارة، ولحق ببلاده من أزمة ومجاعة، وبدافع هذا التظاهر الكاذب أرسل إلى قرطبة في طلب قينات - وكن في ذلك الحين نادرات - وبعد عناء البحث اشتريت له اثنتان لم تكونا على جانب من الحسن والبراعة في الغناء. ودهش الناس لركون المظفر إلى اللهو والخلاعة، وهو المعروف بالجد والوقار، والبعد عن العبث وسماع القينات، ولم يدرك القوم كيف أنه يركن إلى اللهو في هذا الوقت الذي تظهر فيه بلاده بمظهر الخراب والاضمحلال، ولكنهم أدركوا السر في هذا السلوك الغامض حين علموا أن المظفر يريد أن يظهر لخصمه أنه في الوقت الذي يستطيع فيه أن يبيع أشياء مملوكة له، كذلك يستطيع - وهو مرتاح الخاطر - أن يشتري مغنيات يلهو بهن.
وبالرغم من هذا كله فقد واصل ابن جهور جهوده للتوفيق بين الخصمين وإبرام صلح شريف عاجل بينهما، وفي شهر يوليو سنة 1051 كللت جهوده بالنجاح، وتم بوساطته - بعد مفاوضات طويلة - عقد صلح بين المظفر والمعتضد.
وحينئذ وجه المعتضد جميع قواته إلى ابن يحيى أمير «لبلة» الذي انفصل عن حلفائه وعاد وحيدا دونهم، ولم تكن هذه الحملة حربا، بل كانت بمثابة نزهة حربية، ولم يحاول «ابن يحيى» - لضعفه عن المقاومة - أن يدافع حتى عن نفسه، بل تحول إلى قرطبة، وعول على أن يقضي بها سائر أيام حياته، وقد عطف عليه المعتضد وأرسل ثلة من فرسانه كحرس له في الطريق.
وأدرك الأمير الذي كان باسطا حكمه على «ولبة» وعلى جزيرة «سالطس»
5
الصغيرة، وهو أبو عبيد عبد العزيز البكري صاحب كتاب المسالك والممالك أنه قد حان وقته، وجاء دوره، ومع هذا فقد كان يؤمل أن ينقذ من الغرق ما يمكن إنقاذه، فكتب يهنئ المعتضد بانتصاره الجديد، ويطلب إليه أن يدخل في حلفه، ويكون تبعا له، وأن يتنازل له عن «ولبة» في مقابل أن يترك له «سالطس» ويشرح العلاقات الودية التي كانت بين أسرته وبين أسرة آل عباد، فقبل المعتضد ما تقدم به إليه، وتظاهر بأنه يريد مقابلته، والإفضاء إليه بحديث هام فسافر إلى «ولبة»، ولكن عبد العزيز رأى من الحكمة وصواب الرأي ألا يكون في انتظاره وأن يتحول عنها إلى «سالطس»، وجاء المعتضد فوضع يده على «ولبة» وقفل عائدا إلى إشبيلية، وترك هناك ثقة من رجاله ليحول دون أن يبرح عبد العزيز جزيرته، أو ينتقل أحد إليه.
ولما عرف عبد العزيز ما وصلت إليه حاله لاذ بالحكمة، وشرع يفاوض عامل المعتضد على «ولبة» يطلب السماح له بالسفر إلى قرطبة، وباع سفنه وذخائره الحربية للأمير الإشبيلي مقابل عشرة آلاف دوكا.
وقد أراد المعتضد أن يخونه ويستدرجه إبان سفره ليوقعه في الشرك كي يستولي على أمواله.
ولكن عبد العزيز فطن إلى قصده، وتمكن بواسطة حراس طلبهم من أمير قرمونة أن يصل إلى قرطبة دون أن يصيبه في طريقه مكروه.
ثم هاجم المعتضد بعد ذلك ولاية «شلب» الصغيرة، حيث كان يلي الحكم فيها العرب من بني مرين وهم الذين كان أجدادهم يملكون الجهات الممتدة في هذا الإقليم، وقد تولوا في عهد الأمويين المراكز المهمة، واستمات أمير «شلب» في الدفاع عن نفسه بكل إقدام وشجاعة، وقد صحت عزيمته على ألا يسلم أو يموت، ولكن جيش إشبيلية الذي كان يقوده محمد المعتمد قيادة اسمية فقط لبلوغه الثالثة عشرة من عمره بالغ في تضييق الحصار على «شلب» إلى أن استولى عليها عنوة. وكان ابن مرين اعتزم أن يفتك بأكبر رأس في الجيش، إلا أن المعتضد بعد أن تمكن منه وهب له حياته واكتفى بنفيه. وبعد أن تم الأمر بالاستيلاء على «شلب» أصدر أمره بالزحف على «شنتمرية» القريبة من الرأس الذي يسمى إلى اليوم بهذا الاسم، وهي كورة كان الخليفة سليمان أعطاها لسعيد بن هارون، وكان مجهول النسب لا يعرف أكان من العرب أم من البربر، والرجال المجهول أصلهم في العادة يكونون من الإسبانيين، سكان البلاد الأصليين. بقيت هذه الجهة مع سعيد هذا إلى أن انتقل سليمان إلى جوار ربه، فاستقل بها، ثم خلفه عليها بعد وفاته ابنه محمد، وحين دهمه عسكر إشبيلية لم تكن منه إلا مقاومة قصيرة المدى، ولما تم للمعتضد أخذ هذه الكورة، ضمها إلى «شلب» وأراد أن يلي الحكم فيها ابنه محمد (1052).
وبهذه الانتصارات السريعة اتسعت إمارة إشبيلية في الجهة الغربية من جزيرة الأندلس، أما الجهة الجنوبية فلم تكن قد اتسعت بعد؛ لأن أمراء الجنوب من البربر كانوا - في ذلك الحين - مسالمين للمعتضد في الغالب، معترفين بسيادته أو مقرين بخلافة هشام الثاني. •••
لم يقنع المعتضد بما أصاب من فتوحات اتسعت بها رقعة مملكته، وعد ما تم له من ذلك قليلا بالنسبة لما يطمح إليه، فسرت إلى نفسه فكرة قتل أولئك الأمراء، والاستيلاء على ولاياتهم، ولكي يكون نجاح أعماله السرية محققا رأى أن يسلك سبيل الاعتدال والحذر حتى لا يطوح بنفسه في محاولة جريئة، فذهب بعد غزوة «شلب» مع اثنين من الخدم لزيارة أميرين من أتباعه، وهما ابن نوح أمير بني مرين وابن أبي قرة أمير رندة دون أن يعلنهما أنه آت لزيارتهما، وإن مما يبعث على الدهشة أن يلقي المعتضد بنفسه بين مخالب هؤلاء، ويضع نفسه بدون تبصر تحت رحمتهم وهو يعلم ما يكنه له أولئك البربر من عداوة وحقد، والواقع أن المعتضد - في مثل هذه المواقف - لا تنقصه الجرأة والإقدام، وهو على الرغم من خيانته ومخاتلته للجميع، واثق من حسن نيات وتقدير الغير له، فقد قوبل عند بني مرين بكل حفاوة وتجلة، وأعرب له ابن نوح عن فرط سروره وغبطته بما هيأت له الظروف السعيدة من هذه الزيارة التي جاءت على غير انتظار، وأولم له وليمة فاخرة، وبالغ في إكرام وفادته، وحقق له من جديد أنه سيكون له التابع الوفي المخلص على الدوام، ولكن المعتضد لم يقدم على هذه الزيارة لسماع التحايا، وألفاظ التكريم والحب والولاء، بل كان يرمي إلى غرض آخر، وهو جس النبض ليعرف هل يستطيع أن يكسب إلى جانبه بعض أفراد من ذوي النفوذ والجاه؟ إذ قد لاحظ أن العرب يميلون من أعماق صدورهم إلى التخلص من نير البربر، وأنه لا يستطيع التعويل عليهم عند سنوح الفرصة.
وبفضل ما كان يحمله خادماه من الهدايا والتحف والأحجار الكريمة استطاع أن يرشو كثيرين من رجال البربر، دون أن يداخل ابن نوح أدنى ريب في دسائسه.
وبعد أن سر المعتضد كثيرا من نتائج هذه الزيارة استأنف سفره إلى «رندة» فقوبل بمثل ما قوبل به هناك من الإجلال والترحيب، ونجحت حيله السرية، وأعماله الخفية فيها كثيرا، لأن العرب هنا كانوا أكثر تذمرا من زملائهم بني مرين، وأشد رغبة في التحرر من حكم البربر.
والظاهر أن بني قرة كانوا أصلب عودا وأكثر جرأة من بني نوح، فقد دبروا للمعتضد مؤامرة رهيبة يكون انفجارها بمجرد الإشارة، ومن الاتفاق الغريب أن تسلم حياته وهي معرضة للخطر في سبيل إنفاذ مشروعه الخطر الجريء، فقد حدث مرة أن تناول معهم الطعام، وأخذوا يحتسون النبيذ وأحس هو - خلال ذلك - بميله إلى الراحة والرقاد، فقال للأمير: «إني أشعر بتعب، وأحس بحاجة إلى النوم، فخذوا أنتم في حديثكم، وامضوا في شرابكم، ريثما أستريح برهة، وآخذ حظا قليلا من النوم، ثم أعود فآخذ مجلسي معكم حول المائدة.» فأجيب إلى طلبه وأعدت له وسائل الراحة، وبعد لحظة كان فيها متناوما مظهرا أنه في سبات عميق، طلب بعض رجال البربر من الجالسين أن يصغوا لحظة إلى حديث خطير يريد أن يفضي به إليهم، فصمت الجميع، وقال الرجل بصوت خافت: «يظهر أن عندنا كبشا سمينا قد مد صفحته للسكين المشحوذة، وقد واتانا حظ سعيد كنا بعيدين عن إدراكه، ولو أننا بذلنا في سبيل هذه الفرصة ما في الأندلس من ذهب لم يجد ذلك شيئا، بينما ذلك الطاغية قد حضر بنفسه وأمكنكم من مقاتله، أنتم تعلمون جميعا أن ذلك الرجل هو الشيطان بعينه، فإذا ما قضينا على حياته لم ينازعنا أحد السلطة في هذه البلاد.» •••
ولاذ الجميع بالصمت، وأخذوا يتبادلون الإشارة باللحظ، ولا خفاء أن فكرة قتل ذلك الشيطان الذي يمقتونه ويزدرونه، ويعرفون طرقه الملتوية المتعرجة، تقابل بسرور وابتسام من أولئك الرجال الذين مرنوا على القسوة، وشبوا - منذ نعومة أظفارهم - على القتل وسفك الدماء، لذلك لم تبد على وجوههم علامات الدهشة، ولم تلح عليها أمارات الاستنكار والاشمئزاز، وكان من بين هؤلاء جميعا رجل واحد معتدل المزاج والتفكير قد غلا في رأسه الدم لهذه الفكرة الخاطئة، والخيانة الدنيئة، ذلك الرجل هو معاذ بن أبي قرة أحد أقارب أمير رندة فقد تطاير من عينه الشرر، وأظهر امتعاضا واشمئزازا واحتقارا لفكرتهم هذه المنافية للمروءة وكرم الضيافة، ورد عليهم في تؤدة وثبات بصوت متهدج يغض منه ويخفضه قليلا قائلا: «إياكم أيها القوم أن ترتكبوا هذه الفعلة الشنعاء، إن هذا الأمير بزيارته لنا ومجيئه عندنا، قد وثق بنا وأمن جانبنا واعتمد على إخلاصنا ووفائنا له. ومسلكه هذا يدل على أنه يقطع بأنا غير أهل لأن نخونه، أو نخفر ذمته، ولدينا من الشرف وطيب العنصر ما يدعونا لأن نحقق ظنه فينا، وثقته بنا. وبماذا تتحدث عنا القبائل غدا إذا علموا أننا وطئنا بأقدامنا قداسة حقوق الضيافة، فقتلنا ضيفنا؟ ففكروا أيها القوم مليا، وثوبوا إلى رشدكم، ولعنة الله على من يهم بارتكاب هذه الجريمة.» •••
وقد ترك هذا الكلام في نفوس البربر أثرا عميقا، وحرك ما ردده عليهم من واجب الضيافة - في قلوبهم - وترا حساسا، يندر أن يتنبه عند أمثال أولئك الطغام من شعوب أفريقية.
وقد مثلوا هذا الفصل والمعتضد في يقظة تامة - وإن كان متناوما - وقد سمع كل ما دار بينهم من الحديث، ولما حمد الأثر الذي أحدثه كلام معاذ في نفوس الآخرين، واطمأن إلى النتيجة، تظاهر بأنه بدأ يستيقظ، ومضى سريعا إلى السماط. فوقف الجميع وعانقوه وقبلوه قبلا مقرونة بالاحترام وإظهار المودة والعطف. وكانت حركاتهم تدل على أن ضمائرهم لم تكن مرتاحة لما هموا به، وأنهم ينطوون على سر مهانتهم من تلك اللحظة التي فكروا فيها بالغدر بضيفهم. ثم تكلم المعتضد فقال: «يجب أيها الأصدقاء، أن أتعجل العودة إلى إشبيلية ولا يفوتني أن أشكر لكم حفاوتكم، وأذكر لكم مبلغ سروري بحسن مقابلتكم لي وترحيبكم بي، وكان يجمل بي أن أقدم لكم بعض هدايا نفيسة تكون عنوانا على اعترافي بفضلكم وتقديري لكرمكم، ولكني آسف جد الأسف لأن الهدايا - التي كان يحملها خادماي - قد نفدت أو كادت، ولا بأس من إحضار دواة وقرطاس، وليمل علي كل منكم اسمه، وما تميل إليه نفسه من كسى تشريف أو صرر نقود أو جوار أو عبيد أو غير ذلك - مما يدخل في باب التحف وسني الهدايا - وليرسل إلي عند استقراري بعاصمة مملكتي ليأخذ ما يخصه من نفيس تلك الهدايا.» ولما استقر بحضرة ملكه جاءته رسلهم تترى، وعادوا محملين بصنوف الهدايا الثمينة، والحلل الفاخرة، وبذلك توثقت الروابط المتينة، والعلائق الحسنة بين المعتضد والبربر، وتنوسيت الأحقاد والإحن القديمة، وحل محلها الوداد والوئام والصفاء والسلام. •••
مضت على ذلك ستة أشهر دعا المعتضد بعد انقضائها أمير رندة و«ابن مرين» إلى مأدبة فاخرة أدبها لهما، زعم أنها اعتراف منه بجميل إكرامهما وحسن استقبالهما له، وكذلك دعا من البربر ابن خزرون، وأميري «أركش» و«شريش»، فبادر الأمراء ثلاثتهم إلى إجابة الدعوة، ووصلوا إلى إشبيلية (1053) فاستقبلهم المعتضد بحفاوة بالغة، وأعد لهم أسباب النعيم والراحة. وبعد أن ألقوا عنهم وعثاء السفر دعاهم وأكابر أتباعهم إلى الاستحمام بحمامه، وانتحل سببا لإبقاء معاذ الشاب معه، وكانوا نحو ستين من البربر دخلوا الحمام الذي أعد لاستحمامهم، وبعد أن تجردوا من ملابسهم في الباب الأول، تطرقوا إلى باب الحمام نفسه وهو مماثل لما يوجد الآن من نظائره في البلاد الإسلامية، مغطاة أرضه وجدرانه بالرخام الملون، مكسوة قبابه بأنصاف كرات جوفاء من زجاج غير صقيل لإرسال الضوء إلى أسفل، في وسطه نافورة تمج الماء إلى أعلى، وفي جوانبه مغاطس مملوءة بالماء الساخن، وصنابير بارزة في الجدران، بعضها يصب منه ماء بارد، وبعضها متصل بمرجل الحمام يصب منه ماء ساخن قد وصل إلى درجة الغليان.
وبينما المستحمون يلتذون بهذا النعيم الذي هيأ لهم أسبابه المعتضد إذ شعروا بحركة خفيفة غير عادية ظنوها حركة بنائين أو وقادين منصرفين إلى عملهم، فلم يعيروها اهتمامهم - لأول وهلة - ثم صارت الحرارة بعد برهة قليلة تتزايد إلى أن شعروا بالدوار وأحسوا بالضيق، فتلمسوا الباب يفتحونه، فوجدوه محكم الإرتاج وكأنما بني عليهم من خلف، ولما يلبثوا إلا قليلا حتى ماتوا جميعا نتيجة الاختناق.
ومكث معاذ طويلا يترقب عودة الأمراء والصحب ثم انتهى به الأمر إلى القلق والضجر، ثم تجاسر فسأل المعتضد عن السبب الذي من أجله تأخروا هكذا مدة طويلة، فأفضى إليه المعتضد بالسبب وصرح له - وقد اربد وجهه، وشاع فيه الغضب - بقوله: «لا خوف عليك، أما أولئك الخونة من أهلك وعشيرتك فقد استأهلوا العقاب، واستحقوا ما حل بهم من هلاكهم خنقا في الحمام لتآمرهم على قتلي حين كنت بضيافتهم. وثق أنني كنت متناوما إبان تآمرهم على قتلي، وقد سمعت كل ما دار بينهم من الحديث في هذا الموضوع الخطير، كما استحسنت كلامك في هذا الصدد، ولست أنسى ما حييت ما أنا مدين لك به من هذا الجميل الذي طوقتني به، وأنت مخير الآن بين البقاء هنا حيث أقاسمك جميع ما أملك - إن شئت - وبين العودة إلى وطنك، وإذا اخترت العودة ورغبت في الإقامة برندة، فلك مني أن أغمرك بسني الجوائز ونفيس الهدايا.»
فقال معاذ بصوت يشف عن حزن عميق: «وكيف العودة يا مولاي إلى الوطن، وكل ما فيه يمثل لي ذكرى من فقدتهم؟» فقال المعتضد: «عليك إذن أن تقيم بإشبيلية آمنا لا تخاف شيئا.» وكلف بعض رجال حاشيته أن يعمل على إعداد قصر لإقامة معاذ وأمر له بألف قطعة من الذهب نقدا، وعشرة من صافنات الجياد، وثلاثين جارية، وما يقرب من هذا العدد من العبيد، ثم توجه إليه بقوله: «وسأمنحك فوق هذا عشرة آلاف دوكا مرتبا سنويا.» •••
وبقي معاذ بإشبيلية، وهو محل عناية المعتضد وعطفه، فكان يبعث إليه كل يوم بهدايا غالية نفيسة بالغة في الإبداع، يندر أن توجد إلا في خزائن الملوك، وكان في غالب الأحيان التي يجتمع فيها بوزرائه ومشيريه للاستشارة في أعمال الدولة يجعل لهذا الذي أنقذ حياته المكان الأول في الشورى والرأي. •••
وبعد أن انتهى المعتضد من تمثيل هذا الدور ووضع رءوس القتلى في صندوق بين رءوس ضحاياه التي كان يتمتع بإلقاء نظرات السرور عليها، أرسل جيشا للاستيلاء على بني مرين وأركش وشريش وجهات أخرى. وقد نجح الجيش في مهمته من غير أن يعاني صعوبة بفضل مساعدة أهل تلك الجهات من العرب، والخونة الذين اشتراهم المعتضد بالمال. إلا أن الاستيلاء على رندة حيث خلف أبو النصر أباه فيها لم يكن من السهل، فقد كلف جيش المعتضد جهدا وعناء أكثر من غيرها، ولأنها كانت قائمة على ربوة جبل شاهق تحيط بها وهاد وطرق وعرة تجعل الوصول إليها صعبا.
ولكن حدث أن العرب ثاروا على البربر وتحمسوا لقتالهم وأعملوا فيهم سيوفهم. وحاول «أبو النصر» نفسه الفرار - طلبا للنجاة - فتردى في هوة عميقة، إذ بينما كان يتسلق السور زلت به قدمه فهلك. •••
وقد أحدث الاستيلاء على رندة وحدها في نفس المعتضد سرورا عظيما، فبادر إلى تحصينها، وجعلها أقوى منعة مما كانت عليه. ولما تم له ما أراد من تحصينها، وذهب بنفسه لمعاينتها تملكته نشوة سرور وارتياح جعلته ينظم فيها شعرا مضمونه: «أنت الآن قد بلغت في التحصين الغاية، ولا شك أنك قد صرت أثمن درة في تاج المملكة، وقد استولى عليك جنودي البواسل بأسنة الرماح، وظبا السيوف.»
الفصل السابع
في الوقت الذي كان فيه المعتضد ثملا بنشوة انتصاراته، عاكفا على شهواته ولذاته، كان باديس حليف هموم وأحزان، حتى لقد بلغ به الحزن أن شق ثيابه - حين اتصلت به أنباء النكبة التي حلت بالبربر - أخذ يصيح صيحات الغضب، ويزمجر زمجرة الرعد، وقد استولى عليه الهياج والقلق والاضطراب، وتملكه شعور أسود جعل الدنيا تظلم في عينيه، وقد وقر في نفسه أن عامة العرب برندة تحركوا للثورة بدافع الجنسية والوطن، وقاموا قومة رجل واحد للقضاء على منافسيهم من البربر. •••
ومن الذي يستطيع أن يدخل في روعه أن أتباعه من العرب لم يدخلوا في حلف مع بني عباد، وأنهم لم يأتمروا به وبعرشه؟ لقد شغلت هذه الفكرة باله، وكانت لا تفارقه ليل نهار، ويقال إنه كانت تعتاده نوبة ذهول، ثم يهيج به هائج الغضب، إلى حد أنه كان يصيح صياحا شديدا، ويقسم ليبيدن كل عربي أقلته الغبراء، وأحيانا كانت تضطرم نفسه هلعا، وتذوب جزعا، وتفيض بالوساوس والأحلام والشكوك والأوهام، ثم يعود إلى حالته الأولى من السكون المبهم الغامض الأليم، وكأنما انقضت عليه صاعقة. •••
على أثر هذه الحالة النفسية العصبية أخذ يفكر في تدبير خطة مروعة رهيبة، وذلك أنه كان يدور بخلده أنه ما دام العرب مقيمين معه في داخل المملكة ومنبثين في الولايات التابعة له، فلن يتأتى له أن يطمئن على سلامة ملكه لحظة واحدة، فعول - في قليل من الحنكة السياسية وعدم التبصر في العواقب - على إبادة خضرائهم، واستئصال شأفتهم من المملكة، وعقد النية على أن ينفذ هذا الرأي الخطير عند اجتماعهم بالمسجد للصلاة من يوم الجمعة المقبل، وكان لا يبرم أمرا دون أن يستشير وزيره إسماعيل اليهودي، فلما صرح له بعزمه، وأفضى إليه بسره، وأعلمه أنه مصمم على تنفيذ خطته - رضي أم أبى - أظهر له الوزير شناعة هذه الخطة، ووخامة عاقبتها، وعمل جهده على أن يعدل الأمير عنها، وأشار عليه أن يتمهل في الأمر ريثما تنضج الفكرة، وأن ينظر فيما عساه أن ينجم عن هذا الرأي الخطير من النتائج، وكان مما قاله له: «لنسلم أن كل شيء سيتم على ما تريد وتهوى، ولنفرض أنك ستدرك غرضك بالقضاء على جميع العرب - بقطع النظر عما ينجم عن هذا العمل من الخطر - فهل يفوتك أن العرب في خارج المملكة لا يسكتون عن مصاب إخوانهم وما يحل بزملائهم؟ وهل يدور بخلدك أنهم يلبثون ساكنين في أماكنهم، وأنهم لا يتحركون لنجدة أبناء جنسهم؟ كلا، إني أؤكد لك أنهم يسارعون إليك بدافع الغضب الشديد، والعصبية القومية، ويتدافعون إلى بلادك تدافع الأمواج الهائجة المضطربة، ولا يلقون السلاح أو يعلو السيف رأسك.» •••
ومع مشاكلة هذا الكلام للصواب، ومطابقته للواقع، فإنه لم يؤثر في نفس باديس ولم يصرفه عن رأيه، وأخذ على إسماعيل عهدا بأن يكون ما دار بينهما من الحديث سرا مكتتما، وأصدر أمره بأخذ الأهبة والاستعداد لما يجب عمله يوم الجمعة.
وقضي الأمر، وكان جميع الجند بأسلحتهم المختلفة أمام المسجد يوم الجمعة على هيئة عرض عام للجيش، ولم يقف إسماعيل حيال هذا الأمر موقف الخمول، بل كان قد دس نسوة إلى زعماء العرب عملن على تفريقهم، ونصحن لهم بعدم الاجتماع للصلاة يوم الجمعة ، وأن يختفوا عن الأنظار في هذا اليوم فلا يبدو لهم أثر، فعملوا بنصيحتهن وأخذوا حذرهم، ولم يحضر المسجد في ذلك اليوم سوى نفر يسير من العرب ممن لا خطر لهم مع عامة الشعب، وتحقق باديس فشل خطته، فكاد يتميز من الغيظ وأرسل في طلب إسماعيل، وأخذ يلومه على إذاعة السر الذي أفضى به إليه، فقال: «إن امتناع العرب عن الحضور لصلاة الجمعة لم يكن لسر مذاع، وتفسير هذا الامتناع من جانبهم ظاهر، فإن القوم رأوا أنك حشدت جندك بلا سبب موجب في وقت لم يكن فيه بينك وبين جيرانك حرب، فلم يشكوا في أنك إنما تقصدهم بالسوء، فعوضا من أن تغضب وتندم يجب أن تحمد الله (تعالى) على هذه العاقبة الحميدة، فلو أن العرب وقفوا على ما كنت تبيته لهم - من الشر والوقيعة - لثاروا واضطرب بسببهم حبل الأمن، أفلا يسرك أنك تراهم الآن ساكنين هادئين؟ فترو في الأمر قليلا، وسيجيء الوقت الذي تحمد فيه رأيي الذي أطلعتك عليه.» •••
وربما كان باديس وقد غاب عنه وجه الصواب غير مقتنع بصحة ما ذهب إليه وزيره، ولكنه حين جاء أحد شيوخ البربر وأيد إسماعيل في الرأي اقتنع أخيرا، واعترف في النهاية بأنه كان مخطئا، ولم يعد يفكر في ملاشاة العنصر العربي من رعاياه، إلا أنه حين رأي فلول البربر الآتين من بني مرين وأركش وشريش ورندة قد لجئوا إلى غرناطة وجاءوا يلتمسون لهم فيها مأوى، اعتزم أن ينتقم من عدوه، ويغزو بجيشه والمهاجرين ولايات إشبيلية.» •••
وليس عندنا تفصيلات عن هذه الموقعة الحربية، ولكن الدلائل تدل على أنها كانت حربا دموية؛ لأن البربر كانوا موتورين يلتهبون حماسة للانتقام لأبناء جنسهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العرب كانت كراهتهم لبربر غرناطة أكثر من كراهتهم لسائر البربر، إذ كانوا يعدونهم من الرافضة أعداء الدين، لسكوتهم على أن يكون بين وزراء المملكة رجل يهودي، ويقول بعض شعراء إشبيلية الذين كانوا يشيدون بانتصارات المعتضد ما معناه: «لقد أعملت سيفك في رقاب شعب من البربر ينتحلون اسم الإسلام، ولا يؤمنون بغير اليهودية.»
لهذا كانت الحرب مع الغرناطيين تعد في نظر العرب حربا دينية مما حملهم على مقاتلتهم بمنتهى الشدة حتى اضطروهم إلى التقهقر والارتداد إلى حيث يقيم أبناء جلدتهم، وقد ساءت حال أولئك المهاجرين البائسين إذ لم يسمح لهم المعتضد بالعودة إلى دورهم وبلادهم حين رأى باديس أن يحلوا عن غرناطة إلى مساكنهم الأصلية التي لا مندوحة لهم عن العودة إليها، فاضطروا إلى أن يجوزوا بحر الزقاق إلى سبتة ولم يشأ «سقوت» أمير هذه الجهة أن يكون لهم فيها بقاء، وهكذا كانوا يطردون - حيثما حلوا، وأينما ارتحلوا - في وقت تفشت فيه المجاعة بإفريقية مما أدى إلى هلاكهم جميعا.
وبعد هذه النكبة التي حلت بالبربر وجه المعتضد جنده ضد القاسم بن حمود أمير الجزيرة، وكان أضعف أمراء البربر فلم يسعه إلا أن يدخل في طاعة المعتضد ويطلب منه العفو، فأجاز له أن يتحول إلى قرطبة فرحل إليها وأقام بها (1085). •••
ولما تم للمعتضد هذا الانتصار الباهر رأى أن الوقت قد حان لإتمام الدور التمثيلي الذي لعبه حتى الآن أسوة بأبيه من قبل، فطوعت له نفسه أن يعلن أن هشاما الثاني المزعوم، والذي قد مات وعلم الناس قاطبة بوفاته لا يزال على قيد الحياة.
على أنه لم تكن ثمة أسباب تدعو والده إلى إثارة مسألة الخلافة بانتحال هذا الاسم، فإن الناس جميعا قد اقتنعوا - في ذلك الحين - باستحالة الرجوع إلى الماضي، والعودة إلى نظام الجماعة، وقد دلت التجارب على أن الخلافة قد سقطت بحيث لم يبق أمل في أن تقوم لها فيما بعد قائمة، وعلى هذا فقد أصبح في قلعة رباح شخص لا خطر له، ولا يترتب على وجوده أية فائدة.
ويجوز أن هذا الرجل الذي اختفى من سنين عديدة ولم يره أحد - لا من عامة الشعب، ولا من حاشية القصر - قد مات، أو أن المعتضد قد تضايق منه فأمر بقتله - كما تحقق ذلك بعض الأخبار - وليس في وسعنا أن نجزم بشيء في هذا الصدد؛ لأن أمير إشبيلية يعرف كيف يحيط أعماله بالأسرار الغامضة، وقد حدث أنه في سنة 1059 جمع رجال الدولة، ونعى لهم هشاما الذي مات من فالج أصابه، ولكنه أمر ألا يذاع خبر الوفاة ما دام في حروب مع جيرانه، أما الآن وهو في حالة سلم مع البلاد المجاورة، فقد أمر بدفن رفات أسير قلعة رباح باحتفال مشى فيه رجال الدولة، ومشى هو في الجنازة باعتباره الحاجب؛ أي: الوزير الأول، مترجلا وبدون طيلسان، وأرسل البرد بنعي هذا الخليفة إلى حلفائه في شرق الأندلس، وطلب إليهم اختيار خليفة جديد ليبايعوه، ولم يفكر أحد في ذلك بطبيعة الحال، فزعم أن الخليفة الراحل عهد إليه أن يكون أميرا على كل بلاد الأندلس من بعده، ومن المحقق أنه كان يعمل على إدراك هذا الغرض، وأن جميع جهوده كانت موجهة إليه، وقد توجهت نفسه الآن للاستيلاء على قرطبة عاصمة المملكة القديمة، ولم يدر ما كان يخبؤه له القدر من فشل وخذلان، وذلك أن جنوده أغاروا عدة إغارات على بعض الجهات التابعة لقرطبة، وانضم إلى ذلك أنه أمر ابنه إسماعيل قائد جيشه أن يستولي على مدينة الزهراء التي دمر نصفها البربر، فقابل أمره بشيء من الاستياء والامتعاض والتبرم والاعتراض، وكان قد بدأ منذ زمن يظهر الكراهة والاشمئزاز من أبيه، ويشكو قسوته وظلمه، ويرميه بأنه كان يقحم به على الأهوال والأخطار، ويعرضه لمواقع الهلكة، إذ كان يأبى في المعارك الكبيرة، وحصار المعاقل المنيعة، أن يمده بالعدد الكافي من الجند، وفوق هذا فقد حرك في نفسه عوامل الاستيلاء والبغض رجل أفاقي يدعى أبا عبد الله البرزيلي كان قد رحل من مالقة عندما استولى عليها باديس، وكان يطمع أن يكون حاجبا لأي أمير، فأثار في نفس إسماعيل فكرة الثورة على أبيه، وأوعز إليه أن يؤسس لنفسه مملكة مستقلة في جهة أخرى كالجزيرة الخضراء، وقد أتيحت للرجل أسباب النجاح إذ أظهر إسماعيل في الوقت الذي أمر فيه بالزحف على قرطبة منتهى ما يكون من الامتعاض والهياج؛ لأنه طلب من أبيه أن يمده بالعدد الذي يلزمه من الجند فأبى ، وعبثا حاول إسماعيل أن يقنعه بأن ما معه من الجند لا يكفي للزحف على ولاية كقرطبة، وبأن باديس لا بد آت لمساعدة أهلها كما فعل ذلك سابقا، وأنه إذا جاء لمعاونتهم ما دام محالفا لهم، فإنه حينئذ يضع نفسه بين نارين، ويكون مضطرا لمنازلة عدوين، فلم يصغ المعتضد إليه، بل كان في أشد حالات الغضب على ابنه، ودعاه بالجبان، وهدده بالقتل، وكان على وشك أن يبرز ذلك من حيز القول إلى حيز الفعل وأفضى إليه بقوله: «إذا لم تطع قولي، وأظهرت الخلاف علي، فإني مضطر لا محالة أن آمر بضرب عنقك.» •••
فجرحت هذه الكلمات إسماعيل في صميم نفسه، وهاج به هائج الغضب، ودفعه حرج الموقف إلى المضي في الخطة الرهيبة التي رسمها لنفسه، ولكنه جاء إلى البرزيلي ليشير عليه بما يمكن عمله، فكان من السهل على هذا أن يقول له: «إنه قد حانت الساعة لتنفيذ الخطة التي أدليت بها إليك.»
وبعد مضي يومين من سفر إسماعيل على رأس الجيش من إشبيلية بلغ رؤساء الجند أن قد ورد عليه نبأ من أبيه أن يأمره فيه بالعودة لمقابلته ليفضي إليه بأمر هام.
وقفل راجعا مع البرزيلي وثلاثين فارسا من فرسان الحرس إلى إشبيلية ولم يكن المعتضد في هذا الوقت بقصر الإمارة الحصين، بل كان قد تحول إلى قصر الزاهر الواقع على الضفة المقابلة من النهر، وآنس إسماعيل قلة الحامية والحراس، فاستولى عليه ليلا، وحمل ما فيه من كنوز ونفائس على ظهور البغال، ولكي يحول دون أن يعبر أحد النهر إلى «قصر الزاهر» لإبلاغ أبيه الحادث أمر بإغراق الزوارق الراسية تجاه الحصن، وتمكن من أخذ والدته ونساء القصر، ومضى لا يلوي على شيء في طريقه إلى الجزيرة الخضراء، وعلى الرغم من مبالغته في التكتم، وشدة الحذر والخوف من أن يصل نبأ هذا الحادث إلى أسماع أبيه، تسرب الخبر إلى أبيه من أحد فرسان ولده؛ لأنه لم يرضه هذا العمل، فاقتحم نهر الوادي الكبير سباحة وأبلغه الحادث في الحال.
فأنفذ المعتضد في أثره كتائب من الفرسان، وأرسل رسله إلى حكام حصونه في الوقت المناسب، فأوصدوا أبواب القصور التي في طريقه في وجهه، وخشي إسماعيل من تألب أصحاب القصور عليه، فلجأ إلى واحد منهم اسمه «حصادي» وهو صاحب حصن قائم على ربوة جبل عند حدود قسم شذونة وطلب إليه أن يكون في جواره وحمايته، فقبل أن يجيره، ولكن شرط عليه أن لا تبرح خيله سفح الجبل، وخرج إليه في جماعة من جنوده، ونصح له بعدم الخلاف على والده، وعرض عليه أن يكون وسيطا في الصلح بينهما، ولكونه قد فشل في محاولته هذه فشلا تاما، رأى أن ينزل عند رأيه ويعمل بمشورته، وحينئذ أذن له أن يدخل معه الحصن، وعامله بما يليق بمكانته، وأرسل إلى المعتضد كتابا يذكر فيه أن إسماعيل ثاب إلى رشده، وندم على فعلته تلك، وتوسل إليه أن يقبل وساطته ويصفح عنه، فأرسل إليه يقول: «إنه قد صفح عنه.» فعاد إسماعيل إلى إشبيلية ورد والده إليه جميع أملاكه، ولكنه شدد عليه الرقابة، وأمر بضرب رقاب أبي عبد الله ومن معه، وعلم إسماعيل بذلك فسقط في يده، وأدرك مبلغ خيانة والده وغدره، ووجد أنه قد وقع في الشرك الذي نصبه له من الصفح المزعوم، فأعمل الحيلة في الخلاص، وكسب بقوة المال الحراس، وطائفة من العبيد، وجمعهم - ذات ليلة - على الشراب ليبعث فيهم الحماس والجرأة، وقلدهم السلاح وتسور بهم ناحية من القصر رأى الوصول إليها هينا، وكان يقدر أن يصادف والده في هذه الساعة نائما، وقد صمم في هذه المرة أن يقضي عليه القضاء الأخير، ولكنه سرعان ما ظهر المعتضد فجأة على رأس حاميته، وما هي إلا أن عاينه المتآمرون حتى لاذوا بالفرار، ولكن جنود الحامية تعقبوهم إلى أن جاءوا بهم معتقلين، وكان الغضب قد وصل بالمعتضد إلى أقصى حد، فأخذ ابنه إلى مكان بعيد من القصر، وأرداه بيده قتيلا بحيث لم يشهد مصرعه أحد، وهاج به هائج الغضب فأخذ يقتل وينكل بشركائه وأصدقائه وخدمه، وحتى بنساء قصره، وكم أمر ببتر أيد وأرجل وجدع أنوف ، وقطع رءوس، وقتل في السر وقتل في العلن. وبعد أن شفي غيظه وسكنت ثورة غضبه، تملكه حزن عميق وتنبه في قرارة نفسه تأنيب شديد، ووخز في الضمير أليم، وما كان يشفع لهذا التأنيب وذلك الألم النفساني الدائم، أن ابنه القتيل كان آثما على الحقيقة جديرا بما حل به من العقوبة، فقد ثار عليه، وحاول قتله في محاولتين فشلتا معا، وسرق ذخائره وأعلاقه وكنوزه حتى لقد سرق مع ذلك نساءه، وكان لا يفتر لحظة عن التصريح بهذه الشناعات والجرائم التي ارتكبها ابنه، ولا عن التحدث بأنه كان يحبه حبا حقيقيا، فإنه مع جبروته وقسوته كان يحب أسرته وبخاصة ابنه الذي كان يرى فيه العاقل الرشيد السديد الرأي في المجلس، والقائد المدافع عن حوزة المملكة في ميادين القتال، والعون الوحيد له في شيخوخته، والمتمم لعمله إذا وافاه الأجل المحتوم، وها هو قد حطم بيده تلك الآمال، وقضى بنفسه على كل تلك الأماني.
وحكى بعض وزراء إشبيلية قال:
في اليوم الثالث لهذه الكائنة المحزنة، والفجيعة الدامية، دخلت أنا وزملائي على المعتضد في مجلسه، وكان وجهه مربدا تعلوه كآبة الحزن، في منظر موحش فظيع، فعرتنا دهشة، وارتعنا هلعا وفزعا، وتقدمنا فحييناه، وهو يجمجم بكلام لم نتبينه، فنظر إلينا نظر استثبات وتفحص، وجعل يصعد فينا بنظره ويصوب، ثم قال في زمجرة كزمجرة الأسد: «ما بالكم لا تنطقون أيها الأشقياء؟ إنه ليسركم في الباطن ما أنا فيه الآن من محنة وبلاء، فاذهبوا بعيدا عني، واخرجوا من هذا المكان.»
وربما استحال ذلك النشاط الوحشي، وتحولت تلك الإرادة الحديدية الآن إلى ذلة وضعف وفتور وانكسار لأول وهلة، وأصبح ذلك القلب المقدود من الصخر، والذي كان يلوح أنه بمنجاة أن يطعن في الصميم لصلابته وقسوته، قد أصيب بجرح دام يندمل على الزمن شيئا فشيئا، ولكن بعد أن يترك أثرا عميقا، وفي هذه الفترة ترك جمهورية قرطبة في راحة وطمأنينة، وقد سرتها هذه الطمأنينة المفاجئة على قدر دهشتها بها، وكذلك لم يعد الآن يفكر في خططه الحربية ومشاريعه الواسعة، ثم عادت تلك الأطماع تتحرك في نفسه بصفة غير محسوسة، ثم تنبهت عوامل الجشع والطمع في نفسه، فأخذ يعد الأهبة للاستيلاء على مالقة.
1 •••
وكان نير باديس قد أثقل كواهل العرب في مالقة منذ سنين، وأخذوا يلعنون أيامه، ويئنون من جبريته وظلمه، وصاروا يعقدون الآمال في الخلاص من هذا الحكم الغاشم على أمير إشبيلية، وهم وإن كانوا على يقين من أنه مثله في الظلم، إلا أنهم كانوا يؤثرونه على باديس لأنه من جنسهم، ولهذا اتفقوا مع المعتضد، ودبروا مؤامرة كان باديس بتهاونه أول مساعد على تحقيقها، لإدمانه على الشراب، وإغفاله شئون دولته إلا في أوقات قليلة نادرة.
وفي اليوم المضروب موعدا لتنفيذ المؤامرة شبت في العاصمة ثورة، اشترك في إضرامها خمسة وعشرون حصنا، وتلاحقت في نفس الوقت جيوش إشبيلية بقيادة المعتمد بن المعتضد، فاجتازت الحدود لمساعدة الثائرين، فأخذت البربر على غرة، ولعب السيف في رقابهم ولم ينج منهم إلا من تعجل الفرار، وفي أقل من أسبوع من الزمن تم فتح جميع الولاية، إلا حصن مالقة الذي كان به حامية البربر فإنه بقي وحده بدون تسليم، وهو حصن منيع لوقوعه على قمة جبل، ولمناعته كان في استطاعته أن يقاوم مدة طويلة، وحينئذ كان يخشى أن ينتهز باديس الفرصة فيجيء لشد أزر الحامية، وهذا ما حسب له زعماء الثورة ألف حساب، فأشاروا على المعتمد أن يشدد الحصار على من في الحصن، وألا يثق كثيرا بجماعات البربر الذين في جيشه، ولم يقدر المعتمد قيمة هذه النصائح الثمينة، ولم تلق منه أذنا صاغية، بل تهاون في الأمر، وآثر الراحة، وأطلق سراح الجند الذين أعجبوا بهذا المسلك الحسن، فعكفوا على الشراب، وأخذوا يبحثون عن النساء، لاعتقادهم أنه لا خطر هناك يتهددهم، وقد غرهم ما قاله رؤساء البربر للمعتمد من أن الحصن عما قليل ستسلم حاميته، وكانت هذه الخديعة من البربر بدافع ميل خفي إلى باديس، وقد جر ذلك كثيرا من الشؤم على جيوش إشبيلية، فإن أولئك السودان الذين هم في الحصن، وجدوا عندهم متسعا من الوقت يخبرون فيه باديس بأن الفرصة سانحة لمباغتة عسكر المعتمد والقضاء عليه.
فجدت جنود غرناطة في المسير، وشقت طريقها إلى مالقة بين الجبال والأوعار في سرعة وحذر، ودخلت المدينة على حين غفلة من أهلها، دون أن يكون عند المعتمد قبل دخولهم بلحظة واحدة علم باقترابهم، فلم يستطع أن يجمع الجيش لملاقاة العدو، ولم تكن بين الجيشين معركة، وكل ما في الأمر أن جند غرناطة قاموا بمذبحة في عسكر إشبيلية الذين كانوا عزلا من السلاح، والذين كان أكثر من نصفهم سكارى، وقد أفلت المعتمد من أيديهم بانسحابه إلى رنده واضطرت ولاية مالقة جميعها أن تخضع من جديد لحكم باديس.
ولنتصور هنا مبلغ حنق المعتضد وغضبه حين نمى إليه خبر هذه الهزيمة، وأن ولده بتهاونه وتضييعه خطة الحزم قد فقد جيشه، وفقد ولاية عظيمة، وكان من نتيجة هذا الغضب أن أصدر أمره باعتقال المعتمد مع مسجوني حصن رنده وقد هم أن يقضي على ولده الثاني في حياته أيضا، ناسيا وخز الضمير الذي أصابه لقتله ولده الأول.
وكان المعتمد يجهل مبلغ ما وصل إليه والده من الغضب والحسرة والندم، ولما استقر في الحصن، وعرف مدى غضب والده بعث إليه بقصيدة تفيض بالمديح والثناء، وتشيد بكرم المعتضد، وتستجلب عطفه وصفحه، وتقتضي فؤاده الرحمة والشفقة، بذل في هذه القصيدة كل ما في استطاعته ليصرف عن والده ما ساوره من حزن، وألم به من ألم، وليعزيه عن هذا المصاب وذلك الإخفاق بما أحرزه فيما مضى من انتصارات باهرة، وفتوحات اتسعت بها رقعة المملكة، ومن أجمع الأبيات لهذه المعاني قوله في صدر قصيدته الرائية:
سكن فؤادك لا تذهب بك الفكر
ماذا يعيد عليك البث والحذر
وازجر جفونك لا ترضى البكاء لها
واصبر فقد كنت عند الخطب تصطبر
وإن يكن قدر قد عاق عن وطر
فلا مرد لما يأتي به القدر
وإن تكن كبوة في الدهر واحدة
فكم غزوت ومن أشياعك الظفر
كم زفرة في شغاف القلب صاعدة
وعبرة من شئون العين تنحدر
فوض إلى الله مما أنت خائفه
وثق ب «معتضد بالله » يغتفر
ولا ترعك خطوب إن عدا زمن
فالله يدفع والمنصور ينتصر
واصبر فإنك من قوم أولي جلد
إذا أصابتهم مكروهة صبروا
من مثل جدك والملك الهمام أبو
عمرو أبوك له مجد ومفتخر
سميذع يهب الآلاف معتذرا
ويستقل عطاياه ويحتقر
له يد كل جبار يقبلها
لولا نداه لقلنا إنها الحجر
يا ضيغما يقتل الأبطال مفترسا
لا توهنني فإني الناب والظفر
وفارسا تحذر الأبطال صولته
صن حد عبدك فهو الصارم الذكر
هو الذي لم تشم يمناك صفحته
إلا تأتى مراد وانقضى وطر
ثم حاول في قصيدته هذه أن يعتذر عن نفسه، ويلقي التبعة على البربر الخائنين، ويصف بأبدع أسلوب مبلغ الحزن الذي تملكه من جراء غضبه عليه فقال:
لم يأت عبدك ذنبا يستحق به
عتبا وها هو قد وافاك يعتذر
ما الذنب إلا على قوم ذوي دغل
وفى لهم عدلك المألوف إذ غدروا
قوم نصيحتهم غش، وحبهم
بغض، ونفعهم إن صرفوا ضرر
يميز البغض في الألفاظ إن نطقوا
ويعرف الحقد في الألحاظ إن نظروا
إن يحرق القلب نفث من مقالهم
فإنما ذاك من نار القلى شرر
مولاي! دعوة مظلوم به ظمأ
برح، وفي راحتيك السلسل الخصر
أجب نداء أخي قلب تملكه
أسى، وذي مقلة أودى بها السهر
لم أوت من زمني شيئا أسر به
فلست أعهد ما كأس ولا وتر
ولا تملكني دل ولا خفر
ولا سبى خلدي غنج ولا حور
رضاك راحة نفسي - لا فجعت به -
فهو العتاد الذي للدهر أدخر
وهو المدام التي أسلو بها فإذا
عدمتها عبثت في قلبي الفكر
ما تركي الخمر من زهد ولا ورع
فلم يفارق - لعمري - سني الصغر
وإنما أنا ساع في رضاك، فإن
أخفقت فيه فلا ينسأ لي العمر
أجل ولي راحة أخرى أسر بها
نظم الكلى في القنا والهام تنتثر
كم راحة لي في الأعداء واضحة
تفنى الليالي ولا تفنى لها الذكر
سارت بها العيس في الآفاق فانتشرت
فليس في كل حي غيرها سمر •••
لا زلت ذا عزة قعساء شامخة
لا يبلغ الوهم أدناها ولا البصر
ولا يزل وزر من حسن رأيك لي
آوي إليه، فنعم الكهف والوزر
وقد أثر هذا الشعر - بروعته وسمو معانيه وانسجام عباراته - في نفس المعتضد وأخذ يرق تدريجا، ويعطف على ولده، كما عطفه عليه رجل معروف بالصلاح والورع من رجال رندة أكثر من التوسلات والشفاعات التي رق لها قلبه، ولان جانبه، فأباح للمعتمد العودة إلى إشبيلية، وصفح عنه، ولكن مالقة قد أفلتت من يده بحيث لا سبيل إلى رجوعها، واستيقظ باديس» من ذلك الحين وأخذ في الأهبة والاستعداد والحيطة حتى لا يحاول المعتضد» مباغتتها والانقضاض عليها مرة أخرى، ومما يقال عن ملك غرناطة أنه كان في ثورة غضبه لا يرحم، وأنه كان ينتقل من مكان إلى مكان للانتقام من الثائرين والزعماء، وهو محاط بجلاديه، وأنه أودى بحياة الآلاف من المساكين الذين ثاروا عليه وأبادهم تقتيلا وتمثيلا، وإحراقا وتنكيلا، فلم يعد أحد من الثائرين الكارهين لحكمه يرغب في إعادة الكرة عليه ثانية. •••
ووجد الناقمون عليه في وسط هذه المحنة الشديدة والعذاب المستأصل سبيلا لإثارة الخواطر حيث آنسوا أن نفوذ اليهود في بلاط غرناطة قد بلغ النهاية، فإنه بعد أن مات إسماعيل خلفه ولده يوسف الذي عني أبوه في حياته بتعليمه كثيرا من العلوم، وأعده إعدادا تاما للقيام بأعباء الوزارة بعده، وقد اضطلع بمنصب كبير الوزراء في الدولة، ولديه كل المؤهلات العلمية والتثقيفية، إلا أنه كان يعوزه لين الجانب، والتواضع الذي كان يكسب والده - مع سمو المركز - صفح الأمير ورضا الجميع عنه. ولم يكن يوسف على شاكلة أبيه من هذه الناحية، بل كان يظهر بمظهر أميره باديس ممتطيا جواده إلى جانبه، وركابه بإزاء ركابه، وشارته في اللبس كشارته، حتى إن الناظر إليهما لا يفرق بين الأمير ووزيره.
بل لقد كان يوسف في الحقيقة ملكا فوق الملك، وكان هو المسيطر المتسلط على باديس لعكوفه على شرابه، وانغماسه في لهوه وبطالته، ولكي يستمر نفوذه وسلطانه على المملكة كان قد أحاط باديس بجواسيس وعيون من نساء وفتيان قصره، استغلهم بالمال ، وغمرهم بالإحسان، فلا يكاد باديس ينبس أو يتنفس إلا وهو يعلم ذلك. •••
وذهب كثير من الناس إلى أنه لم يكن على دين آبائه وأجداده، وأنه كان مستهترا يحتقر الأديان جميعا، وقالوا: إنه لم يكن يهوديا إلا بالاسم فقط، وكان - في حملاته على الدين الموسوي - لا يكاد يصرح بالطعن، أما الدين المحمدي فكان يجهر بالغض منه، ويعيب أحكامه، هذا إلى أنه كان يحرف كثيرا من آيات القرآن، يضاف إلى ذلك أنه أساء إلى العرب والبربر بل واليهود، وجرح كرامة الجميع بكبريائه وترفعه وإعجابه وزهوه، وآرائه اللادينية وقلة إنصافه، وعدم رعايته العدل، وحام حوله كثير من الشبه والظنون، وأصبحت تعزى إليه تهم وتذاع مخاز وفضائح، واستهدف لكثير من الألسنة وحمل كثيرا من جمهرة المسلمين على معاداته، بينهم الزاهد أبو إسحاق الألبيري الذي ذاعت قصيدته في الإغراء باليهود.
عصف الشباب بهذا الرجل، فسولت له نفسه أن يتطلع لمركز في البلاد يرى نفسه - لمنصبه وسابقته في الزهد والورع - أهلا للحصول عليه، فخيب يوسف آماله فرحل وهو يحمل في نفسه من الحقد والكراهة له ولليهود ما حفزه على أن ينظم فيهم قصيدته التي يقول في مطلعها:
ألا قل لصنهاجة أجمعين
بدور الزمان وأسد العرين
مقالة ذي مقة مشفق
يعد النصيحة زلفى ودين
لقد ذل سيدكم ذلة
تقر بها أعين الشامتين
تخير كاتبه كافرا
ولو شاء كان من المؤمنين
فعز اليهود به وانتخوا
وتاهوا، وكانوا من الأرذلين
ومنها:
فكم مسلم راغب راهب
لأرذل قرد من المشركين
وما كان ذلك من سعيهم
ولكن منا يقوم المعين
فهلا اقتدى فيهم بالألى
من القادة الخيرة المتقين
2
وأنزلهم حيث يستأهلون
وردهم أسفل السافلين
فلم يستخفوا بأعلامنا
ولم يستطيلوا على الصالحين
ومنها يخاطب السلطان:
أباديس
3
أنت امرؤ حاذق
تصيب بظنك نفس اليقين
فكيف خفي عنك ما يعبثون
وفي الأرض تضرب منها القرون؟
وكيف تحب فراخ الزنا
وقد بغضوك إلى العالمين؟
وكيف يتم لك المرتقى
إذا كنت تبني وهم يهدمون؟
وكيف استنمت إلى فاسق
وقارنته، وهو بئس القرين؟
ومنها:
وإني حللت بغرناطة
فكنت أراهم بها عابثين
وقد قسموها وأعمالها
فمنهم بكل مكان أمين
ومنها:
وهم أمناكم على سركم
وكيف يكون أمين خئون
ويأكل غيرهم درهما
فيقصى، ويدنون إذ يأكلون.
وقد ناهضوكم إلى ربكم
فما يمنعون وما ينكرون!
ومنها:
ورخم قردهم داره
وأجرى إليها نمير العيون
وصارت حوائجنا عنده
ونحن على بابه قائمون
ويضحك منا ومن ديننا
فإنا إلى ربنا راجعون
4 •••
ولو قلت في ماله إنه
كمالك كنت من الصادقين
فبادر إلى ذبحه قربة
وضح به فهو كبش سمين
ولا ترفع الضغط عن رهطه
فقد كنزوا كل علق ثمين
وفرق عراهم وخذ مالهم
فأنت أحق بما يجمعون
ولا تحسبن قتلهم غدرة
بل الغدر في تركهم يعبثون
فقد نكثوا - عندنا - عهدهم
فكيف نلام على الناكثين
وكيف تكون لنا همة
ونحن خمول وهم ظاهرون
ونحن الأذلة من بينهم
كأنا أسأنا وهم محسنون
فلا ترض فينا بأفعالهم
فأنت رهين بما يفعلون
وراقب إلهك في حزبه
فحزب الإله هم المفلحون
وكان أثر هذه القصيدة في نفس باديس الذي أولاه ثقة لا حد لها بالغا الغاية، كما أنها أثرت تأثيرا عميقا في نفوس البربر، فثاروا للانتقام، وحلفوا ليقتلنه، وأذاع زعماء المؤامرة أن اليهودي انضوى تحت لواء المعتصم أمير المرية وكانت العلاقة بين الغرناطيين وبينه علاقة حرب لا سلم. وقد يتساءل بعض الناس ممن كانوا أقل تصديقا: ما الفائدة التي يجنيها يوسف من خيانته ملكا وثق به، وسلم إليه قياده، وجعله صاحب السلطان التام دونه في المملكة؟ لقد أشاعوا حينئذ أن اليهودي يريد أن يمكن المعتصم من الاستيلاء على المملكة، ثم يعود هو فيقتل باديس ويتبوأ العرش مكانه، ولسنا في حاجة لأن نبين أن كل هذه الإشاعات من قبيل الأراجيف والوشايات المحضة، وإذا نظرنا إلى الواقع رأينا أن البربر كانوا يودون خلق الأسباب التي تدعو إلى إبعاد اليهودي عن الحكم، والاستيلاء على ما يملكه اليهود من أموال وثروات يحسدونهم عليها، ويتمنون أن لو كانت في حوزتهم، ولما وجدوا أنهم قد ظفروا بالأسباب التي تبرر الفتك باليهود ثاروا جميعا، وهاجموا قصر الإمارة مع العامة، ودخلوا في طلب اليهودي، فزعموا أنه اختفى في بيت فحم وسود وجهه، يريد أن يتنكر ويلبس عليهم صورته، فعرفوه وقتلوه وصلبوه على باب المدينة.
5
ثم عمدت صنهاجة بعد ذلك إلى قتل سائر اليهود، فقتل في يوم منهم مقتلة عظيمة، ونهبت دورهم، وقد بلغ عدد من قتل منهم أربعة آلاف يهودي ذهبوا ضحية العداوة الدينية (30 ديسمبر سنة 1066).
الفصل الثامن
لم تكن الحال في بقية أنحاء إسبانيا الإسلامية خيرا منها في البلاد الجنوبية، فقد حمي وطيس النزاع من جراء بقايا الشئون الخلافية، وأخذ سيل الفتن يطغى على وسط الجزيرة وشرقيها وغربيها حتى كاد يجرف أمامه جميع الممالك الإسلامية المنبثة في شبه الجزيرة.
وكان قد مضى على الممالك المسيحية نصف قرن وهم بشئون بلادهم مشغولون عن غزو الممالك الإسلامية، وبدأت الحال في سنة 1055م تتحول، فاستطاع «فردينند» ملك قشتالة وليون أن يوجه جميع جيوشه لقتال المسلمين، الذين كانوا - على ما يظهر - لا يستطيعون أن يقاوموا خصومهم مقاومة جدية، وهكذا أصبح الفوز حليف المسيحيين، فقد كان لهم من الروح الحربي، والحمية القومية، والغيرة الدينية ما لم يكن عند المسلمين، فكانت حروب «فردينند» سريعة، وانتصاراته متلاحقة، فانتزع من المظفر ملك بطليوس سنة 1057م مدينتين وأخذ من ملك «سرقسطة» جميع الحصون والمعاقل التي تقع في الجنوب، وشن الغارة على المأمون صاحب طليطلة وزحف بجيوشه، ولما كان المأمون أضعف من أن يثبت للعدو، فقد رأى من الحكمة أن يتقدم إلى «فردينند» عند قدومه بالهدايا الثمينة من الذهب والفضة والأحجار الكريمة، ويعرض عليه ولاءه، ويؤدي له الجزية كما فعل ذلك من قبل ملكا بطليوس وسرقسطة. •••
وجاء - بعد هؤلاء - دور المعتضد، ففي سنة (1065) أحرق «فردينند» قرى إشبيلية، وباتت الممالك الإسلامية جميعها في أشد حالات السوء والضعف مما جعل المعتضد - وهو أقوى ملوك الأندلس - يرى من الحكمة أن يحذو حذو المأمون في إعطاء الإتاوة لفردينند، فمضى إلى معسكره وقدم إليه هدايا ثمينة وتوسل إليه أن يبقيه على ملكه، ولما رأى من المعتضد جلال الشيخوخة، وتغضن الجبين ، واشتعال رأسه شيبا وأنه متهدم القوى، لاح له أنه بمنجاة عن المكر والخبث، وكان المعتضد لما يعد السابعة والأربعين من عمره، ولكن الهموم وشدة الطمع والجشع، وكثرة العمل، وفرط الظلم، وتأنيب الضمير - على ما يظن - كل أولئك، قد أحال لونه، وأبدى على معارف وجهه مظاهر الشيخوخة في إبان الكهولة، فلا غرابة إذا رحمه ملك قشتالة وأثرت شيخوخته في نفسه، ولكن هذا لم يرتح إلى دفع الإتاوة، ورأى أن يستشير أهل مملكته ويستفتي فيها الفقهاء، فجمعهم ليرى رأيهم فيما يكون من الشروط، وأن يقرروا من الرأي ما يعرضونه عليه، فاجتمعت كلمتهم على أن يدفع ملك إشبيلية جزية سنوية، وأن يسلم إلى رسل يرسلهم إليه «فردينند» جثمان القديسة «جوست» العذراء التي استشهدت في عصر الاضطهاد الروماني.
فقبل المعتضد الشرطين، وانسحب «فردينند» بعسكره، ولما وصل إلى ليون أوفد إلى إشبيلية «الڤينوس» أسقف العاصمة و«أردو» أسقف «استورقه» وأوجب عليهما أمرين:
الأول:
نقل جثمان القديسة.
والثاني:
تسوية مسألة الجزية.
وأسف «الڤينوس» - مع زميلين له - حيث لم تسفر أعمال التنقيب التي أجريت للعثور على رفات القديسة عن نتيجة، مما حمل «الڤينوس» أن يقول لرفيقيه: «إنكما أيها الأخوان، تريان أنه إذا لم تسعفنا الرحمة الإلهية فسنعود من هذه الرحلة الشاقة، وقد ضاع كل ما علقناه عليها من أمل، والظاهر أنه لا بد لنا من أن نستلهم المولى سبحانه وتعالى، ونتجه إليه بالصلاة والصيام ثلاثة أيام نسأله فيها الهداية إلى هذا الرفات الدفين، والكنز الثمين، الذي نبحث عنه في خبايا الأرض.» وبناء على هذا العهد الذي عاهدوا الله عليه أمضوا ثلاثة أيام صائمين مصلين داعين حتى أثر ذلك في صحة «الڤينوس» وكانت معتلة، وبخاصة منذ قدم إلى إشبيلية، وفي صبيحة اليوم الرابع جمع الأسقف رفاقه ثانية، وقال لهم: «إن رحمة الله لم تشأ أن نرتد من رحلتنا هذه بالخيبة والفشل، فواجب علينا أيها الرفاق المحبوبون أن نشكر الله من صميم قلوبنا، فقد تم أمره، ونفذ قضاؤه بأنكم ستحملون إلى وطنكم ما لا يقل قدرا عن رفات القديسة «جوست» التي حرم الله علينا إخراجها من هذه الأرض ، ذلك هو جثمان السعيد «إيزيدور» الذي حمل التاج الأسقفي إلى هذه البلاد، والذي زان - ببلاغته ومنشآته - إسبانيا كلها، وقد كنت اعتزمت أيها الإخوان، أن أقضي الليلة ساهرا أبتهل وأدعو وأصلي لله، ولكن خانتني قواي، فما كدت أجلس لحظة حتى بلغ مني الإعياء مبلغه، فأخذتني سنة من النوم، فرأيت كأن شيخا عليه سمة الرهبان يقول لي: «لقد عرفت ما جئت أنت ورفقاؤك من أجله، وقد أبت الإرادة الإلهية أن تحرم المدينة من رفات القديسة «جوست» فيخيم على ربوعها الحزن، وينتابها الألم، كما أبى اللطف الإلهي إلا أن يهبكم جثماني رحمة بكم حتى لا تعود أنت ورفقاؤك بأيد أصفار من هذه الأمنية التي طالما تكبدتم من أجلها المشاق.»
فقلت: «ومن تكون أنت؟» قال: «أنا بدأت كبير قساوسة هذه المدينة، وانتهيت طبيب إسبانيا كلها، أنا «إيزيدور».» واختفى شبحه عني - على إثر هذه الكلمات - واستيقظت فصليت شاكرا لله، ودعوته أن يعيد هذه الرؤيا علي مثنى وثلاث إن كانت وحيا من لدنه، فعاودتني الرؤيا مرتين؛ كان الشيخ في كل منهما يوجه إلي نفس عباراته الأولى بعينها، وزاد في المرة الثالثة أن أراني موضع قبره، وقد ضرب عليه بعصا في يده ثلاثا وهو يقول: «هنا، هنا، هنا، تجد جثماني، ولا يقعن في خلدك أنني شبح يخدعك، وستوقن أن ما أنبأتك به هو الحق، وآية ذلك أن رفاتي لا يكاد ينقل من موضعه حتى ينزل بك داء يستعصي على نطس الأطباء شفاؤه، ثم تموت، وتأتي إلى عالمنا متوجا بتاج البررة الصالحين.»
واختفى بعد أن أتم هذه الكلمات.»
وذهب «الڤينوس» وزملاؤه إلى قصر المعتضد وقص عليه رؤياه، واستأذنه في نقل رفات «إيزدور» عوضا عن نقل رفات القديسة «جوست».
وقد ترك كلام الأسقف في نفس المعتضد أثرا غريبا، ذلك الرجل المتشكك الساخر الذي لا يدين بغير شيئين اثنين: هما الخمر، والملك، ولكنه من باب الدهاء قد أصغى باهتمام إلى كلام الأسقف، وقد قال له بعد أن فرغ من كلامه بلهجة تشف عن حزن عميق: «إني آسف جد الأسف فإني إن أعطيتك رفات «إيزيدور» فماذا يبقى لي بعد ذلك؟ على أني أيها الشيخ الوقور لا أمتنع عن تنفيذ رغباتك، وليكن ما أردت، قم فنقب وابحث عن القبر، وانقل رفات الراقد فيه على الرغم مما يساورني بعد ذلك من أجله.»
وكان ذلك العربي الداهية، والثعلب الماكر، يعرف كيف يستفيد من شفقة المسيحيين، ولو أنه كان يسخر من فرط هذه الشفقة إذا خلا مع نفسه.
وقد أحس من نفسه أن عليه جزية واجبة الأداء، فرأى أن يتظاهر بأنه شديد الاهتمام ببقايا «إيزيدور» التي لا يفرط فيها إلا مرغما كارها، والتي يعدل إخراجها من قصره انتزاع روحه من جسده. •••
وعول على استغلال هذا الموقف لفائدته، فكان يفعل فعل المدين الذي إذا ما ألح عليه دائنوه وأحرجوه، عرف كيف يدخل في الحساب ذلك الأثر الخالد النادر ويغالي في ثمنه، ويحمل دائنيه على قبوله، وهكذا لعب المعتضد دوره إلى النهاية، فإنه عندما أراد «استورجه» وقد توفي أخيرا زميله «الڤينوس» أن يأخذ الأهبة لمبارحة إشبيلية وحمل رفات «إيزيدور» في مركب جاء المعتضد ووضع على التابوت غطاء من الديباج المحلى بالنقوش والكتابات العربية البديعة وجعل يصعد الزفرات، ويتصنع الحسرات، وهو يقول: «ها أنت ذا تبرح المدينة يا «إيزيدور» المبجل، وأنت تدري ما بين بلدينا من أوثق روابط المودة والعلائق.»
وكان العام التالي (1064) من أسوأ الأعوام وأشدها على المسلمين، فاضطر أحد أمرائهم إلى الاستسلام والنزول على حكم «فردينند» بعد أن شدد عليه الحصار ستة أشهر، وقضت شروط الصلح أن يعطى للظافر خمسة آلاف من المدافعين، وأن يغادر الباقون مساكنهم غير مزودين إلا بما يلزمهم من النقود لسفرهم، وفضلا عن ذلك فقد أمر جميع المسلمين النازلين بين «دويرو» و«منتاجو» بأن يجلوا عن بلادهم.
ووجه «فردينند» بعد ذلك قوته إلى مملكة بلنسية، وعليها ذلك الضعيف المتراخي «عبد الملك المظفر» الذي خلف أباه عبد العزيز سنة (1061).
وحاصر «القشتاليون» العاصمة، ولكنهم - بعد أن وجدوها منيعة - رأوا أن يلجئوا إلى الحيلة ليخلو العاصمة من الحامية، فتظاهروا بالانسحاب، فخرج البلنسيون في ثياب العيد يتعقبونهم، وهم يظنون أن الانتصار أمر سهل، على أن هذه الجرأة قد كلفتهم ثمنا باهظا، فقد باغتهم القشتاليون بالقرب من الطريق المؤدية من بلنسية إلى «مورس» وقتلوا أكثر رجالهم، ونجا ملكهم على ظهر سابح، وكان الاستيلاء على قلعة «باريسترو» وهي من أهم القلاع في الشمال الشرقي بعد نكبة أخرى مروعة.
وقد سقطت هذه القلعة في يد جيش من النورمنديين كان يقوده «غليوم دي منتري» كبير قواد البابا، ويطلق عليه في روايات الفروسية اسم «أوركوني» أي القصير الأنف، وكانت خاتمة المقهورين خاتمة أليمة، فقد سلم جنود الحامية على شريطة الإبقاء على حياتهم، ولكنهم - حين خرجوا - من الحصن قتلوا على بكرة أبيهم، ولم يكن حظ العامة أحسن من حظ الجند، فقد أمنوهم أيضا على حياتهم، وبينما هم يتأهبون للرحيل من المدينة، إذ نظر «غليوم دي منتري» فراعه كثرة عددهم، واستولى عليه القلق والاضطراب، فمنعهم من الخروج وأمر رجاله أن يصفوهم صفوفا متقاربة، وأعمل فيهم القتل، ولم يكف عن المذبحة إلا بعد أن قتل منهم ستة آلاف رجل، ثم أمر البقية الباقية أن يعود كل إلى منزله ومعه زوجه وولده، وذهب النورمنديون واقتسموا - فيما بينهم - كل شيء وصلت إليه أيديهم، وأصاب كل فارس لنفسه منزلا - كما روى ذلك بعض مؤرخي العرب في ذلك العهد - فكان له كل ما في المنزل من أزواج وبنات وأولاد ونقود ومتاع، وكان له بحكم الاستيلاء والأسر أن يفعل برب الدار ما أراد من ضروب القهر، وصنوف التعذيب حتى يضطره للإذعان والاعتراف بما عساه أن يكون قد أخفاه من مقتنيات وأموال، وكان من الخير الكثير للمسلم أن يقضي نحبه خلال هذا التعذيب؛ لأن حياته كانت مقرونة بما لا يطيق من الألم والتبريح والعذاب المطرد، ومن أشد ما كان يفعله هؤلاء من النكاية والعار والفضيحة للمسلمين أنهم كانوا يهتكون أعراض الزوجات والبنات أمام أزواجهن وآبائهم وإخوتهم وعلى مرأى منهم، وهم موثقون بالسلاسل والأغلال ليكرهوهم على شهود هذه المناظر الفاضحة المخزية، وكان أولئك الأسرى المساكين لا يملكون بإزاء هذه الحالة المخزية المحزنة غير صياحهم وإسبال دموعهم الغزيرة هلعا وتأثرا من تلك المناظر التي كانت تتحطم بإزائها قلوبهم، وتنشق لها مرائرهم. •••
ولم تدم هذه الحوادث طويلا، فقد كان من حسن حظ المسلمين أن غادر «غليوم» وجنوده إسبانيا عائدين إلى بلادهم، حيث ينعمون بما أصابوه من مغانم وأموال، ولم يبق في المدينة غير حامية ضعيفة، وقد أمكنت الفرصة المنذر ملك سرقسطة من الاستيلاء عليها حيث أمده المعتضد بخمس مئة فارس فاستولى عليها في ربيع السنة التالية.
وكان «فردينند» يواصل جهوده للاستيلاء على بلنسية؛ ولذلك كان مركز صاحب هذه المدينة في نهاية الحرج والخطورة بالرغم من أن صهره المأمون أمده بما في استطاعته من المدد الكافي، ولكن الذي نفس عنه هذا الضيق مرض «فردينند» واضطراره للعودة إلى ليون، على أنه - بعد سفر عدوه المفاجئ - لم يدم سروره، ولم يسكن فزعه، ولم يهدأ روعه، فقد خلعه صهره من المملكة، وأدمجها في مملكته بعد أن اعتقله بعض حصونه، ولم يمض على هذا العاهل المريض والعدو المفزع الرهيب غير برهة من الزمن يسيرة ثم قضى نحبه، فتنفس المسلمون بموته الصعداء، وقد كان «فردينند» مثالا حسنا، وقدوة صالحة لغيره من الملوك في البسالة والإقدام والتقوى وسلامة الضمير ونقاء الجيب، وختمت حياته الحافلة الرائعة، بخاتمة حسنة رائعة، وذلك أنه حين أسرع بالعودة إلى بلاده وصل إلى ليون يوم السبت 24 ديسمبر فذهب - من فوره - إلى الكنيسة، وصلى فيها صلوات وهبها إلى روح القديس «إيزيدور»، ودخل قصره فلبث فيه بضع ساعات، وبدأ يشعر إلى درجة اليقين أن حينه قد حان، وأن ساعته الأخيرة قد دنت، فعاد - حين أرخى الليل سدوله - إلى الكنيسة حيث كان القساوسة يحيون ليلة عيد الميلاد بترتيلاتهم وأنغامهم الشجية، وبينما كانوا يرتلون الصلاة الأخيرة في سحر تلك الليلة، على نظام الطقوس في طليطلة حسبما كان متبعا في ذلك الحين، شارك «فردينند» القساوسة في صلواتهم، ومزج صوته الضعيف بأصواتهم، وطلب إليهم - عند طلوع الفجر - أن يسمعوه «القداس»، وبعد أن نال سر القربان المقدس خارت قواه، فأقيم إلى سريره، وهو يمشي غير مستمسك معتمدا على بعض رجال الحاشية، وفي صبيحة اليوم التالي ارتدى ملابسه الملكية، وأخذ إلى الكنيسة فخلع المعطف الملكي والتاج، وجثا على ركبتيه أمام المذبح، وقال بصوت واضح: «لك القوة والملك يا رب، أنت ملك الملوك، لك ملك السموات والأرض، إنني راد إليك ما أعطيتني من الملك الذي وليته ما شاءت إرادتك، ضارع إليك أن تدخل في وسيع رحمتك روحي الذي طهرته وخلصته من أدران هذا العالم.»
ثم سجد على الأحجار يجأر بالبكاء، ويستغفر من ذنوبه، وأمر عليه يده أحد القساوسة فنال المسحة الأخيرة، وسجي بالمسوح، وغطي رأسه برماد، وأخذ يرتقب الموت وهو مملوء إيمانا ويقينا وطمأنينة.
وفي الغد «الثلاثاء» أسلم الروح، أو رقد الرقدة الأخيرة الهادئة فكانت تعلو محياه ابتسامة وادعة مشرقة.
وأعقبت هذه الوفاة وفاة أخرى هي بطبيعة الحال أقل شأنا من الأولى،
1
فقد مات المعتضد يوم السبت 28 فبراير سنة (1069) وكان قبل عامين من وفاته قد أدمج قرمونة في مملكته، واقترف جريمة قتل جديدة، إذ طعن بخنجر في يده رجلا من إشبيلية يدعى أبا حفص.
وما كان يدور بخلد المعتضد أن أيدي القشتاليين ستمتد يوما إلى ذلك التاج الذي وضعه على رأسه بقوة الحيلة والخيانة والغدر.
وفي آخر سني حياته امتلأت رأسه بالمخاوف، والأفكار السوداء، وقد تحققت نبوءة بعض الناظرين في ميلاده من المنجمين، كما أشرنا إلى ذلك آنفا، وهي النبوءة القائلة إن ناسا يولدون خارج البلاد يثلون عرش مملكته، وكانت فكرته متجهة دائما إلى أن أولئك الذين سيقضون عليها هم البرازلة من البربر المقيمين بجواره، وما زال بهم حتى أفناهم جميعا، وخيل إليه أنه قهر حكم الكواكب، وتغلب على مخاوف التنجيم، ولكنه بدأ يرى أنه كان مخدوعا في وهمه هذا، ففي العدوة المقابلة لبر الأندلس على المضيق نزحت طائفة من البربر من الصحراء، وزحفوا على إفريقية فاتحين في سرعة مدهشة، وفي شدة بأس تشبه ما كان عليه سلف الأمة في فتوحاتهم، هؤلاء هم البربر الذين أطلق عليهم اسم المرابطين، وهم الذين كان يتنبأ بظهورهم المعتضد ويتوقع أنهم الفاتحون لإسبانيا في المستقبل، وكانت تساوره المخاوف من جانب أولئك الأقوام، ولا يستطيع بحال من الأحوال أن يمحص الفكرة أو يبدد الأوهام التي كانت تنتابه من جهتهم.
وورد عليه ذات يوم كتاب من «سقوت» صاحب سبتة يقول له فيه: «إن طلائع المرابطين عسكرت في رحبة مراكش فاهتم لهذا النبأ حتى قال له أحد وزرائه: «كيف يزعجك يا مولاي هذا النبأ ويقلقك وبيننا وبينهم المهامه الغبر وأمواج البحر الخضر.»
فقال المعتضد بصوت مختنق حزين: «إني على يقين من أنهم سيصلون إلينا يوما ما، وربما تشهد بنفسك هول ذلك اليوم، فاكتب من فورك إلى حاكم الجزيرة، ومره أن يزيد في تحصين جبل طارق، وأن يكون شديد اليقظة، وعلى تمام الأهبة والاستعداد، وأن يراقب عن كثب كل حركة لأولئك المرابطين من وراء المجاز.»
ثم أخذ يصعد بنظره في بنيه ويصوب ويقول: «ليت شعري من منا ستحل به النكبة أنتم أم أنا؟» فقال ولده المعتمد: «لا بل أنا - جعلني الله فداك - الذي أحمل عنك كل كائنة مهما عظمت.»
وقبل موته بخمسة أيام ساءت حاله، وأخذ المرض يدب في جسمه، والضعف يتسرب إلى عقله، فاستدعى أحد مغنيه وكان من الصقلب، وأمره أن يغنيه بما شاء من الأبيات، وكان يرمي إلى التفاؤل بما يختاره المغني، ويتفق مع توقيع النغم، فأخذ هذا يوقع ألحانا تجمع إلى الطرب الحزن والألم في آن واحد، واللغة العربية من أغنى اللغات بهذا النوع.
وكان الشعر الذي اتفق للمغني أن يوقع عليه الغناء يدور حول معنى أن الحياة وأوقات السرور سريعة الزوال، وأنها إلى نهاية وشيكة عاجلة، وأنه ينبغي أن نحتسي المدام، ونمزج ابنة الكرم بابنة المزن.
وكانت القطعة التي لحنها المغني تتألف من خمسة أبيات، ومن غريب الاتفاق أن عدد هذه الأبيات، هو بعينه عدد الأيام التي عاشها المعتضد بعد سماعها، يضاف إلى ذلك أنه بعد مرور يومين على سماعها أي في يوم الخميس 26 فبراير جرح المعتضد في عاطفته البنوية جرحا داميا، وقد كان - على قساوة قلبه - شديد الحب لبنيه، فرزئ بموت ابنته التي كان يحبها إلى درجة العبادة، وشيعها إلى قبرها يوم الجمعة، وقلبه يتسعر حزنا.
2
وبعد أن ووريت التراب وعاد من الجنازة شكا وجعا في رأسه أليما، ودخل القصر وفيه اعتراه نزيف دموي كاد يودي بحياته، وأشار عليه طبيبه بالفصد ولكن المعتضد تمرد على طبيبه فأرجأ الفصد إلى الغد، فكان هذا من الأسباب التي عجلت بوفاته حيث اشتد النزيف في اليوم الثاني فانحبس لسانه، ثم لفظ النفس الأخير.
وخلفه ابنه المعتمد الذي سنقدمه للقارئ في الفصل التالي!
الفصل التاسع
ولد المعتمد عام (1040) وقلده أبوه بعض الولايات الصغيرة وهو في الحادية عشرة أو الثانية عشرة من عمره، وبعد برهة يسيرة ولاه قيادة جيش إشبيلية فحاصر «شلب» وفيما هو محاصر لها اتصل به فتى أفاق كانت سنه لا تعلو عن سن المعتمد بأزيد من تسع سنين، وقد واتاه الحظ باتصاله به، ونبه شأنه فيما بعد، ذلك الفتى هو ابن عمار كان مولده في قرية من أعمال «شلب» في بيت خامل الذكر، لا حظ له في الرياسة من قديم الدهر، نشأ في مدينة «شلب» هذه صغيرا، وتعلم فنون الأدب على جماعة من أهلها، ثم رحل إلى قرطبة فتأدب بها، وبرع في صناعة الشعر، وما برح يجوب أنحاء الأندلس يتكسب بالشعر، وينظم قصائد المدح، يسترفد بها كل من يتوسم فيه الأريحية والعطاء، لا يخص بشعره الملوك دون السوقة، كما يفعل النابهون من شعراء عصره الذين يرون من الزراية عليهم أن ينظموا الشعر في غير الملوك والنابهين من العظماء.
كان هذا الشاب الناشئ والشاعر المغمور، بنزعته هذه ورثاثة ملبسه وبما يلبسه من جبة صوف طويلة وقلنسوة صغيرة، يهش له ويبش في وجهه أناس، ويعطف عليه ويرثي لحاله آخرون.
وكان يعد من السعادة أن يظفر بسري من أولئك الذين أوتوا حظا من الغنى، ونالوا نصيبا من الثراء، ليعطيه مقابل ما يمدحه به من شعره الذي له قيمته وخطره، فضلة مما أوتي من المال يقنع بها، ولا يزهد فيها.
ومن ظريف ما حدث له في بعض سفراته: أنه ورد «شلب» في وقت مسه فيه الضيق، وأجهده الضنك، وهو لا يملك سوى دابته التي لم يجد علفها، والتي مسها الجوع، وشفها الضنى مثله، فماذا يصنع في أمر ذلك الرفيق الأمين الذي يلازمه في رحله وأسفاره، ويشاركه في آلامه وشدائده، لم ير بدا من أن يبعث بشعره إلى رجل من وجوه أهل السوق بالمدينة، لا حظ له من الأدب، ولا علم له بصناعة الشعر، فكانت منزلة شعره عند ذلك التاجر أن ملأ له المخلاة شعيرا، ووجه بها إليه، والرجل وإن لم يتذوق ما في القصيدة من حلاوة الشعر، فإنه كان مزهوا بها، إذ رأى نفسه قد مدح على لسان أحد الشعراء، وكذلك ابن عمار رأى أن ما وصله به من أجل الصلات.
بعد هذه الحالة التي تبين إسفاف ابن عمار في المنزلة وسقوطه إلى هذا الحد، ساعده الحظ وانتهى به صعود الجد إلى أن جعله المعتمد - حين صار الأمر إليه - واليا على «شلب» وأعمالها، فدخلها يومئذ في موكب ضخم وعبيد وحشم.
لم تمح من ذاكرة المعتمد تلك الإقامة الساحرة، والأيام الجميلة والأوقات المرحة التي قضاها بشلب حيث كان معظم أهلها يقرضون الشعر، وحيث كانت تلك المدينة وما زالت تعرف حتى الآن بفردوس البرتغال.
في تلك الآونة لم يكن قلب المعتمد قد تفتح للحب بعد، وقد وقعت له بعض وساوس وتخيلات غرامية لم تلبث أن تلاشت دون أن تدع في قلبه مجالا للاسترسال فيها، وإلى جانب هذا كان يحتفظ بعهد الصداقة الملتهبة التي بينه وبين وزيره ابن عمار ويستسلم لهذه العاطفة القاهرة التي لم يزاحمها أي ميل آخر إلى آخر لحظة.
لم ينشأ ابن عمار نشأة الأمير في بحبوحة الترف، وغضارة العيش، ونضارة السعادة، وفخامة الملك، بل نشأ على النقيض من ذلك - منذ فجر حياته - تكافحه الأيام وتقل من غربه، وتثبط من همته وعزمه، وترميه الظروف القاسية بخيبة الآمال، ورقة الحال، فكان لهذا أقل مرحا، وأقل سرورا وضحكا ، وأقل فتوة وشبابا، ولكنه فوق هذا كان شاكا مرتابا ساخرا في بعض نواحيه.
حدث أن الصديقين ذهبا إلى المسجد يوم الجمعة، والمؤذن يعلن الناس بحضورهم وقت الصلاة، فطرح المعتمد على صديقه شطرا من الشعر فأجازه، وثانيا فأجازه، وثالثا فأجازه، وكانت معاني الشعر تدور حول أن المعتمد يرجو للمؤذن المغفرة لإقراره بالشهادة وتصديقه بالرسالة، وابن عمار يسخر في شعره من المؤذن، ويشك في مطابقة إقراره باللسان، لما ينطوي عليه الجنان.
إن هذا يعد من ابن عمار غريبا، وهو يفسر لنا مبلغ شكه، وعدم ثقته بالناس حيث عرفهم وخبرهم، ولهذا كان يشك حتى في الصداقة الحميمة البالغة التي يكنها له الأمير الشاب في نفسه، والتي لم تنفع كل المحاولات التي كان يحاول بها الأمير أن يزيل ما علق بنفس صديقه من شكوك وريب، وخاصة في مجالس الأنس والأوقات التي تتطلب المرح والسرور فإنه كان يرى فيها يائسا حزينا.
ويروون في هذا الصدد حادثة عجيبة، ونادرة غريبة، حرية بالتحقيق والتمحيص، ولكن يظهر - على كل حال - أن لها ظلا من الحقيقة، لأن هذه القصة تقوم على صحتها الشهادات القيمة التي تروى عن المعتمد وابن عمار
1
أنفسهما.
قيل إن المعتمد دعا ابن عمار ليسمر معه ذات ليلة، وبالغ في إكرامه وملاطفته فوق العادة، فإنه لما ارفض المجلس استبقاه المعتمد واستحلفه أن ينام معه تلك الليلة على وساد واحد، وألح عليه في ذلك، فقبل مكرها واستسلم نزولا على إرادته، ولكنه ما عتم أن نام حتى سمع هاتفا يقول له: أيها التعس! إن هذا الذي تنام معه على فراش واحد لا محالة قاتلك. فهب من نومه فزعا وقد تملكه الرعب، ولكنه قاوم هذا الحلم المروع، وطارد تلك الفكرة السوداء وعزاها إلى تأثير النبيذ، ثم رقد ثانية، فعاوده ذلك الحلم المشئوم مرة ثانية وثالثة.
ولما لم يستطع تكذيب هذه الأحلام المتكررة أيقن أن هذا نذير سوء، وأنه وحي سماوي فوق الطبيعة، فنهض من مرقده برفق دون أن يحدث حركة، وذهب بعيدا، وأدرج نفسه في حصير، ونام في دهليز القصر عاقدا النية على اللياذ بالهرب حينما تفتح في الصباح أبواب القصر، واعتزم أن يركب من أول ثغر ليبحر منه إلى إفريقية.
واستيقظ المعتمد فلم يجد صاحبه إلى جانبه، فصاح بالخدم، فوافاه جميع خدم القصر، وأخذوا يبحثون عنه في كل جانب من جوانب القصر، والمعتمد يتقدمهم بين يديه مصباح، وجاز إلى باب القصر يريد أن يفتحه لينظر هل خرج منه أحد؟ وفي نفس تلك اللحظة التي كان يمر فيها تحرك ابن عمار حركة قسرية، فرأى المعتمد كأن شيئا يتحرك، فصاح: «ما هذا الذي يتحرك في داخل الحصير.»
فسارع الخدم إليه فأخرجوه من داخل الحصير وهو في حالة يرثى لها ليس عليه من ملابسه غير سروال، فوقف ترتجف أعضاؤه، وقد احمر وجهه خجلا، وأطرق برأسه إلى الأرض، فأجهش المعتمد بالبكاء، وقال: «ما الذي حملك أن تزعجنا هكذا يا أبا بكر؟!»
وأراد المعتمد أن يتبين من صديقه سر هذا المسلك الغريب، وأخذه برفق إلى مجلسه الخاص، وأعضاؤه ما زالت ترتجف، ولبث مدة طويلة يحاول كشف هذا السر فلم ينجح.
أما ابن عمار فقد اضطربت أعصابه اضطرابا شديدا، وخجل أشد الخجل لبلوغه إلى هذا الحد من الإسفاف والسخرية، وقد تملكه مع هذا الخوف، واستولى عليه الرعب، فكان مرة يضحك، وتارة يبكي.
ولما هدأت أعصابه، وسكن اضطرابه، أفضى إلى المعتمد بسر المسألة تفصيلا، فتبسم ضاحكا، وأمسك بيده وضغط عليها متحببا متوددا وقال: «إن ما حصل لك لم يك إلا بتأثير الخمر - أيها الصديق العزيز - ومن فعل أبخرة الخمر المتصاعدة إلى المخ فقد أسلمتك بتأثيرها إلى أن ترى ما سبب لك الانزعاج، وما هي في الحقيقة إلا أضغاث أحلام، وهذا كل ما في الأمر، وهل يدور في خلدك أن نفسي تحدثني بأن أقتلك يوما ما، إني - إن فعلت ذلك - فإنما أنتزع روحي، وأطفئ مصباح حياتي، ثق أني إن قتلتك فإنما أقتل نفسي، والآن يجب أن تزيل هذه الأفكار السوداء، وتمحو أثر هذه الوساوس السيئة، والأحلام الشيطانية من نفسك، فلا تعود تتحدث بها فيما بعد.»
وقد قال بعض مؤرخي العرب المسلمين: وعمل ابن عمار منذ ذلك الحين على أن يتناسى هذه الحادثة فنسيها، ومرت الأيام والليالي على ذلك إلى أن بدأت الرؤيا تتحقق، ووقع ما سنقصه عليك فيما يلي:
جرت عادة هذين الصديقين أنهما يجتمعان في «شلب» لا يفترقان منها إلا إذا غادراها إلى إشبيلية حيث يتوافر لهما في العاصمة الأنيقة الظريفة كل أنواع السرور والمرح واللهو، فإذا خرجا إليها خرجا في زي لا ينم عليهما، وكثيرا ما كانا يختلفان إلى «مرج القطة» على ضفاف الوادي الكبير للتنزه والتلهي برؤية الناس رجالا ونساء في ذلك المكان النزه الأفيح، وهنالك وقع المعتمد لأول وهلة في شرك تلك التي قدر أن تكون شريكته في الحياة، وذلك أنه بينما كان هو وصديقه يستريضان في «مرج القطة» - على عادتهما - إذ مر النسيم على متن الماء فتجعد واطرد فارتجل المعتمد هذين البيتين:
تجعد النهر بتر
قيص النسيم واطرد
سابغة أحكمها
داود نسجا وسرد
2
ولم يستطع ابن عمار أن يجيز البيتين، وكانت على مقربة منهما جارية تسمع حديثهما فأجازت البيتين بقولها:
تصلح في يوم الوغى
لو أنها ماء جمد
تحسبها قد نسجت
من حلق ومن زرد
3
فعجب المعتمد إذ رأى فتاة تفوق - في سرعة الخاطر وموهبة ارتجال الشعر - شاعرا ذائع الصيت كابن عمار، والتفت إليها وحدق بها ناظريه، فراعه جمالها الفاتن، ومنظرها الساحر، وطلب إليها في رفق أن تذهب مع أحد الخصيان إلى القصر، فقبلت ولم يلبث أن سارع بالعودة إلى القصر ليستطلع طلع تلك الفتاة الحسناء.
وحضرت الفتاة فسألها المعتمد: «من أنت؟ وإلى من تنتسبين؟» فأجابت: «أنا أيها الأمير، جاريتك اعتماد وإن جرت العادة بأن ينادوني باسم «روميكيا» لأنني مملوكة «روميك»، وأنا بحكم عملي بدالة.» - «خبريني، هل أنت متزوجة؟» - «كلا يا مليكي.» - «هذا حسن لأنني أريد أن أشتريك من مولاك، بل وأقترن بك.»
ومن هذا الوقت أحبها المعتمد حبا ثابتا متواصلا لم يطرأ عليه تغيير، ولم يعتره نقص أو زوال، وقد أضافت إلى محاسنها كل ما يعجبه من أدب وظرف ورقة ، وكانوا يضعونها أحيانا في صف «ولادة القرطبية» أديبة ذلك العصر، وقد تكون المقارنة بينها وبين ولادة صحيحة من بعض الوجوه، وغير صحيحة من بعض الوجوه الأخرى، فهي وإن لم تسم في المعرفة والأدب إلى درجة «ولادة» التي كانت تساجل أدباء عصرها، وتتفوق على الكثير منهم، فإنها لم تكن دونها في لطف المحادثة والذكاء، والتندر، وسرعة الخاطر، وحضور الجواب، بل ربما فاقت عليها في محاسنها الذاتية، لصغر سنها إلى حد الطفولة، وسذاجة طبعها إلى حد الغرارة.
هذا إلى ما هي عليه من مرح ونشاط ولباقة، وكانت سعادته بعد أن أصبحت له زوجة في موافقة ميولها وأهوائها - كلفه ذلك ما كلفه من ثمن - وكان لا ييأس من عمل ما يوافق مرضاتها، وإشباع نزعاتها وميولها، فإنه يعلم أن أي خاطر يمر بقلبها، أو فكرة تستقر برأسها، لا يمكن أن تتحول عنها أو تنفذ.
حدث في يوم من أيام شهر فبراير أنها كانت تطل من خلال شرفات القصر بقرطبة فنظرت إلى قطع الثلج تتساقط مع المطر، وهذا منظر نادر في تلك المدينة التي يندر فيها مشاهدة الثلج، فأخذت دموعها تتساقط على خديها تساقط حب الغمام على الورد الناضر، فسألها المعتمد في لهفة: «ماذا بك أيتها الحبيبة المودودة؟»
فأجابت وهي تنتحب: «تسألني ما الذي بي؟ الذي بي أنك قاس لا ترحم، ظالم غشوم وحشي الطبع، انظر إلى قطع الثلج الناصعة اللينة العالقة بغصون الأشجار، الواقفة كالدمع الحائر في جفون الأزهار، كم هي بديعة وكم هي رائعة؟ متى يلين فؤادك، وتخلق لي أسباب الطمأنينة والسعادة، وتتركني أذهب في كل شتاء إلى بلد يكثر فيه سقوط الثلج، لتوفر علي التمتع بمجالي الطبيعة الساحرة، ومباهجها الفاتنة؟»
فقال لها: «لا تحزني يا ربيع حياتي، ويا مصدر هنائي وسعادتي، سيكون هذا المنظر أمامك في الشتاء القادم، بل أعدك وعدا صادقا أنك ستسرين بمشاهدته هنا في نفس هذا المكان.»
وأصدر أمره في الحال أن تغرس أشجار اللوز في الحدائق المحدقة بقصر قرطبة، وقدر أن تزدهر في فصل الجليد فتبدو زهراتها البيضاء في عين اعتماد كقطع من الثلج تجلل أغصان الشجر، وهو الذي يعجبها وتميل إليه. •••
ورأت مرة نسوة من الممتهنات قد وضعن أرجلهن في معجن فيه طين لضرب اللبن، فدفعها هذا إلى البكاء، فأثر ذلك في نفس المعتمد وسألها: «وما الذي يبكيك؟»
فقالت له: «آه إني لتعسة، ومنذ انتزعتني من الحياة الحرة الطليقة المرحة أيام أن كنت أنعم بكوخي الحقير وأنا سجينة هذا القصر العابس، أسيرة الحياة المقطبة، مثقلة بسلاسل التقاليد، وعادات القصر المملة، انظر إلى هؤلاء النسوة اللاتي عند شاطئ النهر، وانظر إلى أرجلهن منتعلات بالطين، ليتني كنت عارية القدمين مثلهن أعجن الطين، وليتني حرمت الغنى والسلطان، وأعطيت الحرية التي أستطيع بها أن أفعل ما أريد.»
فأجابها وقد شاعت على شفتيه ابتسامة لطيفة: «بل إنك عما قليل ستستطيعين.»
ونزل في اللحظة نفسها إلى فناء القصر، وأمر بإحضار مقدار عظيم من المسك والعنبر وبعض الأعطار، ووضع ذلك كله في معجن، وأمر أن يمزج بماء الورد، ويداف ويسحق، إلى أن صارت منه عجينة في حجم تلك التي كانت في معجن النسوة اللاتي كن يضربن اللبن، ولما تهيأ له كل ما أراد من ذلك صعد إلى اعتماد وقال لها: «لتتفضلي بالنزول إلى فناء القصر، أنت وجواريك، فإن معجن الطين في انتظارك.»
فنزلت الأميرة إلى ساحة القصر، وخلعت هي وجواريها نعالهن، وصرن يعجن بأقدامهن ذلك الطين المسكي المدوف وهن في مرح وسرور.
ومما لا ريب فيه أن تحقيق هذه الرغبة قد كلف المعتمد ثمنا باهظا وأموالا طائلة، وقد كان في استطاعته أن يغضي عن هذه الحادثة، لولا أن زوجته لا تنتهي أهواؤها وميولها عند حد، ولا ترضى بغير تنفيذ رغباتها، وقد حدث ذات يوم أن طلبت شيئا لم يكن في استطاعة الملك تنفيذه، فغضبت، وصاحت قائلة: «آه! إني جديرة بكل شفقة ورحمة، وإنني بلا ريب أتعس النساء حظا، ويشهد الله أنك لم تفعل معي البتة أي شيء فيه إرضائي.»
فقال لها بصوت فيه معنى الحب والرقة والعذوبة: «ولا يوم الطين؟»
فعلت وجنتيها حمرة الخجل ولم تحر جوابا.
وأراني مضطرا أن أضيف إلى ما أسلفت أن رجال الدين كانوا يمقتون اسم هذه الأميرة النزقة السريعة الحركة، ولا يجرونه على ألسنتهم إلا مصحوبا باشمئزاز وكره ديني، وكانوا يعدونها الحائل الوحيد الذي يحول بين الصلاح والهداية وبين زوجها، والعامل الفذ الذي يدفعه بدون انقطاع وراء عاصفة من السرور واللذات تكاد تطوح بالمملكة، وكانوا كلما رأوا المساجد خالية من المصلين يوم الجمعة، ألقوا التبعة على لهو المعتمد وفتنته بها، وكانت اعتماد بحكم صباها الطائش، وشبابها النزق، تسخر من صيحة أولئك الشيوخ، ولا تكترث لجلبتهم، وما كانت تقدر في روعها أن أولئك الفقهاء سيصبحون رهيبين يوما ما.
ولم يكن حب المعتمد لها ليشغله عن صديقه ابن عمار الذي حل من قلبه محلا كبيرا.
واتفق مرة أن نأى عنها، وانصرف للتنزه مع صديقه كالمعتاد، فحداه الشوق أن يرسل إليها رسالة ضمنها الأبيات الستة الآتية:
أغائبة الشخص عن ناظري
وحاضرة في صميم الفؤاد
ع
عليك السلام بقدر الشجون
ودمع الشئون وقدر السهاد
ت
تملكت مني صعب المرام
وصادفت ودي سهل القياد
م
مرادي لقياك في كل حين
فيا ليت أني أعطى مرادي
أقيمي على العهد ما بيننا
ولا تستحيلي لطول البعاد
د
دسست اسمك الحلو في طيه
وألفت فيه حروف اعتماد
وقد ختم هذه الأبيات الستة التي طرز فيها اسم اعتماد بذكر اسمها في البيت الأخير.
4
ثم ختم كتابه إليها بقوله: «سأعود إليك على عجل لأتملى برؤيتك إن شاء الله وشاء ابن عمار. فلما سمع ابن عمار الجملة الأخيرة من كتاب المعتمد إلى اعتماد، كتب إليه أبياتا في المعنى الآتي: «ليس لي مأرب في غير مرضاة مولاي، ولن أحيد عن أمره، ولست إلا كالساري يهتدي بضوئه اللامع، فمرني بما تشاء أطع.»
ولما كان قلب الأمير الشاب متوزعا بين الصداقة والحب، فإنه لهذا كان يشعر بحياة لذيذة ناعمة، إلا أن صفوها لم يدم طويلا، وقد ترنقت سريعا؛ لأن المعتضد رأى ابن عمار قد استولى على ابنه المعتمد فقضى بالتفرقة بينهما، وحكم بنفي ابن عمار، وقد انقض هذا النبأ على الصديقين كليهما انقضاض الصاعقة ولم يدر كل منهما ماذا يصنع، وقد علما أن المعتضد إذا أمضى أمرا لا يمكن رجوعه فيه، ولا سبيل إلى عدوله عنه، وعلى ذلك نفي ابن عمار، وقضى أعوام نفيه المحزنة متنقلا في مدن الشمال، وبخاصة سرقسطة إلى أن خلف المعتمد على الحكم أباه، وكان في التاسعة والعشرين من عمره.
5
فسارع إلى صاحبه وصديقه القديم الذي صحبه من أول عهد الشباب فاستدعاه، وترك إليه اختيار ما يريده من مناصب الدولة المختلفة.
فطلب ابن عمار أن يكون واليا على «شلب»، ذلك الإقليم الذي ولد فيه ونشأ به، فلم يسعه إلا أن يلبي طلبه ويعطيه هذه الولاية بالرغم من أنه في هذه الحالة سيكون بعيدا عنه، وبعد أن ودع صديقه الحميم جاشت بنفسه ذكريات تلك الأيام المحبوبة التي قضياها معا في «شلب» وجالت بخاطره خلجات جعلته يتمثل آثارها ومعاهدها البديعة، فقال يخاطب ابن عمار، وقد توجه إلى مقر عمله الجديد:
ألا حي أوطاني بشلب أبا بكر
وسلهن هل عهد الوصال كما أدري
وسلم على قصر «الشراجيب» عن فتى
له أبدا شوق إلى ذلك القصر
منازل آساد، وبيض نواعم
فناهيك من غيل، وناهيك من خدر
وكم ليلة قد بت أنعم جنحها
بمخصبة الأرداف مجدبة الخصر
وبيض وسمر فاعلات بمهجتي
فعال الصفاح البيض والأسل السمر
وليل بسد النهر لهوا قطعته
بذات سوار مثل منعطف البدر
نضت بردها عن غصن بان منعم
نضير كما انشق الكمام عن الزهر
وقصر الشراجيب هذا متناه في الحسن، مشرق الساحات، مباه بمحاسنه غيره من القصور الشامخات.
ودخل ابن عمار «شلب» في موكب فخم يحف به عبيد وحشم وبلغ موكبه من الأبهة والجلال ما لم يبلغه موكب المعتمد نفسه أيام أن كان واليا عليها، ولكنه خفض من غلوائه، وطامن من كبريائه، وأتى بعمل يدل على النبل، وحسن التقدير، والاعتراف بالجميل، فإنه وقت دخوله المدينة سأل عن التاجر الذي واساه في أيام محنته، وأعطاه علف بغلته، أحي هو؟ فقالوا: إنه حي، وكان ابن عمار قد احتفظ بتلك المخلاة عينها التي كان التاجر قد ملأها شعيرا لعلف بغلته، فملأها هو دراهم وبعث بها إلى التاجر وقال لرسوله، قل له: «لو كنت ملأتها برا، لكنا ملأناها لك تبرا.»
وبقي واليا عليها مدة لم تطل؛ لأن المعتمد لم يستطع البقاء دونه فاستدعاه ليقيم بقصره، وعينه كبير وزرائه.
الفصل العاشر
كان المعتمد ووزيره مفتونين بالشعر، فأصبح قصر إشبيلية ملتقى الشعراء الفحول، ولم يكن للمتشاعرين مجال في هذا الميدان، ولا حظ لهم في رفد الخليفة أو مكافأته، فقد كان الخليفة نقادا بارع الملاحظة دقيق الحس، خصب الشاعرية، وكان يتذوق الأسلوب تذوق الشاعر الصادق الشعور، وكان رأيه فيصلا في الحكم على الشعراء وتعرف موقع كل لفظ في قصيدهم، فإذا ظفر الخليفة بشاعر موهوب أقبل عليه وأدناه من مجلسه وأغرقه بكرمه إغراقا.
ولقد سمع - ذات يوم - هذين البيتين:
قل الوفاء فما تلفيه في أحد
ولا يمر لإنسان على بال
كأنه عندهم عنقاء مغربة
أو مثل ما حدثوا عن ألف مثقال
فسأل المعتمد: «لمن هذان البيتان؟»
فأجابوه: «هما لعبد الجليل بن وهبون.»
1
فصاح المعتمد: كيف أن شاعرا من الشعراء المبرزين ممن يقوم لنا بواجب الولاء والخدمة، يعد أن منحة ألف مثقال حديث خرافة، وبادر في الحال بإعطاء عبد الجليل مئة مثقال. وحدث مرة أخرى أن أحد الظرفاء من الصقالبة، وفد على قصره بعد أن غلب على البلاد «روچيه» النورمندي وصادف أن جيء لديه بقطع ذهبية من مسكوكات دار الضرب، فنفح منها الصقلبي بدرتين، ويظهر أن هذه المنحة على ضخامتها لم تكفه، فحفزته الرغبة وحركه الطمع أن يمد عينيه إلى تمثال نادر مصنوع من الرخام على صورة جمل صغير مطعوم بالجواهر الثمينة، وأراد ذلك الصقلي أن ينفذ رغبته الملحة فقال: «إنك أيها الملك، قد نفحتني بهذه المنحة العظيمة التي أعجز عن شكرها، ولا أقوى على حملها، وأجدني لعظمها في حاجة إلى جمل يحملها إلى داري.»
فقال له المعتمد وقد أعجبته هذه المحاولة الطريفة: «دونك الجمل، وشأنك به وما تريد .»
ومن المحقق الذي لا يرتاب المرء فيه أن المعتمد يهتز أريحية ، ويفيض إعجابا بكل حاضر البديهة ذكي الفؤاد شاعرا كان أو غيره، ولو كان لصا من قطاع الطريق، ومما يقوم دليلا على صحة ذلك حكاية البازي السنجابي، والبازي السنجابي - وقد حدثوني عنه بهذا اللقب - ما برح مدة طويلة أكبر لص في عصره، وكان بلاء عظيما قد أوقع الرعب والرهبة في سكان البوادي إلى أن أوقعه القدر المتاح في قبضة العدالة، فقضى عليه المعتمد أن يصلب على مرأى من الفلاحين في الطريق الأعظم، ليشهدوا ما حل به من خزي ونكال، ولما كان اليوم الذي حكم عليه فيه بالصلب قائظا، والحرارة خانقة، فقد قل مرور الناس بالطريق، وكان قد وقف بأسفل الخشبة التي صلب عليها اللص زوجته وبناته يبكينه بدموع حارة ويقلن صارخات: «يا أبتاه على من تتركنا إذا نفذ فيك سهم القضاء، إننا بلا شك سنموت بعدك جوعا.» وكان البازي السنجابي - على وحشيته وفظاعته - غاية في الشفقة والحنو على أسرته، فتوزعت نفسه فكرة مصيرها إلى الشقاء، وصيرورتها إلى الفاقة والمتربة.
ومر عليه في هذه اللحظة تاجر غريب الدار يحمل على بغل عدلين من القماش وبعض بضائع أخرى جاء ليبيعها في القرية القريبة فاستوقفه، وقال له: «إني أيها السيد، كما ترى في موقف من أسوأ المواقف، وفي حالة يرثى لها، وفي وسعك أن تقوم لي بخدمة جليلة تعود عليك قبل غيرك بأجدى الفوائد، وأجزل العوائد.»
فسأله التاجر: «وما عسى أن تكون تلك الخدمة التي أقوم لك بها؟» - «هل تعرف ذلك الجب البعيد هناك؟» - «نعم أعرفه.» - «حسن جدا، فاعلم أني في اللحظة التي استولت علي فيها الغفلة وتركت نفسي أقع في قبضة أولئك الشرطة الملعونين، ألقيت مئة مثقال من الذهب في ذلك الجب، فإذا سمحت نفسك ورضيت أن تنطلق، وتبذل كل ما في وسعك في استخراجها، فإني أهبك نصفها متى ظفرت بها، وها هي زوجتي وبناتي يقمن على حراسة بغلك حتى تفرغ من هذا العمل الذي فيه إنقاذ أسرة من مخالب الجوع.»
واستهوت التاجر شهوة الحصول على الربح، فمضى سريعا، وربط عند حافة الجب حبلا، ودلى نفسه فيه حتى وصل إلى قاعه، ولما اختفى في البئر أسرع البازي السنجابي وقال لزوجته: «أسرعي واقطعي الحبل، وخذي البغل وخفي مسرعة أنت والبنات، واهربن جميعا واختفين عن الأنظار.»
وتم كل هذا في أقل من لمح البصر، وطلع التاجر من البئر بخفي حنين فوجد بضاعته قد استقلت المرأة وبناتها معها، وأدرك أنه لا يستطيع اللحاق بهن، فجعل يصيح كالمأخوذ، ولكون صيحاته ذهبت هباء في ذلك الجب العميق، وفي بسيط من الأرض لا أنيس به ولا مغيث، فقد مضى وقت طويل دون أن يجد أحدا يتقدم لإنقاذه، وبعد لأي خرج من سجنه، وتلاحق الناس لإنقاذه من ذلك القرار البعيد الغور في طبقات الجب السفلية وهم يسألونه في دهشة عن سبب تدليه في ذلك الجب، وهو يشكو سوء الطالع، ويندب حظه المشئوم، ويرسل في إثر بضاعته الضائعة دموعه الغزيرة الحارة، ويصب جام غضبه ولعناته المتتابعة على ذلك اللص المصلوب البالغ النهاية في الخبث والدناءة والمكر والخديعة، وسرعان ما ذاع الخبر وتناقله الناس في المدينة حتى بلغ أسماع المعتمد نفسه الذي أصدر أمره في الحال بإنزال البازي السنجابي من فوق خشبة الصلب، والإتيان به في حضرته.
ولما مثل بين يدي المعتمد صوب فيه بنظره وصعد ثم قال: «من المحقق الذي لا ريب فيه أنك أكبر محتال، وأدهى ماكر خبيث عرف حتى الآن، إذ إن ترقب الموت الذي لا محالة واقع بك، لم يصدك على الالتجاء في هذا الوقت الرهيب إلى المكر السيئ، والإيقاع بذلك التاجر المسكين في حبالتك.»
فأجابه اللص: «عفوا يا مولاي الملك! إنك لو علمت أية لذة تلك التي يشعر بها الإنسان عندما يكون لصا، لوضعت هذا التاج عن رأسك، وألقيت معطفك هذا الملكي عن منكبيك، ولما كنت إلا لصا مثلي.»
فأغرب الملك في الضحك، وقال: «ألا لعنة الله عليك من لص داه خبيث، ولكن أصخ إلي بسمعك لأتحدث إليك مليا، وسأكون في حديثي معك جادا لا هازلا ، هب أني وهبتك الحياة، ورددت إليك حريتك السليبة، وهيأت لزوجك وبناتك أسباب العيش من طريق شريف، وأجريت عليك راتبا يكون لك ولعيالك سدادا من عوز أكنت تصلح من نفسك، وتثوب إلى عقلك ورشدك، وتعدل عن هذه المهنة الخطرة الحقيرة الممقوتة؟»
فقال: «إن الإنسان - في سبيل إنقاذ حياته - يفعل كل ما في استطاعته فعله، وإذا كان إنقاذ حياتي - وهي أثمن شيء عندي - متوقفا على استقامتي وصلاحي وابتعادي عن الشرور والمفاسد، فإني أعدك أيها الملك، وعدا صادقا أن أكون عند ظنك بي، فهل يسرك مني هذا؟»
وقد بر البازي السنجابي بوعده حين عينه المعتمد رئيس شرطته، وأوقع الرهبة والرعب في نفوس أولئك اللصوص الذين كانوا زملاءه بالأمس، وبدل الخوف الذي كان ينتاب الفلاحين من قبل أمنا.
ثم مضى المعتمد في حياة الترف والمرح والسرور، لا يصرف في مهام الدولة إلا القليل من وقته، وقد كان يقول - في بعض شعره - ما معناه: «إن الإنسان إذا غالط نفسه، وأراد أن يكون عاقلا فلن يكونه.»
وكان السماط الممدود، والولائم الكثيرة تستنفدان كثيرا من وقته وماله، وكان يصرف ما بقي من وقته داخل قصره مع القيان، والغيد الحسان، وهذا ما كان يجعله دائما يظهر بمظهر أهل الظرف والخلاعة والعشق، وليس معنى هذا أنه زهد في حب اعتماد فقد كان على العكس من ذلك مفتونا بها مدلها بحبها.
ولكن تبعا للقانون الغريب الذي يخضع له الحب في البيئات الإسلامية يستطيع الرجل - إذا أراد ألا يرمى بالخيانة عند حظيته - أن يغضي لهذا الغرض عن بعض ميوله الغرامية، وأن يتصل بعشيقاته الفينة بعد الفينة، دون أن تجد ما تقوله أو توجه إليه فيه لوما، وهي مع هذا موقنة بأنها وحدها الحظية عند زوجها المهيمنة على قلبه.
وقد كانت زوجه الرومية المحبوبة الحسناء فاتنة بديعة، وكان إذا شرب معها وجد للنبيذ رائحة ونكهة لذيذة لم تجر العادة بها مع غيرها.
وكانت «لونان» تجلس إليه إذا فرغ من مجالس لهوه، وتفرغ لمطالعة أشعار المتقدمين أو أراد أن يقرض هو شعرا، فإذا أرسلت الشمس أشعتها من النافذة، قامت لتحول بينه وبين الشمس لعلمها - كما يقول الملك - «إنه لا يكسف الشمس من بين الكواكب غير القمر.»
ولما كانت هذه اللؤلؤة الثمينة، والحسناء الفريدة، صعبة المراس، شرسة الطبع، فقد كانت كثيرا ما تغضب ويتحمل المعتمد كل عناء في تسكين غضبها بتحقيق ما يوافق هواها، ويتفق مع مرامها، ومن ذلك أنها غضبت عليه مرة، فكتب يعتذر إليها، فردت عليه ردا حسنا ولكنها لم تضع اسمها في صدر الكتاب، كما يقضي به رسم الكتابة، فأسف المعتمد لذلك، وحكم بأنها لم تصفح بعد، وإلا لكانت بدأت الكتاب باسمها، طبقا لما هو معروف في العادة، وقال: إنها تعرف أنني أعبد اسمها، وأتعشق كل حرف من حروفه، فما بالها لم تصدر به جوابها إلي؟ إنها إذن لا تزال غاضبة علي، وقد قدرت في نفسها أنه سيقبل الاسم بمجرد رؤيته على الطرس، فاستحسنت ألا يراه؛ لأن في تقبيله شفاءه من سقم ألم به، وما أظرف أن تكون هذه الشيطانة الساحرة والغادة المحبوبة هي سبب الداء والدواء معا، فقد توجه الملك إلى مولاه بالدعاء، يرجوه أن يتفضل عليه بنعمة يعدها من أسبغ النعم، وهي أن يطيل سقمه، حتى يرى دائما عند سريره هذه الظبية الموردة الخدين، الأرجوانية الشفتين. (وبعد) فقد يكون مخدوعا من يخيل إليه أن المعتمد قد أغمض عينيه عن إتمام أعمال أبيه وجده؛ لأنه وإن لم يكن عنده من الأطماع ما عندهما، فقد عمل هو على الأقل ما حاولا عبثا أن يعملاه ففشلا، فمن ذلك أنه في السنة الثانية من حكمه، ضم قرطبة إلى مملكته، ولا ننكر أن والده هو الذي مهد له الطريق، وأن الظروف قد ساعدته كثيرا، ففي سنة (1064) أي فيما قبل ذلك بست سنوات تنازل رئيس الجمهورية أبو الوليد بن جهور - لشيخوخته - عن الرياسة لولديه عبد الرحمن وعبد الملك وعهد لولده الأكبر بكل ما يتعلق بالشئون المالية والإدارية، وعهد إلى ولده الثاني - الذي كان يعده ضعيفا - بالقيادة العامة، وقد نهج كل شيء منهجا حسنا طوال وزارة الوزير الماهر ابن السقا، فقد كان هذا الوزير رجل المملكة لهذا العهد، وكانت شخصيته تبعث الرهبة والاحترام في نفوس جميع أعداء الجمهورية الألداء، سواء أكانوا ظاهرين أم كانوا يعملون في الخفاء، وفي مقدمتهم المعتمد نفسه، الذي أدرك أنه لكي يصل إلى تحقيق غرضه يجب أولا أن يبدأ بإسقاط هذا الوزير. •••
فسعى بينه وبين عبد الملك بن جهور بأن جعله موضع ريبة يحول حوله كثير من التهم والشكوك، وقد نجح في هذه السعاية التي أفضت في النهاية بالقضاء على ابن السقا بالموت، وقد كان لهذا الحادث أسوأ الأثر، وأوخم العواقب على الجمهورية، حيث انفرط عقدها بخروج الموالين لابن السقا، من القواد والجند من الجيش، وأصبح عبد الملك ممقوتا عند الرعية، بغيضا إليهم لفظاعته وقسوته وتهاونه، وبقي يحتفظ بما بقي من نظم الجمهورية قائما على قديمه، إلى أن تزعزعت أركان سلطته فجاء المأمون صاحب طليطلة وحاصر قرطبة في خريف سنة (1070).
ولما لم يجد عبد الملك ما يدافع به عن نفسه لأنه أصبح بلا جيش، ولم يبق عنده سوى مئتي فارس في حالة سيئة للغاية، عمد إلى المعتمد يطلب نجدته، فحقق رغبته، وأرسل إليه نجدات كبيرة، اضطر معها جيش طليطلة للانسحاب، ولم يكن انسحاب عدوه فوزا، بل بالعكس كان خذلانا، فان رؤساء جند إشبيلية أخذوا يعملون في الخفاء على تنفيذ الخطط السرية التي أفضى المعتمد بها إليهم، وتم الاتفاق فيما بينهم وبين القرطبيين على خلع عبد الملك والاعتراف بسيادة ملك إشبيلية، واستمرت المؤامرة في طي الكتمان، وعبد الملك لا يدري ما بيته الجند له إلى أن حدث في صبيحة اليوم السابع من ارتداد المأمون بعسكره، وإعلان عسكر إشبيلية أنهم عائدون إلى بلادهم، أن تصاعدت صيحات الجنود وهم على أهبة الرحيل منذرة بالعصيان، وطرقت أذنيه لأول وهلة بوادر الشر، ونظر فإذا الجند الذين جاءوا لنجدته، قد أحاطوا هم وعامة الشعب بقصره، وفي أسرع من ارتداد الطرف قبضوا عليه وعلى أبيه، وسائر أفراد أسرته، ونادوا بالمعتمد ملكا على قرطبة وأخذ آل جهور أسرى، واعتقلوا في جزيرة «شلطيش» ولم يبق أبو الوليد الشيخ على قيد الحياة بعد هذه النكبة سوى أربعين يوما.
وقد تحدث الملك الشاعر عن هذا الفتح بحديث ملك شأي الملوك الصيد، وخطب قرطبة الحسناء بالبيض والأسل فلم تمتنع عليه كما امتنعت على غيره، وذلك حيث يقول:
من للملوك بشأو الأصيد البطل
هيهات جاءتكم مهدية الدول
خطبت قرطبة الحسناء - إذا منعت
من جاء يخطبها - بالبيض والأسل
وكم غدت عاطلا حتى عرضت لها
فأصبحت في سري الحلي والحلل
عرس الملوك لنا في قصرها عرس
كل الملوك به في مأتم الوجل
فراقبوا عن قريب لا أبا لكم
هجوم ليث بدرع البأس مشتمل
ولم ير المأمون أن ما وقع يعد هزيمة، وذلك لأنه كان مصمما على الاستيلاء على قرطبة في فرصة أخرى مهما كلفه ذلك من ثمن.
2 •••
ولم يمض قليل من الزمن حتى جاء برفقة حليفه الأذفونش السادس فخرب بسيط المدينة وما حولها، ولكن عبادا حاكم المدينة الشاب أحد أبناء المعتمد من حظيته الرومية الحسناء كان غافلا عما يدبر من الدسائس للاستيلاء عليها، فقد أخذ ابن عكاشة على عهدته أن يضمن للمأمون أخذ المدينة التي ينشدها، وابن عكاشة هذا رجل فظيع فاتك سفاح، وكان قبل ذلك من اللصوص المتحرمين بالوعر والجبل، وهو مع هذا فارس ذكي حديد القلب، نابه الشأن وفوق ذلك فإنه قد خبر قرطبة وعرفها معرفة جيدة؛ لأنه لعب فيها دورا هاما فيما سبق.
فلما عين حاكما لبعض الحصون، بدأ يخلق الدسائس وينشئ المؤامرات لقرطبة، ولم يكن من الهين السهل عليه أن يغامر في مخاطرة جريئة مثل هذه، لولا أن الكثير من المواطنين كانوا مستائين من سير الأعمال، ومن الخطط الرديئة العوجاء الملتوية.
وفي الحق أن الأمير عبادا كانت تبدو عليه مخايل البشر، ويحدوه الأمل، ولكنه في هذه السن الصغيرة لم يكن في استطاعته أن يتولى بنفسه أزمة الحكم، ويضطلع وحده بأعباء المملكة، لذلك كانت السلطة في يد رئيس الحامية محمد بن مارتن الذي يظهر أنه من أصل مسيحي، كان هذا الرجل جنديا باسلا، وفاتكا دمويا قاسيا، مما حمل القرطبيين أن يمقتوه ويبغضوه، وقد حامت الشكوك والريب حول الكثير من سكان قرطبة في أن تكون لهم علاقة بابن عكاشة، واتصال بمحاولاته الخفية.
على أن هذا الأخير لم ينجح نجاحا تاما في إلقاء الستار على أعماله وتدبيراته الخفية، فقد لاحظ أحد حراس المدينة أن هذا الرجل الذي له سابقة في اللصوصية، كان كثيرا ما يتردد على أبواب المدينة ليلا ويحادث بعض جنود الحامية؛ مما حمل على الريبة، وجعل الشبهة القوية تحوم حوله، وقد سارع هذا الحرسي وأبلغ عبادا الحادث، ولكن الأمير لم يعن كثيرا بالأمر ولم يأبه للحادث، وأحال المبلغ على رئيس الحامية محمد بن مارتن وهذا أحاله على حرسي صغير دون درجته، والنتيجة أنهم تواكلوا، فكان كل واحد يلقي المسألة على عاتق الآخر لاتخاذ الحيطة والتدبير، ولم يقم أحد بواجبه، ولم يتخذ في المسألة تدبير حازم. •••
ونشط ابن عكاشة للتجسس في كل ليلة، ولم يكف عن التربص وتحين الفرص إلى أن أمكنته الفرصة، في يناير سنة (1075) من دخول المدينة هو ورجاله في ليلة شاتية حالكة الظلام، شديدة الرياح والعواصف، وبادر قصر عباد وقد غاب عنه الحراس، وكان على وشك أن يقتحم عليه باب القصر، لولا أن الحرسي الموكل بالباب أسرع إلى إيقاظ الأمير فنهض ونفر شرذمة قليلة العدد من السودان والعبيد، وخرج بنفسه على صغر سنة لملاقاة عدوه والوقوف في وجهه، ودافع دفاع الأبطال ببسالة وبأس حتى أكره المهاجمين أن يجلوا عن دهليز القصر، وأخذ يطاردهم، وهنا زلت به قدمه فابتدره أحد رجال العصابة، وانقض عليه فقتله، وبقيت جثته في الطريق العام عارية بالعراء، لأنه حين أوقظ من نومه بغتة، لم يجد من الوقت ما يكفي لارتداء ثيابه، وانفتل ابن عكاشة برجاله يقصد دار رئيس الحامية، ولم يدر في خلد هذا الرجل، ولا كان عنده كبير ظن في أنه يعتدى عليه ويهاجم في مثل تلك اللحظة التي اقتحموا عليه فيها داره وهو بين شدو القيان، ورقص الغيد الحسان، وكان دون عباد ذلك الأمير الحدث شجاعة ، فلم يكد يسمع صلصلة السيوف في فناء داره، حتى سارع إلى مخبأ اختبأ فيه، ولكنه سرعان ما عرف حين كشف فقبض عليه، وقتل في المساء.
وفي غلس الصبح قبل إسفار الفجر بينما كان ابن عكاشة يطوف بأنحاء المدينة على دور العظماء والنبلاء يدعوهم للانضمام إليه كان بعض الأئمة ذاهبا لتأدية الصلاة في المسجد، فرأى جثة عباد وقد فارق الحياة ملقاة على الأرض بين الطين والوحل، فرحم مصرعه، ونزع ثيابه ورماها على جسمه العاري، ولم يكد الشيخ يمضي لسبيله حتى جاء ابن عكاشة بين صيحات الفرح والسرور على نحو ما يحدث في المدن الكبرى في إبان الثورات، وما وقف على عباد وهو بهذه الحالة حتى أمر بفصل رأسه من عنقه وأن ترفع على رمح، ويطاف بها في أنحاء المدينة، ولم ير ذلك جنود الحامية حتى ألقوا السلاح، وركنوا إلى الفرار، وجدوا في الهرب.
ثم جمع ابن عكاشة أهل قرطبة بالمسجد الجامع، وبدأ يأخذ البيعة للمأمون، وكان كثير منهم لا يزال متعلقا بالمعتمد يكن له الإخلاص والوفاء، ولما كان الخوف عظيما وشاملا لم يستطع أحد أن يتخلف عن البيعة.
3
ومرت أيام ثم جاء المأمون بنفسه ودخل قرطبة وهو يتظاهر بمنتهى الإعجاب والتقدير لابن عكاشة ويبالغ في إكرامه والحفاوة به، والثناء على حسن بلائه، حتى ليظن من رآه أنه قد أولاه ثقة لا حد لها، وهو في الواقع يمقته كل المقت، ويرى فيه اللص القديم، والقاسي المجرم الأثيم، والفاتك الذي لا يرضيه من خصمه غير سفك دمه، وأن يسقيه كأس الحمام بيده، كما فعل في ذبح عباد الحدث؛ لهذا كله أخذ المأمون يبحث عن سبب يتعلل به، أو حيلة يتذرع بها للقضاء على خصمه الخطر خلسة من غير أن يحدث في المملكة ضجة، ولكنه لم يجعل ذلك حديثا مكتتما في نفسه، بل كان كثيرا ما يكاشف بهذا الرأي خواصه وجلساءه، حتى إن ابن عكاشة انصرف من مجلسه ذات يوم، وجعل هذا يصعد الزفرات، ويتبعه بنظرات حادة من عينين يتطاير منهما الشرر، ويجمجم بكلمات أعقبت شؤما ونحسا، وأراد بعض الموالين لابن عكاشة أن يدافع عنه ، ويصفه بحسن الفعال، وجميل الخلال، فقال المأمون: دع عنك هذه الكلمات الجوفاء، فإن رجلا لا يحتفظ بالجميل، ولا يرى حياة الملوك في نظره إلا رخيصة، غير خليق أن ينال ثقتهم، أو يبقى في خدمتهم.
ولم يمض على دخول المأمون قرطبة ستة شهور حتى قتل مسموما أي بعد انقضاء شهر يونيو سنة (1075) وقد اتهم بقتله أحد المترددين على مجلسه، ولكن هل يمكن ألا تكون لابن عكاشة يد في هذه الجريمة؟ هذا ما لا يكاد يصدقه العقل.
ولنترك الآن حديث الاستيلاء على قرطبة وما أعقبه من الحوادث، وننتقل إلى قصر إشبيلية، ولنتصور مبلغ ما وصلت إليه حال المعتمد حين نمى إليه ذلك الخبر المشئوم المزدوج: سقوط قرطبة، وموت ابنه عباد المرزوق له من سريته الرومية الحسناء التي أولع بحبها ولعا شديدا، ومع أن نزعة الانتقام، والأخذ بثأر ابنه المقتول كانت تجيش بصدره، فقد كان إلى جانب هذا الشعور شعور آخر، وهو تقدير يحسه في أعماق نفسه لذلك الشيخ الفقيه الذي مر على عباد مقتولا فنزع بدافع العاطفة النبيلة رداءه، وألقاه على جثمانه العاري، وهو يأسف إذ لم تتح له فرصة مكافأة ذلك الشيخ النبيل على حسن صنيعه، وكثيرا ما كانت تتحرك في نفسه هذه الذكرى الأليمة فيقول:
ولم أدر من ألقى عليه رداءه
سوى أنه قد سل عن ماجد محض
ومضت ثلاث سنين ضاع فيها ذلك المجهود العظيم الذي بذله ليسترد قرطبة وليثأر لولده المقتول من ابن عكاشة إلى أن قيض الله له الاستيلاء عليها عنوة في يوم الثلاثاء 4 سبتمبر سنة (1078)، وفي الوقت الذي دخل فيه المعتمد من باب قرطبة كان ابن عكاشة قد بارحها من الباب الآخر، ولم يتركه المعتمد يفلت من يده بل بعث في الحال خيالة في أثره تمكنوا من اللحاق به، ولما أدركه الطلب، وأيقن أنه لا مطمع له في الصفح من ملك موتور بقتل ابنه، أراد على الأقل ألا يبيع حياته رخيصة، فكر على أعدائه وقاتلهم قتال المستميت، إلى أن ذهب ضحية وفرة العدد، وأمر المعتمد بجثته فصلبت على خشبة وإلى جانبها كلب.
وأعقب غزو وفتح قرطبة فتح كورة طليطلة وأراضيها الممتدة بين الوادي الكبير ووادي آنه، وهذا في الحقيقة يعد نجاحا كبيرا باهرا، ونحن لو حاولنا أن نقارن بين المعتمد وغيره لرأيناه أقوى ملوك الطوائف، وأكثرهم نفوذا وامتداد سلطان، ولكنه مع هذا لم يكن أكثر منهم استقلالا، إذ كان هو عليه أيضا أن يؤدي الإتاوة، فأما أولا فكان يدفعها «لغرسية» ثالث أولاد «فردينند»، وأما ثانيا فكان يدفعها لملك غالسيا، وأما ثالثا فكان يدفعها للأذفونش السادس، من حين أن استولى على مملكة الشقيقين «سانكو» و«غرسية» وكان الأذفونش ملكا مزعجا متعبا في طلب الإتاوة، إذ هو لا يقنع بما يتقاضاه من إتاوة سنوية فحسب، بل كان في الفينة بعد الفينة يفرض ضرائب على الممالك التي يدفع لها أبناء ملوك العرب جزية، فإن لم يؤدوها، وإلا هددهم بالاستيلاء على بلادهم.
وحدث مرة أنه جمع جيشا قويا، وتقدم به لغزو بلاد إشبيلية فاستولى على المسلمين الرعب، وشملهم حزن يفوق الوصف، وذلك لما كانوا عليه من الضعف البالغ الغاية، بحيث كانوا لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، وكان كبير الوزراء ابن عمار هو رجل الدهاء الوحيد الذي لا يتسرب اليأس إلى قلبه، وكان يعلم أن جمع جيش إشبيلي لملاقاة الجيوش المسيحية، وردهم عن البلاد، وهم باطل، وحلم كاذب.
ولكنه رأى أن الأذفونش يعرفه لأنه كثيرا ما كان يتردد على خيمته، وأن من السهل عليه لما عرف عنه من الطمع والميول الخاصة أن يتغلب عليه بقوة الحيلة والدهاء، وعلى هذه الناحية عول ابن عمار ولم يشأ أن يضيع الوقت في التسلح، وأخذ الأهبة للحرب والقتال، وأخذ يتردد على معسكر العدو، ومعه رقعة شطرنج غاية في الإتقان والفخامة لا يوجد لها نظير عند الملوك، وكانت صورها من الآبنوس والعود والصندل، وأرضيتها غاية في الإبداع مموهة بالذهب، وذاع خبر الشطرنج حتى وصل إلى أسماع الأذفونش على لسان نبيل من المقربين إليه، فطلب الأذفونش ابن عمار وسأله: - هل تجيد لعب الشطرنج؟
فأجابه ابن عمار وكان طبقة فيه: - اشتهر عني بين أصدقائي أني أجيد لعبة الشطرنج. - قيل لي إن عندك شطرنجا بديعا معدوم النظير. - نعم هو ذاك. - هل يمكن أن أراه؟ - لا مانع من ذلك، ولكن على شريطة أن نلعب معا، فإذا غلبتني كان الشطرنج لك، وإذا غلبتك فلي حكمي، وبعد مراجعة وحوار بينه وبين خاصته قبل الشرط، وجيء بالشطرنج فكان موضع إعجاب الأذفونش ودهشته لجماله ودقة صنعه، وصاح من فرط دهشته وصلب إكبارا له واستحسانا لصنعه، وقال: «والله ما خطر ببالي قط أن في وسع إنسان أن يبدع في صنع شطرنج بمثل هذه الدقة الفنية العجيبة.»
وظل ينعم النظر، وقد اشتد إعجابه بالشطرنج ثم قال لابن عمار: «أعد علي ما قلت، واذكر ما اشترطته علي.» فأعاد ابن عمار عبارته الأولى فقال الأذفونش: «إني لا ألعب على شرط مجهول، إنك تستطيع أن تسألني أمرا ليس في استطاعتي أن أجيبك إليه.»
فأجابه ابن عمار بفتور وطوى رقعة الشطرنج وأمر أن تحمل إلى خيمته وقال: «شأنك أيها الملك وما تريد، أنا لا ألعب إلا على هذا الشرط.» وانفصل الاثنان دون اتفاق ولم يدرك ابن عمار الملل، ولم يحل اليأس بينه وبين الوصول إلى إتمام هذه الحيلة السياسية، فقد عمد إلى بعض نبلاء القشتاليين، وأسر إليهم بأنه إذا ربح الدور لا يطلب مستحيلا، ووعدهم بمبالغ طائلة إذا هونوا على الأذفونش الأمر، وكانوا في عونه، فاستهوتهم هذه الوعود البراقة، وخلب ألبابهم بريق الذهب، واستوثقوا من الوزير المسلم، وقطعوا على أنفسهم عهدا بأن يكونوا في صفه، وكان الأذفونش شديد الميل إلى اللعب لثقته من نفسه يتحرق رغبة في الحصول على الشطرنج، فحسنوا له أن يلعب معه، وقالوا له: ماذا عسى أن يطلب هذا مهما اشتط في الطلب؟! وأنت ملك ملوك النصارى فلا ينبغي أن تظهر أمام هؤلاء بمظهر العجز، ومتى غلبته وفزت عليه ظفرت بشطرنج يحسدك عليه الملوك، وهب أنك خسرت واشتط في الطلب فإنا نرده إلى صوابه.
وما زالوا به حتى اقتنع بما أشاروا به عليه، فبعث إلى ابن عمار يبلغه أنه على استعداد لملاعبته، ولما حضر قال له: «قد قبلت شرطك فهيا نلعب»، فقال: حسن،
فلان وفلان لرجال سماهم من نبلاء القشتاليين، ليكونوا بمثابة شهود على اللعب، فقبل الملك وأخذا يلعبان إلى أن انتهى الدور بغلب ابن عمار غلبا ظاهرا لا مطعن فيه لأحد، فالتفت ابن عمار إلى الملك وقال: «الآن لي أن أطلب حسب الشرط ما أريد.»
فأجابه الملك: «بلا شك، فماذا تطلب؟» قال: «أطلب أن تعود إلى مملكتك، وتكف عن القتال.»
فهاج هائج الأذفونش وأخذ يذهب ويجيء في خيمته، وهو يخطو خطوات واسعة، ثم جلس، ثم نهض قائما، وهو في أشد حالات الهياج والقلق، ثم قال لجماعة النبلاء من القشتاليين الذين غرروا به: «ها أنا ذا قد وقعت في الشرك، وأنتم كنتم السبب، وهذا أخوف ما كنت أخافه من طلبات هذا الرجل، لولا أنكم طمأنتموني، وأنا الآن أجني ثمرة مشورتكم الممقوتة.»
وبعد صمت دام لحظات قال: «وما الذي يعنيني من شرط التزمت به لهذا الرجل، أنا لا أحفل بأمر مثل هذا البتة، وسأواصل زحفي.»
فقال القشتاليون: «إن في هذا رجوعا عما قطعته من العهد على نفسك، ومساسا بالشرف، وهل تحب أن يتحدث الناس عنك - وأنت ملك ملوك النصارى - أنك نقضت عهدك، ورجعت في قولك؟»
وبعد لأي هدأت ثائرة الأذفونش وسمحت نفسه في النهاية أن يقول لهم: «سأفي بمضمون الشرط، وأنجز ما وعدت به، ولكني لا أرجع بجنودي إلا بعد أن آخذ الجزية عن هذا العام مرتين.»
فقال ابن عمار: «سيكون أيها الملك ما تريد.»
وبادر ابن عمار فحمل إليه مبلغ الجزيتين، وهكذا نجى الله المسلمين من الخوف بتدبير هذا الوزير الكبير ومهارته.
الفصل الحادي عشر
لم يقنع ابن عمار بما وفق إليه من إنقاذ مملكة إشبيلية من مخالب الأذفونش ورد عادية هذا الطاغية عنها، بل رغب في أن تمتد حدود المملكة وتتسع رقعتها، واتجهت أطماعه إلى ولاية مرسية التي كانت من قبل قسما من مملكة زهير ثم من مملكة بلنسية ولكنها كانت مستقلة في العصر الذي نتحدث عنه الآن، وكان أبو عبد الرحمن بن طاهر ملكها، والمدبر لشئونها، وهو من أصل عربي ينتسب إلى قبيلة قيس، وكان ملكا طائل الغنى، ضخم الثروة، قد دخل في حوزته نصف المملكة، وكان - مع غناه الطائل - مثقفا خصب الذهن، حصيف الرأي، ولكنه مع كل هذه المزايا لم يكن كثير الخيل والجند، مما جعل الاستيلاء على بلاده ميسورا وسهلا، وقد لاحظ ذلك ابن عمار.
وفي سنة (1078) مر بمرسية لمقابلة «الكونت دي برشلونة ريمون بيرنجيه» الثاني المعروف باسم «كاب دي توب» وإنما سمي كذلك نظرا لغزاره شعره، وإنما عرج على هذا الكونت ليخفي السبب الحقيقي الذي من أجله مر بهذه الجهة، ولكي يهتبل هذه الفرصة ارتبط بروابط الصداقة مع بعض أعيان مملكة مرسية الذين علم أنهم كانوا في حالة استياء من ابن طاهر أو أنهم على استعداد للخيانة والانقلاب متى اشترى ضمائرهم بالمال.
ولما كان في حضرة «ريمون» عرض عليه عشرة آلاف مثقال ذهبا لقاء مساعدته بجنود من عنده لفتح مرسية فقبل الكونت الاقتراح، وتعاقد معه على أن يكون ابن المعتمد الذي يتولى قيادة جيش إشبيلية رهينة عنده، حتى يصله المبلغ المتفق عليه، وسلم الكونت ابن أخيه لابن عمار كرهينة وضمان لتنفيذ شروط المعاهدة، وكان المعتمد يجهل نص الاتفاق الذي يجعل ابنه رهينة عند الكونت، وضمانا لوصول المبلغ، وابن عمار كان على يقين من وصول المبلغ في الوقت المعين، فلا محل للخوف من تطبيق هذا النص، وليس ثمة ما يوجب بقاءه رهينة عند «ريمون» ما دام المبلغ يصل في الوقت المحدد.
وتم الاتفاق، واجتمعت جنود إشبيلية بجنود «ريمون» وزحف الجيش المتحد لمهاجمة ولاية مرسية المستقلة، ولما كان من عادة المعتمد التهاون، ترك الأجل المضروب موعدا للدفع يمر دون أن يصل المبلغ في موعده، فترجح عند الكونت أن ابن عمار خدعه، فاستشاط غضبا، وأمر بإلقاء القبض على ابن عمار وابن المعتمد قائد جيش إشبيلية وحاول جيش إشبيلية إنقاذهما، فهزم واضطر إلى الاندحار.
وكان المعتمد لا يزال في طريقه إلى مرسية مع ابن أخي الكونت وحاشيته، وقد أبطأ به السفر، فلم يكن قد جاوز بعد ضفاف «الوادي اليانع» وكان النهر في إبان فيضانه فلم يكن قد عبره، وثمة صادفه بعض فلول جيشه على الضفة الأخرى للنهر، ومعهم فارسان يحملان إليه رسالة من ابن عمار فاقتحما بجواديهما النهر، وأبلغا المعتمد اعتقال «ريمون» لابنه ولوزيره، وأن هذا الأخير بعثهما إليه يريد منه أن يتعجل خلاص السجينين، وإطلاق سراحهما، بتنفيذ شروط الاتفاق، وأشار إليه أن يبقى حيث هو، فلم يقو فؤاده على احتمال هذه الكارثة ولم يطق صبرا، وقلق على مصير ولده، ووضع ابن شقيق «ريمون» في السلاسل والأغلال.
ومضى على هذه الحال عشرة أيام، دخل فيها ابن عمار في جوار «جاين» فأطلق سراحه، وجاء إلى المعتمد ولكنه لم يستطع المثول بين يديه تفاديا من غضبه، وتلطف فأرسل إليه يقول:
أأسلك قصدا أم أعوج عن الركب
فقد صرت من أمري على مركب صعب
وأصبحت لا أدري أفي البعد راحتي
فأجعله حظي أم الحظ في القرب
إذا انقدت في أمري مشيت مع الهوى
وإن أتعقبه نكصت على عقبي
على أنني أدري بأنك مؤثر
على كل حال ما يزحزح من كربي
أهابك للحق الذي لك في دمي
وأرجوك للحب الذي لك في قلبي
أيظلم في وجهي لذا قمر الدجى
وتنبو بكفي صفحة الصارم العضب
حنانيك فيمن أنت شاهد نصحه
وليس له - غير انتصاحك - من حسب
وما جئت شيئا فيه بغي لطالب
يضاف به رأي إلى العجز والعجب
سوى أنني أسلمتني لملمة
فللت بها حدي وكسرت من غربي
وما أغرب الأيام فيما قضت به
تريني بعدي عنك آنس من قربي
أما إنه لولا عوارفك التي
جرت جريان الماء في الغصن الرطب
لما سمت نفسي ما أسوم من الأذى
ولا قلت إن الذنب فيما جرى ذنبي
سأستمنح الرحمى لديك ضراعة
وأسأل سقيا من تجاوزك العذب
فإن نفحتني من سمائك حرجف
سأهتف: «يا برد النسيم على قلبي!»
ولما كان المعتمد يشعر أنه هو الذي جر على ابن عمار وابنه الراشد ما وقعا فيه، لم يسترسل في غضبه، واحتفظ بصداقة ابن عمار ورق له ورد عليه بهذه الأبيات:
1
لدي لك العتبى تراح من العتب
وسعيك عندي لا يضاف إلى ذنبي
وأعزز علينا أن تصيبك وحشة
وأنسك ما ندريه فيك من الحب
فدع عنك سوء الظن بي، وتعده
إلى غيره فهو الممكن في القلب
قريضك قد أبدى توحش جانب
فراجعت تأنيسا وعلمك بي حسبي
تكلفته أبغي به لك سلوة
وكيف يعاني الشعر مشترك اللب
واطمأن ابن عمار لهذه الأبيات، وأهوى إلى قدمي الملك يريد تقبيلهما، ورجاه أن يقدم للكونت ابن أخيه والعشرة الآلاف ذهبا، حسب الاتفاق في نظير أن يطلق سراح ابنه الراشد، ولكن «ريمون» طمع في أكثر من المبلغ المتفق عليه، فاشتط في الطلب، ولم يقبل عشرة الآلاف المشروطة، بل طلب ثلاثين ألفا ذهبا.
ولم يكن المعتمد يحمل كل المبلغ المطلوب، فأمر بضرب مسكوكات أدخل في تركيبها عناصر زائفة، ولحسن حظه لم يدرك «ريمون» مبلغ ما فيها من الغش فقبلها، وأطلق سراح الراشد ابن المعتمد. •••
وما زال ابن عمار - على الرغم من نجاحه الشبيه بالخذلان، ومحاولته الأولى المنطوية على الإخفاق - متطلعا إلى مرسية طامعا في أخذها، وقد زعم أن كتبا تواردت عليه من كبار زعماء مرسية تبعث عنده عظيم الأمل في النجاح المحقق، وأخذ يحسن للمعتمد غزوها حتى سمح له أن يذهب على رأس جيش إشبيلي لحصارها، وعند وصوله إلى قرطبة بقي فيها أربعا وعشرين ساعة حتى ينضم إليه الخيالة من جند المدينة، وأمسى ليلة وجوده بها في قصر ابن المعتمد الحاكم على المدينة، وبات يحادثه ليلته كلها، والأمير مسرور بحديثه، معجب بوفرة ذكائه، شاعر بجاذبية قوية نحوه إلى أن انبثق الفجر، فجاء أحد الخصيان يعلن بطلوع الفجر، فنظر إليه وارتجل ما معناه: «هذه ليلة قد أمضيناها مع الأمير في سرور، وقطعناها في حبور، وقد دامت وضاءة الجبين مشرقة المحيا، بطلعته البهية، وغرته المضية، فهي ليلة كلها بالأمير صبح، فماذا تعني بالفجر أيها الأحمق؟»
واستأنف السير في الصباح إلى أن وصل إلى حصن بلج أطلقوا على هذا الحصن اسم زعيم من عرب الشام الذين نزلوا في هذا المكان في القرن الثامن للميلاد، وكان على الحصن رجل عربي من قبيلة بلج يدعى ابن رشيق فبادر إلى استقباله، ودعاه للنزول بقصره، فقبل الدعوة، ورأى من الحفاوة والفخامة وأسباب المرح والسرور، ما جعله يواليه ثقة بالغة لم يسئ الرجل وضعها، بل سار مع صديقه الجديد إلى أن وصل الجيش إلى مرسية وضرب الحصار على «مولا»، ولم يدم الحصار طويلا حتى سلمت وكانت طريق وصول المؤن إلى أهل مرسية، فكان سقوطها خسارة فادحة لهم مما جعل ابن عمار لا يشك في أنها على وشك التسليم، وقد ترك «مولا» في حراسة كتيبة من الفرسان بقيادة ابن رشيق وعاد بسائر الجيش إلى إشبيلية.
ولم يكد يلقي بها عصا التسيار حتى وردت عليه كتب عضده ومساعده ابن رشيق يخبره فيها أن المجاعة قد أضرت بأهل مرسية ضررا بليغا، وأن طائفة من أهلها من ذوي النفوذ والجاه قبلوا أن يساعدوا المحاصرين لقاء الحصول على مراكز مهمة في الدولة، وعلى هدايا نادرة نافعة، فقال ابن عمار حينئذ: «سترد إلينا الأخبار غدا أو بعد غد مبشرة بأن حامية مرسية قد سلمت.» وقد صدقت نبوءته، وتحققت أمنيته، فإن فريقا من الخونة من أهل المدينة قد فتحوا أبوابها، فدخل ابن رشيق وتسلمها واعتقل ابن طاهر وأخذ بيعة جميع الأهالي للمعتمد. •••
وبلغ ابن عمار ما تم على يد ابن رشيق فامتلأ قلبه سرورا، وطلب إلى المعتمد أن يأذن له في اللحاق بمرسية، فلم يتردد في الإذن له بذلك، واعتزم أن يغمر جماعة من المرسيين بالهدايا، فصحب معه عددا من الخيل بسروجها ولجمها أخذها من الإصطبلات الملكية، وأضاف إليها عددا من البغال حملها صناديق ملئت بالحلل النفسية والثياب، وقد بلغ عدد الأفراس والبغال زهاء مئتين، وسار في طريقه إلى مرسية في موكب حافل بين دق الطبول، وخفق الإعلام، وكان يعرج على كل مدينة يمر بها ، ويدع فيها من الصناديق الملكية ما هو برسم أهلها.
ودخل مرسية في يوم وصوله إليها بمظهر عادي، وفي الغد أجري له استقبال فخم برز فيه لأهل المدينة بروز الملوك الفاتحين، وقد وضع على رأسه تاجا مشرفا مثل الذي يلبسه عادة مولاه في الحفلات الكبرى، وقد بدأ يستبد بأمر المملكة، فكان يوقع على رقاع الشكوى بتوقيع خاص به، ويغفل اسم المعتمد.
إن هذا المسلك الشاذ الدال على الزهو والإعجاب والاعتداد بالنفس والاستبداد بشئون المملكة الجديدة جعل ابن عمار كثائر على مولاه، وهذا رأي المعتمد واعتقاده فيه، ولكنه لم يظهر بمظهر الغاضب الحانق عليه، بل استسلم ليأس وحزن كامن في النفس، وبدأ يشعر أن حلم الصداقة اللذيذ الذي يرجع ابتداء عهده إلى خمس وعشرين سنة قد تلاشى الآن، وأنه كان مخدوعا في ذلك الميل القلبي الكاذب؛ فصداقة ابن عمار القديمة، وظهوره دائما بمظهر الخل الوفي، والصديق الحميم الذي لا يفصم عرا صداقته تطاول الأيام، والصاحب المخلص النزيه المجرد من العلل والغايات، كل أولئك إذن لم يكن سوى كذب ورياء وخبث ونفاق. •••
ولعل المعتمد كان واهما في تأثيم ابن عمار وتجريحه وإساءة الظن به إلى هذا الحد، ومما لا ريب فيه أن الفكرة الخاطئة الأثيمة فكرة الثورة على مولاه وولي نعمته لم تكن لتمر بخاطره البتة، والذي جعل الريب والشكوك تحوم حوله من جانب المعتمد هو زهوه المفرط الذي بلغ به إلى حد الجنون، ولم يكن من ضعف الخلق، وفتور المودة، وعدم الشعور بأثر النعمة، بحيث يدفع صداقة المعتمد وينسى ما له عنده من يد، وما طوقه به من جميل، بل الواقع الذي لا يرتاب فيه أحد أنه كان يحب مليكه حبا صادقا يدل عليه ما نظمه فيه بعد تغيره عليه من أشعار تفيض بالحب والإخلاص والولاء.
وقد نطقت أشعاره الكثيرة، وقصائده التي كان يدفع بها هذه التهم والظنون عن نفسه، بأن ولاءه لم يتغير، وأن طبعه لم يتحول، وأن حبه لأعز الأشياء عليه، ومنها نفسه التي بين جنبيه، أقل بكثير في قوة التأثير، وصدق الشعور، من حبه الصادق القوي للمعتمد.
وما يدرينا لعل ظروفا غير هذه الظروف لو كانت هيأت لهما الاجتماع ساعة يتحدث كل منهما فيها إلى صاحبه، ويفضي إليه بدخيلة نفسه، ويتناجى فيها قلبان طالما ائتلفا، ما يدرينا لعل هذه الساعة لو أتيحت لكانت كافية، للتوفيق بين هذين الروحين المتمازجين، والقضاء على تلك الوساوس والمخاوف التي أوغرت صدر الملك على وزيره؟ إن من بواعث الأسف أن تتسع مسافة الخلف بينهما وأن يحمل الحقد والحسد جماعة من الإشبيليين للإيقاع بابن عمار والسعاية والدس له، وتأويل كل عمل وكل كلام وكل حركة تصدر عنه تأويلا ينطوي على الخبث والوقيعة، وإظهاره دائما بالمظهر البشع الشنيع. •••
هؤلاء الحسدة الجبناء استولوا على لب المعتمد وعقله، وهم الذين يذكرهم في شعره كثيرا، وينسب إليهم تغيير قلب مليكه عليه، ومن بينهم وزيره ابن الشاعر الكبير أبي الوليد بن زيدون الذي كان له أكبر نفوذ في القصر، والذي يرجع إليه السبب الأكبر في إيغار صدر المعتمد عليه، وإحاطته بكل أنواع الشكوك والريب من حين دخل مرسية بإذنه، وتمكن هذا من خلق أسباب القطيعة بينهما، وهناك خصم آخر ليس أقل من هذا خطرا، وهو ابن عبد العزيز ملك بلنسية وصديق ابن طاهر وقد كان ابن عمار على أثر دخوله مرسية يحاول أن يصطنع ابن طاهر صاحب مرسية المخلوع ويستميله إليه بكل أنواع الحفاوة والتكريم، وقد أرسل رسولا عرض عليه كثيرا من الحلل الفاخرة ليختار منها ما يروقه ويعجبه، وكان ابن طاهر - لحدة طبعه، ومزاجه الناري - قد هزل جسمه من جراء فقد ولايته، فلما جاءه الرسول قال: «ارجع إلى سيدك ومولاك ابن عمار وقل له: إنني لا أقبل من هداياه سوى جبة الصوف الطويلة، والقلنسوة الصغيرة الحقيرة.» وقد بلغته هذه الرسالة وهو بين خواصه وحاشيته، فسقط في يده، وأخذ يعض بنان الندم أسفا وغما، وأدرك ابن عمار مغزى ما يقوله ابن طاهر وأنه يرمي بكلامه هذا إلى زيه المضحك المزري الذي كان يلبسه أيام بؤسه وخموله، وأيام أن كان ينشده أشعاره يبغي بها التكسب، وقد أسرها ابن عمار في نفسه ولم يغتفرها له، وأصر على أن ينتقم لنفسه من هذه الضربة الأليمة التي ثلمت شرفه، وخفضت من غلوائه، وغضت من زهوه، وقد أحفظته هذه الجرأة من ابن طاهر وتحولت نواياه من جهته، وأمر به فسجن في قلعة «منتاجو». •••
وأخذ ابن عبد العزيز يراسل المعتمد في شأن ابن طاهر وإخراجه من السجن، فقبل رجاءه، وبعث إلى وزيره الأكبر في إطلاق سراحه، فأهمل ابن عمار أمر المعتمد وأبى أن يفك اعتقاله، وساعد ابن عبد العزيز على إخراجه من السجن، وتمكن من الفرار، ومضى إلى بلنسية ليقيم بها في حماية ابن عبد العزيز، فغاظ ذلك ابن عمار وغمه ونظم في هذه المناسبة شعرا يحرض فيه أهل بلنسية على الثورة والخلاف على ملكهم ابن عبد العزيز ويحثهم فيه على خلع نيره، والاستعاضة عنه بملك آخر، أي ملك كان يرفع عنهم ما نزل بهم من حيف، وحل بهم من ظلم، وظل يهجوه فيه هجوا مقذعا، ويرمي حرمه بأشنع السباب، وأفظع القذف، ويغريهم في آخر القصيدة بهدم قصور بني عبد العزيز وسلب أموالهم وكنوزهم، وترك خرائبها آثارا ناطقة بخزي الدهر، وعار الأبد.
واتصلت هذه الأشعار بالمعتمد فضاعفت حنقه عليه، وحفزته لأن ينظم في ابن عمار شعرا هازئا صاخبا يذكر فيه أوليته، ويقارن بين حاله في أيام بؤسه وخموله، وحاله الآن وقد وصل إلى درجة ينازع فيها ولي نعمته السلطان، وسر بنو عبد العزيز بهذه القصيدة سرورا لا يقدر، أما ابن عمار فاغتم لذلك غما شديدا، وبدأ من فوره ينظم شعرا يناقض فيه شعر المعتمد حشاه بالهجاء والمثالب وعرض فيه لشأن المعتمد مع اعتماد وقذف زوجاته، وكشف عن عيوبه وفضائحه، ولم يطلع أحدا على هذه القصيدة التي نظمها وهو في ثورة غضبه سوى نفر من أصدقائه الذين يثق بهم ومن بينهم يهودي يتجسس لابن عبد العزيز كان يثق به أيضا، ولم يكن متهما عنده.
وقد حصل اليهودي بأيسر كلفة وأقل عناء على نسخة من القصيدة مكتوبة بنفس خط ابن عمار وقدمها للأمير صاحب بلنسية وهذا كتب في الحال كتابا إلى المعتمد من طيه القصيدة، وأرسله إليه بواسطة الحمام الزاجل. •••
ومن هذه اللحظة التي اطلع فيها المعتمد على الرسالة والقصيدة أصبح التوفيق بينهما أمرا مستحيلا، فلا المعتمد ولا اعتماد ولا بنوهما في مكنتهم جميعا أن يغتفروا لابن عمار هذه السقطة التي كبا فيها كبوة لا قيام له بعدها، وعثر عثرة لا يقيله منها أحد، ومن ذا الذي يستطيع أن يمحو عار ذلك السباب الجارح، والعهر الفاحش، وقد حان حين ابن عمار وجاء وقت الاقتصاص منه، وليس المعتمد هو الذي يباشر الاقتصاص منه بنفسه، بل هناك آخرون قد تعهدوا له بذلك وهم له بالمرصاد.
وانصرف ابن عمار إلى مباهجه ولذاته، ولم يكن ليكترث للأمر أو يفطن لما يدور حوله، أو يقدر في حسابه أن ابن رشيق سيقلب له ظهر المجن، ويخونه بمساعدة خصمه العنيف ملك بلنسية وقد ثاب إلى رشده وفطن للأمر، ولكن بعد أن فاتت الفرصة، ومضى الوقت، فلم يشعر إلا والجند - بتحريض ابن رشيق - جاءوا في حال هياج وثورة وصخب مطالبين بأعطياتهم المتأخرة، ولم يكن في استطاعة ابن عمار في هذا الظرف أن يشبع نهمتهم، أو يجيبهم إلى ما طلبوه، فتوعدوه بتسليمه إلى المعتمد إذا هو عجز عن الوفاء لهم بما يطلبون، وهنا عرته رجفة، وأيقن بالهلاك، ولم ير بدا أمام هذا التهديد والوعيد إلا أن يفلت من أيديهم، ويسارع إلى اللياذ بالفرار.
والتجأ - بعد فراره - إلى الأذفونش ليحتمي به، وليجد منه عونا على فتح بلنسية وقد ظهر له أنه كان واهما فيما قدره، بعد أن خيب الأذفونش أمله، وجعل كلامه دبر أذنه، وبان له أن ميله إلى جانب ابن رشيق كان لقاء الأموال والهدايا التي قدمها له، وقد كاشفه الأذفونش بقوله: «أنا لا أرى فيكم إلا أنكم جماعة لصوص، فاللص الأول قد سرق، وجاء الثاني فسرق من الأول ما سرقه، وجاء الثالث فسلب من الثاني ما سرقه من الأول.» •••
لم ير ابن عمار أن أمله يتحقق في ليون فتحول إلى سرقسطة وهناك اتصل بخدمة صاحبها المقتدر ولكنه لم ير في قصره - من الروعة وأبهة الملك - ما كان يراه في قصر إشبيلية فأنف من البقاء هناك، وزهد في عمل يغض من مركزه السياسي، ويحط من قيمته الاجتماعية، فمضى إلى «لاردة» حيث يقوم على الحكم المظفر شقيق المقتدر فقوبل بحفاوة بالغة، ثم بدا له أنه سيكون في «لاردة» أكثر عزلة وانقطاعا عن العالم الخارجي، فعاد إلى سرقسطة حيث خلف المؤتمن أباه المقتدر على عرش المملكة. •••
هذا الاضطراب والتقلقل أورث ابن عمار كثيرا من الملل والسآمة، وجعله يشعر بالفشل، وخيبة الأمل، وتركه ينظر إلى حاضره ومستقبله، وقد جلله سوء الطالع بسحابة سوداء مظلمة، فكان يتلمس - في تضاعيف هذه الأوقات المنكودة، والساعات المنحوسة - لحظة مريحة يطرد بها عن نفسه الفتور والألم، ويزايل فيها الكسل والملل، وعرف أن أحد أصحاب الحصون امتنع في حصنه، وتمرد على المؤتمن فطلب منه أن يعهد إليه في إخضاعه وقهره فخرج في سرية قليلة من الفرسان، ووصل إلى الحصن، وكان منيعا لقيامه على قمة جبل، فراسل صاحب الحصن، ورجاه أن يسمح له بدخول الحصن هو ورجلان من خدمه، ولم يشك صاحب الحصن في حسن نيته، ولم يسئ به الظن، وكان ابن عمار قد أوعز إلى تابعيه أنهما إذا عاينا صاحب القصر يصافحه ويماشيه جنبا لجنب، سارعا إليه فأغمدا في صدره سيفيهما، وتمت الحيلة وقتل صاحب القصر، وسلم الجناة من إلقاء التبعة عليهم، وسر المؤتمن من ذلك سرورا لا يقدر، وأراد ابن عمار أن يضيف إلى هذه الفتكة فتكة أخرى، يجدد فيها حمى نشاطه السياسي، فظن أنه بنفس هذا الأسلوب الوحشي المنطوي على الختل والغدر يكفل للمؤتمن أن يستولي على «شقورة».
وكانت هذه القلعة أشد مناعة من سابقتها، لقيامها على قمة جبل يتعذر تسلقه، ولمناعتها، وتوعر طريق الوصول إليها، احتفظت باستقلالها، بينما نرى المقتدر قد استولى على دانية التي امتلكها سراج الدولة ردحا من الزمن، ولما قضى نحبه أراد بنو سهيل وهم الأوصياء على بنيه، أن يساوموا في «شقورة» ويعطوها لبعض الملوك المجاورين، فعهد ابن عمار إلى المؤتمن أن يستخلصها له بنفس الطريقة التي استخلص بها الحصن المتقدم، ولتنفيذ هذه الخطة الخطرة سار هو وثلة من الجند إلى بني سهيل، وطلب منهم أن يسمحوا بمقابلته، ولكن عوضا عن أن يوقعهم في الشرك الذي نصبه لهم، فقد قدر له أن يقع هو نفسه في ذلك الشرك، وذلك لأن أولئك النفر ممن أساء إليهم ابن عمار في مرسية وناصبهم وقومهم العداء.
وطريق الوصول إلى هذا الحصن المنيع كان كثير الوعورة والتعرج، وإذا بلغه أحد فلا بد أن يستعين على الوصول إليه، والاستقرار في داخله بقوة ساعديه، وقد وصل ابن عامر وشريكاه في المغامرة الأولى إلى ذلك المكان الرهيب الخطر، وفي أقل من ارتداد الطرف جذبوه إلى أعلى الحصن، وما كادت تستقر قدماه على الأرض حتى أحاط به الجند، وصاحوا بزميليه أن يجدا في الهرب، وإلا قتلهما الرماة بالسهم، فانحدرا مسرعين، وطفقا يعدوان حتى أتيا سرقسطة وأبلغا الجند أن ابن عمار وقع أسيرا، فركبوا يبغون نجدته، ولكنهم وجدوا المكان صعب المرتقى، ورأوا الحصن أمنع من عقاب الجو، فعادوا من حيث أتوا، بعد أن أيقنوا أنه لا سبيل إلى نجدته وإنقاذه من مخالب أعدائه بني سهيل الذين اعتقلوه في الحصن، وأودعوه في غيابات سجن لا خلاص له منه، وبقي على سوم الشراء لديهم حتى يبذل في فك اعتقاله من ملوك وقته من يدفع أغلى ثمن، وكان المعتمد هو الذي غالى في دفع ثمنه، وتمت له الصفقة فيه، فأرسل ابنه الراضي في جماعة من الحرس لأخذه من صاحب «شقورة» وأمرهم أن يبالغوا في الاحتياط حتى لا يفلت من أيديهم، وجاءوا به إلى قرطبة أسيرا، ودخلها الوزير التاعس مكبلا بالسلاسل والأغلال حاسر الرأس منزوع العمامة، وقد أركبوه بغلا بين عدلي تبن، وبعد أن طافوا به في أنحاء المدينة على هذه الحال من التعاسة والسخرية، أدخلوه القصر حيث مثل بين يدي المعتمد فانهال عليه لوما وتقريعا، وإقذاعا وسبا، وأخذ يعدد أياديه عليه، ويحصي عليه جرائمه وهو مطرق الرأس، لا ينبس ببنت شفة، إلى أن فرغ المعتمد من كلامه، فكان من جواب ابن عمار أن قال: «لا أنكر شيئا مما يقوله مولاي، ولو أنكرته لشهدت علي به الجمادات، فضلا عمن ينطق، ولكن عثرت فأقل، وزللت فاصفح.»
فقال المعتمد: «هيهات! إنها عثرة لا تقال، وزلة لا تمحى.» •••
وجعل نساء القصر يعبثن به، ويرمينه بكل لفظ شائن، وسباب جارح، وإنما نلن منه بسبب تلك القصيدة التي هجا بها اعتماد وغيرها من أميرات القصر، ثم أمر به فأحضر إلى إشبيلية بين هزء الجمهور وسبابهم وسخريتهم ولعناتهم، وجعل في غرفة على باب قصر المعتمد المعروف «بالمبارك» طال فيه حبسه واعتقاله، ومع كل هذا فقد مرت عليه ظروف كان يؤمل فيها أن ينال عفو المعتمد والراشد ابنه هو الذي كان يفتح أمامه طريق الأمل، وقد رق له هذا الأمير وعطف عليه لكثرة ما كان يبعثه إليه من قصائد يحشوها بالتنصل والاعتذار، وكثيرا ما كانت ترد الرسائل إلى المعتمد من الراشد وغيره من رجال الدولة في طلب العفو عنه، وهو الذي كان يحفزهم بما كان يكتبه إليهم وهو في سجنه، إلى أن ثقل على المعتمد كثرة ما يرد عليه من الرسائل، فأمر أن يمنع عنه ما يتمكن به من الكتابة، وقد أعطي - بأمر المعتمد - ورقتين كان طلبهما، كتب في إحداهما قصيدته المشهورة التي يتوسل بها إليه، وقد رفعت إليه في المساء عقب الانتهاء من وليمة، ولما أنشدت بين يديه أدركته عليه رقة، فأمر به فأتي به إليه ليلا وهو في بعض مجالس أنسه، فجاء يرسف في قيوده، فجعل يعدد عليه مننه ويعيب عليه من جديد إنكار الجميل، وجحود النعمة، فما كان جوابه إلا البكاء، وهملان الدمع، واجتلاب كل ألفاظ الرقة، وكل ما يمكن أن يزرع في قلب المعتمد الرأفة والحنان، فما زال به يستعطفه حتى عطفته عليه سابقته، وما كان بينهما من قديم الصداقة والصحبة، وخاطبه بكلام يدل على الصفح تلويحا، ولا يدل عليه تصريحا، فاطمأن بعض الشيء، ولم يدر أنه كان مخدوعا في شعور المعتمد نحوه، فهو وإن كان محتفظا ببعض الذكريات القديمة التي تعطفه عليه، وتجعله يرثي لحاله إلا أن هناك مسافة بعيدة بين ما هو ميل وعطف، وبين ما هو عفو وصفح، وقوي عنده الظن خطأ في أن الحظ سيواتيه، وأن السعادة ستعاوده، ولم يستطع أن يكتم سروره، فبعث بكتاب إلى الراضي يخبره فيه أن المعتمد قد وعده بالخلاص. •••
وكان بحضرة الراضي - حين وصل إليه الكتاب - قوم يكرهون ابن عمار ويضمرون له الشر، وسرعان ما ذاع الخبر في المدينة، وعرفه ابن عيسى وابن زيدون من وزراء المعتمد وكثر المرجفون وابن زيدون واجم مشرد الفكر، قد بات ليلته تلك ضيق الصدر، يخشى أن يتحقق الخبر، فتسقط منزلته ويكون لابن عمار المحل الأول من الاعتبار، لا بل هو الموت عنده، وفي صباح ليلته هذه لم يستطع أن يذهب إلى القصر كعادته في الوقت المحدد، إلى أن أرسل إليه المعتمد فدخل القصر، واستقبل أحسن استقبال، فسري عنه حين علم أن المعتمد لا يزال ناقما على ابن عمار وأن موقفه بإزائه لم يتغير، وقد كثر الإرجاف، وتوالت الإشاعات حول ما دار بين المعتمد وابن عمار ونشروه في المدينة أقبح نشر، وعلقوا عليه بزيادات قبيحة أحفظت المعتمد، فأرسل لابن عمار، وقال له: «هل أخبرت أحدا بما كان بيني وبينك البارحة؟»
فأنكر ابن عمار كل الإنكار، فقال المعتمد لأحد خصيانه: اذهب إليه، وقل له: «الحديث الذي دار بيني وبينك أمس كان بيننا سرا مكتتما، فما الذي أذاعه في الخارج؟»
فذهب إليه الخصي وعاد يقول: «يصر ابن عمار على إنكاره، ويقول إنه لم يقل لأحد شيئا.» فقال المعتمد: عد إليه، وقل له: «الورقتان اللتان طلبتهما أمس كتبت في إحداهما القصيدة، فماذا صنعت بالأخرى؟»
فعاد الخصي وقال: «يقول: إنه سود فيها القصيدة.»
فقال المعتمد: «علي بالمسودة إذن!» •••
وهنا لم يستطع ابن عمار أن يتمادى في إنكاره، بل قال بصوت متهدج تخنقه العبرة: «الورقة الأخرى كتبت فيها إلى مولاي الراضي أذكر له فيها ما وعدني به مولانا الملك من الإفراج عني.»
وعلى أثر هذا الاعتراف الرهيب غلا الدم في عروق المعتمد، وقام مغضبا، وصعد إليه وبيده أداة قاتلة من آلات الحرب كان أهداها له الأذفونش فلما عاينه ابن عمار على هذه الحال من الغضب والثورة العصبية أيقن أنه لا شك قاتله، فزحف وقيوده تثقله إلى أن ارتمى على قدمي المعتمد يقبلهما، ويبللهما بدموعه. •••
ولم تكن الشفقة لتعرف إلى قلبه سبيلا، فعلاه بالسلاح في يده، ولم يزل يضربه حتى برد.
هذه هي الفاجعة الأليمة التي ختمت بها حياة ابن عمار وقد أثرت هذه الكائنة المحزنة أثرها في إسبانيا العربية.
ولم تطل مدة المعتمد بعده، فإن الحوادث الخطيرة التي وقعت في طليطلة والانتصارات المتوالية التي أحرزتها جيوش القشتاليين حولت دفة السياسة إلى مجرى آخر.
2
الفصل الثاني عشر
اعتزم الأذفونش السادس ملك ليون وقشتالة و«غاليسيا» و«ناڤار» عزما قاطعا لا تردد فيه أن يفتح شبه الجزيرة، وقد كان من القوة وخصومه من الضعف بحيث يستطيع إتمام ما اعتزمه من ذلك، ولم يتعجل الفتح بل آثر الانتظار، ريثما يجمع من الإتاوات والجزى التي كان يفرضها على ملوك الأندلس أموالا كثيرة يدخرها عنده لتكون عدة للحرب، ووسيلة لإدراك أطماعه الكثيرة التي توجهت إليها أنظاره.
وعلى هذا أراد أولا أن يضع الملوك المسلمين تحت الآلة العاصرة، ولم يكن همه أن يعتصر بهذه الآلة شراب التفاح والنبيذ، بل أراد أن يأخذ من عصارة أولئك الملوك بعد سحقهم سائل الفضة والذهب.
وربما كان أضعف الملوك الذين كانوا يؤدون له الجزية «القادر» ملك طليطلة فقد أضر بهذا الملك ترف الحياة، ونعيم القصر حتى أصبح ألعوبة الخصيان، وأضحوكة الجيران الذين كان ينافس الواحد منهم الآخر في سلبه وتجريده، والأذفونش وحده هو الذي كان يظهر بمظهر من يحميه ويدافع عنه.
ولفداحة ما كان يرهق به رعيته من الظلم والمغارم لم يسلس له قيادهم، فلجأ إلى الأذفونش يشكو إليه أنه لا يستطيع أن يملك زمامهم، فوعده أن يبعث إليه بجنود لتأييده وحمايته مقابل مبلغ طائل من المال، وأراد القادر أن يجمع هذا المال من كبار رجال المملكة فدعاهم لهذا الغرض وكاشفهم بالأمر، فأبوا أن يعطوه شيئا، فأقسم لتدفعن المال، أو لتكرهن غدا على دفع أبنائكم رهائن عند الأذفونش فأجابوه: «إننا حينئذ نخلعك قبل أن تتمكن من ذلك.»
وسلم الطليطليون من ذلك الحين قيادهم للمتوكل ملك بطليوس واضطر القادر للهرب ليلا، والتجأ من جديد إلى الأذفونش يخطب وده، ويطلب مساعدته، فاتفق معه على أن يذهب لحصار طليطلة ويعيد إليه ملكه، ووجد أن ما حمله إليه من المال قليل، فلم يقبله، واشترط أن يعطيه بعض الحصون، ثم يطالبه فيما بعد بأزيد من هذا القدر الذي معه، فالتزم القادر بكل هذه الأشياء، وبدأت الحرب سنة (1080) ودامت سنتين، وبعث الإمبراطور كعادته رسله إلى المعتمد يطالبه بدفع الجزية السنوية، وكانت البعثة مؤلفة من جماعة من الفرسان عهد إلى يهودي من بين الجماعة اسمه ابن شبيب بالسفارة بينه وبين المعتمد؛ وذلك لأن اليهود لذلك العهد كانوا وسطاء بين المسلمين والنصارى، وضربت البعثة خيامها بظاهر المدينة، وأرسل المعتمد رسله إليهم وعلى رأسهم ذو الوزارتين أبو بكر بن زيدون يحمل الإتاوة المطلوبة، وكانت أقل مما يجب دفعه، لسوء الحالة في ذلك الوقت على الرغم من أن المعتمد قد فرض على رعيته لسداد المبلغ ضرائب فوق العادة، فلم يقبل اليهودي ما دفعه إليه الوزير، وقال له: «أتراني من البلاهة والغباء بحيث أقبل هذه النقود الزائفة؟ إني لا أتسلم دون المبلغ المطلوب، ولا أتسلمه إلا ذهبا عينا، وسيكون المدفوع في العام المقبل حصونا ومدنا لا مالا زائفا.» •••
واتصل بالمعتمد ما فاه به اليهودي أمام سفرائه، وكبار رجاله، فاستشاط غضبا وأمر أن يحمل وصحبه إلى القصر، وما حصلوا عنده حتى أمر بالرسل من النصارى فأودعهم السجن، وباليهودي أن يصلب، فارتعدت فرائص اليهودي الذي كان قبل برهة يتيه على المعتمد ورجاله صلفا وكبرا، وقال: «عفوا يا مولاي! إني أفتدي حياتي منك بوزن جسمي ذهبا.»
فقال المعتمد: «والله لو جئتني بإسبانيا كلها على أن تفتدي نفسك ما قبلت منك فداء.»
وهكذا تم صلب اليهودي.
وبلغ الأذفونش ما حل بفرسانه، فأقسم بإلهه وبأرواح القديسين لينتقمن لهم من عدوه انتقاما مروعا، وليغزونه في إشبيلية وليحصرنه في عقر داره، وكان الإسبانيون لهذا العهد قد اهتبلوا الغرة بما كان من تفرق كلمة المسلمين فتكالبوا عليهم واستولوا على حصونهم، وسار الأذفونش بجيوشه يفتح المعاقل ويخرب القرى حتى بلغ فرضة المجاز من طريف على جبل طارق، وضرب على ملوك الطوائف أنواع الجزى، وفي مقدمتهم المعتمد كان يؤديها له - وهو صاغر - إلى أن طلب منه المعتاد في كل سنة على يد أولئك الفرسان ومعهم وزيره اليهودي، فصلب المعتمد اليهودي منكسا، وأودع أولئك الفرسان في غيابات السجن، ولم يكن الأذفونش ليترك فرسانه القشتاليين وهم زهاء الخمسين، يعذبون في السجن على حساب خطئهم، دون أن يعمل على خلاصهم، ويتلطف في طلب الإفراج عنهم خوفا على حياتهم، فأرسل إلى المعتمد في ذلك، فاشترط أن يرد إليه حصن المدور في نظير إطلاق سراحهم، فقبل الشرط ورد الحصن إليه، وأطلقهم، وما عاد جماعة الفرسان المسيحيين حتى قام الأذفونش بتنفيذ وعيده، وإمضاء تهديده، وسار في طريقه لحصار إشبيلية فغنم وأحرق القرى، وقتل وأسر من المسلمين من لم يتسع لهم الوقت للالتجاء إلى الحصون المنيعة، وحاصر إشبيلية ثلاثة أيام، وخرب إقليم شذونة وما زال يزحف بجيوشه حتى وطئ الرمال وبلغ طريف ومس بحوافر فرسه أمواج البحر وهو يقول: «نحن الآن في أرض المجاز وبها قد وصلنا إلى آخر حدود إسبانيا.»
وبر بقسمه، وأرضى طماعيته، ووجه بجيوشه إلى طليطلة مقر مملكة القادر وتسلمها منه، وكان اتفق معه على أن يظاهره على أهل بلنسية، فاضطر المتوكل أن يفر من وجه القادر ويتخلى له على بلنسية، ففتح أهلها أبوابها له على الرغم منهم عام (1084) فجمع منهم أموالا طائلة، وقدمها للأذفونش فلم يرتضها الإمبراطور، وقال له بفتور وامتعاض: «هذا لا يكفي.»
فأضاف إليها فوق ذلك ما ورثه من الكنوز والنفائس عن أبيه وجده، فقال أيضا: «هذا لا يكفي.» فرجاه أن يعطيه مهلة ريثما يجمع له ما يكفيه من المال ، فقال له الأذفونش: «كلا حتى تعطيني حصونا أخرى أرتهنها كضمان لما هو مطلوب.» وهكذا سلم القادر في كل ما يملك، وأضاع طارفه وتليده، ومزق ثروته وميراثه، وبدد حصونه حصنا حصنا، وذهبه دينارا دينارا، وهو مستسلم مرغم، وإلا فماذا عساه أن يصنع؟ إن سيف الأذفونش المصلت يتهدده بالقتل، وأقل حركة تبدر منه تدل على عدم الطاعة والإذعان تجعله يهوي به على رأسه، فلم ير بدا من أن يستنزف أموال الرعية، ويرهقها بأنواع المظالم والمغارم ويأتي على الثمالة الباقية في أيديها، ورأى أهل بلنسية أنه لا قبل لهم بسد هذه المغارم الفادحة، ففروا من وجه هذا الظلم الصارخ زرافات ووحدانا، وهاجروا إلى أرض سرقسطة وكان موقف القادر أمامه شاذا وغريبا، فإنه كلما حمل إليه قدرا من المال ظنا منه أن ذلك يجدي في مرضاته، كان ذلك سببا في تزايد طلباته الملحة، إلى أن نضب معين المال، ولم يجد ما يقدمه إليه، وأقسم له أن ليس قبله شيء، فقام من فوره، وخرب بسيط المدينة وما حولها، كل هذا والقادر متعلق بعرشه بعد أن نخر في قوائمه السوس، وتداعى للانحلال والسقوط، ولكنه عدل في النهاية عن هذا التعلق الكاذب. •••
وحدث مرة أن حضر الأذفونش وكان هو في استقباله، فصرح له بأنه مضطر أن يتخلى له عن طليطلة وأنه متنازل عن العرش، فوضع الأذفونش الشروط التالية:
يتولى الإمبراطور حفظ حياة الطليطليين وحراسة المملكة، وللسكان حرية البقاء أو الهجرة إلى أي جهة شاءوا.
لا يطالبهم إلا بدفع الجزية المفروضة عليهم بشرط أن يعطوها مقدما.
يترك لهم القيام على شئون المسجد.
يتعهد للقادر بأن يكون ملكا على بلنسية.
وتم الاتفاق على هذه الشروط، وقبلها الإمبراطور، وفي يوم 25 مايو سنة (1085) دخل عاصمة مملكة القوط القديمة،
1
ومن ذلك الحين بلغ في الأبهة والعظمة والكبرياء مبلغا كان يقابله من الناحية الأخرى اتضاع ملوك المسلمين واستكانتهم إذ لم يبق منهم أحد إلا بادر بإيفاد الوفود إليه يهنئونه ويحملون إليه الطرف والهدايا، وصرحوا له بأنهم يكونون داخل حدود سلطانه كجباة للأموال لتحصيل الضرائب ودفع الجزى، وكان الأذفونش - وهو ملك ملوك الديانتين الإسلامية والنصرانية - لا يعيرهم أدنى اهتمام لهوانهم عليه، حتى لقد كان يعلن الاستهانة بهم، ولا يخفي احتقاره لهم، ومن ذلك أن حسام الدولة ملك البرزاليين وفد عليه ليقدم إليه بنفسه هدية فاخرة، وصادف في اللحظة التي دخل عليه فيها أن كان أمامه قرد يرقصه رائضه لتسليته بتنزيته وألاعيبه، فقال له الأذفونش بلهجة هي غاية في الزراية عليه والسخرية منه: «دونك هذا القرد فخذه من هديتك عوضا.» وكان الأمير المسلم بعيدا عن الإحساس بهذه الإهانة، ورأى في القرد لهذه المناسبة ذريعة إلى اكتساب الصداقة، ودليلا على أن الأذفونش لا يريد أخذ بلاده.
وبعد طليطلة جاء دور بلنسية وكان ابنا عبد العزيز
2
يتنازعان الملك، وكل منهما له شيعة وأنصار، وهناك فريق ثالث كان يعمل على إعطاء بلنسية لملك سرقسطة، وفريق رابع يريد أن تعطى للقادر، وكان الفوز حليف الفريق الأخير دون هؤلاء جميعا، ولم يكن القادر حائزا على الصفات المطلوبة، وكان خلفه جيش قشتالي بقيادة أحد رجال الأذفونش لا يعوزه إلا أن يقوم أهل بلنسية بتقديم الطعام لجنوده، مما يكلفهم في اليوم الواحد ست مئة قطعة ذهبية نقدا، وحاولوا عبثا أن يقنعوا القادر بأنه ليس في حاجة إلى هذا الجيش ما داموا يشدون أزره ويقومون بنصرته بكل أمانة. •••
ولكن القادر لم يكن من السذاجة بحيث يثق بهذه الوعود، وهو يعلم أنهم يمقتونه ويبغضونه، وأن الأحزاب القديمة لم تنس بعد أمانيها، ولهذا عول على إبقاء الجيش القشتالي، ولكي يقوم بتوفير نفقات هذا الجيش أثقل كاهل المدينة، والقسم الذي تقع فيه بضريبة فوق العادة، وأخذ من النبلاء والعظماء مبالغ طائلة، وعلى الرغم من أعمال الاضطهاد والإرهاق الفظيعة جاءه قائد الجيش القشتالي، وطالبه - تحت تأثير ضغط شديد - أن يعطيه المتأخر من أعطيات الجند، ولم يكن في استطاعته أن يقوم بتحقيق هذا الطلب، فاقترح حينئذ أن يظل القشتاليون مقيمين داخل حدود المملكة في بسيط من الأرض يقطعه لهم، فقبلوا ذلك، وأخذوا يزرعون ما أقطعه لهم من هذه الأراضي الواسعة بواسطة العبيد، ثم دأبوا بعد ذلك على الغارة على البلاد المجاورة، واكتفوا بالغزو والسلب عن الزراعة واستنبات الأرض، وازداد عدد جنودهم بمن انضم إليهم من شذاذ العرب وحثالتهم، وبمن انضوى تحت لوائهم من جماعات الأرقاء والفسدة، ومعتادي الإجرام، وارتد الكثير منهم عن دينه، واعتنقوا الدين المسيحي، ولم يمض على هذه العصابات وقت طويل حتى اشتهرت بالفظاعة والقسوة شهرة تبعث على الأسف والحزن، فمن فظاعة هذه العصابات أنهم كانوا يقتلون الرجال، ويعتدون على أعراض النساء، وكثيرا ما كانوا يبيعون الأسير المسلم برغيف من الخبز، أو بجرعة من النبيذ، أو بشواء من السمك، وكانوا يمثلون بالأسير الذي لا يستطيع أن يفتدي نفسه بالمال تمثيلا فظيعا؛ فربما سلوا لسانه أو سملوا عينيه، أو أطلقوا عليه الكلاب الضارية فمزقت جسمه.
وكانت بلنسية في الحقيقة تحت سلطان ونفوذ الأذفونش ولم يكن للقادر سوى أن يحمل لقب ملك، مع أن قسما كبيرا من أرض المملكة كان ملكا للقشتاليين، وكان ضم هذه المملكة إلى ممالكه رهن كلمة واحدة ينطق بها فمه.
ويظهر أن سرقسطة أيضا أصبحت على شفا التسليم، فإن الإمبراطور حاصر هذه المدينة وأقسم ليستولين عليها.
وكان في الطرف الآخر من إسبانيا قائد من قواد الأذفونش اسمه «غرسية» مقيم في حصن لا يبعد كثيرا عن «لورقة» وهو يواصل غاراته على مملكة المرية ولم يغفل غزو غرناطة أيضا، بدليل زحف عسكر القشتاليين في ربيع عام (1085) حتى أصبحوا على بعد ميل من شرقي غرناطة وقد أجروا معارك مع المسلمين هناك، وأيا كان ذلك فإن الخطر كان عظيما، والبلاء كان محيقا، والقوة المعنوية عند المسلمين كانت تلاشت وذهبت، ولا يمكن أن يتكافئوا مع المسيحيين حتى ولا بنسبة خمسة من المسلمين إلى واحد منهم، ومن أمثلة ذلك أن كتيبة من عسكر المرية مؤلفة من أربع مئة جندي من صفوة الجند، ولوا الأدبار أمام ثمانين جنديا من جنود القشتاليين.
ومما لا ريب فيه أن عرب إسبانيا لو تركوا وشأنهم - مع ما وصلوا إليه من التفكك والضعف - لدار أمرهم بين أن يختاروا أحد أمرين: إما الخضوع للإمبراطور خضوعا يفقدون به كل شيء ، وإما الهجرة من البلاد طوائف وجماعات، وكان الرأي السائد في الواقع الهجرة من البلاد فرارا بالشرف والعرض والدين، وقد حرض على ذلك كثير من شعرائهم ونظموا القصائد في حض الناس على مغادرة البلاد وتحذيرهم أخطار البقاء، وما يعرضهم له من الهلاك الذي لا يرضاه لنفسه عاقل حصيف.
وكانت الهجرة هي آخر حيلة يلجئون إليها بعد أن سدت في وجوههم أبواب الحيل.
على أن يأسهم هذا لم يكن ثمة داع إليه، فقد كان هناك بصيص من نور الأمل في الخلاص من ظلمة الخيبة والفشل، وكشف هذه الغمة الحالكة، وكان في وسعهم أن يلتمسوا النجدة والغوث من إفريقية، وقد فكروا في ذلك، ورأوا فيه الأمل الوحيد الباقي لنجاتهم على يد أولئك البواسل الشجعان ذوي الطباع السليمة والعزائم القوية التي لم يفسدها الخور والهوان.
على أنهم لم يكادوا يسمعون هذا الاقتراح حتى عارضوه، وخشوا عواقبه الوخيمة؛ لأنهم كانوا يعرفون من وحشية أولئك العرب ما ينسيهم بسالتهم وشجاعتهم، وقد خشوا أن يلجئوا إلى سلب أموالهم ونهب دورهم قبل أن يفكروا في مناوأة المسيحيين وقتالهم.
وثمة عدلوا عن إنفاذ هذا الرأي الخاطئ، واتجه أملهم ورجاؤهم إلى المرابطين، وهم جماعة من بربر الصحراء الذين قاموا بتمثيل أول دور على مسرح هذه البلاد.
وقد كان أولئك المرابطون حديثي العهد بالإسلام، وقد بث فيهم الدعوة إلى هذا الدين الجديد أحد دعاة الإسلام وهو من سجلماسة فدانوا له وتحمسوا معه، ووهبوا نفوسهم لطاعته، وأقبلوا على الجهاد فتمت لهم الفتوحات في أسرع وقت، وأصبح ملكهم الفسيح، في هذا العصر الذي نتحدث عنه يترامى من السنغال إلى بلاد الجزائر.
وكانت فكرة استدعائهم إلى إسبانيا تفتر عن ثغور البشر لا سيما لرجال الدين، أما الملوك والأمراء فكانوا على عكس ذلك، فقد ترددوا في هذا الأمر طويلا، على أن القليل منهم مثل المعتمد والمتوكل كانا قد دخلا في مكاتبات وعلاقات مع يوسف بن تاشفين ملك المرابطين، ورجواه غير مرة أن يساعدهما على مناوأة المسيحيين، على أن ملوك الأندلس بلا استثناء، وفي ضمنهم المعتمد والمتوكل كانوا قليلي الميل إلى دخول هؤلاء القساة القتلة المتعصبين من سكان الصحراء جزيرتهم، وكانوا يرون في (ابن تاشفين) منافسا خطيرا أكثر منه عونا وظهيرا.
وأصبح خطر النصرانية يتفاقم ويتزايد يوما عن يوم، وصار استدعاء المرابطين والالتجاء إلى هذه الوسيلة الوحيدة لدرء هذا الخطر المحدق بالجزيرة أمرا لا مناص منه، ولا معدى عنه، فمال المعتمد إلى هذا الرأي، وذهب إليه، بالرغم من أن ابنه الراشد أبان له ما هو مستهدف له من الخطر إذا هم شركوه في بلاده وظاهروه على عدوه، فأراه أنه لا يجهل هذه الحقيقة، وقال له: أنا بقطع النظر عن أي أمر آخر لا أريد أن تتهمني الأجيال المقبلة بأني تركت الأندلس غنيمة في أيدي الكفار، ولا أحب أن يلعن اسمي على منابر المسلمين، ولو ترك لي الخيار لآثرت من كل قلبي أن أكون جمالا في بلاد إفريقية على أن أكون راعي خنازير في قشتالة.
3
ولما أبرم خطته أفضى بها إلى جاريه المتوكل ملك بطليوس وعبد الله ملك غرناطة، ورجاهما أن يشركاه في إنفاذ هذا الاقتراح، وطلب منهما أن يرسلا قاضييهما إلى إشبيلية فأوفد المتوكل قاضي بطليوس أبا إسحاق بن مقانا، وأوفد عبد الله
4
قاضي غرناطة أبا جعفر، وانضم إليهما ابن أدهم وانضم إلى هؤلاء جميعا الوزير أبو بكر بن زيدون.
وأبحر هؤلاء جميعا إلى بر العدوة، وذهبوا لمفاوضة يوسف ودعوته على لسان ملوكهم للعبور إلى إسبانيا على رأس جيش، وكان عليهم أن يعرضوا عليه شروطا، ويقطعوا عليه بذلك عهدا، إلا أن ذلك بقي عندنا مجهولا، كما كان واجبا أن يعين المكان الذي سينزل فيه يوسف من البحر، فاقترح أبو بكر أن يكون المكان الذي ينزل فيه بعسكره جبل طارق، وآثر يوسف أن يكون نزوله في الجزيرة الخضراء بعد أن يتخلى له عنها، ولم يرق في نظر وزير المعتمد هذا الطلب، الذي لم يكن مخولا إليه حق الاتفاق عليه، وعلى أثر ذلك كان يوسف يعامل أولئك السفراء بفتور، فكان يراوغهم ويجيبهم أجوبة مبهمة، ولذلك عادوا إلى بلادهم وهم يجهلون تحديد المسائل التي وقع عليها الاتفاق واستقر عليها الرأي، فهو لم يقطع عهدا بالاتفاق على دخول إسبانيا، كما أنه لم يصرح بعدم الدخول.
وكذلك صار ملوك الأندلس يشكون في نواياه، ويرتابون في مقاصده، وقد خرجوا من هذا المشكل بحالة تستنكرها دولهم، وتستنكفها رعاياهم، على أن ارتيابهم في الأمر كان قائما على أساس.
5
وكان من عادة يوسف ألا يقدم على عمل إلا بعد مشورة الفقهاء ورجال الدين، فاستشارهم فيما يجب عمله، فأشاروا عليه أن يبدأ أولا بقتال القشتاليين، وإن كان يعوزه في هذا السبيل أن يخلوا له الجزيرة الخضراء، وإن أبوا أن يخلوها له كان له الحق في أخذها، ولما تزود للأمر بهذه الفتوى أمر عدة من جيوشه بالإبحار من مدينة سبتة على بعض السفن، والعبور إلى الجزيرة وأن تكون مكتنفة بجيش كثيف من جنوده، ورسم أن تقدم المؤن وما يحتاج إليه الجيش من نفس المدينة، وكان الراضي حاكما على الجزيرة، فوقع في حيرة وارتباك لا قبل له باحتمالها، لأن الحالة التي تواجهه الآن لم يكن يتوقعها، ولم يمتنع من تقديم ما يحتاجه جيش المرابطين من المؤن، ولكنه كان على استعداد لدفاع القوة بالقوة متى دعت الحال لذلك.
وعدا ذلك فقد كتب إلى والده رسالة ربطها في جناح حمامة، وأطلقها صوب إشبيلية وتربص ريثما يتلقى منه الأوامر، فورد إليه جواب أبيه على جناح السرعة، وقد بت في الأمر بلا تردد ولا إمهال، ورأى أنه مهما يكن مسلك يوسف جافا ومثيرا، فإنه يشعر بأنه قد أمعن في المضي، حتى لا يستطيع أن ينكص على عقبيه، ولم يبق إلا أن تقابل هذه اللعبة السيئة الجريئة بمظاهر الارتياح والاطمئنان، وما هو إلا أن أصدر في الحال أمره إلى ولده بإخلاء الجزيرة والانسحاب إلى رندة.
وتلاحقت الجنود بالجزيرة، ووصلها يوسف نفسه أخيرا، فعني أولا بتحصين المدينة حتى صارت في حالة حسنة، وزودها بالمؤن والذخائر، وترك فيها حامية كافية، ثم سار في معظم جيوشه إلى إشبيلية وجاء المعتمد لاستقباله تحف به أعاظم رجال مملكته ، ولما تلاقيا، هم المعتمد أن يقبل يده فأبى وتعانقا عناقا تجلت فيه كل عواطف الإخلاص والحب والسرور، بلقاء العدو المشترك، ولم يغفل المعتمد العادات الملكية المتبعة في مثل هذه الظروف من تقديم هدايا فاخرة تليق بمقام ضيفه الكريم ورجال دولته، وقد تقبلها شاكرا مغتبطا، ووزعها على جنوده المرابطين، ولم يخامره شك على أثر ما قدم إليه من سني الهدايا أن إسبانيا في الذروة، من تزايد الغنى، ووفور الثروة.
فوقف الملكان على مقربة من إشبيلية وقد وافاهما هناك ابنا باديس عبد الملك ملك غرناطة وتميم ملك مالقة وانضما إلى المرابطين، وكان مع الأول ثلاث مئة فارس، ومع ثانيهما مئتان، وأرسل المعتصم ملك المرية كتيبة من الفرسان، واعتذر عن مجيئه بنفسه لمجاورة نصارى البدو له، وبعد مضي ثمانية أيام زحف الجيش عن طريق بطليوس حيث التقى بالمتوكل وجيوشه، ثم زحفوا إلى طليطلة ولم يتقدموا قليلا إلا وقد فاجأهم العدو.
وكان الأذفونش لا يزال محاصرا سرقسطة في ذلك الوقت الذي علم فيه بدخول المرابطين إسبانيا وقد خيل إليه أن ملك هذه المدينة المحاصرة يجهل حادث دخول المرابطين إلى هذه البلاد، فبعث إليه يطلب منه أموالا كثيرة ليرفع عنه الحصار، ولكن المستعين كان قد وقف على هذا النبأ العظيم مثله، فلم يعطه درهما واحدا.
ثم عاد الأذفونش إلى طليطلة بعد أن أرسل إلى إيڤارو وإلى مساعديه الآخرين أن يجيئوا بجيوشهم لينضموا إلى جيشه، ولما تجمعت وحدات الجيش الذي كان به كثير من الفرسان الفرنسيين زحف، إذ كان يريد أن تدور رحى القتال في بلاد العدو، والتقى بالمرابطين وحلفائهم في مكان لا يبعد عن بطليوس واقع بالقرب من مكان يعرف عند المسلمين «بالزلاقة» وعند المسيحيين باسم «سكر الياس».
ولم يكن قد انتهى من ضرب خيامه حتى وافاه كتاب من يوسف يدعوه فيه إلى إحدى خصال ثلاث: إما الإسلام، أو الجزية، أو الحرب، فاستاء جد الاستياء من هذا الكتاب، وكلف أحد كتابه من العرب أن يرد عليه بكتاب يقول فيه: إني ما كنت أتوقع أن يصل الحد بالمسلمين الذين كانوا يعطونني الجزية منذ سنين مضت، أن يعرضوا علي مثل هذه الاقتراحات الجارحة، ومع هذا فإن لدي جيشا في استطاعته أن ينزل العقوبة على هذه الوقاحة البالغة من الأعداء.
ولما وصل الكتاب اشتغل بالرد عليه أحد الكتاب الأندلسيين، ولما سمعه يوسف رآه مطولا فاكتفى بأن يكتب في حاشية كتاب الإمبراطور هذه العبارة: «الذي يكون ستراه.» وبعث بهذا الرد إليه.
6
ولم يبق بعد هذا إلا تحديد وقت المعركة، وبذلك كانت تقضي العادة في ذلك العهد، وقد ضربوا لها موعدا يوم الخميس 22 أكتوبر سنة (1086) ولكن الأذفونش أرسل في نفس اليوم إلى المسلمين يقول: «غدا الجمعة وهو يوم عيدكم، والأحد عيدنا، فأقترح إذن أن تكون المعركة يوم الاثنين.» فقبل يوسف هذا الاقتراح، ولكن المعتمد رأى فيه حيلة سياسية.
وكان الأندلسيون في مقدمة الجيش معرضين للهجمات الأولى، أما المرابطون فكانوا في المؤخرة تسترهم الجبال، فلم يكن بد من أن تتخذ مقدمة الجيش الحيطة والحذر حتى لا يباغتها العدو، وأخذت طلائع المسلمين تترقب حركات العدو، وكانت الأفكار والخواطر في قلق وانزعاج، والمعتمد لا ينفك يستشير منجميه، وأصبح الوقت حرجا ودنت الساعة الحاسمة التي ستدور فيها رحى المعركة الفاصلة التي يتوقف على نتيجتها مستقبل إسبانيا، وكانت جيوش القشتاليين أوفر عددا إذ كانت تتراوح - على ما يظن - بين خمسين إلى ستين ألفا، بينما جيوش خصومهم المسلمين لا تعدو عشرين ألفا.
ومع طلوع الفجر بدأت مخاوف المعتمد تتحقق، فقد أبلغه بعض طلائعه أن الجيش المسيحي يقترب، وعلى هذا يصبح مركزه على شفا الخطر، ويستهدف جيشه لأن يسحق قبل أن يقترب المرابطون من ساحة القتال، فبعث إلى يوسف يستحثه أن يتقدم بجيوشه على عجل، أو أن يوافيه على الأقل بالمدد الكبير الكافي، وقد كان يوسف قد وضع خطة لا يستطيع التحول عنها، فلم يبادر إلى تلبية طلبه، وكان قليل الاهتمام بما يصيب الأندلسيين، وقد صاح لهذه المناسبة قائلا: «وماذا يهمني إذا كان نصيب هؤلاء جميعا الهلاك، إنهم جميعا أعداء.»
ولم يسع الأندلسيين إلا الفرار حيث وجدوا أنفسهم وحدهم، أما الإشبيليون، فقد كانوا - على غرار ملكهم الذي جرح في وجهه ويده - مثلا للشجاعة والبسالة والإقدام، فصمدوا للعدو، وقاوموا صدماته العنيفة، إلى أن وصلت لمساعدتهم نجدة من عسكر المرابطين، وحينئذ صارت المعركة أقل توازنا، وقد دهش الإشبيليون أشد دهشة حين رأوا العدو يقاتل متقهقرا؛ لأن المدد الذي وصل لم يكن من الكثرة بحيث يزهى على سائر الجيش بأن يكون صاحب الفضل في الانتصار على الأعداء، والحقيقة أن الفضل في تقهقر الجيش لم يكن لمجرد وصول المدد.
وإليك ما وقع: لما رأى يوسف أن الجيش القشتالي التحم بالأندلسيين بدأ ينفذ خطة وضعها، وهي مباغتته من الخلف، ولذلك لم يرسل إلى المعتمد إلا المدد القليل الكافي حتى لا يسحقه الأعداء، ثم وفق إلى تنفيذ هذه الخطة الحربية حين زحف بأكبر جزء من جيشه على معسكر الأذفونش وأجرى مذبحة هائلة في الجنود الموكلين بحراسة المعسكر، وأشعل النار فيه فاحترق، وانقض على ظهر القشتاليين، وهو يحتوش أمامه الجنود الفارين.
وإذ قد وجد الأذفونش نفسه بين نارين، ورأى أن الجيش الذي باغته من الخلف، أضخم عديدا من الجيش الذي في مواجهته، اضطر أن يحول قوته الرئيسية إليه، وحمي وطيس المعركة، وكانت الحرب سجالا بين الفريقين المتحاربين، وكان يوسف يجول على صهوة جواده بين صفوف المقاتلة من المسلمين، وهو يهيب بهم: «أن تشجعوا أيها المسلمون، أعداء الله أمامكم، والجنة تنتظركم، وطوبى لمن أحرز الشهادة.»
وسرعان ما عاد الأندلسيون الفارون فنظموا صفوفهم، وأخذوا أمكنتهم من ميدان القتال لشد أزر المعتمد، ثم جرد يوسف حرسه الاحتياطي من السودان فحملوا على القشتاليين من ناحية أخرى حملة منكرة أتوا فيها بالعجائب.
وتمكن زنجي من الدنو من الأذفونش وطعنه بخنجر في يده فجرحه في فخذه، وأقبل الليل، والفريقان المتحاربان يتنازعان المعركة التي حمي وطيسها، ثم كان النصر في النهاية حليف المسلمين، وكان الفريق الأعظم من المسيحيين ملقى في ميدان القتال بين قتيل وجريح، ولاذ الباقون بالفرار، وتمكن الأذفونش نفسه من الفرار مع كبير عناء يحيط به خمس مئة فارس من جنده (5) أكتوبر سنة (1086).
وكان يوسف معتزما أن يتعقب الفارين، ويزحف بجيوشه إلى بلاد الأعداء ليجني ثمرات انتصاره، ولكنه عدل عن ذلك حين بلغه نبأ وفاة ابنه الأكبر، وعاد إلى إفريقية مع عامة الجند، وترك تحت إمرة المعتمد جيشا من المرابطين مؤلفا من ثلاثة آلاف جندي.
ملوك الطوائف وعواصمهم
إشبيلية (بنو عباد)
أبو القاسم محمد بن إسماعيل (القاضي) (1023-1042)
أبو عمرو عباد بن محمد: المعتضد (1042-1069)
أبو القاسم محمد بن عباد: المعتمد (1069-1091)
قرطبة (بنو جهور)
أبو الحزم جهور بن محمد بن جهور (1031 (ديسمبر)-1043)
أبو الوليد محمد بن جهور (1043-1064)
عبد الملك (1064-1070)
ثم ضمت قرطبة إلى حكم ملوك إشبيلية.
مالقة (بنو حمود)
إدريس الأول (1035-1039)
يحيى بن إدريس الأول (1039)
حسن بن الخليفة يحيى بن علي (1039-1041)
الصقلبي: نجاء (1041-1043)
إدريس الثاني (1043-1047)
محمد الأول الابن الثاني لإدريس الأول (1047-1053)
إدريس الثالث (1053)
إدريس الثاني (للمرة الثانية) (1053-1055)
محمد الثاني (رابع أنجال إدريس الأول) (1055-1057)
ثم ضمت مالقة إلى مملكة غرناطة.
الجزيرة (بنو حمود)
محمد بن الخليفة القاسم بن حمود (1035-1048 (9))
القاسم ابنه (1048 (9)-1058)
ثم ضمت «الجزيرة» إلى مملكة إشبيلية.
غرناطة (بنو زيري)
زاوي بن زيري (حتى سنة 1019)
حبوس (1019-1038)
باديس (1038-1073)
عبد الله (1073-1090)
قرمونة (بنو برزال)
أسماء الملوك تبعا لابن خلدون (عباد ج2 ص216) هي كما يلي:
إسحاق
عبد الله ابنه
محمد بن عبد الله (حتى سنة 1042 (3))
العزيز المستظهر (1042 (3)-1067)
عن ابن حيان وابن بسام:
ابن عبد الله أي محمد بن عبد الله، حكم قرمونة في العهد الذي كان فيه هشام الثالث متوليا قرطبة 1029-1031 وعلى ما يقول المؤلف نفسه الذي كان أهلا للثقة أكثر من ابن خلدون وكان خليفته محمد بن عبد الله.
ابنه إسحاق الذي حكم سنة 1050.
ويظهر أن ابن الأبار «في أبحاثي ص286 الطبعة الأولى» قد أخطأ إذ قال: إن محمد بن عبد الله، كان لا يزال حيا سنة 1051.
رندة
أبو نور بن أبي قرة (1014 (5)-1053)
أبو النصر (ولده) (1053)
ثم ضمت «رندة» إلى مملكة إشبيلية.
مورور
نوح (1013 (4)-1041 (2))
أبو مناد محمد وابنه (1041 (2)-1053)
ثم ضمت «مورو » إلى مملكة إشبيلية.
أركش
ابن خزرون (حتى سنة 1053)
ثم ضمت أركش إلى مملكة إشبيلية.
ولبة
أبو زيد محمد بن أيوب (من سنة 1011 (2))
أبو المصعب عبد العزيز (إلى سنة 1051)
ثم ضمت «ولبة» إلى مملكة إشبيلية.
نبلة
أبو العباس أحمد بن يحيى اليعقوبي (1023-1041(2))
محمد، شقيقه
فتح بن خلف بن يحيى بن أخي السابقين (حتى سنة 1051)
ثم ضمت نبلة إلى مملكة إشبيلية. «شلب» (بنو مزين)
أبو بكر بن سعيد بن مزين (1028-1050)
أبو الاصباغ عيسى (إلى سنة 1051(2))
وقد ضمت «شلب» إلى مملكة إشبيلية.
شنتمرية
أبو عثمان سعيد بن هارون (1016-1043)
محمد (ولده) (1043-1052)
ثم ضمت شنتمرية إلى مملكة إشبيلية.
مرتلة
ابن طيفور (إلى سنة 1044)
ثم ضمت مرتلة إلى مملكة إشبيلية.
بطليوس
سابور
وبعدئذ بنو الأفطس:
أبو محمد عبد الله بن محمد بن مسلمة المنصور الأول
أبو بكر محمد المظفر (حتى سنة 1068)
يحيى المنصور الثاني
عمر المتوكل (حتى سنة 1094)
طليطلة
يعيش بن محمد بن يعيش (حتى سنة 1036)
وبعدئذ بنو ذي النون:
إسماعيل الظافر (1036-1038)
أبو الحسن يحيى المأمون (1038-1075)
يحيى بن إسماعيل بن يحيى القادر (1075-1085)
سرقسطة
المنذر بن يحيى
1 (حتى سنة 1039)
وبعدهم بنو هود:
أبو أيوب سليمان بن محمد المستعين الأول (1039-1046 (7))
أحمد المقتدر (1046 (7)-1081)
يوسف المؤتمن (1081-1085)
أحمد المستعين الثاني (1085-1110)
عبد الملك عماد الدولة (1110)
السهلة (بنو رزين)
أبو محمد هذيل الأول بن خلف بن رزين (من سنة 1011)
أبو مروان عبد الملك الأول بن خلف، شقيقه
أبو محمد هذيل الثاني عز الدولة نجل السابق
أبو مروان عبد الملك الثاني حسام الدولة يحيى (إلى سنة 1103)
الفنت (بنو قاسم)
عبد الله الأول بن قاسم الفهري نظام الدولة (إلى سنة 1030)
محمد يمن الدولة
أحمد عضد الدولة (إلى سنة 1048 (9))
عبد الله الثاني جناح الدولة، شقيق السابق (1048 (9)-1092)
بلنسية
الصقلبيان: مبارك، والمظفر
الصقلبي لبيب صاحب «طرطوشة»
عبد العزيز المنصور (1021-1061)
عبد الملك المظفر (1061-1065)
ثم ضمت بلنسية لمملكة طليطلة.
المأمون (طليطلة) (1065-1075)
ثم انفصلت بلنسية عن طليطلة.
أبو بكر بن عبد العزيز (1075-1085)
القاضي عثمان (ولده) (1085)
القادر (ملك طليطلة سابقا) (1085-1092)
ثم صارت بلنسية جمهورية رئيسها ابن جحاف (1092-1094)
دانية
أبو الجيش مجاهد موفق (إلى سنة 1044 (5))
علي إقبال الدولة (1044 (5)-1076)
خلعه المقتدر صاحب سرقسطة وضمت دانية إلى مملكة سرقسطة.
المقتدر (سرقسطة ) (1076-1081)
المقتدر يقسم مملكته بين ولديه، فكان نصيب الحاجب منذر: لاردة، وطرطوشة، ودانية.
الحاجب المنذر (1081-1091)
ولده تحت وصاية بني بطير
مرسية
خيران (المرية) (1016 (7)-1028)
زهير (المرية) (1028-1038)
عبد العزيز المنصور بلنسية (1038-1061)
عبد الملك المظفر بلنسية (1061-1065)
كان أبو بكر أحمد بن طاهر حاكما لمرسية في عهد هؤلاء الملوك الثلاثة وتوفي سنة 1063 وخلفه ولده أبو عبد الرحمن محمد (1063-1078)
المعتمد (إشبيلية)
ابن عمار
ابن رشيق (إلى سنة 1090)
المرية
خيران (إلى سنة 1028)
زهير (1028-1038)
عبد العزيز المنصور (بلنسية) (1038-1041)
وبعدهم بنو صمادح:
أبو الأحوص (1041-1051)
محمد المعتصم (1051-1091)
عز الدولة (1091)
الهوامش
الجزء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
ملوك الطوائف وعواصمهم
الجزء
نظرات في تاريخ الإسلام
ديانة العرب في الجاهلية
كان كل شيء سائرا في طريقه المعتادة في النصف الأول من القرن السابع الميلادي سواء في الإمبراطورية البيزانطية أو الإمبراطورية الفارسية.
ولا جرم كانت هاتان المملكتان في نزاع دائم، سببه الرغبة والطمع في تملك آسيا الغربية، وكانتا - في ظاهرهما - مزدهرتين، تجبى لهما الضرائب والخراج فتمتلئ الخزائن بالمال، وتتضخم ثروة الحكام، حتى أصبح الترف والأبهة - اللذان انغمس فيهما سكان العواصم - مضرب الأمثال.
على أن كل ذلك لم يكن إلا مظهرا كاذبا، فقد كان يسري في كيان هاتين المملكتين داء كمين، وظل السوس ينخر في عظامهما دائبا على تقويض أركانهما بسبب ما أظهرتاه من عسف وجور مهلكين، هذا إلى ما حدث من الفواجع التي نجمت من تلك الأسرات، وما لعبته من الأدوار المفجعة التي كانت - على الحقيقة - سلسلة متصلة الحلقات من الاضطهادات والفتن الدينية الشعواء.
وثم رأينا شعبا يظهر فجأة من بين تلك الصحراء التي لا يكاد يعرفها أحد، شعبا جديدا بدأ يمثل دوره على مسرح الحياة، بعد أن ظل نهبا مقسما، تناوئ كل قبيلة منه القبيلة الأخرى، فيحتدم النزاع وتقع الحرب الطاحنة ، ها قد رأيناه يتحد ويجمع شمله الشتيت للمرة الأولى.
ذلكم هو الشعب الناهض الذي تملك نفسه حب الحرية وساعدته على النجاح صفاته النبيلة، فقد كان متقشفا في طعامه، مخشوشنا في لباسه، نبيلا في أخلاقه، كما كان طروبا سريع البديهة حاضر النكتة.
ولقد كان شريف النفس أريحيا، فإذا استثرته مرة فهو قاس غضوب شرس
1
لا يني عن أخذ ثأره، ولا يرده عن انتقامه شيء.
ذلكم هو الشعب الذي قلب - في لحظة واحدة - إمبراطورية الفرس بعد أن ظل السوس ينخر في عظامها قرونا عدة، وانتزع من خلفاء «قسطنطين» أجمل ضواحيهم، ثم سحق مملكة جرمانية حديثة العهد تحت قدميه، وشرع يهدد - بعد ذلك - بقية أوروبا.
بينما كان في ذلك الوقت نفسه يوالي فتوحه وانتصاره في الجانب الآخر من المعمورة حتى وصلت جيوشه الظافرة إلى الهملايا.
لم يكن ذلك الشعب فاتحا فحسب - كغيره من الشعوب الأخرى - بل كان داعيا إلى دين جديد ومبشرا به أيضا، كان داعيا إلى دين جديد، فقام يناوئ الثنوية
2
الفارسية والمسيحية التي أفسدتها الخرافات والبدع، حاملا إلى الناس توحيدا خالصا لم يلبث أن دان به الملايين من الناس حتى بلغ عددهم في أيامنا هذه نحو عشر الإنسانية كلها. •••
ذلك هو الدين الذي أخذنا على عاتقنا محاولة الكلام فيه وفي تاريخه العام، ولعل أول ما يعرض لنا هو هذا السؤال: «مم نشأ؟ وكيف تفرع من الديانة التي سبقته، ثم نما حتى وصل إلى ما وصل إليه؟»
فكيف نجيب على هذا السؤال الذي يجدر بنا الإجابة عليه قبل كل شيء؟ الحق أنني لم أكد أعرض لهذا حتى وقعت في حيرة لا مثيل لها، فقد اعترضتني - حتى في هذه الخطوة الأولى - صعوبة لم أكن لأتوقعها قبل أن أتصدى لبحث هذا الموضوع، وإليك البيان. •••
إنني - على إجلالي وتقديري لما قام به بعض الباحثين الذين تصدوا للكلام عن ديانة العرب القديمة وأصل الإسلام، وعلى إعجابي بفطنتهم واجتهادهم - أقرر ولا أرى بدا من المصارحة: أن هذه البحوث الطريفة لا تكفيني قط، لأنها لم تستطع أن توضح هذه الأمور أكثر من قبل؛ لذلك رأيتني مضطرا إلى إعادة البحث - من جديد - سالكا طريقا أخرى مخالفة لما نهجه غيري من الباحثين إلى اليوم، وقد وصلت إلى نتيجة، أنا أول المدهوشين لها، وليس في وسعي أن أسردها في بضع صفحات، إلا أنها - في جوهرها وأساسها - مرتبطة بعدة نتائج أخرى لها خطرها وأهميتها.
ولما كانت نتائج بحوثي مناقضة - على طول الخط - كل الآراء السائدة إلى اليوم لغرابتها عنها، والعلم يقضي على الإنسان، ألا يلقي للناس قضايا مسلمة لا يدعمها برهان، ولا تقوم على أساس متين من الحجج العلمية الناهضة، والأدلة الصحيحة المستقاة من مصادرها الأصلية.
والدعاوى - ما لم يقيموا عليها
بينات - أصحابها أدعياء!
ولما كانت المصادر الأصلية التي أعنيها هي مصادر أجنبية بالنسبة لقارئ هذا السفر
3
رأيتني مضطرا إلى تفصيل ذلك الرأي في سفر مستقل آخر.
4
ولكن ماذا نصنع الآن في هذا الفصل؟ •••
إما أن نجتزئ ببعض الآراء التي وصلتنا، مبدلين فيها رغبة في أن نوائم بينها وبين آرائنا الخاصة، فهذا محال؛ لأن منهجين متباينين من مناهج البحث لا سبيل إلى التقائهما والتوفيق بينهما، هذا فضلا عن عقم هذه الطريقة التي لا غناء فيها، فليس ثم أية فائدة من تعرف جزء من الحقيقة.
لذلك أعملت الفكر، فلم أجد إلا مخرجا واحدا من هذا المأزق، هو أن أتبع الفكرة المقررة، مقتصرا على سردها وذكر ما وصل إليه الباحثون من النتائج في هذا الصدد، لا سيما «سپرنجر» أقرب الباحثين وأوفاهم درسا واستيعابا للتاريخ الإسلامي وترجمة النبي.
على أنني جدير أن أقرر - منذ الآن - في أسلوب صريح لا يحتمل لبسا ولا تأويلا، أنني إن استطعت بهذه الطريقة أن أرفع عن عاتقي عبء التبعة والمؤاخذة، بما أقرره في هذا الفصل من وصف الحال الدينية التي كان عليها العرب في القرن السادس الميلادي، فلن يكون ذلك شأني فيما أقرره في بقية الفصول. •••
وقد دفعتني هذه الاعتبارات السابقة، كما دفعني غيرها من الأسباب التي لا يصعب على القارئ فهمها إلى الاقتصار على ذكر ذلك الزمن السابق بأقصى ما في قدرتي من الإيجاز الذي التزمته في تبيان ديانة العرب الأولى ونشأتها في بلادهم، فلم أحد عن هذا الشرط قيد أنملة.
ديانة العرب الأولى
كان العرب يؤمنون بكائن أعلى - هو الله (تعالى) - ويعتقدون أن له ذاتا لا كذواتهم وأنه محيط بالعالم، وما يحويه من كائنات - هو بارئها - وإن اختلفت حظوظها من الطاعة والعصيان، وكانوا يدينون بأنه خالق السموات والأرض.
5
وأنه الذات المنزهة التي لا حد لحكمتها، ولا يمارون في أنه مدبر العالم، وأنه هو الذي يرسل عليهم المطر من السماء:
6
كانوا يعتقدون هذا ويعتقدون أيضا أن ليس له كهان ولا هياكل، كتلك التي خصوا بها أوثانهم.
العرب والجن
فإذا تركنا ذلك إلى سواه رأيناهم يعظمون الجن ويمجدونهم، وقد دفعتهم إلى ذلك صحاريهم وجبالهم التي كثيرا ما يضلون فيها أسابيع كاملة، فيتمثلون رؤية هذه العوالم الغريبة، ويثبت في نفوسهم هذه التصورات ما يكابدونه فيها من ألم الجوع والعطش، وما يحتملونه من شمس الصحراء المحرقة، وهوائها اللافح، وسوافيها المهلكة، هذا إلى ما يعانونه من تقلبات الجو الفجائية، حتى ليصل بهم الروع إلى حد أن يتخيلوا أنهم يسمعون أصوات الجن ويبصرون ذواتهم في أشكال عدة، وعلى صور شتى، منها السخيف ومنها المعجب،
7
وكانوا يعتقدون بأن أجسامهم تشغل جزءا من الفضاء - كما تشغله أجسامنا - وأنهم ينتشرون، ولكنهم يختلفون عنا في تكوينهم؛ لأن أجسامهم مخلوقة من النار أو الهواء،
8
ومن ثم لا تراها العين الإنسانية إلا شذوذا، وفي قدرتهم أن يأتوا كثيرا من ضروب الشر والخير، ومن كانوا كذلك فقد وجب عليهم أن يتحببوا إليهم ويمجدوهم ويقدسوهم، ومما سهل عليهم الوصول إلى تحقيق هذه الغاية اعتقادهم أن لكل جني موطنا خاصا به.
فهذا في حجر وذلك في نصب وثالث في شجرة.
9
وكانت تجمع قبيلة - أو عدة قبائل أحيانا - على تمجيد جني بعينه، وتكل العناية به إلى أسرة بعينها منوط بها أمر رعايته وتلبية رغباته، وكانت هذه الفئة تقوم بحراسته وتعظيم شأنه، سواء في الحجر أو الشجرة أو الصورة التي تمثله، كما تؤدي له حقه من المراسيم الكهنوتية والطقوس الدينية التي تقيمها في محرابه، وربما سمع لذلك النصب صوت - كما يحدث ذلك في كثير من الأحيان، ومن الواضح أن الكهنة القائمين بحراسة الوثن قد مرنوا بالحيلة على إحداث تلك الأصوات لإيهام الناس أنها تتكلم، وكان لكل منها صوت خاص به يميزه عن غيره، وكان العرب يعدون ذلك من الخوارق والمعجزات التي يعزونها إلى أوثانهم.
كذلك كانت تحرص كل قبيلة على صنمها، وتشيد بذكره، وتفرده بأقصى ما تستطيع من حب، لأنها ترى فيه نوعا من الملكية، وكان الكهان ينضحون عنه، ولا ينون في طلب القرابين لذلك النصب، وإن كانوا - على الحقيقة - يطلبونها لأنفسهم ويجرون المغانم لهم باسم الله (تعالى).
هذا ما نستطيع أن نستخلصه بسهولة من القرآن، وأقوال المفسرين على وجه الإجمال، على أن أحد المؤرخين الذين تخصصوا في درس ترجمة حياة النبي يعزون ذلك إلى قبيلة «خولان» وحدها، وهي التي كانت تقطن اليمن في ناحية منه تعرف باسمها.
وكان من عادتهم، حين تقدم القرابين إلى الآلهة - وهي من البر أو الفصال
10 - أن يقسموها قسمين، أحدهما وقف على الله، وهذا من نصيب المعوزين وأبناء السبيل الذي يحلون ضيوفا على أهل القبيلة، والآخر وقف على النصب، وهو من نصيب الكهنة وحدهم.
فإذا وقع في القسم الأول - بطريق المصادفة - بعض النفائس، استأثروا به وجعلوه من نصيب الوثن، ووضعوا مكانه النصيب الأدنى لله.
11
ولكن ما علاقة هذه الأرباب الصغيرة بالله؟ لقد كانوا يعتقدون أن تلك الأرباب بنات الله،
12
وأن مثلها منه كمثل الفروع من الأصل تماما، فهي تحكم الناس كما يحكم حاكم الإقليم بعد أن يخوله مليكه سلطان الحكم، وثمة كانوا يرون في تلك الأرباب وسائط بين الناس وبين الله.
13
مكة والكعبة
وكانت مكة حاضرة الثقافة في أواسط بلاد العرب، وقد بنتها قريش في منتصف القرن الخامس الميلادي، في واد رملي شديد الضيق، حتى ليبلغ أقصى اتساع فيه نحو سبع مئة خطوة - أما أضيق مكان فيه فلا يزيد عن مئة خطوة - وتكتنفه جبال جد عارية يتراوح ارتفاعها بين مئتي قدم وخمس مئة.
في هذه المدينة المحراب الذي يفخر به كل من يملكه ويقع في حوزته ، ذلك هو محراب الكعبة الجليلة الشأن
14
وهو أقدم من المدينة نفسها بكثير، وإن جدد وأعيد بناؤه عدة مرات، وهو مؤلف من أربع حوائط مبنية بحجارة لم يهذبها الصقل، وقد رصف بعضها إلى بعض دون أن يتخللها الملاط، وقد غطيت بريطة
15
أو بقطعة من القماش، أما ارتفاعها فلا يزيد عن ارتفاع الرجل، وأما مساحتها فتبلغ مئتي قدم.
وكان هبل
16
اسم الصنم الكبير الرئيسي بين أصنامها، منذ النصف الأول من القرن الثالث، وهو تمثال عقيقي
17
جلبه من الخارج بعض الرؤساء،
18
وكان هبل في ذلك العهد ربا لقبيلة قريش، أما الكعبة نفسها فلم تكن ملكا للقرشيين، بل كانت - على الحقيقة - ملكا مشاعا لأكثر القبائل التي تربطهم بها وشائج المصلحة السياسية العامة، وكان للكعبة صبغة عالمية عندهم.
وقد وضعت كل قبيلة من تلك القبائل صنمها الذي تعبده في ذلك المحراب الكعبة حتى بلغ عدد الأرباب التي بها ثلاث مئة وستين ربا، وكان التسامح الديني سائدا، وقد وصل بهم إلى أعظم حدوده، فقد كنت ترى في الكعبة - زيادة على ما أسلفنا ذكره من الأصنام - صورة إبراهيم الخليل وصورة الملائكة، وصورة العذراء مع طفلها عيسى.
الحجر الأسود
على أنهم كانوا لا يقدسون شيئا، كما يقدسون الحجر الأسود وهو الحجر الذي يزعم المسلمون أنه كان أول أمره أبيض، ثم اسود من توالي الحريق الذي حدث في الكعبة، وقد لعب هذا الحجر فيما بعد - في قابل الإسلام - دورا خطيرا في التاريخ الإسلامي، ولا زال يعده المسلمون - حتى أيامنا هذه - حجرا مقدسا، وسنذكر في بعض الفصول التالية بعض أقاصيص يرويها بعض علماء الكلام واللاهوت من المسلمين عن هذا الحجر.
وقد وصفه لنا بعض السائحين الأوروبيين الذين شاهدوه، فذكر أنه قطعة من حجر البازلت البركاني، تلمع في أنحائه نقط بلورية، وتبدو في بعض جهاته قطع صغيرة من النوع الذي يطلقون عليه اسم «فيلسبار» لونها تارة أحمر بأسفله ظلال قاتمة، وتارة أسمر يميل إلى السواد .
وقد تعاورته ظروف مختلفة، فكسر أكثر من مرة حتى غدا في هذه الأيام مؤلفا من اثنتي عشرة قطعة مضموم بعضها إلى بعض، والكثيرون على أنه حجر من الرجوم الساقطة من السماء. •••
أما احترامهم الكعبة، فقد بلغ بهم حد التقديس
19
وزاد إجلالهم لها، فقدسوا ما جاورها من البقاع - التي خلعت عليها الكعبة مسحة القداسة - وثم أصبح ما يكتنفها - إلى بعد عدة فراسخ - حراما لا يجوز لكائن من كان أن يفتك بسواه فيها، أو يصطاد من حيوانها احتراما لها.
ويؤم الكعبة في كل عام جمهور ضخم من الناس من شتى الأنحاء، لتأدية الشعائر الدينية المقدسة فيها.
عبادة الأصنام
20
أما العبادة فقد فقدت معناها الأول في القرن السادس من الميلاد، ودب فيها الفساد وتغير جوهرها، فأصبحت طائفة من الخرافات والأوهام - التي يمجها العقل - تدين بها طائفة من المبطلين.
قال أحد معاصري محمد
صلى الله عليه وسلم :
21 «كنا - إذا عثرنا على حجر جميل - عبدناه، فإذا عز علينا أن نجده، أنشأناه من الرمل إنشاء، ثم سقيناه لبن ناقة درور مدة من الزمن، ومتى تم لنا ذلك عبدناه، ثم لا نزال نفعل ذلك ما دمنا في ذلك المكان!» •••
ولكن هناك طائفة كبيرة من الناس كانت - على العكس من ذلك - على جانب عظيم من الرقي والحضارة، فلم يكن عندهم عقيدة في أرباب هي من صنع أيديهم، من الحجارة أو الخشب!
ولقد كان الناس - في ظاهر أمرهم - يمجدون تلك الأرباب، ويحجون إلى محرابها، ويحتفون بمواسمها السنوية، ويذبحون القرابين في هياكلها، ويريقون دماءها على تلك الآلهة التي يعبدونها، سواء أكانت من الحجر أم من الخشب، بل لقد كانوا يلجئون إليها كلما حزبهم أمر، ليلتمسوا منها البركات، ويكتشفوا بوساطتها مستقبل أمرهم الغامض.
على أن عقيدتهم فيها لم تزد على هذا القدر من المظاهر، أما فيما عدا ذلك، فقد كانوا لا يترددون في تحطيم آلهتهم إذا لم تتحقق نبوءتها، أو إذا جرؤت على إذاعة شيء يكرهونه ويخشون إذاعته مما اقترفوه من الدنايا.
وقد تنزل بأحدهم كارثة فينذر لأحد الأصنام أن يذبح نعجة قربانا له إذا تكشفت غمته، فلا يكاد يزول عنه الخطر
22
حتى يستبدل النعجة - وهي قيمة عنده - بغزال لا يكلفه ثمنه أكثر من أن يصطاده بيده، يفعل ذلك وهو معتقد أن ذلك المعبود لا يكاد يفرق بين النعجة والغزال!
23
أضف إلى ذلك أن نبوءات الآلهة لم يكن لها خطر عندهم، ما لم توافق رغباتهم، وتعبر عما يقصدون إليه من التفاؤل، بما هم قادمون عليه من الأمور.
يؤيد ذلك أن أعرابيا اعتزم أن يثأر لأبيه ممن قتله، فأتى «ذا الخلصة»
24
وهو نصب مربع الشكل من الحجر الأبيض - ليستشيره فيما هو قادم عليه - وبدأ يقترع - على عادة العرب في ذلك - فرأى في السهم الأول أمرا بالمضي في طريقه، وفي الثاني نهيا عن ذلك، وفي الثالث أمرا بالانتظار والتريث، فلم ترضه هذه النتيجة، وأعاد الكرة مرة بعد أخرى، فكانت النتيجة واحدة في المرات الثلاث، فغضب وألقى بالسهام في وجه الصنم وقال له: «مصصت بظر أمك، لو كان أبوك قتل ما عوقتني!»
25
كذلك كانوا يغضبون لأتفه الأسباب، وكلما تعارضت أوامرها مع رغباتهم، ولم تعبر عما يودون سماعه من الكلام، انهالوا عليها بالسباب والتحقير.
وأقبل رجل من بني ملكان
26
على سعدصنم قبيلته المعبود - وهو صنم في الصحراء - وكان مع الرجل إبله جاء بها ليقفها عليه يريد التبرك به، وبينما كانوا يريقون عليه دماء العتائر
27 - حسب عادتهم - نفرت الإبل وولت هاربة، فغضب صاحبها، وتناول حجرا، فرمى به وقال: «لا بارك الله فيك إلها أنفرت علي إبلي.» ثم خرج في طلبها حتى جمعها، وانصرف عنه وهو يقول:
أتينا إلى سعدليجمع شملنا
فشتتنا سعدفلا نحن من «سعد»
وهل سعدإلا صخرة بتنوفة
من الأرض لا يدعى لغي ولا رشد؟ •••
وكان بنو حنيفة أنفسهم أقل الناس احتراما لآلهتهم، إذ كانوا يأكلونها، ونحن جديرون أن نقرر عذرهم في ذلك، فقد كانوا يصنعون آلهتهم من نوع - بعينه - من العجوة ومن اللبن والزبد، فلما وقعوا في قحط ومجاعة أكلوها. •••
ومن هنا يتضح أن العرب لم تكن تعتقد في تلك الأرباب اعتقادا جديا، فقد كان أكبر شيء يحترمونه هو الله (تعالى)، على أن الله لم يكن له عندهم أيضا عقيدة قوية راسخة في قرارة نفوسهم؛ لأنهم كانوا لا يعرفون عنه شيئا كثيرا، إذا لم يكن له كهان يدعون الناس إليه، ويرغبونهم في عبادته وطاعته، ويذيعون إرادته ويوضحون لهم ما قدره من خير وشر.
عقيدة البعث
ولم يكن الناس على عقيدة واحدة، كانوا شديدي الاختلاف، فمنهم من كان يؤمن بحياة ثانية بعد هذه الحياة، ويدين باليوم الآخر، ولا يقف عند حد الاعتقاد في بعث الإنسان، بل يدين ببعث الحيوان أيضا.
ومن ثم كان يدفن راحلته إلى جانبه أو يتركها تموت على قبره، ليركبها يوم القيامة، فلا يتكبد عناء السير على قدميه.
على أن سوادهم كان يستهزئ بفكرة البعث ويسخر منها، وكانوا يدينون في كل مكان برأي القائل:
حياة، ثم موت، ثم حشر
حديث خرافة يا أم عمرو •••
وليس في هذا موضوع للعجب، فإن هذه الفكرة - فكرة البعث - لمحببة إلى نفوس الآريين، شديدة الغرابة عند الساميين، وآية ذلك، أن اليهود أنفسهم لم يقبلوها من الفرس إلا بعد تشريدهم،
28
إن لم نقل في أوائل التاريخ الميلادي، على أن جماعة الصدوقيين نفسها - وهي كبيرة العدد - قد رفضت فكرة البعث، ولم تقبلها قط.
29
كذلك لم يلق محمد
صلى الله عليه وسلم
مقاومة جدية من العرب إلا حين دعاهم إلى هذه الفكرة، ونادى فيهم بوجوب الإيمان بصحتها، وما زال البدوي - إلى أيامنا هذه - لا يعنيه أمر البعث، ولا يكترث له.
30
المسيحية واليهودية
قلنا إن ديانة العرب الأولى كانت واهية، لا ترتكز على أساس متين، ومتى أقررنا ذلك سهل أن نفرض أنه كان من اليسير على العرب أن يقبلوا دينا آخر - غير دينهم هذا - فيدينوا بالمسيحية أو اليهودية مثلا.
وهذا كلام صحيح، ولكن إلى حد ما؛ فقد انتشرت المسيحية لهذا السبب نفسه في جهتين، انتشرت في بلاد الحبشة - جنوبا - وفي سوريا - شمالا - حيث لقيت شيئا من القبول، وقد انتصرت كذلك في مدينة نجران في وقت مبكر، ودانت شبه جزيرة سينا بالمسيحية ، كما تنصر عرب سوريا، وأصبح علم النصرانية خفاقا على كثير من الأديرة والكنائس.
على أن هذا النجاح كله لم يكن - في أي مكان تقريبا - إلا مظهرا من المظاهر لا حقيقة من الحقائق.
أما في أواسط بلاد العرب، وفي قلب جزيرتهم حيث نبتت جرثومة العربي القح وأرومته، فلم تنجح فيها الدعاية للدين المسيحي، ولم نكن لنرى ثم إلا أثرا ضعيفا له - إن لم نقل - معدوما.
وكانت المسيحية في ذلك الزمن - على وجه عام بما تحويه من معجزات، وبما فيها من عقيدة التثليث، وما يتصل بذلك من رب مصلوب - قليلة الجاذبية، بعيدة عن التأثير في نفس العربي الساخر الذكي.
وآية ذلك ما تراه واضحا فيما حدث للأساقفة الذين سعوا إلى تنصير المنذر الثالث ملك الحيرة - حوالي عام 513 من الميلاد - وإن المنذر ليصغي إلى ما يقولون بانتباه، إذ دخل عليه أحد قواده، فأسر إليه بضع كلمات، ولم يكد ينتهي منها حتى بدت على أسارير الملك أمارات الحزن العميق، فتقدم إليه أحد القساوسة يسأله متأدبا متلطفا عما أشجاه، فأجابه الملك: «يا له من خبر سيئ! لقد علمت أن رئيس الملائكة قد مات، فوا حسرتا عليه!»
فقال القسيس: «هذا محال أيها الأمير، وقد غشك من أخبرك بذلك، فإن الملائكة خالدون يستحيل عليهم الفناء!»
فأجابه الملك: «أحق ما تقول؟ وتريد أن تقنعني بأن الله ذاته يموت؟» •••
أما حظ اليهودية في اجتذاب العرب إليها، فهو أكثر من حظ المسيحية، فقد رحلت جمهرة كبيرة من اليهود بعد أن شردهم الإمبراطور «أدريان» الذي ثاروا عليه، فألحق بهم الأذى، وشتت شملهم، فوجدوا في بلاد العرب ملجأ لهم، وبثوا دعايتهم فيها، فدان باليهودية قبائل عدة من سكان الجزيرة العربية.
ولعل هؤلاء هم وحدهم المتهودون الذين أخلصوا لليهودية حقا، وقد صارت اليهودية نفسها - في زمن ما - دين اليمن الرسمي.
على أنها ضعفت - على مرور الزمن - وقل إقبال العرب عليها؛ لأن اليهودية لا تلائم إلا شعبا مختارا، أما أن تكون دينا عاما للناس قاطبة فلا! ذلك أنها ملأى بالشكايات والآمال الغامضة التي تعلق بها اليهود بعد أن خرب بيت المقدس، وليس هذا مما تلائم طبيعته الشعب الطموح إلى المجد !
وليس من أصالة الرأي أن نقول إن سواد العرب كانوا يشعرون بحاجة إلى دين آخر، فإن العربي - ذلك البدوي الحر كما سنراه في كثير من المناسبات التي ستتيحها لنا الفرص أثناء دراسته - ليس متدينا بطبعه، كما أن كل محاولة بذلت في سبيل جعله كذلك كان نصيبها الفشل التام.
فالعربي رجل عملي مادي، لا يعنى بغير الحقائق حتى في شعره، فهو لا يسبح في الخيال والوهم، ولا يميل إلى الأخذ بتلك الألغاز والمعميات الدينية، التي يعتمد الإنسان في استيعابها على التخيل أكثر من اعتماده على التعقل. •••
إن ديانة العرب التي ألفوها، لم تكن مهيمنة على نفوسهم ومشاعرهم، بل كانت ضعيفة الأثر، قليلة الخطر، ولكنها كانت دين سوادهم على كل حال، فإذا كان من الحق علينا أن نعترف أن المستنيرين منهم لم يؤمنوا بتلك الأرباب، فمن الحق علينا أن نقرر أيضا أن عدم إيمانهم بها لم يكن كافيا للقضاء عليها.
والحق أن أحدا لم يكن مضطرا إلى العقيدة، فقد كان البدو لا يبالون أن يسخروا حتى من أربابهم التي يعبدونها، ولا يترددون في إلحاق الأذى والضرر بها، بقلوب جد مغتبطة، بيد أن القضاء - بعد كل هذه الاعتبارات - على عبادة يدين بها أجدادهم وآباؤهم من قبل، كان يثير في نفوسهم كبرياءهم القومي، أنفة من أن يتركوا دين أسلافهم الذين كانوا يفردونهم بكل إجلال وإكبار.
وجماع القول أن الديانة كانت في نظر العربي القديم - كما هي في نظر البدو في أيامنا هذه - أمر لا خطر له، وآية ذلك أن شعراء الجاهلية لا نكاد نراهم يذكرون دينا أو عقيدة في أشعارهم، ولو فتشنا أناشيدهم لم نر فيها - إذا استثنينا أسماء الآلهة وبعض الشعائر المختلفة - إلا عبارات مقتضبة، لا تكاد تعثر فيها على ذكر لعبادتهم القديمة.
لقد عاش العرب للحياة الحاضرة، ولم يشغلوا أذهانهم بشيء من مسائل وراء الطبيعة، وكان مؤمنوهم يتابعونهم في ذلك الشعور ويصدرون عنه.
ومع كل هذه الاعتبارات، فقد وجدت لهذه القاعدة شواذ - شأن كل قاعدة - فإن وجود جماعات شتى من متألهي العرب الذين يدينون بوحدانية الله وإن اختلفت وجهاتهم وتباينت نحلهم - لتدين بعضهم باليهودية أو المسيحية - كان أمرا له خطره عند العرب، وله أثره في نفوسهم، إذ كان أولئك المتألهون لا يفتئون يبثون عقائدهم فيمن حولهم من العرب.
الحنيفية
ومن ثم رأينا في أواخر القرن السادس الميلادي لبعض الشعراء دلائل وآثارا لإيمان عميق بوحدانية الله، ورأينا منهم شعورا يقظا بالتبعة المترتبة على ما تصنعه أيديهم من خير أو شر، وهذه الفئة - التي ترى هذا الرأي - هي طائفة الحنفاء،
31
وقد كانوا في شتى الأنحاء، لا تربطهم أية آصرة، ولا يضمهم مذهب بعينه كما يفعل الصائبة المنتسبون إلى إبراهيم الذين كانوا يسمون أنفسهم الحنفاء أيضا!
وكان لهاتين الطائفتين - من الحنفاء - رأي واحد في رفض اليهودية والمسيحية معا، والاعتراف بدين «إبراهيم»، وإبراهيم هذا - الذي عرفوه من اليهود والنصارى - هو الأصل الذي ينسبون إليه، فهو والد جدهم إسماعيل وهو الذي بنى الكعبة في مكة.
وكانت شريعته الحنفاء سمحة رشيدة، واضحة المحجة، سهلة الإقناع لهؤلاء العرب العمليين - وهي في جوهرها - صالحة لأن تكون دين العرب قاطبة، ولم ينقصها لبلوغ هذه الغاية إلا أن تكون عقيدة ثابتة مستقرة، وأن تكون لها هيئة روحية ذات سيادة دينية، وأن تكون منزلة من السماء، أو تفهم على أنها كذلك. •••
وهذا هو العمل العظيم الذي أخذ محمد
صلى الله عليه وسلم
على عاتقه القيام به ليتمم نقص الحنيفية، ولكن هذا العمل - على ما فيه من صعوبة - قد ضوعفت مصاعبه؛ لأن العرب لم يكونوا في غير حاجة إلى الدين فحسب، بل كانوا - إلى ذلك - ينفرون بطبيعتهم من كل مظهر من مظاهر العبادة ومراسمها، كما كانوا يكرهون الفروض الغامضة والمعميات التي تتصل بما وراء الطبيعة.
ولا بد من إقناع جازم ويقين لا يتزعزع للتغلب على هذه العقبات.
بعد وفاة النبي
فصل آخر من كتاب: «الإسلام» لدوزي
مات النبي ولم يترك ولدا له، ولم يعين خليفة يخلفه، فكانت الساعة غاية في الحرج، وأصبح كيان الإسلام نفسه مهددا نهب الحوادث والظروف، وقد انتشر خبر وفاته بسرعة لا مثيل لها، وكان له وقع شديد على أصدقائه المخلصين، وكأنما أصابتهم صاعقة حين بلغهم هذا النبأ المروع، وكان الناس قسمين: قسما يحسبه خالدا لن يموت، وقسما لا يتوقع موته بهذه السرعة، بل يؤمل له حياة طويلة وعمرا مديدا، وكان عمر - خاصة - ممن يؤمل هذا الأمل.
وبعد أن مات النبي، وأسلم آخر أنفاسه بزمن يسير، دخل عمر مخدع عائشة فرفع الغطاء - الذي كانت جثة النبي مسجاة به - وتأمل محيا سيده مليا - وهو في نومته الأبدية - فرأى كل شيء هادئا، ونظر إلى ما حوله فرأى سكونا طبيعيا، فلم يعد يصدق ذلك النبأ المروع، وصاح: «كلا لم يمت النبي، بل هو في غيبوبة!»
وكان المغيرة حاضرا، فحاول عبثا أن يرشده إلى خطئه، فقد صرخ فيه عمر: «كلا، بل تكذب، إن رسول الله لم يمت، ولكن خبث طويتك وفساد نفسك الشريرة قد أدخلا في روعك هذا الوهم الخاطئ، ولن يموت النبي قبل أن يقضي على المنافقين، ويبيد أهل الشرك.»
ثم ذهب عمر من توه إلى المسجد، فصاح فيمن تجمهر من الناس: «لقد زعم الزاعمون، وأرجف المرجفون، أن محمدا قد مات، وبئس ما يتقولون، ألا إن محمدا لم يمت وإنما ذهب للقاء ربه، كما فعل موسى إذ غاب عن قومه أربعين يوما، ثم رجع إلى أصحابه بعد أن يئسوا من عودته، ووالله ليعودن النبي كذلك، ثم ليعاقبن كل من اجترأ على قول هذا القول!»
ولم يكد يسمع الحاضرون قوله حتى أمنوا عليه، ولا غرو في ذلك، فقد كانوا - إلى زمن يسير جدا - يرون محمدا في نفس المكان الذي يخطبهم فيه عمر فلم يكن أحب من تصديق ما يقوله عمر.
وجاء أبو بكر في هذه اللحظة فاخترق المسجد، وأصغى هنيهة قصيرة إلى كلام عمر المتأجج عاطفة وحماسة، ثم أسرع إلى مخدع عائشة ووقف أمام جثة النبي أيضا، فرفع الغطاء عنها، وقبل وجه صاحبه - وهو مستغرق في نومته الأبدية - ثم صاح قائلا: «طبت حيا وميتا.»
ورفع رأس النبي بتؤدة وأناة، وتأمل أسارير ذلك الوجه الذي طالما تملى به من قبل، ثم قال: «نعم، لقد مت، فوا أسفاه عليك أيها الصديق المحبوب، بأبي أنت وأمي، فقد قاسيت من غمرات الحمام ما قاسيت، وتجرعت من غصص الموت ما تجرعت، وإنك لأكرم على الله من أن تتجرع هذه الكأس مرة أخرى!»
ثم وضع رأس النبي برفق - على وسادته - وقبل رفيقه مرة أخرى، ثم سجاه بغطائه ورجع - أدراجه - إلى المسجد، فوجد عمر لا يزال يتأجج حماسة، وهو يخطب الناس ليقنعهم أن الرسول لم يمت، فصاح فيه: «حسبك يا عمر! هدئ من ثائرتك واجلس حيث أنت!» فلم يصغ إليه عمر وطفق يخطب الناس، فولى أبو بكر وجهه شطر الناس، فأقبلوا عليه، وتركوا عمر فقال لهم أبو بكر: «أما قال (تعالى) - في محكم آياته - لنبيه:
إنك ميت وإنهم ميتون ؟
أما قال (تعالى) في آية أخرى - بعد موقعة أحد
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ؟
ألا إن من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت!» •••
وكأنما كان الناس في حلم، أفاقوا منه بعد ما سمعوه من قول أبي بكر، فقد ذهل الناس من فداحة الخطب عن هذه الآيات القرآنية حتى إذا ذكرهم بها أبو بكر الرزين أيقنوا جميعا أنهم لن يروا النبي بعد.
انتخاب الخليفة
بقيت عقدة خطيرة لا بد من حلها، وهي أن محمدا قد مات، ولم يعين من يخلفه، فلا مندوحة إذن عن انتخاب أمير لهم، ولكن من الذي يعين هذا الأمير؟
أيعينه كل المسلمين؟ هذا حسن، فهل من سبيل إلى تحقيقه؟
لقد كان الوقت عصيبا، وكان من السهل أن يرى الإنسان أمامه أزمة رهيبة وشيكة، وجمهرة من القبائل لن تلبث أن ترتد عن الإسلام؟ إذن يتعين أن يقتصر انتخاب الخليفة على القبيلة التي لها الصدارة والسلطان بين قبائل العرب قاطبة، وثم اجتمع الأنصار «أهل المدينة » الذين عز بهم الإسلام وانتصر، فمن يختارون؟
لا مجال للتردد والحيرة، فأمامهم الفارس النبيل سعد بن عبادة رئيس «الخزرج»، وقد كان من الطبيعي المألوف أن يختاروه - ولم يكن حينئذ قد تم شفاؤه من مرض خطير كان قد ألم به - فحملوه مدثرا مدوجا إلى جمهور المدنيين، وكان ضعيفا من أثر المرض، فلم يستطع إبلاغهم صوته، فقام أحد أصحابه يردد ما يقول.
وقد ذكر سعد بن عبادة أصحابه بأنهم أول من دخل الإسلام من القبائل، وأن نصرته لم تتم إلا بهم بعد، وأنهم لذلك جديرون بالزعامة على العرب قاطبة.
فقابلوا كلامه بالاستحسان والتحبيذ، وأظهر جمهورهم له حماسة شديدة، ونادوا به - في الحال - خليفة لرسول الله، ولكن فئة قليلة منهم أبدت خوفها من رفض المهاجرين هذا الرأي، وعدم رضائهم عنه، فأجابهم أصحابهم: «لا علينا من ذلك، سنقول لهم حينئذ: لقد اخترنا لنا أميرا، فاختاروا لكم أميرا، وافترقوا عنا، فلن نذعن - بحال ما - لغير أميرنا الذي اخترناه.»
ولم يكد يبلغ أبا بكر هذا النبأ، حتى أقبل عليهم بأقصى ما في قدرته من سرعة - ومعه عمر وأبو عبيدة - وما كادوا يصلون، حتى انبرى عمر للكلام، فمنعه أبو بكر - وله كل الحق فيما فعل - خشية من تحمسه واندفاعه، وقال له: «تريث حتى أتكلم، ثم قل ما شئت بعدي؟» •••
وبدأ أبو بكر يخطب الناس - بكل تواضع - فاعترف للمدنيين بما قاموا به من خدمات جليلة للإسلام، ثم أظهر لهم - إلى هذا - جدارة المهاجرين بالخلافة، لقرابتهم من الرسول وكونهم من أسرته، ثم لأنهم أول من دان بالإسلام، وقد لقوا في سبيله ألوانا من العسف، وضروبا من النكال، واحتملوا ذلك كله صابرين.
ثم قال: «فأنتم تلوننا في هذه المرتبة، فليكن الأمير منا، والوزراء منكم.»
فأجابوه: «بل منا أمير، ومنكم أمير!»
فصاح عمر: «كلا، ومحال أن نولي أميرين، ولن تعترف العرب بمن تختارون، فليس نبيهم من قبيلتكم، ولن يخضعوا لأحد إلا أن يكون قريبا للنبي، ومن رفض ذلك، أرغمناه على قبوله إرغاما.»
وحمي وطيس الكلام، وكاد اللجاج ينقلب خصومة، لو لم يقل لهم أبو عبيدة: «لقد كنتم أول ناشر للإسلام، وأول معين للنبي، فلا تكونوا الأن أول ساع في التفرقة، وتشتيت الوحدة الإسلامية!»
وهنا قام «بشير» - قريب «سعد» ومنافسه - فقرر ما للمهاجرين المكيين من الحقوق في أعناق المسلمين، فأثر كلامه في نفوس فئة من «الخزرج»، ولكن الأثر لم يبلغ أشده، إلا في نفوس القبيلة المدنية الأخرى، وهي قبيلة «الأوس» بسبب ما كان بينها وبين قبيلة «الخزرج» من نفور قديم، جعلهم لا يرتاحون إلى «سعد»، ولا يرضون به أميرا عليهم، وكانوا - منذ لحظة - يقررون حق المهاجرين وجدارتهم بالخلافة، فلما سمعوا كلام أبي عبيدة ثبتوا على رأيهم وظاهروا المهاجرين على الأنصار.
وبذلك سنحت فرصة ملائمة، فأسرع أبو بكر إلى انتهازها وأمسك بيده عمر وأبا عبيدة، داعيا المدنيين إلى اختيار واحد منهما لمبايعته بالخلافة، فصاحا في نفس واحد: «بل أنت خير منا، فامدد يدك نبايعك، ونقسم لك على الخضوع والطاعة.»
وامتدت بين يديهما يد ثالثة إلى يد أبي بكر، وهي يد بشير الذي أسرع بمبايعته معهما، ثم نهج «الأوس» منهجه، وأقبل المسلمون يبايعونه أفواجا، واشتد الزحام، وعلت صيحات الفرح، فاختلطت بأصوات الدهشة، وأراد حباب الخزرجي أن يناوئ الدعوة، فصرخ مهددا بالحرب، واستل سيفه، فانتزعه عمر من يده.
ورأى سعدآماله في الخلافة تتبدد هباء، وليت الأمر وقف عند هذا الحد، فقد أصبح سعدنفسه في خطر حين تكأكأت عليه الجموع، فكادت تسحقه - وهو في محفته التي كان محمولا عليها - وعبثا حاول أصحابه أن يقنعوا جمهرة المسلمين بوجوب احترامه، فإن عمر نفسه لم يتورع عن إهانته، ووصفه بأقبح النعوت - على الرغم من أنه خصم أعزل جليل القدر - وقد تداركه أبو بكر فصد هذه الجموع عنه، وأنقذه من أذاهم وشرهم. •••
وإذن فقد تم انتخاب الخليفة - خليفة النبي - وسط هذه الفوضى الشاملة كما اعترف بهذه الحقيقة عمر نفسه، على ملأ من الناس في المسجد المدني فيما بعد، وقد كسب المكيون بهذا الفوز أمرين: «زعامة العرب، وحسن اختيار الخليفة.»
فقد ولوا أمورهم رجلا كان أخلص صديق لنبيهم، ولو ترك أمر اختيار الخليفة إلى الرسول، فقد لا يختار سواه؛ ذلك أنه جمع - إلى حبه الرسول - متانة الإيمان ، وقوة اليقين، وصدق العزيمة في إعزاز الإسلام ونصرته، وبهذه الصفات نجح أبو بكر في التغلب على المصاعب والعقبات التي كانت تكتنفه، وفي الحق أن الوقت كان عصيبا، وكانت الظروف غاية في الحرج، فقد كان موت النبي - الذي كانت تترقبه العرب منذ زمن طويل بفارغ الصبر - مؤذنا بالثورة في كل مكان، ولقد كنت ترى الثائرين - حيثما ذهبت - رافعين علم الثورة والتمرد، وقد رجحت كفتهم أيما رجحان، حتى لقد طردوا ولاتهم من بلادهم، فلم يجد هؤلاء أمامهم ملجأ إلا المدينة، فتقاطروا عليها من كل فج يحتمون فيها من أذاهم.
وكان لا يمر يوم حتى يفد على المدينة بعض الولاة والعمال المطرودين، وأعدت القبائل المجاورة للمدينة عدتها لحصارها.
فكيف يقاومهم أبو بكر وليس لديه جيش يحاربهم به، بعد أن أرسل جيشه إلى سوريا ليفتحها تنفيذا لأمر النبي برغم نصيحة المسلمين الذين رأوا خطورة الحال، ولقد ألحوا عليه أن يعدل عن تنفيذ فكرة الفتح حينئذ، فقال لهم: «لن أخالف ما أمر به النبي، ولو أصبحت المدينة نفسها نهبا للثائرين والمتمردين، ولا بد لي من تحقيق مشيئته!»
ومن ثم ترى الخطر العظيم باديا، على أنه - على الحقيقة - خطر أقل مما تدل عليه ظواهره، فإن قوة الخصم الحقيقية لا تقاس بما لديه من عدة ورجال، بل بما عنده من قوة معنوية، وبما يصبو إلى تحقيقه من غاية سامية يتطلع إليها ويخوض غمار الحرب من أجلها، باذلا في سبيلها النفس والنفيس.
فما هي الغاية التي يسعى إليها الثائرون؟ وأي حافز يدفعهم إلى إضرام الحرب؟ أهو إيمان وثيق متوشج في أعماق قلوبهم، كإيمانهم القديم الذي كانوا عليه قبل البعثة؟ لو كان ذلك، لما كان ثمة شك في انتصارهم الحاسم!
ولكن شيئا من ذلك لم يكن، فإنهم لا يحاربون الآن لينصروا دينهم القديم ويؤيدوه، بل هم يثورون على دينهم الجديد لأنهم لا يطيقون احتماله.
وليس هذا بالسبب القوي الذي يلهب حماستهم ويحفزهم إلى الإتيان بجلائل الأعمال، ولا هو بالسبب الذي يخلق البطولة والأبطال، فقد كان رؤساء القبائل المتمردة - أنفسهم - شاعرين كل الشعور بضعف المعنوية، فلجأ إلى فكرة سخيفة حسبوا أنها تعيد إليهم تلك القوة، فادعوا النبوة! وخيل إليهم أن محمدا لم ينجح إلا بهذه الفكرة، فأرادوا تقليده.
ولكنهم نسوا أمرا واحدا - هو سر نجاحه في بث دعوته - ذلك أنه كان مؤمنا بما يدعو إليه إيمان المستيقن الجازم، وهذا هو الذي يعوزهم وبغيره لا يتم نجاح.
وكانت تلك الثورة الهائلة، وتلك الحرب الشعواء - على ما أريق فيهما من دماء غزيرة إذا قورنت بما أتاه المسلمون في غزواتهم التي عز بها الإسلام - ظاهرة سخيفة مضحكة، يتمثل فيها الإنسان - عن غير قصد - كيف قلبوا تمثيل هذه الرواية الجدية التي مثلها النبي وأصحابه مهزلة وعبثا!
ألا ترى مسيلمة الذي مثل دور النبي في اليمامة؟
ألا ترى ذلك الدجال السوقي التعس، ذلك المشعوذ السمج الذي لا يصلح لغير التدجيل وإدخال بيضة في زجاجة ضيقة الفوهة؟ ألا تراه ينشئ قرآنا سخيفا يقلد به محمدا، ثم يرخص لأتباعه في شرب الخمور أنى شاءوا، ولا يكاد ينشر دعوته حتى يصادفه سوء الحظ، فتحاصره «سجاح» وتنازعه النبوة؟ •••
أما «سجاح» هذه فقد كانت مسيحية نشأت في بلاد النهرين وجاءت تبث الدعوة لنفسها - على رأس جيش عظيم - فماذا يصنع مسيلمة؟
ليس أمامه إلا أن يلجأ إلى طريقة المسالمة - وقد فعل - فأرسل إليها هدايا فاخرة، ودعاها إلى محادثته، وطال بينهما الحوار.
1
ولما عادت «سجاح» إلى قومها سألوها عن رأيها في مسيلمة فقالت لهم: «لقد رأيته نبيا حقا فتزوجت منه!»
فسألها التميميون: «وهل أهدى إلينا شيئا من مهر الزواج؟»
فقالت: «لا». فقالوا لها: «عار علينا أن نزوج نبيتنا بلا مهر! ولن نقبل ذلك بحال ما!»
فأرسلت إليه بذلك - وكان مسيلمة خائفا متحصنا - فلما جاءه الرسول لم يأذن له، حتى عرف الغرض الذي جاء من أجله، فاطمأن إليه، وقال له: «عد إلى قومك، فأخبرهم أن مسيلمة بن حبيب رسول الله قد رفع عن التميميين - من الصلوات الخمس - صلاتي الصبح والعشاء.» ولقد فرح التميميون بذلك، وساروا عليه حتى بعد أن عادوا إلى الإسلام من جديد. •••
ومن ثم ترى أن هؤلاء التائبين، ليس لهم عقيدة جدية يدافعون عنها، فلا غرو إذا قهرهم رجل كأبي بكر وثيق الإيمان قوي الإرادة، صلب العزيمة، لا يعرف هوادة - في إرغام أنفوهم - ولا رحمة! ولو شاء أبو بكر أن يهادنهم لتنازل لهم عن قليل من مطالبه، فكسب بذلك مساعدة كثير من القبائل - أو ضمن حيادهم على الأقل - فقد وعدوه بالمواظبة على إقامة الصلاة المفروضة عليهم، على شريطة أن يعفيهم من إيتاء الزكاة، ونصحه أعيان المسلمين أن يقبل ذلك منهم، فرفض رأيهم بإباء شديد، وقال لهم:
2 «إن الإسلام قانون واحد لا يتجزأ، وليس لأحد أن يأخذ ببعضه ويرفض البعض الآخر.»
وقد كان هذا الإصرار الحازم، وذلك الحقد الشديد على أهل الردة سببا في منحه قوة أكبر مما نتصور. •••
ولم يكد ينتهي من إخضاع القبائل المجاورة له، حتى بدأ يهاجمه طلحة الذي كان بطلا من قبل، وقد جاء يدعي النبوة كغيره، ثم يجبن عن دخول المعركة، فيرقب الحرب - وهو بعيد عن الميدان - مدثرا في عباءته، كأنما يؤمل أن ينزل وحي من السماء، أو تحدث معجزة خارقة، وقد ترقب ذلك زمنا طويلا، ثم وقعت المعجزة؛ إذ بدأت تنهزم قبيلته أشنع انهزام، وحينئذ صاح في جنده: «احتذوا حذوي إن استطعتم.» ثم امتطى جواده، وأطلق له العنان، وأمعن في فراره. •••
وكانت تلك المعركة التي اصطلاها المسلمون معركة مروعة هائلة، وفي الحق أن الدماء التي أريقت في هذه الحرب، كانت أكثر مما أريق في تلك الحروب الطاحنة التي نشبت فيما بعد بين المسلمين والفرس ثم بين المسلمين والإمبراطورية الرومانية، وقد اقترف العرب من الفظائع في هذه الحرب «حرب الردة» شنعا لم يعرفها الإسلام قط، فكانوا إذا انهزم العدو تعقبوه ونكلوا به، لأن الردة جزاؤها القتل، لا هوادة في ذلك ولا رحمة، وقد بعث أبو بكر إلى خالد يأمره بقوله: «عليك بإبادة الكفرة بالحديد والنار، ولا تأخذنك فيهم رحمة قط.» •••
ولقد انهزم أصحاب مسيلمة - وكان عددهم زهاء عشرة آلاف مقاتل - ومزقهم المسلمون شر ممزق، وغرقت بلاد العرب كلها في الدماء!
ولكن الإسلام قد خرج من تلك المعارك - الناشبة في كل مكان - مؤيدا منصورا، ودان به العرب بعد ذلك - طوعا أو كرها - فقد أقنعهم خذلانهم بوجوب الاعتراف بالدين الإسلامي، إن لم يكن اعتراف المستيقن المؤمن، فاعتراف الخائف الذي يعرف قوة هذا الدين العظيمة التي لا تجدي معها أي مقاومة.
بعد النصر
ولم يكد يتم انتصار أبي بكر حتى وجه هؤلاء البدو الظامئين إلى الدماء، إلى مهاجمة فارس والإمبراطورية الرومانية، وهذا العمل عند من ينظر إلى ظواهر الأمور وحدها جرأة وتهور، ولكنه - على الحقيقة - رزانة وتعقل.
وإنما سار أبو بكر في هذا على خطة النبي التي كان يتبعها، وهي أن يشغل العرب عن التفكير في خضوعهم، ولا يدع لهم وقتا كافيا لذلك، وقد رأى أن خير ما يربطهم بالإسلام لا يكون إلا عن طريق الفتح والانتصارات الحربية، وما يجره ذلك من الغنائم. •••
وهكذا انتهت حروب الردة، ولم تقم للمرتدين بعدها قائمة، فقد كان عقاب الردة القتل، وهنا تظاهر الناس بالإسلام ووقفوا عند هذا الحد، ونحن - إذا استثنينا صفوة المسلمين، ونواتهم المؤلفة من المهاجرين والأنصار وبعض من يمتون إليهم بسبب - لم نجد بعد ذلك من يعرف القرآن وتعاليمه إلا عددا غاية في القلة، أما العرب الذين استوطنوا أفريقيا، فقد ظلوا - حتى بعد مضي قرن من الهجرة - لا يعرفون من الإسلام أكثر من أنه دين أتى بتحريم الخمر، أما أولئك الذين استوطنوا مصر، فإنهم ما تحدثوا عن الإسلام أو شغلوا به أنفسهم قط، وكانوا لا يذكرون إلا أيام الوثنية، وعهودها الطيبة بالثناء والحنين. •••
ولما انتصر العرب على الفرس في موقعة القادسية (635م) وأخذ كل واحد نصيبه من الغنائم، بقيت نفائس أخرى وافرة لم تقسم بعد، فكتب الخليفة عمر - أمير المؤمنين حينئذ - يأمر القائد بتوزيع باقي الغنائم على من يحفظ أوفر قسط من القرآن.
فجمع القائد إليه أبطال الجهاد الذين تم بفضلهم النصر والفوز، فسأل عمرو بن معد يكرب النبيل عما يحفظه من القرآن فأجابه: «لا شيء، لأنني دنت بالإسلام في بلاد اليمن ، ثم صرفتني الحروب العديدة عن القرآن وعن الاشتغال به.»
3
فالتفت القائد إلى بشر بن طائف يسأله، فكان جوابه: «ليس حظي من ذلك بأوفر من حظ عمرو: «بسم الله الرحمن الرحيم».»
وقد كان هذا هو كل ما يحفظه من القرآن! •••
زد على ذلك، أن الإسلام - وإن لم يلق معارضة قوية في أثناء فتوحاته المتوالية المظفرة - فإن سراة مكة وطبقة الأرستقراطية العربية لم يغفروا لأصحاب هذا الدين الجديد ومؤسسيه هذا الفوز الذي أحرزوه، ولم يرضوا عن ذلك السلطان الذي أراد الموحدون أن يبسطوا ظله عليهم.
ولقد كانت تقوم المنازعات بين الشعب على مسألة من المسائل ظاهر أمرها أنها شخصية لا علاقة لها بمبدأ أو عقيدة، وهي - في حقيقتها وجوهرها - غير ذلك، فقد كان يتخذ النزاع غرضا يحوم حوله ومبدأ يناضل عنه ليتخذ منه تكأة يبرر بها غايته من الشغب.
وقد بدأ ذلك بحادث عثمان - ثالث الخلفاء - حين تولى الخلافة بعد وفاة عمر (644م) وكانت سن عثمان حينئذ سبعين عاما، وكان حليما لين العريكة، ضعيف الإرادة أمام أسرته وأعيان مكة وسراتها ورجال بني أمية، أي إنه كان ضعيف الإرادة أمام كل من ناصبوا محمدا العداء عشرين عاما، ثم أسلموا، فكان في إسلامهم مجال واسع للظنون والحذر، ولقد نالوا بفضل عثمان أرفع المناصب وانتهت المأساة الكبرى بقتل خليفتهم الشيخ المسن عثمان.
ثم ولي الخلافة بعده علي ابن عم محمد ولكن لم يتم الاعتراف به في كل مكان، فقد هبت سوريا متحمسة إلى امتشاق الحسام وعلى رأسها واليها معاوية بن أبي سفيان وكان انتصاره حينئذ هو انتصار جمهرة المعادين للإسلام، الذين كانوا يناوئونه من صميم قلوبهم، على أن المسلمين حقا لم يخضعوا لهم، فقد أشعلوا نيران الحرب - من جديد - في زمن يزيد الأول ابن معاوية الذي ولي الخلافة من بعده، ولقد قام الحسين - وهو الابن الأصغر لعلي - يطالب بالخلافة، ولكنه صرع هو وفئته القليلة التي كانت تناصره في موقعة كربلاء
4
ومن ثم قام عبد الله بن الزبير - وهو ابن صحابي من صحابة الرسول - إلى مكة رافعا علم الثورة، وظل سنة كاملة لا يحفل به الخليفة، ولا يلتفت إليه استصغارا لشأنه؛ ذلك أنه لما يغادر مكة إلى غيرها من البلدان، فلم ير له الخليفة خطرا يستحق أن يناوئه من أجله، ورأى أن من الحزامة أن يتركه وشأنه، حتى لا يثير عليه حفيظة المسلمين أكثر مما أثار من قبل - بلا حاجة - فلم تكن ثمة ضرورة قاهرة تضطره إلى إراقة الدماء في بقاع كانت - حتى في زمن الوثنية - حرما مقدسا لا يمسه أحد بسوء.
ولكن لكل شيء حدا، فقد صبر يزيد حتى عيل صبره، فلما لم يبق في قوس الصبر منزع، طلب إلى عبد الله بن الزبير - للمرة الأخيرة - أن يبايعه، فلما رفض امتزج الخليفة بالغضب وأقسم أنه لن يقبل من هذا الثائر طاعة حتى يؤتى به بين يديه مكبلا بالأغلال، ولما هدأت ثائرة الخليفة ندم على قسمه - وكان طيب السريرة - ففكر في وسيلة يبر بها في قسمه دون أن يمس كبرياء عبد الله، ثم استقر على أن يرسل إليه غلا من الفضة ومعه حلة فاخرة ليخفيه تحتها - إذا شاء - وبعث إليه برسل يحملون معهم هدايا ثمينة، فساروا من مقر ملكه دمشق حتى بلغوا مكة ولكن عبد الله رفض - بطبعه - أن يقبل تلك الهدايا، وعبثا حاول الرسل أن يتوصلوا إلى إقناعه وإنزاله عن رأيه، فقد أصر عبد الله على عناده، لأنه كان يعتقد أن كائنا من كان لن يفكر - بحال ما - أن يلجأ إلى العنف والشدة معه وهو في تلك البقاع المقدسة، وكان هذا سر طمأنينته، وقد أكد له الرسل بصراحة أن الخليفة لن يعنف معه ولن يقدم على مثل ذلك العمل.
على أن عبد الله لم يكن أول من تعرض لغضب الخليفة ونقمته، فقد سبقه إلى ذلك ثوار المدينة، وكانت روح الشر مهيمنة عليهم في ذلك الحين، فقد وقعت بينهم وبين الوالي - حينئذ - خصومة بسبب النزاع على تملك بعض الأراضي ، وأراد الوالي إزالة أسباب الخلاف - وكان ابن أخت الخليفة يزيد - فنصح سراة المدينة وأعيانها أن يذهبوا إلى بلاط الخليفة، فلما ذهبوا قابلهم الخليفة أحسن مقابلة وأكرم وفادتهم وتلطف معهم رغبة في أن يستميلهم إليه، ولكن يزيدا كان - على أدبه ونبله - غير مشبع بروح احترام الدين الذي كان يمثله وهو خليفة المسلمين الأعظم، فبدرت منه آراء - عن غير قصد - صدمت بعض أصول الدين التي يقدسها أهل المدينة، فلما عادوا إلى بلادهم عادوا ساخطين وأخذوا يشهرون بالخليفة ويذمونه عند مواطنيهم متأثرين بعامل الغضب وقالوا لهم: «إنه يشرب الخمر، ويعزف على الأوتار، ويصرف نهاره بين كلاب الصيد - وقد كان محمد يمقت ذلك أشد المقت - فإذا جن الليل جلس بين اللصوص وقطاع الطرق.»
يعنون بذلك البدو والأعراب الذين نشأ بينهم يزيد وترعرع، فلما كبر أدناهم من مجلسه. •••
وزادوا على ذلك أنه لا يصلي قط، وأنه جاحد، وعزوا إليه - فوق هذه التهم التي بنوها على أساس واه أو متين - تهما أخرى لا أساس لها ولا وجود، وإن كان ذكرها مما يثير في نفس خصومه من أهل المدينة حفائظ وأحقادا بعيدة الأثر.
وقد كانوا يميلون إلى تصديق كل تهمة تلصق بكل أموي، ومن ثم انقلب المسجد مسرحا عجيبا تصب فيه اللعنات على يزيد وأتباع يزيد واجتمع أهل المدينة قاطبة - وهم صاخبون - فشرع كل واحد منهم يتجرد من شيء من ملابسه فيلقي به صائحا: «إني أخلع يزيد كما أخلع قبائي هذا»، أو «عمامتي»، أو «نعلي».
ثم طردوا كل من في المدينة من الأمويين وصدوا عن تعيين خليفة جديد لهم، فقد كان القرشيون الذين في المدينة لا يحبون أن يعترفوا بأهلها، كما كان أهلها كذلك لا يحبون أن يعترفوا بهم، فقر رأيهم على أن يتريثوا في تعيين الخليفة حتى يتم خلع يزيد!
واستحوذ عليهم عداء جنوني - لا يحدوه رشد - فلم يتبصروا عواقب هذا الاندفاع وكيف تقف مدينة واحدة أمام جيوش الإمبراطورية الإسلامية العظيمة كلها.
ولقد حاول عبثا أحد المدنيين - وكان قد عاش في بلاط الخليفة، ثم أوفده سيده إلى المدينة - أن يبين حقيقة الخطر لمواطنيه ولكن الغضب أعماهم فأصبحوا لا يعيرون الناصحين التفاتا ولا يصيخون إلى أية موعظة تقدم إليهم بحسن نية. •••
وحينئذ رأى الخليفة أنه مضطر إلى الالتجاء إلى القوة، فأرسل إليهم جيشا عهد بقيادته إلى «مسلم» - وكان «مسلم» أقرب إلى الوثنية منه إلى الإسلام - فأمره أن يترك لأهل المدينة ثلاثة أيام يفكرون فيها، فإذا أبوا أن يخضعوا - بعد ذلك - هاجمهم ودمر مدينتهم تدميرا في ثلاثة أيام أخرى، ثم أخذ على من فيها المواثيق بأنهم عبيد يزيد وأمرهم أن يقسموا على ذلك فإذا رفض أحدهم أن يفعل قطعت رقبته.
ولم يكد يبلغ أهل المدينة رسالته حتى هبوا ثائرين أنفة من الخضوع وأعدوا عدتهم للقاء العدو، وجاهد الفريقان بشدة وصبر نادرين (وكانت موقعة الحرة سنة 683م) وظهرت الخسائر من الفريقين متكافئة، وكان أهل المدينة متحمسين يذكي فيهم الحرارة والقوة تعصبهم الشديد واعتقادهم الثابت أنهم المختارون، وأن أعداءهم - من جيش سوريا - هم عند الله كالوثنيين سواء، وكانوا على يقين من أن خصومهم إذا ماتوا صبت عليهم اللعنات وباءوا بغضب من الله، أما هم فإنهم سالكون - بلا شك - مسالك الشهداء والأبرار.
وبقي مصير الحرب معلقا في كف الأقدار زمنا طويلا، حتى كشفت الخيانة عنه، فقد ارتشت أسرة من المدنيين ففتحت أحد أبواب المدينة لفرقة من جيوش العدو، فدخل السوريون وسمع أهل المدينة من خلفهم - فجأة - صيحات النصر من أفواههم، فضاع كل أمل لديهم في الفوز والغلبة، وأصبحت المدينة في قبضة العدو، وصار كل هجوم عبثا أو مستحيلا، على أن جمهرتهم لم تفكر في الخطر المحدق بها، فهجم أهل المدينة على أعدائهم فرادى وباعوا حياتهم بأغلى ثمن استطاعوا أن يبيعوها به!
وكان من بين القتلى سبع مئة من حفظة القرآن وأربعة وعشرون من الصحابة، ولم يكن أحد من الصحابة الذين حاربوا مع النبي قد حارب بعد أن نصروه في حرب بدر على المكيين حتى شهدوا هذا اليوم المشئوم.
ودخل المدينة فرسان سوريا فلما لم يجدوا مكانا يربطون فيه خيلهم ربطوها في مسجد المدينة - بين قبر النبي ومنبره - أي في نفس المكان الذي طالما سماه النبي نفسه: «جنة من جنان الفردوس ». •••
ثم نهبوا المدينة في ثلاثة أيام وسبوا كل من فيها من نساء وأطفال، ولم ينج أحد ممن بقي من أهلها - وقد فر أكثرهم - إلا بعد أن أقسم أن يكون عبدا من عبيد يزيد. وهكذا أقسموا جميعا على أن يكون الخليفة يزيد سيدهم ومولاهم، وأن يكون في حل من التصرف فيهم بما شاء، من عتق أو بيع، كما أقسموا أن يكون له الحق في كل ما تملك أيمانهم من نساء وأولاد وأزواج.
ولما رأى أبناء مؤسسي الإسلام أنهم مضطهدون معذبون وأن بني أمية قد أرهقوهم إرهاقا، لم يجدوا أمامهم وسيلة إلا المهاجرة، فهاجر الكثيرون منهم إلى حيث انضموا إلى جيش إفريقية، ثم انضم أغلبهم - فيما بعد - إلى جيش العرب في إسبانيا.
وكان «مسلم» مكلفا أيضا بإخضاع مكة، ولكن الموت عاقه عن تحقيق إربته، فأخذ «الحصين» - وهو أحد رجال جيشه - على عاتقه أن يحقق ذلك، فتولى قيادة الجيش، وبدأ يحاصر مكة ويقذف الكعبة بالحجارة والصخور، حتى حطم عمدها وقواعدها، ثم نجح أخيرا في إحراقها جملة، ولقي الحجر الأسود في هذه المرة أول نكبة حاقت به؛ لأنه لم يطق مقاومة النار، فتحطم أربعة أجزاء.
على أن مكة لم يتم إخضاعها، فقد حال دون ذلك موت يزيد وما أعقبه من الفوضى التي اضطرت الجيش إلى رفع الحصار والرجوع بالجيش توا إلى سوريا، وبهذا استعاد عبد الله بن الزبير قوته، واستتب له أمر الخلافة في مكة وخارجها أيضا.
ولكن الأمويين ما لبثوا أن تم لهم الأمر من جديد بعد أن تولى الخلافة عبد الملك وخضعت البلاد كلها له، ولم يتبق إلا مكة وحدها ثائرة، وفيها عبد الله بن الزبير فلما رأى عبد الملك ذلك وجه إليها جيشا بقيادة الحجاج، فذهب إلى تلك البقاع المقدسة، وحاصر المدينة، وطفق يرمي الكعبة بالصخور والحجارة ليدكها دكا، وبينما كان يقذفها بالنار - ذات يوم - هبت عاصفة شديدة فأحرقت النار اثني عشر جنديا، فرأى الجيش في ذلك عقابا من الله على انتهاك حرمة ذلك المكان المقدس، فأحجم رجال الحجاج وكفوا عن ذلك. •••
فاغتاظ الحجاج وخلع بعض ملابسه، وتقدم إلى المنجنيق فأخذ بيده حجرا ووضعه فيه، ثم حرك حباله بعد ذلك، وهو يقول: «لقد أخطأتم الفهم، فليس معنى ما حدث هو ما فهمتموه، ألا إنني لخبير بطبيعة هذه البلاد، ففيها ولدت، وكم رأيت لهذه العاصفة أشباها لا تحصى!»
وظل يشدد الحصار عليها بقوة عدة أشهر، ثم أخذت بعد أن مات عبد الله بن الزبير سنة 692م.
وهكذا لم تهدأ هذه الفئة المناوئة للإسلام ولم تثلج صدورهم إلا بعد أن تمت لهم الغلبة على أنصار هذا الدين وظفروا بتقويض معالمه وإذلال أهل المدينتين المقدستين وتحويل مسجد المدينة إصطبلا لخيلهم وإحراق الكعبة، وتحقير سلالة المجاهدين الأولين الذين عز بهم الإسلام وانتصر. •••
وقد عرفت تلك الأقلية العربية - التي اضطرت إلى الإسلام اضطرارا وأكرهت على الدخول في هذا الدين إكراها - كيف تثأر لنفسها حين سنحت لها فرصة الانتقام فتقاضتهم ثمن الفوز مضاعفا وشفت به غلة صدورها المكلومة.
أنصار الرجعية
ولم يكن عهد الأمويين إلا عهدا تتمثل فيه الرجعية والانتصار للوثنية، وكان خلفاء بني أمية أنفسهم - إلا القليل النادر منهم - لا يعنون بنصرة هذا الدين ولا يخلصون له، وقد تجاوز الوليد الثاني - وهو أحد هؤلاء الخلفاء - كل حد في الإزراء بهذا الدين، وطوح به استهتاره إلى أبعد مدى، فاعتاض عن صلاة الجماعة بصلات جواريه، ومغازلة سراريه، ولم يحجم عن تخريق كتاب الله بالنشاب
5
ولم يكن راضيا عن إسلام الشعوب الجديدة التي دخلت في هذا الدين أفواجا من سوريين وأقباط وفرس وبربر شمال إفريقية؛ لأنه كان يرى في ذلك شرا مستطيرا على خزانة الدولة، فقد كان القانون يفرض الضرائب على غير المسلمين الذين يعيشون في ظل الحكم الإسلامي، فإذا أسلموا سقطت عنهم الجزية وأعفوا من أداء تلك الضريبة التي فرضها عليهم القانون.
وقد ساعد ذلك على انتشار الإسلام، وشجع الناس على الدخول في هذا الدين، وتغلبت المصلحة على العقيدة ودان بالإسلام ملايين من الناس الذين آثروا المال على كل شيء.
والحق أن انتشار الإسلام بين هذه الجماهير والشعوب قد أرهق بيت المال، فقل الإيراد حتى اضطر الخليفة إلى مضاعفة الجزية تقريبا، فقد كان الخراج في مصر في عهد الخليفة عثمان أكثر من نصف ما وصل إليه بعد زمن قليل في خلافة معاوية وكان السبب في ذلك أن جمهرة كبيرة من الأقباط دخلوا في الإسلام، وكان فريق منهم يتظاهر بالإسلام من غير أن يعتقده، وفريق آخر ارتضاه دينا له هربا من دفع الجزية المفروضة عليه، وثمة رأى الخلفاء ألا يعفوهم من تلك الضريبة متعللين بأنهم لم يدخلوا حظيرة هذا الدين إلا طمعا في إعفائهم منها، وأنهم لا يقومون بتنفيذ أحكام الدين والأخذ بتعاليمه.
عمر بن عبد العزيز
ولم يشذ من بين هؤلاء الخلفاء إلا الخليفة عمر الثاني - عمر بن عبد العزيز - ذلك المسلم الورع التقي الذي آثر نصرة الإسلام على كل شيء، والذي احتقر المال، وزهد فيه كل الزهد، بعد أن امتلأ قلبه بالإيمان، فأصبح لا يهمه إلا أن ينتشر الإسلام ويدين به كل إنسان.
ولم يكن عماله يرتضون النزول على هذا المبدأ الجديد لأنه يهدم النظام الذي ألفوه، ويقوض صرح بيت المال.
وقد كتب إليه أحد عماله - في هذا المعنى - يقول: «لو دامت الحال على هذا المنوال لدان بالإسلام كل مسيحي، ولم يشذ منهم أحد، وبذلك تفقد الدولة كل دخلها.»
فأجابه عمر: «لو تم ذلك لتمت لي أسباب السعادة كلها، فليست لنا غاية نسعى إليها إلا نشر هذا الدين بين الناس كافة، وقد بعث الله نبيه مبشرا بالإسلام وداعيا إليه ولم يبعثه محصلا للمال، ولا جابيا للضرائب.»
وهكذا أجاب عامله كما أجاب عامل خراسان الذي شكا إليه إقبال الفرس على هذا الدين لا عن رغبة فيه، بل فرارا من دفع الضرائب، وآية ذلك أنهم يدخلون الإسلام ولا يختنون.
فأجابه عمر: «لقد أرسل الله نبيه ليهدي الناس إلى الدين الحق، ولم يرسله ليفرض عليهم الختان.»
وهو بهذا لم يكن صارما في تطبيق أصول الشريعة، ولم يكن يجهل أن أكثر من دانوا بالإسلام كان ينقصهم الإخلاص والصدق، ولكنه على ذلك كان يرى - وهو على حق فيما رآه - أن أبناء هؤلاء المتظاهرين بالإسلام وأحفادهم سينشئون في ظل الإسلام والمسلمين، ويشبون في أحضان هذا الدين، وتشربه دماؤهم فيصبحون مسلمين يخدمون الإسلام وينصرون كلمته، وربما ظهر منهم من هو خير من المسلمين أنفسهم.
قواعد الإسلام
أما سواد هؤلاء الذين دخلوا في الدين أفواجا، فقد كان في عهد الأمويين لم يتعد أولى مراتب هذا الدين وهي الإسلام، فإن لهذا الدين ثلاث مراتب يفسرها الحديث المأثور عن النبي.
فقد حدث: أن جبريل جاءه - ذات يوم - في زي عربي، وحياه وجلس إليه، وأدنى ركبته حتى مست ركبة النبي، وسأله: «ما الإسلام يا رسول الله؟»
1
فأجابه محمد
صلى الله عليه وسلم : «الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا».
فقال له: «صدقت، وما الإيمان؟»
فقال له: «الإيمان هو أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وقضائه في الخير والشر.»
فقال له: «صدقت، وما الإحسان؟»
فقال له: «هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك.» •••
وثمة ترى أن الإسلام يدل على إيمان خارجي بحت، وهو مراعاة قواعده الخمس الجوهرية.
وقد كان المسلمون في عهد بني أمية قد وصلوا إلى هذه المرتبة، على أن كثيرا منهم كان يؤمن بالله، ولكنه ينكر الوحي.
وقد أشار إلى ذلك القرآن بقوله:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم .
2
وعلى كل خلاف في ذلك بين العرب وخلفائهم وعلى ما بذلوه من جهد قليل في نشر هذا الدين للتغلب على عادتهم في محاربة انتشاره وإذاعته، بدلا من الترويج له، فإننا نرى أن الإسلام قد انتشر بسرعة مدهشة بين تلك الشعوب التي غزوها، وهذه ظاهرة لم ير لها العالم مثيلا من قبل، وهي تبدو - لأول وهلة - لغزا مستسرا لا سبيل إلى حله وتعليله، لا سيما إذا عرفنا أن هذا الدين الجديد لم يكره أحدا على الدخول فيه.
وقد كان محمد
صلى الله عليه وسلم
يأمر بالتسامح والإغضاء، وقد وضع للمسلمين قاعدة الجزية وفرضها على كل من لم يدن به من أهل الكتب المنزلة من يهود ونصارى، فمنحهم حريتهم الدينية على أن يدفعوا ما فرضه عليهم من الجزية، وزاد في تسامحه فمنح هذه الميزة لمن يقطنون إقليم البحرين من المشركين.
وجاء من بعده عثمان فخطا خطوة جديدة أخرى، فاعتبر بربر شمال إفريقية كاليهود والنصارى وسكان إقليم البحرين.
ولسنا نعرف - على الحقيقة - شيئا عن ديانة هؤلاء البربر القديمة إلا معلومات تافهة ضئيلة لا تغني شيئا، ولن نعدو الصواب إذا قلنا إننا نجهل كل شيء عن هذه الديانة القديمة.
على أننا إذا أخذنا بالحكم على طبع الشعب وخلقه واتخذنا من ذلك مقياسا للحكم على ديانته استطعنا أن نستنتج أن ديانة البربر القديمة كانت أقرب إلى أن تكون كهنوتية منها إلى أن تكون إلهية.
ومهما يكن من أمر، فليس ثمة مجال للشك في أن البربر لم يكونوا أهل كتاب مقدس قط، وعلى هذا نرى - في جلاء ووضوح - أن التسامح الديني قد وصل في هذه الطريق إلى آخر مداه، إن لم نقل إنه أربى على ما كان يرمي إليه النبي.
أضف إلى هذا أن الحكم الإسلامي كان يتوخى التيسير والخير العام والبر بالشعوب المحكومة لا سيما النصارى، فقد كان سواد المسيحيين في الشرق ينتمي إلى مذاهب لقيت من اضطهاد حكومة القسطنطينية وإعناتها ما أرهق أصحابها إرهاقا، فلما جاء الإسلام - ومن طبيعته التسامح والإخاء - ترك لهم الحرية التامة في البقاء على دينهم ما داموا يؤثرونه على غيره من الأديان، وظللهم بحمايته، وسوى بينهم في الحقوق، على اختلاف مذاهبهم وشتى نحلهم.
ولا تنس أنهم كانوا مضطرين إلى دفع ضرائب فادحة للإمبراطور الروماني، فلما جاء الإسلام أعفاهم منها، ولم يفرض عليهم إلا جزية معتدلة لا ترهق أحدا، ومتى عرفت هذه الأسباب زالت دهشتك وعجبك من إيثارهم حكم المسلمين على حكم الرومان واندفاعهم إلى مساعدة العرب في فتوحاتهم بكل قلوبهم بدلا من مناوأتهم والتألب عليهم.
أسباب انتشار الإسلام
وإذا كان ذلك كذلك، فما بالهم لم يبقوا على دينهم؟ وأي شيء حفزهم إلى الدخول في هذا الدين الجديد من غير أن يكرهوا على الدخول فيه، وهم يعلمون أن إسلامهم لا يرتاح إليه ملوكهم؟
لقد تضافرت أسباب عدة على الوصول إلى هذه النتيجة، وقد ألمعنا - آنفا - إلى ما يعود عليهم من الفائدة المادية إذا أسلموا؛ لأن إعفاءهم من الجزية - على اعتدالها - كان مما يرغبهم في الإسلام.
أضف إلى هذا ما يشعرون به من الكرامة الشخصية إذا أسلموا وأصبح لهم من الحقوق ما للمسلمين.
نعم كان المسلمون متسامحين، ولكنهم لم يزيدوا على ذلك شيئا، فقد كانوا - على تسامحهم - لا يضعون المسيحي والمسلم في صف واحد، بل ينظرون إلى النصراني كما ينظرون إلى جنس منحط.
وقد سن عمر لهم قانونا يحوي إذلالهم ومهانتهم بين طياته، فلم يسمح لهم بإنشاء الكنائس والمعابد، بل حرمهم حتى بناء الأديرة الصغيرة.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تعداه - بعد قليل - إلى ما هو شر منه، فقد حظر عليهم تجديد بناء الكنائس التي تهدم - وإن لم يتمسك المسلمون بتنفيذ هذا الشرط دائما - وقد أباح القانون للمسلمين أن يدخلوا الكنائس في أي وقت شاءوا ليلا أو نهارا، وحتم على المسيحيين أن يفتحوا أبوابها للمسافرين من المسلمين ليل نهار، وشرط عليهم أن يقدموا الطعام لضيوفهم ثلاث مرات في كل يوم، وحظر عليهم أن يرفعوا الصلبان على كنائسهم، وأن يبيعوا الكتب المقدسة في شوارع المسلمين، كما حظر عليهم إقامة الصلاة وترتيل الأناشيد الدينية في الكنائس بصوت مرتفع إذا كانت قريبة من بيوت المسلمين، وأمرهم أن يشيعوا موتاهم إلى قبورهم في صمت وسكون، وألا يوقدوا شموعا أمامهم متى وصلوا إلى الأحياء الإسلامية.
كما حرم عليهم التعصب لدينهم والتعرض بأي سوء لمن يتحول عنه إلى الإسلام، وفرض عليهم احترام المسلمين في كل فرصة أو مناسبة، فإذا جلس المسلم وجب على المسيحي أن يقوم .
وشرط عليهم أن يحتفظوا بأزيائهم ولا يتزيوا بزي المسلمين ليتميزوا للناظر عنهم، ولم يعف مسيحيا من شد الزنار إلى وسطه ، وحرم عليهم أن يتحدثوا بالعربية أو ينقشوها على أختامهم.
ولم يبح لهم أن يتخذوا لخيولهم سروجا أو يتقلدوا سلاحا أو يستخدموا مسلما عندهم. •••
ولا ريب أن هذه الشروط لم تكن تطبق بحذافيرها - في أول الأمر - إلا في أحوال استثنائية نادرة؛ لأن الولاة المنوط بهم تنفيذها كانوا على جانب كبير من التسامح والعدل والرحمة، فلم يبالوا بتنفيذ هذه الشروط القاسية، وقد وصل بهم التسامح إلى حد انهم كانوا يبرمون معاهدات - في بعض الأحايين - بينهم وبين المسيحيين تعفيهم من تنفيذ أكثر هذه الأمور. •••
ومهما يكن من أمر فقد كان مركز المسيحيين عند المسلمين يكاد يكون مماثلا لمركز اليهود في أوروبا إبان القرون الوسطى.
وهو المركز الذي لا يزال يضعهم فيه السواد الأعظم من الناس، فقد كان سادتهم ينظرون إليهم باشمئزاز واحتقار ويعدونهم من الأنجاس، فلا يتحدث مسلم إلى مسيحي أو قسيس - على الأخص - إلا عن بعد حذرا من ملامسته كي لا يدنس ثوبه.
3 •••
ومتى دان المسيحي بالإسلام تطهر من رجسه كما يتطهر اليهودي عندنا حين يدين بالمسيحية بعد أن نعمده، ثم يصبح إلى حد ما على قدم المساواة مع المسلم.
أقول إلى حد ما لأن مسلمي العرب دائما أرستقراطيون لا ينظرون إلى المسيحي - حتى بعد إسلامه - إلا نظرة السيد، ولا يخاطبونه إلا من حالق، على أن إسلام المسيحي كان الخطوة الأولى إلى الكرامة والشعور بالعزة، والزمن وحده كفيل بتحقيق ما يليها من الخطوات، ولن يلبث ابن المسيحي أن يصبح مسلما أصيلا يتمتع بكل ما يتمتع به العربي من عزة وكبرياء.
معجزة الإسلام
أضف إلى هذا أن انتقال السوريين والمصريين من المسيحية إلى الإسلام لم يكن عسيرا شاقا فقد كانوا - على الحقيقة - يجهلون من أمور دينهم كل شيء؛ لأن الجهل في تلك العصور كان ضاربا بجرانه، وقد اقتبس الإسلام كثيرا من أصول المسيحية - اقتباسا مباشرا أو غير مباشر - ولا تنس أن عقيدة الحساب كانت ذائعة في القرون الوسطى، وقد كان لها أكبر الأثر في نفوس الناس، وكانوا يؤمنون بأن الغالب لا بد أن يكون على حق، وكانوا يتساءلون مدهوشين: «لو صح ما قاله القساوسة من أن محمدا نبي منافق كذاب، فكيف نعلل انتصاره، وما بال فتوحات أتباعه تترى وتتلو إحداها الأخرى، وما بال انتصاراتهم على الشعوب لا تقف عند حد؟ وكيف لا يدل ذلك على معجزة هذا الرسول؟»
ولقد كانوا يعتقدون - أول أمرهم - أن خذلان المسلمين سيتم بمعجزة قريبة، فقد طالما سمعوا عن معجزات الكنيسة التي كانت تحدث لأقل مناسبة، وانتظروا هذه المعجزة التي تخلص البلاد المسيحية من غزوات المسلمين، ولكن انتظارهم تلك المعجزة قد طال وذهب صبرهم أدراج الرياح، وعبثا حاولوا وقوع هذه المعجزة.
وهكذا أصبح الاعتقاد بوقوع المعجزة، الذي طالما روجت له الكنيسة وغلت في الدعاية له أكبر نكبة حاقت بها وطوحت بنفوذها.
وأعجب من ذلك أن المعجزة - إن لم نقل المعجزات - قد حدثت حقا في ذلك العصر، وكانت معجزات أعظم مما كان يتوهمه القديسون أنفسهم؟ وأي معجزة أروع وأعجب من أن نرى شعبا كان إلى زمن قليل في غيابة من الخمول، ثم ظهر إلى الدنيا فجأة، وظل يتقدم بسرعة لا مثيل لها وهو يغزو الأرجاء الفسيحة، وينتصر على قطر بعد قطر فتدين له البلاد بالطاعة والولاء، وتقبل على دينه من كل حدب وصوب، راضية غير مكرهة.
ولو أننا عزونا إقبال المسيحيين على الإسلام إلى الفائدة الشخصية أو الرغبة في التخلص من الذل والضعة، فنحن جديرون أن نقرر أن من الثابت المحقق أن كثيرا من المسيحيين دانوا بالإسلام عن عقيدة وإيمان.
دين الفرس
وأهم من ذلك أن الفرس أقبلوا على هذا الدين الجديد ودخلوا فيه أفواجا وآمنوا به مخلصين عن ثقة ويقين.
فإن الديانة الفارسية العتيقة التي نشأت من انشقاق البرهمية قد أسسها زرواستر وزاد انتشارها بفضل من خلفه من الكهان، قد فقدت قوتها وقداستها بعد أن خضعت بلاد فارس للعرب.
ولقد غزا «الإسكندر» بلاد الفرس من قبل، فلم يصبح هذا الدين دين الدولة، ويظهر أنه لم يستطع أن ينهض بعد هذه الصدمة.
ولا جرم أنه وجد نصيرا وعونا عند بني ساسان، فقد دأبت هذه الأسرة جادة في الاستيلاء على العرش في القرن الثالث بعد الميلاد المسيحي، واستطاعت أن تستميل الشعب إلى مناصرتها وتأييدها بعد أن أخذت على نفسها عهدا بإعادة المجوسية.
وكان رئيس هذه الأسرة كثيرا ما يقول: «إن العرش في عون المذبح، كما أن المذبح في عون العرش.»
ولم يجد من خلفوه أيضا سلاما إلا بعقد معاهدة وثيقة بينهم وبين كهنة الزرواستر.
وعلى الرغم من حماية هؤلاء الملوك، فإن المجوسية لم تجد قط حياة قوية لها؛ ذلك لأنه شعر بمؤثرات خارجية قوية وآراء وأفكار جديدة نجح في إدخالها إغريق ومسيحيون، وكان كسرى أنوشروان قليل التبصر في هذا الأمر إذ قبل حوله فلاسفة من الإغريق الذين كان يضطهدهم جوستانيان، وأمر بترجمة كتب أفلاطون وأرستطاليس.
وبعد زمن قليل - ولعله كان في عهد حكم الإغريق والهند - ذهب مبعوثون من البوذيين
4
ينشرون تعاليمهم في أرجاء فارس، وكانوا يقولون: إن بوذا رسول من عند الله ووسيط بين الخالق والمخلوقات، وإن واجب الإنسان هو ألا يعيش لهذه الحياة الدنيا، بل يعيش للسماء.
5
وهكذا نشأت هذه الشيع التي كانت ترمي إلى إدخال عناصر إصلاحية لترقية الاجتماع، ومزجت - في طياتها - اعتقادات جديدة في ديانة المجوسية، فأضافت إليها التقمص أو التناسخ، وهو من معتقدات البراهمة
6
والوحي الذي أوحى به الله للإنسان الأول، وهو من معتقدات البوذيين، واعتقاد أن الزمن غير محدود، وأنه هو الله العلي الأعظم، والإيمان بأن الله (تعالى) يتقمص في شخص الملك الحاكم
7 ... إلخ.
وهذا من اعتقاد البوذيين أيضا، وقد تفرع عن هذه الملل كثير من النحل. •••
وجماع القول أن بلاد الفرس كانت مسرحا لكثير من التخرصات الدينية، حيث التقت فيها أخلاط من المذاهب المختلفة وأمشاج من النحل المتباينة، ووجدت في هذه البلاد حقلا خصبا لازدهارها.
وقد انتهت هذه المقدمات بالنتيجة الطبيعية المنتظرة فظهرت بينهم فئة آثرت تحكيم العقل، فأنكرت كل عقيدة، وظهرت فئة من الطبيعيين ، وهو دين قديم من أديان الفرس، وكان من تعاليمهم حب التعذيب، والدعوة إلى قهر النفس، وكبح جماح الشهوات والعمل على ترقية النفس الإنسانية ورياضتها على الصبر والجلد.
وكانوا يؤمنون - إلى ذلك - بكائن أعلى ويدينون بقدرة الله وخلود الروح بينما غيرهم لا يعتقد ذلك، وهم أحرار الفكر يبيحون لأنفسهم أقصى مدى من الحرية.
وعبثا حاول الملوك والكهنة مجتمعين أن يتألبوا على هدم هؤلاء المبتدعين الذين يروجون البدع الدينية، وأن يقضوا على أولئك المستبسلين الجرآء، ويبيدوهم بالسيف والنار.
فكانت نتيجة هذا الاضطهاد شبوب نار الثورة ضد رجال الدين والحكومة، وكانت هذه الثورة مما سهل على العرب غزو بلاد فارس التي كان قسم كبير منها تابعا للإمبراطورية الرومانية.
ومما ضاعف الخطر ووسع الهوة، انقسام الكنيسة نفسها، فإن أحد الفريقين وهم المجوس الذين كانوا أكبر قوة في القسم الغربي من الإمبراطورية، أي في «ميدي» وفي «فارس» تمسكوا بكتاب «أڤستا» وتشبثوا بنصوصه المقدسة.
وقام الفريق الثاني وهو فريق الزنادقة وسوادهم في «بكنزيان» وذهبوا إلى الأخذ بكتاب «الزند»، وهو التفسير المجازي لكتاب «أڤستا» المقدس.
وقد تمسك به كثيرون كما تمسك سواد الفرس - بعد ذلك - بالقرآن، فلم يبق في بلاد فارس من يدين بالمذهب الأول القديم إلا الأقلون عددا. •••
هكذا كانت حال البلاد الفارسية عندما فتحها العرب حيث ضاعت ديانة المجوسية - من جديد - ضياعا أبديا، فلم يتح لها القيام من كبوتها بعد هذا العصر، ولم يقدر لها أن تعود دينا للحكومة.
ولقد كان الفتح أكبر ضربة قضت على هذه الديانة، ولم يكن من ذلك بد؛ لأن الكنيسة والعرش كانا متحدين اتحادا وثيقا، وكان سقوط أحدهما رهنا بسقوط الآخر.
على أن المجوسية لم يقض عليها بسرعة، فإن كثيرا من الفارسيين ظلوا مؤمنين بها، ولم تخل قرية في بلاد فارس - إلى القرن العاشر - من معبد للنار، ولكن عدد المنتمين إلى هذا الدين كان آخذا في النقص يوما بعد يوم، ودخل المتدينون والملحدون في دين الإسلام أفواجا، وانضمت المصلحة الشخصية إلى ترويجه والإقبال عليه، فدان به الفارسي - أسوة بالمسيحي - ليعفى من دفع الجزية.
أضف إلى هذا أنه كان يطمح إلى الكرامة وهو مزهو مختال بماضيه المجيد، ولم يكن في وسعه أن ينجو من الزراية والامتهان بعد الفتح الإسلامي، إلا إذا دان بالإسلام ليحفظ كرامته وكبرياءه موفورين، وبهذا وحده استطاع أن يساهم في الحكم، ولم يكن الانتقال إلى الإسلام - كما أسلفنا آنفا - بالأمر العسير.
وهكذا انتقل الإسلام إلى بلاد «فارس» في محيط من الآراء، لم تكن كلها غريبة على هذه البلاد، بل كانت على العكس مألوفة لها، فقد كانت الديانتان تحويان أصولا مشتركة بينهما، وكان للإسلام نقط اتصال كثيرة يلتقي فيها مع نحل الملحدين وشيعهم، مثل مذهب «ماني» الذي يدين به المانويون، ومذهب «مزدك» الذي يدين به المزدكيون، وقد أثرت المسيحية في هذين المذهبين كما أثر فيهما الإسلام.
وكان إسلام الفارسيين عظيم الخطر جليل النفع على الدين الإسلامي، فقد نهض بالإسلام إلى حد ما، ولئن رأينا من مسلمي العرب قلة اكتراث بالدين، فإننا نرى الفرس - على عكس ذلك - يلتهبون غيرة وحماسة لنصرة هذا الدين.
وقد ألف الفارسيون - إلى ذلك - ممارسة العلوم، ومعاناة البحوث العويصة، وطبعوا على التمحيص، فلما أسلموا ظهر من بينهم واضعو أساس «اللاهوت» الإسلامي، وقد قال المؤرخ ابن خلدون: «إن أغلب الحفاظ الذين استظهروا الحديث والدين وأعودهم نفعا على الإسلام، كانوا من الفرس، وقد نقلوها إلى الفارسية، وتوفروا على درس القرآن وبرعوا في تفسيره والتفقه فيه.» •••
ومن ثم نرى أن الإسلام قد أصبح - بفضل الفرس - قوة عظيمة الخطر في العالم، ولم يكن ليتاح له أن يصل إلى هذه الذروة بفضل جهود العرب وحدهم.
ولقد كان تاريخ الإسلام - أعني تاريخ نشأته وانتشاره ونموه - مماثلا تاريخ البوذية والمسيحية، فقد نشأت البوذية في الهند، وماتت في مهدها وصرعتها البرهمية، ولم تطق البوذية أن تصمد لها في نضالها، ولكنها - مع ذلك - انتشرت في بلاد أخرى كالصين وسيلان والتتر واليابان، وما وراء «الجنج».
كذلك نرى أن المسيحية لم تظفر بالحياة في مهدها، فقد أنكرها اليهود، ولجوا في مناوأتها - مع أنها وليدة الموسوية - ولكنها على ذلك قد ذاعت خارج موطنها ودان بها الرومان، وإن كان تدينهم اسميا، وفتن بها شعب ثالث وهو الشعب الجرماني حيث لقيت بين ظهرانيه كل إقبال وترحيب.
ولسنا ننكر خطر الإسلام واستقامة مبادئه ونفعها وإن كان يحوي - على ذلك - ضررا جسيما، فإن أكثر من دانوا به لم يكونوا مخلصين في اعتقادهم، وثمة رأينا كثيرا منهم يطرقون أبواب الكنائس ويأوون إليها، وهم غير معتقدين بالإسلام، وإن تظاهروا به رغبة فيما يلقونه من كرم الوفادة وحسن الضيافة.
ولقد كان الداخلون في حظيرة الإسلام فريقين، فريقا يرى أن الإسلام أيسر مما يطلبون لأنه لا يمنح المؤمنين به ما تطمح نفوسهم إليه، وفريقا يرى أنه أصعب مما يطيقون لأنه يفرض عليهم أكثر مما يحتاجون إليه.
فأما الفرس فكانوا من الفريق الأول - وقد ألفوا دينا معقدا - فلما جاء الإسلام وجدوه أيسر وأبسط مما ألفوه، ورأوا تعاليمه جافة شديدة الجفاف بعيدة عما ألفوه من خيال خصب بهيج.
أما سواد المفكرين الأحرار فقد وجدوا هذا الدين شاقا شديد العسر - على ما فيه من تيسير وتسهيل - وهكذا وجدوا كل دين آخر عسيرا شاقا، ما دام يفرض عليهم بعض القيود، فلم يرضوا عن الإسلام ولا عن غيره من الديانات.
وثم نرى نزعتين باديتين في الشيع الإسلامية، إحداهما ترمي إلى اقتباس التعاليم الدينية من الأديان الأخرى، والثانية تنزع إلى انتهاز الفرص للتخلص من أكثر أوامره ونواهيه، وتحوير نصوص أحكامه حتى يصبح وفق رغباتهم وأهوائهم. •••
وكانت هاتان النزعتان تمشيان أحيانا جنبا إلى جنب، فقد عرف الجاحدون كيف يستفيدون من المتشددين في العقيدة، وتضافرت المصالح الشخصية والمآرب السياسية على ذلك، ورأى الفرس أن يسلكوا كل وسيلة للتخلص من نير الاستعباد، وفكروا في مواصلة العمل على استقلال فارس.
وفي كل مكان في الدنيا نرى الشيع والنحل في كل زمن تنشأ لغاية سياسية أكثر منها دينية، ولا تحوي الفصول التالية جميع هذه المذاهب، بل تشير إلى أعظمها خطرا وأكبرها أثرا، فليس من همنا أن نذكر تاريخ الشيع والنحل، وبحسبنا أن نتتبع النزعات السياسية مغفلين منها ما لا خطر له. •••
وقد كتب المؤلفون المسلمون في هذا الصدد مدفوعين باعتبارات دينية عن الإسلام وقرروا عكس ما نقرره، فإذا قامت الشبهة قوية في الإسلام لجئوا إلى اختراع تقليدي - ولا جرم أنه تقليدي - من مقتضاه أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «تنقسم أمتي إلى ثلاث وسبعين شعبة اثنتان وسبعون منها هالكة وواحدة ناجية.»
وقد أضافوا إلى هذا أنه كان للزرواستر سبعون شعبة، ولليهود إحدى وسبعون شعبة، وللمسيحية سبعون، ثم ذهبوا إلى قياس عظمة الدين إلى عدة ما يحويه من شعب.
وهذه البدعة التي نعدها غريبة مردها إلى قيمة رمزية، فإن العدد المقدس: وهو يبدأ من سبعين إلى اثنين وسبعين كان في آسيا - منذ أقدم العصور - متداولا نظرا لقيمته الرمزية.
وقد رد الباحثون أصل ذلك إلى الفلك، فعدد سبعين هو خمس أيام السنة القمرية القديمة، وعدد اثنين وسبعين هو خمس أيام السنة الشمسية.
وقد أخذت هذه الفكرة من الديانة المجوسية، وفي كتاب «ياسنا» فيما أعرف - أقدم مثال ذكر فيه هذا العدد - فهذا الكتاب يحوي اثنين وسبعين بابا، وذلك التقسيم - كما يقول «هوج» - لم يكن جزافا، بل وضع عن خبرة وتقدير؛ فإن البابين في هذا الكتاب وهما الواحد والستون والثاني والسبعون متشابهان، والباب الثامن عشر لا يحوي غير أشعار من قسم «الغطاس» في كتاب «ياسنا».
8
وبعبارة أخرى ترى أن كتاب «ياسنا» قسموه في أول الأمر إلى سبعين بابا (خمس أيام السنة القمرية) ثم مضى على هذا التقسيم زمن طويل، فقسموا هذا الكتاب بعد ذلك إلى اثنين وسبعين بابا (خمس أيام السنة الشمسية) وفي العهد الذي نفي فيه «بابليون» تسربت هذه الفكرة إلى اليهود مع غيرها من جمهرة الأفكار الأخرى.
ثم انتقلت بعد ذلك - مع الزمن - من اليهود إلى المسلمين.
وكان المسلمون يجهلون أصل هذه الفكرة، وقد كانوا خلقاء أن ينسبوا تلك الرموز العددية إلى كتاب «ياسنا»، بل ما كان أجدرهم أن ينسبوها إلى مصادرها الأربعة التي أخذت عنها وأصبحت عددا أكبر من رقم 72 وقد عناهم أن ينسبوا إليهم وحدهم هذا الرقم. •••
ومتى أقررنا ذلك أصبحنا جديرين ألا نأخذ بهذه الأرقام وألا نتشبث بحرفيتها، وإن أبى رجال اللاهوت من المسلمين إلا أن يتشبثوا بها ويؤمنوا بصحتها، وقد تم لهم ذلك ورأوا من واجبهم أن يصلوا بالفرق الإسلامية إلى هذا الرقم.
على أن لحظة من لحظات الروية والتفكير كانت جديرة أن تقفهم على خطل هذا الرأي وأفنه. ولنأخذ الشهرستاني مثلا للتدليل على صحة ما نقول - وهو من رجال القرن الثاني عشر - فقد تأثر بهذا الرقم 73 وما كان أجدره أن يتريث ويمعن الفكر ويطيل الروية ليعلم أن هذا العدد عرضة للزيادة والنقص - كما أثبتت الحوادث صحة هذه النظرية في المستقبل - ولكنه أثر التشبث بهذا الرقم، وقد جره ذلك إلى نتيجة تافهة قليلة الخطر، ولم يصل به تمسكه بهذا الرقم 73 (لا أكثر ولا أقل) إلى غاية محمودة موفقة.
ولو أنه أطال الروية لأمن العثار والزلل كما أمنه من جاء بعده من الباحثين الذين لم يبهر أبصارهم هذا الرقم الخلاب. •••
والحق أن هذا الرقم الخاطئ 73 وهذا الرأي المأفون الذي دفعهم إلى التشبث به قد وصلا بمن أخذ بهما إلى نتائج معتسفة شوهت تاريخ الإسلام إلى مدى بعيد، وأدخلت فيه من ألوان التعقيد والغموض ما أفسد بساطته ويسره.
وقد وجد - لحسن الحظ - مؤلفون جاءوا بعد الشهرستاني، ورأوا - كما رأى الشهرستاني - أن يميزوا هذه الشيع فيجعلوها قسمين، مللا ونحلا.
9
وبهذا التمييز أصبحنا ندرك المذاهب الأصلية وما نشأ عنها من الفروع.
الهوامش
الجزء
ديانة العرب في الجاهلية
بعد وفاة النبي
قواعد الإسلام
Bilinmeyen sayfa