لماذا اخترتني لأكون بطل روايتك؟
المقهى
كل هذا لأجل الثبات
مراقبة
الميلاد
تفاصيل لا بد منها
اجهز الآن
زوجها العزيز
تجارب
في السيارة
أسرار
الوصية
جاكيت أسود
سؤال هادئ
قريب جدا منك يا أبي
رحلة مدرسية
لماذا اخترتني لأكون بطل روايتك؟
المقهى
كل هذا لأجل الثبات
مراقبة
الميلاد
تفاصيل لا بد منها
اجهز الآن
زوجها العزيز
تجارب
في السيارة
أسرار
الوصية
جاكيت أسود
سؤال هادئ
قريب جدا منك يا أبي
رحلة مدرسية
الملاحق
الملاحق
المسيحي الأخير
تأليف
هاني السالمي
هذه الرواية تدخلت في كتابتها وعدلت على جملها، هو أنا «ميشيل عواد» بطل الرواية؛ أنا شخصية خيالية صنعها الكاتب في لحظة تشابه الرحيل والهروب من واقعك إلى واقع آخر تظن أنه سيكون أفضل، أطلق الكاتب علي اسمين؛ اسم «ميشيل» في الهوية الشخصية، واسم «نضال رجعي» في الشارع.
في بداية الأمر كنت مستاء من اسم نضال، وكنت لا أطاوع الكاتب في الحركة والوصف، وأمتنع عن نطق الجمل في الحوار. حاولت مرتين أن أمد يدي من بياض الصفحة وأصفعه. محاولاتي بالرفض لأنه ظن أني دمية وهو قادر على تحريكي أين يشاء.
وقد تجد الكثير من لحظات التدخل مني في صياغة الجمل؛ لأن الكاتب متهور جدا، وليس عنده صبر في نطق الحكم على الآخرين.
لم يعن لي أن يترك شعري أشعث، أو يفتح أزرار قميصي العلوية ليظهر وشم صدري، وإصراره أن أرتدي اللون الأحمر؛ هذا اللون هو دم المسيح الذي يخلصنا من الخطايا. في أغلب المشاهد في الرواية يضع كئوسا فارغة فوق الطاولة مكسوة بقماش أزرق، ويعلق على الحائط صورا طويلة لقديسين في معظم المشاهد. (الكاتب يعتبر أن كل شخصية تضع طربوشا أحمر مميزا، وترتدي ثيابا تزهو باللون البني، ولها ذقن طويل وتحمل كتابا مخملي الغلاف، والسيف لا يكاد يظهر في اللوحة؛ يقول هذا قديس، وهو معجب بالقديس جاورجيوس الذي ولد سنة 280م في مدينة اللد في فلسطين لأبوين مسيحيين من النبلاء.
جاورجيوس توفي والده؛ فاعتنت به والدته وأنشأته في جو عائلي مسيحي، ولما بلغ السابعة عشرة دخل في سلك الجندية وترقى إلى رتبة قائد في حرس الإمبراطور الروماني دقلديانوس.
كان الرومان يضطهدون المسيحيين في تلك الفترة، لكن جرجس لم يخف عقيدته المسيحية رغم انضمامه للجيش الروماني، مما أغضب الإمبراطور دقلديانوس؛ فأخضع القديس لجميع أنواع التعذيب لرده عن دينه، لكن دون جدوى. العديد ممن شاهدوه معذبا تحولوا إلى المسيحية، حتى الإمبراطورة ألكساندرا زوجة الإمبراطور. بعد وفاته أعادت رفاته ليدفن في مسقط رأسه بمدينة اللد بفلسطين.)
في بعض الأحيان كان يطلق علي «القديس جرجس»؛ لأنه فلسطيني قاوم وظل في الوطن، وحتى إن الله اختار جسده أن يدفن في فلسطين (اللد)؛ لأن هذا القديس دافع عن بقائه.
وأنا بنظره روح جرجس التي نزلت بجسد نضال الرجعي؛ ليظل ثابتا. وكان يفجر رأسي بترديد كلمة الثبات، وكأنه طائر نقار الخشب يحطم ساق الشجرة ليبني عشا، أو يصطاد دودة. لا أعلم لماذا يردد كلمة الثبات؛ ليبني في رأسي فكرة، أو يخلص رأسي من شيء يراه خطأ في حياتي في غزة؟
ردد على مسمعي جملة «من يحب أخاه يثبت في النور وليس فيه عثرة.» وبعد ذلك سألته: من قال هذه الجملة؟ قال: «رسالة يوحنا.» «الرسالة التي اتفقنا أن تصل لكل العالم من هذا العمل، أنا بطل الرواية والكاتب؛ لا بد من المسيحي في غزة مقاومة الهجرة، مقاومة الاندثار، وليس تفضيل المسيحي في غزة عن غيره.» «بكل صدق إن أعداد المسيحيين في غزة تتناقص، وخاصة في أعياد رأس السنة؛ حيث يقدم الكثير للهجرة من غزة بحجة المشاركة في الاحتفال خارج غزة.»
وحين انتهت هذه الرواية، ودخن الكاتب سيجارة الانتصار على التفاصيل والقلق والقرف الذي لازمه عامين من الكتابة، وصارت المخطوطة بطريقها إلى النشر، بعد أن اتفق مع الناشر حول الغلاف وحجم الخطوط وشكل الرواية، وبعد تحول الكتابة من الورق الأبيض واللون الأزرق إلى نسخة إلكترونية؛ كنت أخرج من جهاز الحاسوب على هيئة الكاتب، وأفتح النسخة وأعدل بعض الأحكام والأحداث.
والسر الذي لا يعرفه الكاتب أني مسحت الجمل الطويلة، والجمل التي تحمل تفسيرين ؛ أنا لا أريد أن أقول بأن المسيحي في غزة مسكين أو ظالم، محظوظ أو شقي. «أعتقد يا كاتبنا العزيز، أن أصل الأشياء الروح؛ الأرواح تتقابل قبل الأجساد. أقصد بأنك تصر أنك قد رأيتني قبل أن نتقابل في هذا المكان.»
أنا أؤكد لك أننا في غزة لم نتقابل دونها. غزة «غزة رغم تفاصيلها؛ اكتظاظ الشعراء، انتشار المقاهي، حركة السيارات، انتشار الموضة، تزايد أعداد المدخنين، عشرات الملتحين، تجد نساء باللون الأسود وغيرهن يعتري قلوبهن السواد في شارع الجندي المجهول.
أسلاك الكهرباء المبعثرة في السماء، عدم التزام إشارات المرور بالإضاءة، بحر واحد ومئات القصص، بيوت رمادية اللون كأذرع الأخطبوط تمتص الأكسجين من رئة المارين؛ رغم هذا تبقى غزة صغيرة جدا، وأي شيء وارد فيها.»
هو حالنا في غزة، كلنا نحمل صفات النبوة، «كلنا أنبياء» بدون رسائل؛ يبدو لأن في فلسطين ولد، وعاش، ودفن، ومشى، وركض، وبكى، وانتصر، وانهزم بها الأنبياء.
وأعود لفعل دفن الأنبياء في أرضنا؛ غزة أرض الدفن، ونحن كالأشجار نمتص ماء الأرض. وقد اختلط ماؤها بأرواح من صار جزءا من أملاح ومعادن ورائحة التربة.
أقصد هنا لو مر رجل يضع عطرا، وحين تحضر للمكان تقول: ما أجمل رائحة هذا العطر! ونحن لا بد أن نعيش نلاحق الجمال فقط.
يوما بعد يوم يعيش أهل غزة على الخرافات والأسطورة؛ أذكر يوما خرج معظم الناس إلى الشوارع وقالوا: إن التربة تحت أشجار الزيتون مضيئة وتلمع كنجوم سماوية.
كان كاتب هذه الرواية أحد الذين نبشوا التربة ليتأكد من أنها تلمع كالنجوم، وتأكد من وجود هذه الظاهرة، وانتشرت الشائعات بأن هذا الضوء دم الصالحين النائمين تحت تراب غزة.
أنا أيضا ميشيل كنت أحد الذين غرفوا حفنة من تحت شجرة الزيتون. دققت النظر والبحث في حفنة التراب؛ وجدت بقايا جسد دودة منتشرة في التربة هي التي تعكس الضوء، وتجعلها تلمع، «وقتها كانت نساء المخيمات تفرك وجوهها بالتراب اللامع».
هن نساء غزة يبحثن عن الجمال، حتى حين يقترب موتهن يصبحن جميلات. ويذكرني هذا بجدتي؛ كانت تبحث عن أثواب الحيات (قشور الحية بعد أن تغير جلدها)؛ لتمسح عينيها به فتشعر بنفسها كليوباترا، وجدي أنطونيو.
نمتاز نحن في غزة بالتعايش مع القبح لنتجمل به. غزة قبيحة لكن نحن جميلون في وقت من الأوقات، والعكس مقبول.
أنا معتقد بأن وجودنا في غزة مهم جدا. رغم صغر مساحتها إلا أنها تجمعنا كلنا؛ إنها كبالون الأطفال الصغير جدا، كبير عند الحاجة يتسع كل هواء صدرك.
الشيء المزعج مئات الثمار كانت تزرع في غزة، وكنا نشبه هذه الثمار؛ بالشكل والرائحة، والمهنة، حتى صغارنا نطلق عليهم أسماء الثمار.
البرتقال المنتشر قديما في كل شوارعنا كان جزءا من ألواننا، رائحتنا، ومهنتنا. البرتقال حاول أن يقاوم القلع من الدبابات. قتلت ملايين من حبات البرتقال، لكن تجده في غزة موجود ويقاوم ويتعايش رغم الهواء الفاسد وأبواق السيارات التي تزعج نومه في أرضنا.
قال الكاتب لي: أنتم مثل بالون الأطفال، مثل حفنة التراب، مثل البرتقال في داخلنا، ولا بد أن تبقوا.
حدث هذا كله حين قابلني أول مرة؛ كان مندهشا، دار حولي بدوائر مرتبكة، كالثعلب حين يدور حول الدجاجة يريد اصطيادها دون أن يشعر به المزارع أو كلبه الخشن الصوت. كل مرة يحاول أن يطرق السؤال أنه يعرفني، لكنه يتراجع.
هذا وارد في الأرواح، لكن أنت لم ترن قط، ولكن ما حدث معك هو ظاهرة الديجافو
Dejavu
كلمة فرنسية تعني «قد حدث من قبل»، وتعني حرفيا بالإنجليزي
already seen ؛ وهي الإحساس بالألفة مع شيء يفترض أنه ليس كذلك.
أقصد لو أنك سافرت لمكان لأول مرة في حياتك، ودخلت مطعما مع أصدقائك، وتجلسون حول الطاولة، وتتناولون طعامكم بينما تتناقشون في موضوع ما، وفجأة دون مقدمات ينتابك الشعور بأنك قد مررت بهذه اللحظة (بكل ما فيها) من قبل في نفس المكان، نفس العشاء، نفس الموضوع، نفس الأوجه المحيطة بك ... كل شيء كأنه حدث من قبل، ولكن أين؟ متى؟ لا تتذكر!
وليس هذا فقط، ربما أنك قد تتذكر ما سيحصل في الثواني القادمة (كأن يسقط شيء أو يمر شخص ما أو أي شيء)، وفعلا يحدث !
الذي لا بد أن يعرفه من يقرأ الرواية الآن، بأن الكاتب مصاب بمرض «متلازمة الدهشة».
لماذا اخترتني لأكون بطل روايتك؟
قال لي: أنت تشبه اللعبة القديمة من السوق العتيق، تشتريها الأرملة لأولادها الثمانية. لعبة واحدة تكفيهم؛ شعرها من الصوف الإنجليزي الثقيل، جسدها مكسو بالقماش التركي الخشن، عيونها أزرار معطف فرنسي قديم. تصبح اللعبة الولد التاسع في البيت.
يتقاسمها الأولاد بالوقت والمكان، بالحياة؛ وهم يركضون فتركض معهم، وهم يستحمون في الوعاء الأحمر تقاسمهم فقاعات الصابون.
اللعبة لا تبرد ولا تمرض؛ الأولاد الثمانية يصلحون وجهها، ويحيكون لها كل يوم ثوبا جديدا من دفاتر المدرسة؛ تجدها يوما تلبس قميصا مرصعا بعبارات النحو والصرف، ويوما تجدها بثياب ورقية تعج بالمعادلات الرياضية.
تجدها تجلس فوق الخزانة. كل يوم لها اسم جديد حسب القصة التي ترويها أمهم قبل النوم.
تكتم أخطاءهم الصغيرة؛ من سرقة الكعك، من كسر الأقلام، من ضرب حجارة الشارع بالحذاء الجديد، المشي تحت المطر وتحطيم كل نصائح الأم بالحفاظ على ملابسهم لتصمد ليوم العيد ... هذا الولد التاسع هو بنك من الأسرار لتفاصيلهم الثمانية.
الجميل أن هذه اللعبة لا تموت؛ تورث كالأرض، كالبيت، كالبندقية المصرية التي حارب بها الأب أمام جيش الهاجانا أيام النكبة، تورث للأحفاد. (يذهب الأولاد الثمانية، وتبقى اللعبة (الولد التاسع) في شوارع الحي تتجول.)
رغم أن الألعاب البلاستيكية سهلة الشراء، يمكنك شراء ثماني قطع لولد واحد. يكون الأب سعيدا وابنه يحطمها واحدة تلو الأخرى.
يذكرني هذه التطور في الألعاب بسيدة تضع تسعة أجنة (أطفال الأنابيب)، كلها تتساقط إلا جنينا واحدا يشبه الولد التاسع (اللعبة القديمة). الحاجة وقتها لاقتناء هذه التحفة؛ تنفخ بها روح الصمود ومقاومة النخيل للريح.
أنت يا بطلي لا بد أن تكون مثل الولد التاسع.
عليك أن تتوقف عن سذاجة الانتظار، والبكاء على الأطلال والتحسر على ما فات وكان، فلا شيء يفيد حقا ولا ماضي سيرجع.
ولا وقت سيرسل عقاربه لتستند عليها مجددا؛ فالرحيل هو الرحيل، ولا تولد منه عودة.
سأحاول أن أفرغ الألم، وأفرغ ما بجعبتي من كلام بعد ثلاثين من السنين عشتها بكل ما فيها من ألم وهناء، حزن وفرح ...
أرى علامات استفهام كبيرة على رءوس من حولي تستفهم عما حصل بين أرواحنا وأجساد مختلفة.
نعم، ولكن الأرواح مترابطة، فبعض كلمات من أفواه غبية هدمت محبة وفسحات العيش داخل هذه البقعة الصغيرة.
قال لي أيضا: انتظرنا طويلا حتى تكبر، كما تنزع البذور عن نفسها قشورها، ثم تمضي قدما تشق طريقها في تحدي الصخور والأشواك؛ فتخرج على وجه البسيطة أشجارا باسقة قوية، كذلك أنت حين كنت تحبو على بلاط غزة. لم أتوقع منك الهروب أو التفكير في ذلك، وتتحول إلى ذاكرة للباقين، ينتظرون رسائلك وهداياك من أماكن بعيدة جدا، أماكن باردة والثلج يكسو أقدامك. كل ما أخشاه أن تتذكر غزة في يوم النكبة فقط.
كل ما ستفعله في هذا اليوم أن ترسل علم دولتك الجديدة كتذكار، أو ترسل مفتاحا من الكرتون لتقول لنا اصبروا. كل ما علينا وقتها أن نشم رائحة الخمر في هداياك، ونلاحق النساء بين كلماتك.
اعلم أني اخترتك لتكون بطلا لروايتي؛ لتتعلم الصبر الطويل وأنت تعد ظل الطائرات، وأنت تلملم صوت الرصاص من نافذة الجيران، أن تنظر كيف نقطر مياه البحر قطرة، قطرة، لتشرب بعد يوم طويل من الصيام في تموز.
نرغب في أن تجلس معنا على مائدة الإفطار، والجنود الغاضبون يقفون أمام البيت يبحثون عن طفل رشقهم بالحجارة. نرغب أن تشاركنا نصف الملح، ونصف الخبز الناشف. نرغب جدا أن تبقى عندنا لتشاركنا رائحة أحلامنا باللحمة المشوية.
راقبتك جيدا ودققت في تفاصيلك، وأعجبني منك هذا الموقف؛ حين أخذك أبوك إلى كنيسة المعمداني القديمة، كان الحاضرون يرتلون الآيات ويطيرون أرواحهم فوق أسوار الكنيسة بالخشوع والبكاء تحت صورة مريم وابنها.
وحدك أنت لم يغرك البكاء ولا الخشوع، كنت فقط تراقب زوج الحمام من نافذة الكنيسة وهما يغازلان بعضهما البعض. راقبت ذكر الحمام وهو يبني عشا في ثقوب الكنيسة. لأنك أحببت الحمام؛ وضعت بقايا الشمع وقصاصات الورق من كتاب نشيد الأنشاد المهترئة، بالقرب من النافذة لتساعدهما في بناء عشهما. حين أشار لك الأب بالوقوف «الآن وقت الدعاء»؛ رفعت يدك في وجه مريم وقلت: يا مريم، احمي الحمامتين وأخبريهما أن يطلقا اسمي على صغيرهما.
الزغلول يا ميشيل صار حمامة بيضاء كبيرة، ترك ريشه الأصفر فوق بقايا كتاب الأنشاد وغادر بعيدا. لكن حين قررت أنت الرحيل صارت نوافذ الكنيسة تنوح، وسقفها بدأ ينهار، والكتب احتلها الغبار، والكراسي بدأت تقدم نفسها كمذاق الانتحار للنار. هاجم الغراب كل الأعشاش وهاجر الحمام ولم يعد.
لا تقرر الرحيل؛ أنت مثل هذا الرصيف الصخري الممتد في مياه البحر العكرة. تسبح أسماك «البوري» في تفاصيل القوارب بين الطحالب الخضراء والأصداف الميتة.
أن تمشي في شوارعنا وتلتقط بقايا الخبز من تحت عجلات السيارات، وتضعه على الرصيف أو ترميه فوق سطح البيوت (القرميد القديم) لتأكل عصافير الدوري؛ هذا شيء عظيم لا تحرمنا منه. تحزن حين ترى أحدا يرمم ثقوب جدار البيت الخارجية، تقول وقتها: كم عصفور يفقد عشه! كم نحلة ستغادر المكان! وتحزن جدا حين ترى الطيور في الأقفاص، ولا تأكل العسل من الخلايا الصناعية. كل هذا أنت الوحيد يا ميشيل تفكر فيه وحدك.
عزيزي الكاتب، كل يوم يضيق الأفق علي؛ حياتي في غزة كياقة قميص ضيقة ومعلق بها ربطة عنق عريضة. أنا لا أجيد الانتظار مثل الميناء (لا تصف بالميناء إلا إذا رست به القوارب). الأشياء لا يكتمل وصفها إلا بمهنتها.
عزيزي الكاتب، أنا أيضا أعرفك جيدا؛ مصاب بمتلازمة الدهشة، يصفر صدرك حين تتحدث معي كأنك مصاب بداء في رئتك. رائحتك قريبة جدا للطين، أنفاسك خليط من نعناع ودخان خفيف، عيناك خضراوان كورق التين في الربيع، ترتدي قمصانا بأكمام طويلة وتغلق أزرارها.
حين تقدم النصيحة لي كأنك واثق من نفسك كوتد خيمة الرحيل تقاوم الشتاء والريح والعواصف والشمس، هذه الخيمة صمدت أكثر من ستين عاما وما زالت واقفة. تحب الجلوس على قارعة الطريق، لا تهرب حين ينزل المطر، تراقب الخنافس حين تعبر الطريق السريع وتصفق لها حين تنجو من سرعة الموت، تحب أكل السمك الصغير، وحين تنتهي تقول أنا لا أجيد التمييز بين أنواع السمك، كله في فمي طعم واحد.
تضع أي عطر، وتضعه حين تكون مسرعا فقط. تحلق ذقنك بماكينة حلاقة زرقاء رخيصة الثمن، مهندم دائما كأن عليك ميعادا مهما رغم أنك لا تجلس إلا معي في أواخر الشتاء، تنشط كقطط شباط في الكتابة. لم تحب كأي فتاة، هذا ما أخبرتني إياه لأنك تحب أن تمارس الحب من طرف واحد.
لا تعزف الموسيقى ولك تجربة وحيدة، حين أغراك البيانو الأسود الضخم المتروك في زاوية عملك القديم؛ مشيت إلى ناحية البيانو وفي وجدانك نغمة تريد أن تعزفها، حاولت أن تترك أصابعك تسبح على أزرار البيانو، وعزفت وصارت الأنغام تشبه صوت السعال الديكي الذي يصاب به الأطفال في فصل الشتاء، وقتها قامت سكرتيرة المدير بالصراخ عليك؛ فانسحبت وخجلت من نفسك لتدميرك مزاجها في السمع.
لا تحب أن تجوع، وتحب التقليل من الضحك لتخفي أسنانك المصابة بالتسويس من كثرة الشوكولاتة المصرية رخيصة الثمن.
حين اشتد الحصار على غزة، وشح الوقود من المحطات؛ صار أصحاب السيارات يستخدمون زيت القلي المستعمل لتشغيل السيارات. كنت في وسط ساحة غزة، تريد العودة للبيت، فدخل في رئتك عادم الزيت؛ منذ ذلك الوقت وأنت تستخدم البخاخة الزرقاء لتساعدك على التنفس، وعلى الكتابة أيضا.
لا تجيد التمييز بين النساء ولا العطر ولا السمك؛ تقول في النساء لا تعرف سوى زوجتك. خالك أخبر أمك: هل تريدون أن تزوجوه؟ قالت الأم: نزوجه. قال: عند جيراننا بنت جميلة. وبعد أسبوع صرت زوجا على مزاج خالك.
وبخصوص العطر المهم جميل، ولا يهمك علاقة العطر مع مكونات العرق.
السمك كنت تفضح كل المدعين أنهم خبراء في السمك، كنت تحضر أرخص الأنواع وتقدمه لضيوفك بشكل أنيق في أطباق مميزة، وتقول لهم: هذا السمك من أغلى الأنواع. كانوا يأكلون بشراهة دون تمييز، وفي آخر الجلسة تكشف لهم الخدعة.
لحبك للأطفال كنت تقتل كل فئران وصراصير الحي، وصرت صديقا للبيئة في نظر رجال بلدية المدينة، وشعرت بالخطيئة من قتلك الفئران والصراصير حين شاهدت مسيرة كبيرة على التلفاز بأوروبا لمناهضة عمل تجارب علمية على الحيوانات في سفن الفضاء التي تهبط على القمر. وقتها قلت: حتى الفأر يحترم ويقدم له الجبن المصنوع من حليب أنهاد نساء الوطن العربي. «كم أنت عظيم يا فأر!»
لم تشارك في المقاومة؛ كان رأيك كلنا نقاوم. رجال المقاومة يشبهون الباعة في سوق الأربعاء؛ الأكثر احتراما الذي يبيع اللحم والدم، كل المتسوقين يطرحون عليهم التحية الصباحية فقط.
لكنك اعترفت لي أنك كنت فضوليا لمرتين في المقاومة؛ مرة أحببت فكرة أن تضع قماشا أسود على رأسك أنت وأصدقاء الكرة، ففعلتها وصرت ملثما تركض في شوارع الحي، وكرهت هذا التجربة لأنك وقعت أكثر من مرة وأنت تركض؛ ضاق شهيقك وكنت سوف تختنق من اللثمة. كنت تحمل بيدك طلاء وفرشاة لتكتب كلمة «فلسطين». وقتها فقدت اللغة كما فقدت تنفسك الطبيعي؛ أخطأت عشرات المحاولات أن تكتب كلمة فلسطين على حائط شارع البحر، وقتها جاء طفل صغير وكتبها عنك.
الأخرى حاولت أن تشارك الطلاب في المدرسة برشق الحجارة على شاحنات الجيش الخضراء، رميت حجرا وحيدا ارتطم برأس سيدة تعبر الشارع، فيما بعد عرفت أنها كسرت جمجمة رأسها ودخلت غرفة العمليات. ذهبت أكثر من مرة إلى غرفتها في المشفى لتطمئن أنها ما زالت تملك ذاكرة.
كل من حولك هربوا حين ركض الجنود خلفهم، حاولت أن تركض وتجري بسرعة، لكن قدميك تحولتا إلى حجارة ثقيلة، وقتها لم تتحرك؛ فأمسك بك الجندي الروسي الضخم الأبيض، فصفعك على وجهك، فتبولت في سروالك (تبولا لا إراديا) وطحنك الجنود من الضرب. لكن هذه التجربة محبوبة عندك لأنك أول مرة ترى مجندة جميلة بزي عسكري في معسكر الجيش، وكانت لطيفة معك؛ قدمت لك الخبز الإسرائيلي (ليخم). •••
كلنا مخطئون لأننا نقطع على بعضنا الطرق، فأي طريق نختاره؟ الكل في المرصاد، وكأنه موسم الحصاد.
فلن يحلق أبدا أي منطاد. علينا الاعتراف جميعا أننا بلا إرادة، بلا حرية نموت لأجلها فتصبح عادة، وعلى رءوسنا تاج السيادة. نحن بلا قيادة، بلا ريادة. علينا أن نعترف بأننا في مأزق كبير في طريق معتم طويل، تائهين في غابة ملأى بفوضى التراتيل. صعب عليك النضال، فستكون طبلة في يد ألف طبال. صعب علينا الكفاح فالرياح في وطننا ليست كباقي الرياح.
ستصطدم بسيف أخيك من وطنك ينحرك لا يحميك، أخوك الذي من مدينتك لا يسقيك، من قريتك لا يلبيك. آه، ربما من أقربائك فينهيك.
يا عزيزي نحن في بحر عميق ضيعنا ضوء القمر. سفينتنا بلا قبطان، وكل منا يعبد على طريقته القدر. ليس عيبا علينا أن نعلن يوما أننا نشبه السراب، نشبه الخراب. نعم، كلنا نصلي ولا أحد منا وجهته نحو المحراب! كلنا نسينا أو تناسينا وحدة التراب. فهل صعب أن نبدأ من جديد، أن ينصهر هذا الوجدان الذي تحول إلى حديد؟ هل مستحيل علينا أن نعيد الحياة في الزغاريد؟! في أول لقاء لي في السماء؛ هل خلقنا كي نفترق، كي لا نتفق، كي نملأ الإبريق كلاما ومن ثم يندلق؟
كلنا مخطئون لأن القبلة واحدة وكل يصلي على ليلاه. كلنا مخطئون لأننا نلغي بعضنا، نهين أوساطنا، ننعزل في تفكيرنا.
كلنا مخطئون ولا داعي للمحاسبة، لا داعي للمعاتبة أو المضاربة، لا داعي للنميمة والمحاربة. كلنا أنبياء، وللمصادفة، لكل شخص منا كتاب يفتحه بمناسبة أو بدون مناسبة. نحن في غزة لدينا طباعنا المهذبة، وأحلامنا المرتبة، وانتصاراتنا المرطبة، وهزائمنا المقطبة، حياتنا كوفياتنا مشطبة.
أرجوكم لا تعلنوا، لا تفكروا بالأمر؛ فما يسترنا هو بعض الفشل والثياب. سامحوني إن أخطأت أيضا بحقكم، فكلنا مخطئون لأننا مسيرون لا مخيرون، وأنا يسيرني إلهام الشك والظنون.
المقهى
في تلك اللحظة التي تكون فيها كبيضة مشقوقة؛ نصفك حزين ونصفك الآخر يحاول أن ينتعش من الأخبار السيئة التي تدور حولك كدخان الأرجيلة (لونه أبيض جذاب، رائحة التفاح المعتق تبتلعك، لكنه خطير على الصحة والحياة الزوجية؛ حين تعود لبيتك ومسام جلدك تفوح بتفاح فاسد، من المؤكد أن زوجتك وأولادك، والكرسي والكئوس سترمقك بنظرة غريبة).
تجلس في مقهى المعهد الأزهري على بعد عشرة أمتار في قاعة تنتظر مفاجأة. النادل الواقف خلف مقلى الزيت الكبير ، يحرق أقراص الفلافل بالزيت الساخن، والأقراص تصرخ بصوتها ولا يرحمها (كأنه يوم القيامة)، لا يجلب لك القهوة.
تقف مجبرا عن الكرسي الأخير الوحيد الفارغ في المقهى لتجلب قهوتك. بعد التفاوض على مزاجك بالقوة، تكتشف بأن القهوة موجودة ومزاجك تحتفظ به لمرة أخرى.
تعود مسرعا إلى طاولتك، فليس من الأناقة أن تشرب قهوتك واقفا. تجد الكاتب (الراوي) يجلس على طاولتك، وكرسي فارغ.
إن الكاتب أصيب الآن بظاهرة الديجاوفو في مسافة جلبي لفنجان القهوة من النادل. لم يصبر ليتأكد أنه «أنا عبارة تخيل».
لكن احتل المكان وجلس، احتل القصة كلها، بل في أدق التفاصيل. وأنا أركض خلف ما يكتب عني وعن رحيلي، وأعالج كل تفاصيل المشاهد. بل علمني كيف أكون عبدا مطيعا ببشرة بيضاء. «هذه اللحظة تذكرني بالتاريخ حين احتل الجرمان الحضارة الرومانية على الرغم من تخلفهم، كان عندهم حضارة ولهم عاداتهم وتقاليدهم.
عندما سيطر الجرمان واطلعوا على هذه الحضارة العريقة والقانون الروماني؛ وقعوا في مشكلة، وهي كيف يتخلون عن حضارتهم؟ وكيف يستفيدون من الحضارة الرومانية؟ وقد حاول بعضهم إصدار قوانين مشتركة جرمانية رومانية لكن هذه المحاولة باءت بالفشل؛ ولذلك كان عليهم إما أن يعيشوا حياة مستقلة عن الرومان، وإما أن يمتزجوا مع السكان، ولكنهم اتخذوا الخيار الثاني؛ حيث تعلموا اللغة الرومانية بدلا من الجرمانية، وأخذوا يقلدون الرومان في الملبس وفي كل شيء.»
هل الكاتب هو الجرماني وأنا الروماني أم العكس في هذه اللحظة؟ أو الأحداث سوف تحكم من منا منتصر؟ لكن الفاشل هو من يحكم علينا أننا أهبلان بقميص أصفر. واللون الأصفر عند العرب يعبر عن الجنون. والغريب أن حكماء اليابان في وقت قديم كانوا يرتدون هذا اللون!
رفع إصبعه في وجهي وقال: لماذا أنت هنا في المعهد الأزهري؟
قلت له: أنت الكاتب وأنا بطل روايتك، وأنت الذي جئت بي إلى هذا العالم رغم أنك تعلم أني مسيحي يوشك على الرحيل من غزة. - أنت هنا في احتفال غريب من نوعه فيه نوع من الخسارة لكم، وانتصار لغيركم؛ احتفال بإسلام الفتاة (جان دارك). وكل ما حولها يقرعون الضحكات، كأنه شيء عظيم نزل عليهم من السماء كمائدة موسى، كخاتم سليمان، سعداء جدا كمتعة سيدنا نوح حين أبحرت سفينته إلى الجودي. - أنت تعلم أن هذا يغضبني. هل تريد أن تقول لي بأن المسيحيين في غزة خسروا حربا من حروب الثبات، أو لتعلمني كيف أنتقم من هذا الموقف؟ - ليس هكذا يا نضال. أريد أن تبحث عن النتيجة، وخذ منها تجربة وحاول أن تقاوم مثل شجرة البرتقال للبقاء. وهذا الاحتفال الذي يقرع قلبك، ويهزك، لا يعزز رحيلك عن غزة. إن جان دارك ما تغيرت إلا بعد أن أحبت شابا من غير سربها، وحين أخبرت أسرتها بأنه يريد زواجها؛ كان من الصعب عليهم القبول. لم يستطع حبيبها التضحية لأجلها، لكن جان دارك أعجبتها فكرة البقاء والثبات في غزة. - عزيزي، أنت تلعب بالنار. كيف تفكر بهذا المنطق؟ ولا يحق لك أن تلغي جهة من جهات الجغرافيا لأجل أن يهدأ الريح عنا. كم هي غريبة فكرة الثبات! - يا نضال، هما يخدمان بقاءنا في غزة وفي فلسطين. - لك أن تعرف أن النساء حين يذهبن إلى دكان العطر يشترين زجاجتي عطر؛ واحدة للجسد ولا يهمهن نوعها أو سعرها، والثانية تكون للروح لكن برائحة السر ...
تحرك نضال إلى قاعة الاحتفال تاركا وراءه الكاتب يتلاشى فوق الكرسي كقطعة ثلج صغيرة في يوم حار جدا.
كل هذا لأجل الثبات
هش بيده الوشوشة وكسر هذه الجملة من عقله، وقال: مجنون أنت يا عزيزي.
دخل القاعة وجلس في آخر مقعد. القاعة طويلة جدا والإزعاج ضخم جدا ويمنعك من الاستمتاع بالمشاهدة.
شيخ أنيق يجلس. ظهرت جان دارك مبتسمة، تحمل وردا، وترتدي منديلا، وحذاء غريبا، وفستانا مطرزا.
الحضور صفق. يذكرني هذا حين كانت تعرض المسرحيات، وهناك واجب عليك حين تنتهي المسرحية وتنزل الستارة، لا بد أن تصفق، أعجبتك أم لم تعجبك، مات البطل أو انتصر، المهم بروتوكول وفقط.
دعا عريف الحفل جان دارك بعد أن أطلق عليها اسم الأخت فاطمة؛ لتلقي كلمتها على الحضور.
فكر نضال؛ بماذا ستبدأ كلامها، بتحية حبيبها، أو بالتحية التي تعودت عليها؟ إن من عادات السيدات المسيحيات السكوت أولا ثم الكلام، لكن السيدات المسلمات يتكلمن ثم يسكتن.
وقتها سكت الجميع وراقبوا جان دارك ماذا ستقول. بكل هدوء يذكرني مشهد القاعة وهدوءها حين تكون جالسا في بيتك ويدخل عصفور ملون تائه ويرتطم بالجدران ثم بزجاج النافذة. الكل يتجمد في مكانه وفي لحظة كلنا نتحول صيادي عصافير، وفي أقل من ثانية يقفز الجميع ليلتقط العصفور. الغباء وحده الذي ينقذ العصفور من شهوتنا لحبسه؛ حين نتزاحم في مساحة الغرفة فيصدم الأب مع الصغير، والجد مع العم. غباؤنا وحده الذي أفلت شهوتنا للتطاير مع ألوان العصفور.
أمسكت جان دارك الميكروفون وبدأت تنطق أول حروفها، أول صرخة كأنها سقطت لتوها من رحم أمها، أول دهشتها حين ابتسم أول رجل في وجهها، أول وأعظم سعادة بأول راتب بعد انتظار سنوات من الشقاء والفقر.
كادت أن تصل حروفها الأولى لأذني كأني آدم ينتظر كلمات الغفران حين أخطأ ونزل يركض في الأرض.
لكن شيئا ما يخلص قلبي من البكاء عليك يا جان دارك. الميكروفون لم يعمل، لا صوت لك، الحضور شوش المكان، لا صوت لك يا جان دارك.
حاول الشيخ أن يصلح الميكروفون وأوشك على إصلاحه، لكن الكهرباء انقطعت كليا. الكهرباء في غزة تبدو أنها جندي يحارب، لم تقبل بهذا. جلالة هذا الموقف تجعلني أنكمش من كثير السعادة في قلبي، كأني قطة في شارع مظلم جدا وحولي عشرات الأطفال يحاولون تعذيبي، وفي لحظة يأتي رجل ويهش الصغار ويحملني للبيت مع نوم دافئ وزوجة صالحة.
من ذلك الرجل الذي يلوح لي من بعيد؟ دققت النظر به؛ يا للدهشة! إنه الكاتب يلوح لي حاملا بيده مفتاح الكهرباء. لقد غادر المكان مبتسما.
مراقبة
نضال يفتح فمه للهواء؛ ليصطاد ظل الغيوم الذي يركض فوق التراب، يلوكه ويقلبه بلسانه، ويصرك بأسنانه قبل أن يبتلعه.
مد يديه جانبا للريح، حرك رأسه على صدره من أعلى وأسفل ومن يمين إلى يسار كطواحين الرياح، لف ساقه بساقه. كان خلفه شجرة برتقال ضخمة، ظهر جسده كأنه مصلوب.
الفكرة التي طرحتها، وأنا أجلس كالطائر الحزين بالقرب منه.
هل سألت نفسك من أي وقت مضى، وفكرت أن تتجول في أزياء غريبة؟ أن تضع اليقطين المنحوت فوق رأسك وتركض في الشارع؟ أنك تكون مراقبا والكل يضحك عليك؟
سوف تتفق معي أن ما أقول هو الهالووين، وهو حقا. أنت تحتفل به في شوارع غزة. أعلم أنه أغرب أيام السنة، أليس كذلك؟ ربما كنت أتساءل؛ كيف يمكن الاحتفال بهذا اليوم من أي وقت مضى؟ - كثيرة هي الأشياء التي أود أن أحتفل بها تحت ضوء الشمس بعيدا عن برودة جدران كنيسة المعمداني. لماذا تبتسم وأنا أتحدث وأجيب عن سؤالك؟ - أنا كلما قفزت في رأسي فكرة مجنونة أبتسم. - وما هي فكرتك الضاحكة؟ - أن نراقب حياة جان دارك الجديدة!
ارتعش نضال من الفكرة «المراقبة». أكانت سعيدة في حياتها، أم كانت حزينة؟ كلها شقاء علينا. - اتفق معي يا نضال أن تتغير من مراقب إلى مراقب، من ضحية إلى سيد. - أنا أخاف أن أراقب الناس وأدخل في أسرارهم. - في هذه الأرض - أقصد غزة - وفي هذا اليوم، لتقف على العكس تماما من الخوف. إن لم تمارس تجربة تخويف الناس، إذا لم يكن كذلك، كيف تصل إلى ما تسعى له اليوم؟ في حين أنه لا يزال يمكن العثور على ضوء، أو أمل بسيط. إن جاك دارك قد تكون مخطئة! العثور على شيء يبقيك في غزة، وتزول الفكرة من رأسك. لو أقدمت على مراقبة جان دارك؛ أنا أضمن لك الشفاء من سوسة الأسنان المنتشرة في طواحينك الخلفية، التي تؤلم رأسك. - أنت شرير أيها الكاتب، ولا بد أن تموت أو تتوقف عن الكتابة. أنت تعلم أنه ليس لدي أي متعة في حالة وفاة من الأشرار. - لا يا عزيزي نضال، أنا لست شريرا بمحاولاتي تثبيتك على الأرض؛ لأن قاموس المعرفة في غزة يحمل معان كثيرة، وكنت أذهل حين أجد أي واحد يصرف المعرفة كما يريد. أما أنا الآن أقول عنك وعن الأفكار التي تدور برأسك من عدم مراقبة جان، يعني أنك مرفوض من الليلة المقدسة. - هل حين نقوم بدخول بيت جان الجديد أكون بنظرك مقدسا في ليلة مقدسة؟ - الليلة المقدسة هي الحقيقة، هي أن جان دارك لم تتغير وما زالت كما كانت. - بما أنك السيد الآن أقصد الكاتب، أنت من صنعتني بهذه الشخصية؛ سأوافق على المراقبة ودخول بيتها، لكن إذا رآنا أحد أو لحق رجال الشرطة بنا؛ أنت من سيحل هذه المشكلة؟ - لا تخف ولا تنس أني الكاتب، وأضع الأحداث كما أشاء. أنت بطل روايتي، ومن المنطقي أن تكمل الأحداث كلها في الرواية. آخر مشهد سوف أختار لك نهاية تناسبك. - من المؤكد أنه الموت. - الموت نهاية تأتي في السنة أربع مرات بعد كل فصل؛ الموت يقتل الشتاء، يقتل الخريف، يقتل الصيف، يقتل الربيع، لكن الموت لا يقدر أن يقتل الفصول داخلنا. - نحن قتلنا كل الفصول داخلنا سوى فصل الخريف، لا يهرم أبدا.
الميلاد
ميشيل: الرجاء الحضور غدا؛ أنت أخطأت كثيرا في الروح المقدسة، لذلك لا بد أن تولد من جديد، أو أزيل عنك هذه الأخطاء.
لم أرد عليه ولم أرفض، خوفا من كلمة مقدسة، هذه الكلمة التي تلاحقنا منذ ولادتنا؛ رضاعة مقدسة، ملابس مقدسة، شوارع مقدسة، أيام مقدسة، نساء مقدسة، عصير مقدس، لحم مقدس. كأن المولود على هذه الأرض يولد نكرة أو فاسدا، وأصحاب اللحى الطويلة يريدون تقديسه.
في الليل نمت تسع ساعات كأني في رحم أمي، لا أذكر أي حلم في تلك الساعات، لم أسمع سوى شخير الدم في عروقي، كأنها تتفتح، وكرات دمي الحمراء نشيطة في نقل الأوكسجين. الذي أذكره في الساعة الأخيرة شعرت بوجع خفيف في عظام جمجمتي العلوية، حين فتحت عيني وجدت قدمي معلقة على السرير ورأسي على الأرض. مشهد من مشاهد الولادة التي رأيتها كثيرا، لكن الآن أنا المولود. ما هذا السائل الذي يبلل ملابسي؟ كأنه خليط من العرق والمني برائحة العنب.
ركضت دون توقف، لم أنظف ما تركت ورائي من بقايا النوم، والسائل ما زال عالقا في ثغرات جلدي .
كلما مررت على أناس وأنا أركض، يحملقون بي ولا يرمشون، كأن على رأسهم الطير. لم أنتبه لنفسي أني عار جدا، فقط على رأسي قبعة حمراء.
وصلت في الميعاد الذي حدده، صفق لي وانحنى ترحيبا بي، تخيلت أني عظيم. هززت برأسي له، أمسك بيدي وسحبني كخروف العيد.
المكان يشبه ثقوب وخلايا النمل، مرعب كل ما حولك. شعرت أني فريسة للنمل؛ مثلي أبيض طري، سيلتهمني النمل بسرعة دون رحمة.
كلما أسأله سؤالا كان يعطيني ورقة معتقة قديمة صفراء اللون، تشعر أنها من بقايا تاريخ مر علينا.
لماذا اخترت مكان الولادة خلية نمل؟ مد ورقة ناحيتي، مكتوب فيها؛ النمل هذا المخلوق الصغير جدا، هو أول مخلوق علم البشر المقاومة وعدم الخوف، إن قصة سيدنا سليمان مع النمل تؤكد ذلك. هل تعلم أن النمل مخلوق من زجاج؟ لكلمة «لا يحطمنكم سليمان وجنوده». وفي آخر الورقة، ما زال النمل من زجاج، فلا بد أن تكون مشاهدة النمل للناس تختلف عما نتوقع، وأنا أتوقع أن تكون هناك عدسات في عيون النمل تصغر الأشياء؛ وهذا سبب منطقي لعدم خوف النمل من البشر. لو كنت في ريب مما ذكر، حاول أن تقترب من خلية النمل؛ سيهجم عليك ويقرصك.
رائحة النعناع تفوح في المكان. أيضا مرر علي معلومة جديدة؛ إن البعوض لا يحضر لمكان مزروع به النعناع، والشيطان يأتي للبشر ليمتص أفكارهم ويلوثها ثم يدفعها داخل رءوسهم. الشيطان أيضا مثل البعوضة يخاف من رائحة النعناع.
قلت في سري: كل المنازل والبيوت والمستشفيات والشوارع مزروع بها النعناع، فكيف يأتي الشيطان في غزة؟
صفعني بقوة، كاد رأسي يرتطم بالأرض. عرفت وقتها أنه لو الغاية من زراعته طرد الشيطان لن يأتي. كلمة «غاية» كانت صعبة جدا أن أفهمها وأنا أولد من جديد.
وقفت أمام وعاء كبير مليء بالماء، كنت عطشانا، دنوت لأشرب، كان مالحا؛ إنه ماء بحر. وهنا أيها الكاتب ما تفسيرك أنك تريدني أن أغتسل بماء البحر؟!
رد: البحر خلص سيدنا داود من دود الأرض، البحر من أعاد لزوجته شعرها، البحر وحده من يعيد لك أولادك الغائبين. والله اختارنا في غزة بالقرب من البحر لأننا من سيربح، سنصبر كصبر داود وسينهش القهر عظامنا، وفي النهاية ستمتلئ جيوبنا بالأسماء، وتتحول أكتافنا سفنا كبيرة.
قلت له: رغم كل الماء العذب الذي تصبه السماء في البحر إلا أنه يبقى مالحا! فلا ترهق نفسك، البعض لا يتغيرون مهما حاولت.
بعد أن خرجت من ماء البحر، جاء بالكلس الأبيض وصار يكومه علي، كان سريعا جدا، بعد لحظات صرت ككومة بيضاء كبيرة. أنا أشبه لحد كبير البيضة الكبيرة.
الاعتقاد أن أصل الحياة البيضة وليس الديك. حتى حين اختار الله آدم ليكون على الأرض، «كانت فكرة» والفكرة شيء مدور مثل البيضة. وحده الشر الذي لا يأتي من البيضة على هذه الأرض.
كأني محاصر من الكلس، وكلما مر الوقت عليه يصبح يابسا؛ أنا أفقد الحركة، أفقد التنفس، أرجوك خلصني من هذا البياض. وقتها جاء بمطرقة كبيرة، وكسر القشرة؛ بدأ النور يدخل علي، أنا الآن أخرج من البيضة. إننا نعتقد أن الدين أبيض، أن السفر أبيض، أن الحب أبيض، لكن هناك وقت نعذب باللون الأبيض.
أنا لا أنطق الكلام جيدا، أين نصف لساني؟ لماذا أخذته؟ كيف أكمل رحلتي دونه؟ عرفت الآن لماذا أخذت نصف لساني؛ إن أغلب كلام البشر من السماء، والكلام المقدس في حياتنا، هذا الكلام الذي سوف يقتلنا لأننا نقول ونمضي طوال حياتنا ونحن نردده على كل الأجيال، لكن نردد على مسامعهم ليموتوا. قد يندم الإنسان على الكلام، ولكنه لا يندم أبدا على السكوت. لو كل رجال الدين يصمتون لعشنا دون حدود، لعشنا في قرية كبيرة اسمها الأرض.
أرجوك أبعد هذه النار عني؛ أنا لا أحب فكرة الحرارة، أنا تعودت أن أستحم بماء بارد أو عادي في وقت الشتاء. المهم أنا أكره الشمس الحارقة.
الحرارة يا ميشيل هي أثيرك الداخلي؛ إذا أردت أن تعرف أنك جيد على هذه الأرض، فلا بد أن تمر من تحت النار أو تكون النار تحت. لم تسمع كلمات القصيدة «تقدموا» (للشاعر سميح القاسم ): «تقدموا ، السماء من فوقكم جهنم، والأرض من تحتكم جهنم. أنت لا تعلم، لا تفوح رائحة الكعك الزكية إلا حين تمسها حرارة الفرن. كذلك أحلامنا لن تنضج ما لم تمسها قسوة التجارب.»
وقتها مررت من تحت النار، بعجلة دون أن ألتف للخلف. أنا أكرهها. فاحت مني رائحة المر، الأقحوان، وشقائق النعمان، والمرمرية الجبلية، أنا أشبه رائحة الخشب العتيق.
هذه الرائحة تذكرني برائحة أبواب القدس القديمة؛ وقتها تذكرت زيارتي للقدس في المرة الوحيدة، ورغم أني مسيحي صليت تحت الصخرة المعلقة، لأن الرحلة كانت مع أصدقائي المسلمين في المدرسة. الجميع صلوا تحتها، وأنا قلدتهم.
أصدقائي اشتروا من شوارع القدس التماثيل الخشبية على أشكال الجمال، أنا وحدي الذي سرقت قطعة خشبية خضراء من أحد أبواب القدس، رائحتها لم تغادر أنفي طوال حياتي. وحين عدت إلى البيت، أعطيت قطعة الخشب لأبي؛ أخذها وأخفاها بين دفاتره المقدسة. «يبدو أن مشهد الولادة لم يكن جديدا علي أيها الكاتب.»
جاء وقت الاستجمام، أنتظره بفارغ الصبر، بعد كل هذا. اقترح بعد إذنك فندق المتحف على شاطئ بحر غزة؛ به آثار كل شوارع غزة. صاحب الفندق كان يجمع كل قطعة بنية أثرية من وراء الحفر في شوارعنا. المتحف مكتظ باللون البني وأشكال الطين، جميل لو ارتحت هناك.
وأنا أردد تخيلي لوقت الاستجمام جاء الكاتب يرتدي ثوبا أسود، كأنه حانوتي. هز برأسه لألحق به، أخذني لمقبرة الجنود الإنجليز المسيحيين، وهذه المقبرة موجودة في وسط قطاع غزة. كدت أعترض على هذا المكان، لكن خفت من الصفعة الثانية.
أخذت جولة بين القبور، والشيء الغريب الذي أراه على شواهد القبور أنه مكتوب عليها مات عن عمر يناهز «ناقص 60»، «ناقص 100»، «ناقص 10»، «ناقص 13». ما هذا العمر الجديد؟ وقعت أمامي ورقة مكتوب بها أن أعمار الناس في هذه المقبرة تحسب باحتياجك للأفكار. الجميع هناك ماتوا وتنقصهم الأفكار ليصلوا لمرتبة الأنبياء، وحدهم الأنبياء من يوضع على قبرهم «لا شيء». عزيزي ميشيل، أن تكبر بالعمر هو شيء إجباري، أما أن تكبر بالعقل فهو شيء اختياري.
البعض رغم صغر سنه يفاجئك بنضجه وأسلوبه، والبعض الآخر رغم كبر سنه، يناقشك فيصدمك بصغر عقله.
الشيء المغري؛ في هذا المكان وجدت رجلا يحفر قبرا جديدا، رغم أن هذه المقبرة مغلقة تماما، ومكتوب عليها للسياحة، ليس للدفن.
سألت الرجل: لمن هذا القبر؟ - جاء غريب وطلب مني حفر قبر بالقرب من الشارع. قال لي: إنه سوف يموت شخص يشبه الأنبياء؛ طري، ببشرة بيضاء. سيكتب على قبره «المسيحي الأخير، ناقص صفر». - من هذا الغريب؟ وما هي أوصافه؟ (حين سرد لي أوصاف الغريب، كانت تشبه لحد كبير الكاتب. قلت في نفسي: سأموت في آخر الرواية، لكن لا خوف أنا مجرد بطل على ورق.)
صرخت بصوت عال؛ لعل الكاتب يسمعني. سوف أقول لك معلومة، لا يدري المرء إن نام من الذي سيوقظه؛ أهله أم الملكان لسؤاله. فاللهم أحسن خاتمتي في هذه الرواية واصرف عني ميتة بطل الورق.
تفاصيل لا بد منها
وضعت في جيوب ملابسك أربعة فصول؛ في جيبيك الأماميين وضعت لك الربيع والصيف، وفي جيبيك الخلفيين وضعت أيضا الخريف والشتاء.
في غزة ما تراه من أفعال للناس هو تأثير الفصل عليهم. كثر من بداخلهم ربيعا وحين تراهم تشعر أنك تواجه صيفا حارا جدا. والذين يركضون في شوارع غزة تشعرهم مبللين بالمطر، لكن داخلهم خريفا يوزع اصفرارا في المدى، خريف يجعل زرقة البحر رمادية.
الفصول في جيوبك عبارة عن غبار، فقط عليك أن تنثره على من تشك في تصرفاته، انتظر برهة من الوقت سيظهر لك بحقيقته السليمة.
لا تحكم على الناس من ثقافتك، ولا تحكم على الناس من أفعالهم، احكم عليهم من دواخلهم. وهذا صعب، لكن في جيوبك الأمامية والخلفية مفتاح أسرار الناس في غزة.
سأخبرك اليقين؛ نحن في غزة كلنا نتبع الموضة، لا أقصد الموضة بالأزياء أو الألوان ولا الروائح، أقصد التقليد الأعمى.
في لحظة تجدنا مقاومين نحمل السلاح، صغيرنا قبل كبيرنا، النساء أيضا يفجرن أنفسهن ويقدمن أرواحهن مهرا للمقاومة. يصبح عندنا الموت كفاكهة الصيف تنتشر على أرصفة الشوارع، فكيف أصبح الجميع حملة سلاح؟ كيف أصبح أطفالنا مقاتلين وتركوا المراجيح ولعبة كرة القدم في الشوارع؟ كيف تركوا لعبة التزلج على رمال السوافي؟ كل يوم شهداء ومصابون للوطن، وأغلب من يدعي المقاومة لا يعرف كم هي عدد محافظات الوطن!
كل هؤلاء يظهرون كفصل الخريف، لكن لو نثرت عليهم غبار الربيع سيتحولون لقطط لطيفة بفراء أصفر ناعم جدا، تحملها أنى تشاء. وصغارنا (أقصد أطفال البندقية) ستجد جيوبهم محشوة بالبنانير (الجل الزجاجي)، يلعبون ساعات ويأكلون ساعات، وينامون بعد ضحكات طويلة.
خذ افتح هذا الصندوق، ستجد عدسات مخلقة من شفرات وراثية لزرقاء اليمامة، بعد أن تستخدمها سيتنبأ أهلها بالحروب القادمة، وأخطر مهمة أن تخبرنا عن الحروب الداخلية. نحن نتنبأ بالعظماء بجلب الحرب الخارجية لأنفسنا، لكن كلنا نكون بغفلة عما يحدث في جبهتنا الداخلية.
هذه شفرات زرقاء اليمامة، أرجوك حاول أن تخبرنا عما تخبئه لنا الحدود. إذا تحرك الشجر، أو كثرت أعداد العصافير على الحدود، أرجوك بلغنا، نحن بحاجة ماسة أن نموت ونحن نعلم وقت موتنا؛ نشعر أننا نجيد الاستغفار قبل الموت. حين ترى العدو يركض في شوارعنا قل بصوت عال:
خذوا خذوا حذركم يا قوم ينفعكم
فليس ما قد أرى م الأمر يحتقر
إني أرى شجرا من خلفها بشر
لأمر اجتمع الأقوام والشجر
تحسس الآن أذنك، هي الوحيدة التي لا تستطيع أن تعطلها بإرادتك؛ فأنت تستطيع أن تغمض عينيك أو تشيح بوجهك بعيدا إذا لم ترد رؤية شخص معين، وتستطيع ألا تأكل، فلا تتذوق، وأن تغلق أنفك عن رائحة معينة، أو لا تلمس شيئا معينا لا ترغب بلمسه، ولكن الأذن لا تستطيع تعطيلها حتى لو وضعت يديك عليها، حتما سيصلك الصوت؛ لذلك الآن سمعك مضاعف كالحسنات؛ حين يرتل أحدهم عليك آيات الدين ستسمع الكلمات وتسمع قلبه قبل أن يقولها، هكذا أنت بهذا السمع ستكون مميزا جدا. إن الشخص الذي يريد الحياة تسمعه ببساطة؛ لأن الحياة لها وجه واحد هو السعادة والحب، لكن الموت له مئات الطرق. والآن سوف تميز من هم رواد الحياة ورواد الموت.
عندما تنام يا ميشيل فإن الحاسة الوحيدة التي يمكن أن توقظك هي حاسة السمع؛ ولذلك أنا أتجول بجوارك وأنت نائم كما أشاء دون أن تنتبه، إلا إذا صدر مني صوت فإنه يكون كفيلا أن يغير حياتك. أنا حين أحضر لك حدثا جديدا في الرواية أقوله بصوت عال ثم أكتبه.
قبل أن تقرر الرحيل عن غزة كنت فقط تسمع صوت الشيطان في داخلك، كنت تقوم مفزوعا، تشرب كل مياه البيت ويظل حلقك كصحراء العرب جافا جدا. وحده الشيطان من تستطيع أن تسمعه في الليل. هل ضربك الشيطان يوما؟ هل أكل الشيطان معك يوما؟ هل نام الشيطان معك ليلة؟ نحن هنا نؤمن بهذا، لكن أنت الوحيد في هذه اللحظة سوف تسمع الشيطان داخلك، وستتحرر منه وأنت تنطلق في السماء بطائرة شراعية. اعلم يا عزيزي أن الشيطان لا يطير.
كما اعلم ما هو الشيطان هو «شحاذ في الليل» أو «الشيطان ليلة» (اسم مناسب). وليس هناك أي عجب لماذا نعلم أطفالنا عنه كلمة. بعد كل شيء، نحن في غزة نعرف أن الشياطين أو الأموات حقا لا تمشي على الأرض بهذه الطريقة. يقول لنا في الواقع إن الشياطين تفضل جسم الإنسان، وعلى الرغم من أنها قد تقبل على جثة حيوان.
لذلك إذا فعلوا المشي على الأرض بين هؤلاء الناس، فعلوا ذلك على الأرجح في جسد واحد من تلك الحلقة، الكهنة الذين بنوا النيران على «الشياطين»، استخدمها لترويعنا!
اعلم يا ميشيل أن الموت في غزة ناضج جدا، يرضع الطرق.
في أول الحياة وفي آخرها نحمل على الأكتاف!
اتجه إلى الخير، على الأقل لكي تنقص عدد الأشرار في الدنيا واحدا!
رائحتك كرائحة الخبز، ستقبل عليك كل الجوعى، وعابري السبيل، والمؤلفة قلوبهم. إذا ركضت سيركضون. سيصبح صدرك كشباك التموين وعيونك زرقاء. وكالة الغوث للاجئين، الإله الأزرق في غزة الذي يصلي له الجميع. أقصى ما يتمناه الرجل أن تصل له رسالة من الوكالة «لقد ثم تصنيفك في حالة الفقر المدقع»؛ يكون سعيدا ويوزع الحلوى على المارة. بعض المارة يصاب بغيرة، فيركض إلى الإله الأزرق بثياب ممزقة وتقارير مرضية، يصلي له كل يوم حتى يمنحه رغيفا أو زيتا أو كيسا من الحليب الرديء. رائحة الخبر تكفي وحدها أن تجعلك الإله المنتظر. إن فكرة المخلص دائما تنقر في رءوسنا. في آخر الزمان سيأتي لنا جميعا، ستكون أنت المخلص، رائحتك تكفي.
التمثيل هو الكذب الوحيد الذي يصفق الناس لأبطاله! الدين داخلنا موجود لكن له وقت أن يكبر ويطرح ثمارا. خلف كواليس الصبر أمنيات تنتظر الإجابة. فتكلم وأنت غاضب، فستقول أعظم حديث تندم عليه طوال حياتك. إننا نقضي أربعة أخماس أعمارنا في العمل، لنجعل خمسه الباقي لحياة مريحة ممتعة.
اجهز الآن
خوفا من نهاية الموت في آخر مشهد للرواية، وافقت أنا ميشيل على فكرة الكاتب (على دخول بيت جان دارك، ومراقبتها).
كان هدفي من الموافقة أن أفشل الكاتب بما يفكر. إن كل واحد حين يختار فكرته لا بد أن يختارها وهو بكامل وعيه، ولا بد أن يدافع عنها.
أوقفني أمام المرآة ساعات وهو يبدل ويغير في ملابسي، كان عليه أن يختار ملابس لأبدو مثل رجل مخابرات، أو سارق، أو متطفل.
رجل مخابرات يعني اللون البني يكون السيد والمتحكم في الألوان؛ حذاء ضخم، معطف طويل، نظارة سوداء، طاقية من صنع روسي. وحين يخرج إلى الشارع ترافقه موسيقى رأفت الهجان.
لكن بسرعة فائقة ألغى الكاتب فكرة رجل المخابرات؛ لأن الشك والخيانة بالنهاية هي جيناته؟ أيضا فكرة الانتظار بشكل طويل والجلوس بالقرب من أعمدة الإنارة لا يحبها الكاتب.
وكلما حاولت أن أقنعه بفكرة أن أتنكر بزي رجل مخابرات، يغضب ويقول لي: يبدو أنك سوف تنتهي في هذا المشهد.
سارق، وماذا أرتدي في هذه المهنة الجديدة، بنطال مخطط كالحمار الوحشي؟ أجيد التسلق على الجدران، أنام في النهار وأنشط في الليل، وبعد كل عملية سرقة لا بد أن أختفي لأيام معدودات.
كان مترددا في اختيار مهنة السارق؛ حيث إن الكاتب عمل لمدة طويلة بائعا في دكان فواكه، كان كل يوم يسرق الدكان، والسارق كل يوم له شكل جديد. أغلب السارقين كانوا من النساء، والفقراء . كان يقول لي: أنت رجل ولست فقيرا، فكيف تسرق؟
إذن متطفل على الآخرين، لكن من هو المتطفل؟ وكيف شكله؟ وكيف لغته؟ كيف ينام، ويركض، ويتخيل، ويمشي، ويحب، ويدون؟ كلها أسئلة لم يجب عنها.
يصر أن الاحتلال متطفل، والحصار أيضا يقول عنه متطفل علينا. لسانه طويل، يحشر أنفه فيما لا يعنيه، كأنه وصي عليك، يخرجك من الجب ليغرقك في الوادي.
ويعتبر حياتك حقا مباحا له، ما إن تبدأ مبادرا له بابتسامتك العريضة حتى يسكب فيض أسئلته عليك كسيل العرم، وتبقى أنت غارقا وسط تطفله.
وكلما وسعت مساحة الحوار بينهم بحسن نيتك؛ جلدك بأسئلته المستفزة والمزعجة. يدفع نصف عمره كي يعرف أسرار الغير، وما إن يتوفر له ذلك يحلل ويفسر الأمور على هواه كما يشاء، مع إضافة بعض التوابل إذا اقتضت الضرورة ذلك، وإذاعة الخبر أينما يمكث!
وقتها لم أفهم لماذا حصار غزة يصفه بالتطفل، رغم أننا قرأنا عن المتطفل أنه يأكل طعام غيره. هل الحصار يأكلنا؟
عزيزي الكاتب، لم يعجبك ولا مهنة؛ مخابرات لم تعجبك، ولا حتى سارق ولا متطفل، فماذا تريدني أن أكون بهذا المشهد، قبل زيارة بيت جان دارك؟!
ظل ميشيل واقفا على السطر طويلا، فجاء بعد عشرين دقيقة وقال له الكاتب: أريدك أن تكون زائرا. - زائر! كيف أكون زائرا؟! أنا مللت من أفكارك الغريبة. - تذهب لهم كزائر، تطرق الباب، تحمل باقة ورد، قليل من الفواكه إذا أمكن.
ذهبت كزائر، وطرقت الباب، فتحت جان الباب. قالت: تفضل. استغربت من عدم دهشتها وعدم اهتمامها من أكون.
دخلت وجلست على كرسي أحمر نظيف جدا، رائحة المر تفوح منه.
أتخيل من بعيد أن هناك رجلا يجلس على كرسي على شكل هلال، تأكدت أنه زوجها الذي تغيرت لأجله.
بعد ست وثلاثين ثانية جاءت بشراب أحمر اللون، الكأس كان مكتوبا عليه كلمة «درويدس».
زوجها العزيز
نحن يا نضال استفدنا من دخولك بيت جان، لولا ذلك لكنا على ضفة نهر يسير أمامنا، ونريد أن نعبر إلى الضفة الأخرى. يصبح الشك إجابة لنا؛ هل الماء عميق ؟ هل يوجد تمساح في النهر؟ هل تبللت ملابسنا؟ لكن الأجوبة عن كل هذه الأسئلة هي الدخول في النهر، ونحن دخلنا النهر معا.
أنا سأشارك بقصة بسيطة ربما تحصل مع الكثير دون الانتباه إلى العواقب في حياة الزواج؛ وأنت تشرب العصير بالكأس درويدس دخلت من خلف ظهرك، وأخذت مذكرات زوجها، لم يكن مرتاحا إطلاقا؛ فقد كانت تفوح رائحة الحزن والغضب من كل جزء في كيانه؛ مما تفعله به زوجته. وتكرر كثيرا قوله: لم أقصر معها إطلاقا؛ فكثيرة هي الهدايا التي قدمتها لها، وكثيرة هي مرات الخروج معها لغداء أو عشاء، وكريم أنا مع أهلها، ولكنها نجحت في دفعي لكراهية الزواج وكراهية معشر النساء عموما من كثرة إذلالها لي. فأنا لم أعد أطيق الحياة معها؛ فهي في معظم الأوقات غير راضية، عنيدة، تهجرني ولا تكلمني بالأيام الطوال، فهل يتوجب علي الاحتفاظ بها مع كل هذه المرارة التي أتجرعها من جراء العيش معها؟
كتب أيضا في مذكراته أنه في يوم ما سيفتعل معها مشكلة، لكن بطعم المزاج ...
في يوم خططت أن أفعل معها هذا، لكن سبقتني وسألتني: ما نوع العصير الذي ترغب به، عصير البرتقال أم عصير الفراولة؟ رددت: لا أريد أن أشرب شيئا؛ فما تجرعته من مرارة العيش يكفيني. همهمت: أنا جادة في سؤالي: أي النوعين تفضل؟ قلت: إن كنت مصرة فعصير البرتقال. قالت: هل تفضل أن تشربه بكأس من الزجاج أم من البلاستيك أم بإناء من المعدن؟ بحركة خفيفة برأسي رددت: بل في كأس من الزجاج. قالت: هل تريدها كأسا نظيفة أم لا بأس لو كانت آثار بصمات الأصابع عليها؟ قلت: بل نظيفة، ولا آثار للأصابع عليها. قالت: هل تفضل الكأس على صينية من البلاستيك أم من المعدن؟ رددت: بل على صينية من المعدن. قالت: هل تمانع لو كان بها بعض الصدأ؟ مع شدة بالرد: لا، بل أريدها صينية معدنية سليمة من الصدأ. قالت: هل تفضلها فضية أم ذهبية أم خليطا من الاثنين؟ قلت: بل فضية اللون. زادت سلسلة الاختيارات وقالت : هل تفضل أن تشرب كأس العصير في غرفة مكيفة أم في غرفة حارة؟ قلت: بل في غرفة مكيفة طبعا. قالت: هل يسرك أن تكون للغرفة نافذة ذات إطلالة جميلة، أم غرفة بلا نوافذ؟ رددت: بل غرفة بنوافذ مطلة على منظر جميل. سألت: هل تفضل أن تتناول عصيرك وأنت جالس على كرسي مريح أم واقف؟ قلت: بل على كرسي مريح. قالت: هذا ما تريده أنت كي تشرب كأسا من العصير! قلت: نعم. قالت: لو أني قدمت لك الفراولة بدلا من البرتقال، باعتبار أن البرتقال متاح في كل وقت، أما الفراولة الطازجة فلها مواسم وهذا موسمها، وفي كأس من الزجاج عليها آثار بصمات الأصابع، باعتبار أن البصمات من الخارج ولا دخل لها بطعم العصير، وعلى صينية من البلاستيك، باعتبار أن الصينية هي الأخرى لا علاقة لها بالعصير، وفي غرفة حارة لأن التكييف مؤذ للصحة، ولم أضع لك كرسيا في تلك الغرفة حتى لا يضيع وقتك، باعتبار أن الوقت من ذهب إن لم تقطعه قطعك، وفي غرفة بلا نوافذ لأن كثرة النوافذ تشتت انتباهك؛ لو أني قدمت لك كل هذا بطريقتي وبما يرضيني أنا وليس بالطريقة التي ترضيك أنت، هل كنت ستصبح سعيدا بذلك؟ قلت: طبعا لا. قالت: أخشى أن أقدم الكثير لك بالطريقة التي ترضيك، وليس بالطريقة التي أرضاها، وأخشى أيضا أن أعيش لأرضيك فقط. إن المصيبة ستكون كبيرة، عندها سنسير أنا وأنت باتجاهين متعاكسين، وهيهات أن نلتقي. وقتها أسندت ظهري إلى الكرسي، وحملت رأسي بين يدي كأن ما سمعته قد أثقلني، قلت: ربما فعلا هذا ما يحدث بيني وبينك.
تجارب
في النصف المتبقي من الرواية، سوف أتركك لوحدك تمارس ما تشاء من الأحداث، وأنت تضع ما تشاء من البدايات والنهايات. أعلم أنك تشك في كلامي. بكل صدق سأكون لك يا ميشيل كقبعة الرأس؛ وقت المناسبات الدينية تلبسها، وقت الحر تستخدمها، أيضا وقت البرد لها فوائد.
نحن في غزة لا نصبر على أي شيء، دائما نتحرك، نتغير قبل نضوج الأفكار، نجلب لنا شهوة العالم. للتأكيد على كلامي، كان عندنا حزب سياسي تحت اسم «زهقنا»، كان شعاره «من يسبح معنا ضد التيار». حين تسمع كلام التنظير داخل قاعاته يقول لك: أنت اللحظات المسروقة من كل حلم، التي عبرت كافة الأشياء، وتهذي إلينا كل الأشياء، ولم يفكر أحد يوما بالإهداء إليها، تلك الدافئة كالعطاء الوحيد! إلى الآخرين بصدق، من يتسع عقلهم وقلبهم إلى أن يتقبلوا بكل مميزاتك وعيوبك دون توقعات ودون إضافات. أنا نفسي، ألا تهدر حياتك في تفاهمات، وكذب هذا العالم. عد إلى حنانك الدائم، الذي لا يقتلك. كم أنا مدين لك! بل أتألم كلما أعجزني السداد لك؛ لأنك جئت في رأسي كفكرة ورقية، لكن بك أوصلت أفكاري.
التجربة التي تخوضها هي الحب؛ الحب يا ميشيل يأتي بدون برق ولا رعد مثل المطر، يأتي من الداخل إلى الخارج، بدون سبب. قد تكون واقفا في مكان عملك تنتظر زبونا، من دون إشارات مرور تدخل قلبك الزبونة، تتفاجأ أنها أيضا جذبت لك بشكل أكثر مما تتوقعه. تكون الزبونة أصغر منك بعشرين عاما، تحاول أن تهشها من حياتك، لكن لا جدوى؛ إن كيماء الحب هي من تقوم بتفاعلات داخلك كأن جسدك مفاعل نووي. قبل الحب يتخيل الإنسان أنه مدينة فاضلة، نفس ناضجة. تعرف عليها كأفضل صديقة. تكون نفسه حازمة وروحانية في كافة الأوقات. يكون عقلك أول من علمك ألا تفعل شيئا، أو تؤمن بشيء، إلا إذا تناغم مع قناعاتك وقلبك. الذي ساعدك دائما في لحظات الحب تقلب الطاولة وتهشم الكئوس. ويزداد السواد تحت جفونك.
في السيارة
نضال أنت وحدك في الشارع، كأنك في أول أيام الربيع، تنتظرك تجربتان؛ الحب والمقاومة، كلاهما يعتمد على ما تقدم لهما.
اقتربت سيارة من نضال، كان الشارع فارغا جدا، مهيأ للحظات التجربة الذاتية التي لا يمكن لأحد أن يراك.
وقفت السيارة بالقرب منه، فتح الباب الخلفي، دخل، وقبل أن يجلس كانت سيدة تكلمه بصوت عال: أنت ميشيل بطل رواية الملاحق! يا الله كم هي صدفة جميلة أن أراك! - رد دون أن يهتم لمن المتحدث: هل انتهت الرواية؟ وماذا حدث في نهايتها؟ - نعم، انتهت ووزعت في الأسواق. الجميع قرأها؛ منهم من أحبها، منهم من كرهها، ومنهم من صرت لهم رمزا. - هل نحن الآن في الحقيقة، أو ما زلنا في أحداث الرواية؟ - المهم أنا أول من رأيتك.
دقق في صوتها وشكلها، سمع عددا من الجمل منها، صمت قليلا، ردد في نفسه: أنا أعرفها، وأخاف أن أسألها عن نهايتي كيف كانت.
لقد تعلمت أن أصبر على النهايات حتى لا تجيء بسرعة.
اتجه بوجهه ناحيتها: أنا أعرفك، صوت قريب لي، كأننا تقابلنا قبل ذلك. - أنا جان دارك. هل تذكرتني؟ - نعم أتذكرك، أنت كنت شخصية في الرواية. هل أنت حقيقة، دم ولحم، أم ورق وحبر أسود؟ - أنا حقيقة مثلك، ونحن موجودون في غزة.
بدأ الصداع ينقر في رأسه، حاول تفادي الوجع، أن يعود للحديث مع جان. صرخ بصوت عال: رأسي.
أخرجت جاك من حقيبتها حبوبا مهدئة، وزجاجة مياه صغيرة بشعار مياه «درويدس». ابتلع الدواء وبدأ يزول الصداع، وعاد للأسئلة.
كان مذياع السيارة يبث أغنية قديمة عرفها كل من «ميشيل وجان».
وقت لما تكون صعابي حاجبة عن عيني السما،
وألقى نفسي في اضطرابي بين حقايق مؤلمة؛
أنت وحدك تستطيع يا يسوع تيجي وتفيض بالسلام،
أنت يا حصني المنيع، يا يسوع أقوى من الخوف والظلام.
وقت لما تكون جبالي واقفة ضدي بمستحيل،
والشكوك تنهش في بالي مين يشيل حملي الثقيل،
أنت وحدك تستطيع يا يسوع تيجي تنقل الجبال،
أنت يا حصني المنيع، يا يسوع كلمتك فوق المحال.
وقت لما السهل يصعب والحاجات تطرح فشل،
لما وعد الناس بتهرب والعمل خاب والأمل،
أنت وحدك تستطيع يا يسوع ترد جواي اللي ضاع،
واللي يصعب على الجميع يا يسوع يبقى عندك مستطاع.
ميشيل: يا جان إننا في هذه الرواية مثل قصة سردها أبي لي، وقت أن أخد قطعة الخشب التي سرقتها من أحد أبواب القدس؛ حين ذهبت لرحلة للقدس، حكي أن الجنون نزل في نهر يسري في مدينة قديمة، كلما شرب أحد من النهر يصاب بالجنون. وكان المجانين يجتمعون ويتحدثون بلغة لا يفهمها العقلاء. واجه الملك المشكلة وحارب الجنون.
حتى إذا ما أتى صباح يوما استيقظ الملك وإذا الملكة قد جنت، وصارت الملكة تجتمع مع ثلة من المجانين تشتكي من جنون الملك!
نادى الملك الوزير: يا وزير، الملكة جنت. أين كان الحرس؟ الوزير: قد جن الحرس يا مولاي. الملك: إذن اطلب الطبيب فورا. الوزير: قد جن الطبيب يا مولاي. الملك: ما هذا المصاب؟! من بقي في هذه المدينة لم يجن؟!
رد الوزير: للأسف يا مولاي لم يبق في هذه المدينة لم يجن سوى أنت وأنا. الملك: يا الله! أأحكم مدينة من المجانين؟! الوزير: عذرا يا مولاي، فإن المجانين يدعون أنهم هم العقلاء، ولا يوجد في هذه المدينة مجنون سوى أنت وأنا! الملك: ما هذا الهراء؟! هم من شرب من النهر، وبالتالي هم من أصابهم الجنون!
الوزير: الحقيقة يا مولاي أنهم يقولون إنهم شربوا من النهر لكي يتجنبوا الجنون، لذا فإننا مجنونان لأننا لم نشرب. ما نحن يا مولاي إلا حبتا رمل الآن؛ هم الأغلبية، هم من يملكون الحق والعدل والفضيلة، هم الآن من يضعون الحد الفاصل بين العقل والجنون.
هنا قال الملك: يا وزير، أغدق علي بكأس من نهر الجنون؛ إن الجنون أن تظل عاقلا في دنيا المجانين.
تنهدت جان وقالت: بالتأكيد الخيار صعب؛ عندما تنفرد بقناعة تختلف عن كل قناعات الآخرين، عندما يكون سقف طموحك مرتفعا جدا عن الواقع المحيط. هل ستستسلم للآخرين، وتخضع للواقع، وتشرب الكأس؟
اسمعي، جيوبي مليئة بقصاصات ورق، سأخرج لك منها وأقرأ؛ حين يقول لك أحدهم: معقولة فلان وفلان وفلان كلهم على خطأ وأنت وحدك الصح؟! إذا وجه إليك هذا الكلام فاعلم أنه عرض عليك لتشرب من الكأس.
اسمع يا ميشيل، حين كنت بطلة في الرواية وصلت لكثير من الأشياء التي ساعدتني للثبات، كان أهم ما أدركت أنني لست تلك الفتاة الطيبة التي تمعن في تأمل نفسها وتقوم عالمها الخاص الافتراضي الذهني بعيدا عن الأرض، وتصنع منه عالما يشبهها، وتنتمي إليه وينتمي لها، وأنني هنا لغاية ما، غاية أكبر مني وأجمل مني، غاية تهذبني بعناية مع السنوات، وأهذب نفسي كي تليق بها، وأن أعواما على هذه الأرض ستحمل لي هويتي؛ الهوية هي ذروة طريق الحياة. إنني سأقطع الطريق إلى آخره، باتجاه نفسي، وحين ألتقى بها؛ سأجد هويتي.
قاطعها ميشيل في الحديث: كان يقول عنك الكاتب: كانت فتاة صيفية العاطفة، شتوية الحنين، وامرأة لكل الفصول. تحب القطط كذاتها الأخرى، ولا تشفى من الياسمين. وحين أحبت زوجها بكل نبله، كانت ربيعا، وكان نبيلا معها.
لكن الذي لا يعلمه أن هناك أشياء ما بين السطور؛ صرنا نتنازع نزاع الصبية سويا كمن يرفض أحدنا الآخر كالمعتاد، وفي الخفاء لا يتوقف عن نبله وحنانه الدائم. وكان دافئا نحوي عند الرحيل، لقد كان كريما دوما معي، ولا أدري متى يمكنني السداد؟ أقف على خطوات من وداعهم، وأتحسس دفء ذكراه في عناق حميم معهم.
كنت أعلم في هذه الرواية أنه لا بد أن نترك بعضنا البعض، ووضعت الأحداث؛ ألزم زوجي الكرسي ولم يتحرك، الشارع كله صار يعاتبه ويشير له هذا الغريب.
خاف وقتها أبوه وأمه أن أنسيه ما ولد عليه؛ فكانا يحضران له هدايا بطعم الغفران. كان يقول لهما حين يراهما: أنا ما زلت ثابتا.
لم أنسه أبدا. لن أسافر مسافة بعيدة عن روحي التي ما زلت أظن أنها تنضج سريعا قبل أن ينضج صوتي المرهف، وقبل أن تنضج ملامح وجهي الطفولية، وقبل أن ينضج جسدي في عناق حميم صادق يضمنا معا من جديد.
وقبل أن تتوقف الأعوام لتلتقط أنفاسها المتسارعة قليلا، وهي تقطع الطريق داخل عاطفتنا! الأعوام التي علمتنا كيف نفقد مذاق الاكتفاء ببطء، وأن نكتفي بنصف الأشياء، ونتأخر على كل شيء. نصف الأحلام، نصف الهوية، نصف الطريق، نصف البدايات، نصف النهايات، نصف الأصوات، نصف الدفء، نصف الأشخاص، نصف العاطفة، نصف البهجة، نصف الحميمية ونصف الذكريات. خرجت من الرواية بعد كل هذا الحنين الذي وصلت به مع زوجي، رجوت الكاتب أن أبقى معه طويلا؛ كان يغلق الصفحات في وجهي. وصارت قصة كبيرة لزوجي؛ كنا نزرع شجرة جوافة بالقرب من سور البيت، ووقت النضوج جاء صغار الحارة وألقوا حجارة على الثمار. حاول زوجي أن يمنعهم من ذلك، لكن العادة صارت عبادة عند الحارة، وصار الجميع يرشق بيتنا بالحجارة؛ ليس لثمار الجوافة ولكن لثمار الغفران!
ميشيل وجه يديه إلى السماء؛ هل الحب هو الرسالة التي لا بد أن أتعلمها؟ إني تأخرت كثيرا عن ذكرياتي، وعن معنى «انتماء».
أشعر نفسي الآن أعبر الطريق نحو ذكرياتي عبورا خافتا ناعما، دون لهفة؛ حتى لا أفسد بخطواتي الهادئة شيئا من رهافة الأعوام نحوي، والحكايات المخبأة بعناية في أصوات العابرين.
أسرار
جان، سأقول لك سرا: هل تعلمين أن أول سيدة جاءت لي بالحلم كانت تشبهك؟ الآن بعد كل هذه الأعوام التي مرت علي وقابلت نساء كثرا، لا إحداهن تذكرني بذاك الحلم، لكن حين رأيتك تذكرت الحلم. أنت من جاءت، وتحولت وقتها من فتى صغير إلى رجل بعد أن ابتلت ملابسي. صرت أقف مهندما أمام بوابة مدرسة البنات، أهتم بالموسيقى وأحفظ كل ما قاله الشعراء.
وكبرت عاما آخر ولا زالت الفتاة الوحيدة للغاية غائبة، الوحيدة حد الهشاشة، تارة حد الفتنة والسحر في التفرد، وتارة حد الخوف في الانفراد.
الفتاة النرجسية التي ترددت في كل عام في تخيلي وفي طعامي، لا أمارس أي فعل إلا لها رغم أنها غير موجودة. «كل الأعوام وأنا وحدي عالق في قلبها، شعرت بنفسي متورطا حتى النخاع بها، متورطا بالانتظار الخفي حتى الرمق الأخير بقلبي!»
لكن أنا يا ميشيل كنت أجلس وحدي في حديقة منزلنا، أجلب أعواد الأشجار، وأضع الورق فراشا تحتي، وأظل أتحاور مع نفسي كثيرا. وفي لحظة صرت أحاور الأشياء، كأني أنتظرك، شيء يشاركني كوخي الصغير.
أمر على كل الأشياء وحدي، لأمشط شوارع اللحظات المسروقة من عاطفتي، ولا زلت أتكئ على أمنيات خافتة. أنا الفتاة التي تعاني من معرفتها الزائدة بكل شيء، ولا زلت أرسم عاطفتي وأشتهي ألوانا جمة. وقتا كنت أفكر فيك، ألعب البيانو هربا من صوت العالم في أذني، وأرقص الباليه والجاز والتانجو فرديا! حين أنتهي من الرقص أشعر أن أحدا يصفق لي؛ وقتها لم أرغب بعد هذا التصفيق في معلمة رقص تعشق البيتزا، وصوت محمد فوزي، وترتاد المطاعم الإيطالية، وتحمل بداخل حقيبتها هاتفين ونظارة سوداء دائما! أنا أنتظرك من زمن يا ميشيل، أنت كنت بداخلي قبل أن أراك.
ولا زلت أتدثر بشال أحمر ظل مفضلا لدي وسيبقى لسنوات، وأقف متدثرة به في شرفتي أرقب قطا صغيرا صادقته، يحكي لي صوته عن ذاكرة الحب بداخلي كل صباح. ولا زلت أملك العينين اللوزيتين اللتين يزداد اخضرارهما حين أنتظرك، ولا زالتا حائرتين مثلي، ولا زلت أملك وجهي الطفولي، وأنا ووجهي لم نعد نتشابه إلا قليلا. أنت ووجهي، شيئان مختلفان من انتظارك. ربما لي وجه واحد، وبعدد المنتظرين مثلي. واجتازت الأعوام داخلي كنسيم عابر مثقل بالحكي والصمت والحب، والآخرين.
أمسك ميشيل بيد جان، ورفعها إلى السماء، وبصوت واحد: نحن انتظرنا بعضنا البعض، حلمنا في بعضنا البعض، نحن الآن معا، الحب هو الثبات الأبدي في رحلة طويلة.
الوصية
عاشا معا سنوات، زارا كنيسة المعمداني مرات، ووضعا حبات القمح للحمام، وأشعلا شموعا طويلة، شاركا في ترميم جدرانها. انتفخ بطن جان أكثر من مرة، لكن كان حملها ضعيفا؛ مع صوت الرصاص والقصف كانت تجهض. كان يحزننا كثيرا على ما ذهب من رائحة البارود. قررا الفرار من غزة، لكن كانا يثبتان في بشائر حمل جديد. تكرر مشهد الثبات والفرار داخلهما ثلاث سنوات.
كلما زارا الكنيسة زاد حبهما؛ الفضاء معطر بالياسمين، وجسدهما ينز رائحة البلح، لا برد في المكان. في نظرهما كل الأشياء هدايا حتى لو كانت ورقة شجرة. لا يتكلمان إلا همسا، بطيئان كسلحفاة في النزاع، سريعان كغزال حين يوزعان خبز المغفرة بينهما.
مائتا متر تفصلهما في هذا الوقت عن البيت، كلما مشيا خطوات تحسس انتفاخ بطنها. كان يقول: هذه المرة لا بد أن ننجح ونثبت حتى يخرج مسيحي جديد؛ يرمم ثقوب القلب والعقل، ويفتح ممرات الثبات في جغرافيا وطننا .
في لحظة سمعا صوت انفجار كبير هز المكان؛ سقطت جان على الأرض، ميشيل صرخ خوفا عليها: جان احذري! الحجارة فوق رأسنا ...
أيضا العصافير فرت من المكان، الكلاب كانت تتسابق لتخرج من الموت، ضجيج المكان ينزع القلب من الصدر، تصاب وقتها بدوار كأنك فراش مبثوث، الجدران تركض أمامك. «من الذي أحيا الجدران لتركض وتصرخ وتتألم، وقد تموت وتتكسر مثلنا في لحظة القصف؟!»
الغبار خيم على المكان، كل من حولنا خرج من خيمة الغبار مصبوغا باللون الرمادي، الناس تحولوا لهنود حمر تطلي وجوهها بالألوان وتدور حول النار. كلما دققت في ملامح من حولك تنسى من تعرف منهم.
كما يأتي الانفجار في لحظة لا يعلمها أحد قبل القدوم كسر تحفظه عن معصية محترم في الشارع، يأتي في لحظة ويرحل في لحظة ما تفكر فيه الآن. الذي فكر فيه ميشيل هو البيت، أبوه، الصور، الذكريات، الحديقة، أصيص النعناع، الدفاتر العتيقة، الكتب المدرسية، كتاب الأنشاد، الكئوس المقدسة، ملابس الكنيسة، الشموع، شريط الأدوية، أوراق الثبوت أنك حي، آخر ورقة كتبتها لك أمك قبل أن ترحل. ثم صرخ: بيتي! بيتي! أبي! ...
نظر إلى جان وهي تتوجع، وضع يديه على رأسها، قال لها: سوف أركض للبيت، قلبي يدق، أحس أن هناك شيئا أصاب البيت.
شق خيمة الغبار الرمادي، رائحة البارود تفوح من المكان، خراطيم المياه تصنع نوافير، الخزان الأسود الكبير كأنه جبل سقط على الأرض، النوافذ خرجت تشرب ماء النوافير من سخونة اللحظة، الجدران عادت لهيئتها الأولى.
وصل بيته بعد أن دمعت عيناه من الغبار، وأنفاسه موسيقى تشبه بلورة تنزلق فوق درجات طويلة، تأكد وقتها بأن الانفجار كان في بيته.
وقعت عيناه على القطعة الخشبية التي جلبها من باب القدس، مسكها، ومسح الغبار عنها، شعر وقتها أن الأمر أكبر من تدمير البيت.
صار يركض فوق ما تبقى من ركام، الأعمدة الأسمنتية تستريح على جانبيها، يخرج منها دخان كأنها تشخر، سقف البيت تحول إلى مظلة طفل مهشمة من عجلات سيارة مسرعة.
بقع الدم لطخت كل قطع القماش، بقايا المطبخ من الملاعق والصحون تأخذ ركنا في زاوية الركام كأنها بقايا صدف مكومة على شاطئ البحر.
كل من حوله ينظرون له بنظرات رفق، يلقون التحية عليه، وينبشون الركام؛ يجدون ما تبقى من جسد أبيه.
انتهى كل شيء في لحظات. المشهد يهدأ على حاله؛ الناس تنفض من حوله، نوافير المياه بدأت تصغر وتتلاشى، سيارة الإسعاف انسحبت وهي تحمل ما تبقى من الجسد.
في لحظة أفاق ميشيل من الصدمة، صار يركض خلف سيارة الإسعاف: أبي! أبي! قطعة الخشب ما زالت في يدي! الآن العيش في غزة بعد الموت أصبح بلا قيمة حقا! ربما يجب علي أن أخيط سنين عديدة لأحصل على سنة كاملة تستحق شمعة واحتفالا.
جلس ميشيل وجان فوق أحد الحجارة بالقرب من الركام، لا كلام سوى دموع تنز على الخدود، يمسحها بكمي قميصه.
قال ميشيل: أنا لا أعلم أن أبي مستهدف أو يعمل في المقاومة. ربما كان الانفجار بالخطأ. هناك شيء أكبر من تفكيري. من يقول لي الحقيقة؟
جاكيت أسود
جاء رجل يرتدي معطفا أسود طويلا، وحذاء عسكريا، مبتسما. لم يعره اهتماما. جان هزته: هذا الرجل كأنه يريدك، أو يريد أن ينقل لك شيئا، قد تكون الحقيقة عنده.
وقف ميشيل وتقدم خطوات ناحية الرجل، قال له: هل عندك حقيقة ما حدث لنا؟ لماذا هذا الانفجار في بيتنا بالذات؟
رد الرجل: الحقيقة موجودة؛ أبوك كان مساعدا لنا، كان عونا لنا بالمال وبالمكان. حين تضيق علينا السماء بطائراتها وقذائفها كنا نحتمي عنده، وحده في العالم المخيف يحافظ علينا، وحين يدب الخوف في قلوبنا ولا نجد أحدا يطعمنا ويغير على جروحنا كان أبوك سباقا لذلك.
رد ميشيل: وما الذي حدث ليكشف أمركم؟ وبناء على كلامك كان عمل أبي معكم سرا. أبي كان لكم البيت الأخير، لم لم تحافظوا على هذا البيت؟ - السر كقطعة ثلج يذوب إذا خرج من الثلاجة. أصبحنا لا نميز الجيد من غير الجيد، الكل يشارك، الكل يحمل راية، لا أحد عنده صبر ولا تخطيط، الكل يدق طبلة الحرب متى يشاء . - هل تعلم أن هذا البيت يحمل أسرارا وذكريات عائلة كبيرة مرت على غزة، وعاشت في غزة. إن الانفجار لم يأخذ أبي فقط، لكن أخذ كل جميل تعلمناه في غزة. - أبوك يا ميشيل كان كل ليلة يخبرنا كيف حافظوا على غزة. التاريخ طويل. كان دائما يحكي لنا قصة صديقه الذي حارب مع المسلمين ضد الغزاة، وأجمل القصص أن مسيحيا هناك كان يربي غزالة، وحين دخل نابليون وجيشه إلى غزة كممر إلى يافا، ترك الغزالة تركض أمام نابليون؛ فأعجب بها، فركض خلفها. كان الرجل يتربص به، لكن نابليون تعب من الركض خلفها وخاف أن يتأخر على جيشه، فتركها وعاد. الرجل أطلق عليه رصاصة لكن لم تصبه.
كان أبوك وقتها يقول: لو أصابته الرصاصة لكان تعدل تاريخ القتل إلى تاريخ سلام. - وإلى أي مدى أستطيع سداد دين الوفاء لأبي، وأصنع له ما يستحق الامتنان من بعده؟ - هذا هو أنت، بكل متناقضاتك وجنونك ونسكك، ولو كنت غريبا أكثر غرابة. ذلك الجنون الذي يحركك في هذه الحياة! هذا أنت، لا يشبهك أحد. دائما تريد أن تقدم شيئا للثبات، للبقاء. جميعنا ننتظرك. (في لحظة شعر ميشيل أن حديث الرجل ليس غريبا عليه، تذكر وقتها تفاصيل الكاتب، وتذكر أنه في عالم الرواية، وأن هذه الأحداث مرتب لها، وهذا الركام جزء مهم في نهاية المشوار.)
همس ميشيل للرجل: متى نهايتي؟ أشعر أني أجهز لأكون مثل هذا البيت؛ متناثرا، لا يمكن إصلاحه إلا بالإزالة الكلية. - بصراحة يا ميشيل كان أبوك يحضر لمثل هذا اليوم، وترك لك صندوقا لم يحتفظ به في البيت. أبلغنا أن نخبرك عن مكانه؛ الصندوق موجود في كنيسة المعمداني. حيث قال: الوحيد الذي يعرف مكانه هو ميشيل.
سؤال هادئ
ما ينتظرني لحظات كاملة ستهزني بعنف، لألتفت لكل ما تركته خلفي وأطرح سؤالا هادئا: أهذا ما كنت أنتظره فقط؟ كنت سأجيب بنعم قبل ذلك من الآن، أو لو أني ما زلت أحمل الأفكار ذاتها، إلا أني أدركت أمرا مختلفا تماما عن ذلك قبل سنوات؛ ما كنت أنتظره وأبحث عنه هو وجهتي في هذه الحياة، أهدافي، مسار أفكاري، هو لغتي، ونكهتي، وبصمة مرور تحمل هويتي. وعندما وجدتها، كفتني تعليق الآمال على مجرد حلم.
هذه اللحظة التي سوف أقرأ فيها وصية أبي كأنها شمعة صغيرة جديدة تحترق لأجل الحلوى، ويتهافت الجميع على وأدها، إطفائها. وأنا أنظر بعطف ورفق نحو آخر خيط مرهف يخبو من ضوئها لأجلي في شبه اعتذار. لحياتها الوحيدة الراحلة في سبيل أن تمنحني أنا مجرد كلمة بطل في غزة!
قبل أن أصل إلى الصندوق، أعلم أنه ميلاد جديد يعني لي الكثير، عندما يأتي أفكر بأشياء غريبة لا تتكرر مرة أخرى ببال أحد كما لا يتكرر الميلاد، وأشياء تتوازى تماما مع غرابتي. أحيانا ينتابني شك رهيب بأنني لا أشارك البعض نفس الكون؛ أنا خلقت لأحمل ما تبقى من سلالة عائلتي، بكل ما تحمله في طياتها، في غرابتها واختلافها. عائلتي بقشرتها الصلبة الحامية، إلى تقلبات مزاجها، وتناقضاتها، إلى اختلاف ردود فعلها باختلاف السياق الذي توضع فيه والبيئة التي تداخلها.
دخل ميشيل كنيسة المعمداني؛ كانت الجدران باردة، ضوء الشمعة خافت، كل الوجوه التي تركع الآن تحت صورة مريم تشبه لحد كبير وجه أبي. لا أحد يعترضني، وأنا أفتش بين الكراسي وخلف الستائر عن الصندوق.
كيف لي أن أصل له دون تعب؟ أخاف أن يبقى الصندوق بعيدا. بدأ حماسي بالانتقام يهدأ، وأتحول إلى رجل يجلس في البيت يربي أولاده، ويفتح المذياع ويراقب الأخبار، ويتسرق الأمل من التلفاز، وينتظر عودة جودو حامل روح الأحلام.
في لحظة كسرت خيال ميشيل حمامة رفرفت في فضاء الكنيسة. رفع رأسه، تذكر حين كان طفلا صعد إلى عش الحمام ووضع لها الورق والقمح. لم يتردد أن يصعد إلى العش؛ فوجد الصندوق كأنه يبتسم ويمد له ذارعيه. ابتسم وفتح الصندوق.
في هذه اللحظة كان يهمس في أذنه صوت: مر بك هاجس مكنك أن تجزم بابتسامة خفيفة أنه لم يخطر ببالك يوم يشبه هذا اليوم. كنت تحاول الهروب بجسدك، لكن الآن أنت مثبت في هذه الأرض بجسدك وبذاكرتك . بعد كل هذه السنوات، لو أنك استوقفت الملاك المصاحب لك للحظات قليلة لسألته عن رأيه فيك بكل وضوح.
ترى ماذا كان ليخبرك عن ذاتك؟ لمن كان يغني ذاك العصفور البريء صباحا في شوارع غزة؟ ومن كان سيصادق دوني؟ لو لم أجد في صوته المرهف وطنا يحملني كل صباح ويرشدني إلى ذاكرة الحب بداخلي، حتى لا يتيه أحدنا عن الآخر في ضباب الوحدة «إنه صوت أبي».
وكيف سيمر ذاك اليوم على ذاكرتي وأنا أسكنه ويسكنني؟ أبي الذي صنعني بصوته، وأنتمي إليه تمام الانتماء، واللحظة التي أغيب فيها تماما عن صخب كل من حولي. هو من علمني البداية، هو بداخلي وحيد، وحيد. «من بعدك يا أبي؟ أيها المبتسم لي في حفلات أعياد الميلاد حين تضع الطربوش الأحمر فوق رأسي، أيها الوفي لأمي بعد رحيلها، هرمت كثيرا من بعدك «يا ريت بتخلص وصيتك قلبي يرتاح».»
الصندوق بارد جدا، عليه آثار بصمات من غبار، كأن عائلتنا شاركت في صناعة ما بداخله. فيه وجدت؛ شهادة أول مسيحي في غزة، جرسا نحاسيا قديما، شمعة حمراء طويلة، عطر المرمر، كأسا زرقاء، ووصية أبيه. كان يقرأ بصوت عال: ما الذي تفعله في هذه اللحظة يا نضال؟ أي اللحظات تتذكر وأنا أطفئ شمعة عيد الميلاد وحدي وأعانقك، لأرى عينيك أمامي تماما من تلك الشرفة البعيدة تعانقني وتلوح بحب لكل سنواتي المقبلة معك، وأنا لا أعرف؟ كيف وضعت لك روحي فاحملها برفق؟ وقرر أن نعتبر الأعوام على غزة وأنت منقوش في ذاكرتها، وأن أهلها سيخصصون يوما من كل عام للاحتفال بك في أول يناير، وسترجع المسافات المسكوبة بيننا وبينهم. لن أكذب عليك، وأخبرك أنني لا أخشى شيئا عليك، وأن قلبي مشغول عليك لمعانقتك، وبسماع صوتك، وأن الحنين المتورط بصوتك الخافت ونبراته الدافئة يخبئ حكايات انتظارك.
يا أبي، يبقى العالم بدونك، ليبدو صغيرا. وأنا وحدي، ممتلئ بك. فهل أخشى من اشتياقي لك؟ فقط حين غادرتني ببطء، خشيت العالم مجددا، وتجددت فكرة الرحيل داخلي.
يا ترى ما شكل أيامي حين نركض أنا وأنت في السماء؟ وجهك وصوتك، وعناقك، وحديثك، كلها لي، كلها ملكي. ماذا لو كانت تلك البقعة التائهة الوحيدة التي تجمعني بك، أفضل من امتلاك الكون الشاسع دونك؟
نزل نضال وبيده الصندوق، وحين هبط على بلاط الكنيسة سمع تصفيق الحاضرين. الكل كان ينتظره؛ الرجال والسيدات والأطفال، جاءوا وربتوا على كتفه. شكرهم نضال للطفهم معه.
وحين خرج من الكنيسة لا يعلم أين يذهب، والصندوق بيده، وصوت أبيه يدور حوله، والوصية كأنها تسرد أمامه.
التفت على يساره فوجد الرجل ذا المعطف الأسود. لم يقل شيئا وقتها، اكتفى بهز رأسه له. بدأ الرجل بالحديث: هل كان صعبا أو سهلا الوصول للصندوق؟ - إن كلمة سهل قليلة، وكلمة صعب كبيرة. الصندوق كان منذ وجدنا في غزة، وسيبقى لمن يأتي من بعدنا. - وماذا فهمت من كلام الوصية، وصوت أبيك الذي يرافقنا الآن؟ - هناك عدو ولا بد أن يحارب. - هو الشيطان يا نضال. - الشيطان! إنه يريد جيشا كاملا لقتاله، واحتمال النصر ضعيف. - لا بد أن يكون احتمال النصر قويا؛ لأننا وجدنا على هذه الأرض بعد أن انتصر الشيطان على أبينا آدم، وأخرجنا من أرضنا. - مثلي لا يملك براعة في القتال، ولا يملك أسلحة، فكيف لي أن أقاتله؟ - اسمع يا نضال، لو أردت أن تقاتل بشريا تحتاج إلى قوة الأرض، كل الرصاص، كل الأرواح، لمجرد أن تفكر في معركة البشر. لكن المعركة مع الشيطان فقط تحتاج معنويات وروحا طيبة مقدسة؛ تنتصر عليه بسهولة. - الذي أفهمه، أنا الآن جاهز لأقاتل الشيطان. هل أقتله، أو ماذا أفعل معه؟ - نحن لا نقدر أن نقتل الشيطان، لكن ممكن أن نحاصره ونمنعه أن يزلزل قلوبنا بأفكار الهروب والرحيل. - متى ستبدأ معركتي مع الشيطان، حتى يبتسم أبي مني؟ - معركتنا بدأت من زمان، وهذه المعركة ليس فيها منتصر أو مهزوم، لكن تترك أثرا لمن بعدنا، أن تحاول خير من أن تبقى جليس الانتظار. - أين مكان هذه المعركة؟ - حين تكون مستعدا هو حولك، فقط أشهر أسلحتك وقل للشيطان أنا سأقاتلك. - وما هو الوقت المناسب لقتال الشيطان؟ - حين تكون جاهزا للقاء الرب وهو راض عنك. - وكيف أعرف أن الرب راض عني؟
تبخر الرجل من جانب نضال، كأنه لم يكن. حاول أن يبحث عنه، لكن لا جدوى من ذلك. أكمل سيره في الطريق، وصار جسده يتحول إلى مقاتل، وروح تنفخ غضبا، ويريد أن يقاتل.
فجأة وجد نفسه في مكان غريب، كل الأدلة تقول إنها مستعمرة الشيطان؛ المكان يشبه الرأس، تشعر نفسك محاطا بأفكار. جهاز عصبي كبير، مادة تشبه المخ. علم وقتها أنه دخل في رأسه، والشيطان يعيش داخله، وبدأت المعركة.
قريب جدا منك يا أبي
الليلة التي سبقت موعد التنفيذ الذي حدد لنضال دخول مقر الشيطان، قام الشيطان بتحريك الجيوش التي ترابط بالقرب من السياج في المكان الذي تسلل منه نضال. اجتاز نضال السياج الإلكتروني، وقد تم وسبق تجريبه في إعطاء إشارات تحذير لم تؤد إلى استنفار الشيطان، ويبدو أنه كثيرا ما أعطى إشارات تحذير ولم تؤخذ على محمل الجد.
بعد الاجتياز والوصول إلى الداخل (خلف السياج) بدأ بإطلاق النار بكثافة عالية وإلقاء القنابل اليدوية، وصار يلقي أوراقا من الكتب السماوية في فضاء الرأس.
تمركز وأطلق النار من موقع محصن. بعد اقتحامه لأحد ممرات الرأس والتحصن بداخله قام باقتناص العديد من الجنود.
سادت حالة من الإرباك والهلع في صفوف الشيطان، واستدعيت قوات كبيرة، ومعهم وحدات خاصة إلى المكان. كان أي جندي من جنود الشيطان يشم رائحة زيت المرمر يتلاشى.
حاول الشيطان اقتحام منطقة الفكر الذي تمترس فيه، جاءت شياطين طائرة قامت بعمليات إنزال. استمرت المعركة البطولية لعدة ساعات؛ حيث أصيب في هذه المعركة الكثير من الشياطين التي توسوس في رأسه بجروح بالغة جدا.
هذه المعركة تعد أجرأ عملية هجوم، مؤكدين أن نجاح المهاجم في اقتحام واحدة من أشد التحصينات بالنسبة للشيطان هي أمر غير مستوعب. وقال بأن القيمة الحقيقية للعملية لا تكمن في حجم الخسائر في صفوفهم، وإنما في القيمة المعنوية أن المقاتل هو رجل جديد علينا، أوصافه غريبة، رائحته غريبة، كأنه جاء من كوكب ثان.
قبل أن يعلن نضال انتصارا على الشيطان الذي داخله، جاء حارس المقبرة، ووضع بندقية في فمه. قال له: معي أمر أن أقتلك. حفرتك تنتظرك في المقبرة. سأله نضال: لماذا تضع البندقية في فمي؟ رد عليه: الفم هو أول السلام، وأول الموت، وأول الصراخ.
حاول أن يقاوم لكن طعم المعدن في فمه كان مزعجا، فأطلق الحارس رصاصة في فمه.
نضال، الآن أنت تنام بثلاجة الموتى؛ جلدك بارد جدا، رصاصة واحدة فقط هي التي أخذتك عنا، توجد فتحة كبيرة خلف رأسك، كأنك أجبرت على الموت، وتوجد بقعة حمراء صغيرة في صدرك. أعلم أنك تسمعنا جيدا، ونحن نقبلك، ونلقي عليك التحية. الجميع في غزة أحبك في حياتك وأحبك في موتك؛ لأنك كنت البطل المثالي الذي عاش في غزة ومات لأجلها.
نحن نحبك حد الإيمان، إيمانا بانتمائي المهاجر إليك. نحبك ومتورطون بك من ضفائرنا إلى أخمص أقدامنا!
أنت الآن ستبعد كل البعد عن الشك بك. نحبك حد الخوف، نحبك حد الثرثرة التي لا تجدد الصمت الذي لا يرحم.
وبين تفاوت الثرثرة والصمت، نحبك بهدوء. في أول يناير سنتذكرك طويلا ونشعل لك شموعا عند تمثال الجندي المجهول، لعل المسافة تسقط!
شكرا على البهجة الخالدة، وشكرا على الحزن الجميل الذي عايشناه معك في الأحداث. وعلمتنا كيف كل عام نمشي في طريق الهوية والثبات، ولا نتخلى عن أرضنا.
عمد نضال مرة أخرى كأنه يولد من جديد، ولف بقماش أحمر ناعم، وحمل على الأكتاف، وداروا به في شوارع غزة. الجميع حمل قبلاته وتحياته على جسده. دقت أجراس الكنيسة، وفتحت مآذن الجوامع، ونشرت الصحف الصور، والشوارع لم تهدأ، وأشعلت إطارات السيارات، وكتب اسمه على كل جدران الشوارع.
رحلة مدرسية
«كل ما أريد أن أقول في هذه اللحظات، أن حارس المقبرة، والكاتب، وأبي، بابا الكنيسة، والمدرس الطيب، والرجل صاحب المعطف الأسود؛ كانوا يشبهون بعضهم البعض كثيرا حتى في التفكير»، وإن اعتيادي على الاحتفاء بما حدث معي، أن أهدئ روحي وروح أبي وكل من ينام معنا الآن.
الآن أنا أجلس تحت الأرض، كما اختار الكاتب النهاية، لكنها سعيدة جدا لي، وقد طلبت منه أن تزورني جان وابنتي ماري كل يوم.
في ليلة قصف البيت ظل بطن جان منتفخا، روح أبي تنفست كل بارود المكان ورحلت، وجاءت ماري. وكان الكاتب معي كريما جدا؛ كل يوم تزورني جان وابنتي ماري.
وفي هذه اللحظة جاء طلاب مدرسة في زيارة لمقبرة الإنجليز؛ لأنها معلم أثري في غزة. الأولاد يتقافزون ويركضون بين القبور، ويلتقطون لهم صورا مع الشواهد.
المدرس الطيب يشرح للأولاد عن كل قبر، والآن يقف عند قبري، ويقرأ الشاهد المزروع. يقول: هذا قبر أحد المسيحيين، وقد شارك في عملية بطولية في الحب والثبات في غزة.
سأل أحد الأولاد: ما اسم هذا البطل؟
اقترب المدرس من الشاهد، وقرأ اسمي. مكتوب على الشاهد اسمان؛ «ميشيل عواد» و«نضال الرجعي».
استغرب وقتها الأولاد: لماذا له اسمان؟
رد المدرس: الأبطال دائما يحملون اسمين؛ لأن البطل يولد مرتين، مرة من بطن أمه، والمرة الأخرى من بطن وطنه. - هل نقرأ على روحه الفاتحة، أو ندعو له؟ - أنا أقول لكم ادعوا لأنفسكم أن تكونوا مثله.
جاء حارس المقبرة يحمل ورقة، وصار يقرأ بصوت عال: رحلوا في لحظة ترقب، في لحظة خوف من الآخرين عليهم، وربما رحلوا وهم في قمة السعادة، ذهبوا عن هذه الدنيا وتركوا خلفهم دموع الأهل والأحباب، تاركين وراءهم كل شيء يتعلق بهم؛ صورهم، ومالهم، وذكرياتهم. رحلوا وتركوا دنيا فانية. عيونهم أغمضت عن الدنيا، يسمعون بكاء أهلهم لكنهم فقدوا القدرة على الكلام؛ فروحهم انتزعت من أشلاء أجسامهم ولم يتبق لهم شيء.
رحلوا وتركوا قليلا من الذكريات السعيدة. لم نعد نسمع همساتهم وضحكاتهم، ولم نعد نراهم أمامنا، ذهبوا بدون سابق إنذار. أبسط شيء نفعله من أجلهم هو الدعاء.
Bilinmeyen sayfa