ولقد يضمني به المجلس ومعنا من الصحب من يعرف أنني أحبهم وأوثرهم وأتقي غضبهم، فلا يزال يغريهم بي، ويغرس الحفظية علي في صدورهم بما يدعي علي من قول منكر قلته فيهم، أو سعي خبيث سعيته لكيدهم وإيصال الأذى إليهم، فإذا حاولت البراءة إليهم مما اتهمني، زاد في لجاجه، وألح في احتجاجه، وربما عزز قوله باليمين يرسلها غموسا غير متحرج ولا متأثم، ولقد يجيئني بمن يشهد الزور بين أيديهم علي ليبطل حجتي، ويحق التهمة علي؛ فيفسد بيني وبين صحبي.
ولقد يراني أنقد بعض السلع، فيأبى هو إلا أن يختار لي، لأنه أعرف بجيدها ورديئها، فلا يسعني إلا أن أنزل على رأيه راضيا أو كارها، فإذا تقدمت لمساومة البائع في الثمن، أسرع فدفعني وتولى هذا عني، فإذا خلصت بالسلعة، وعرضتها على أصحاب الخبرة، بان أنني قد اشتريت أردأ الأشياء بأغلى الأثمان!
ولقد يزين لي المخاطرة على سباق الخيل، ويؤكد لي في قوة وشدة ثقة، أنه يعلم علم اليقين أن الرابح في الشوط الأول هو الجواد الفلاني، وأن الرابح في الثاني هو الجواد الفلاني وهكذا، ولا يزال بي حتى يستخرج مني طوعا أو كرها من المال ما يثقل علي ويبهظني ليعقد لي رهانا على بضعة جياد معا (بارولي)، ممنيا نفسي بربح المئات من الدنانير، فإذا كان آخر النهار، لم يظهر جواد منها ولو تفقدته بألف منظار، وأعلم أنه خالفني في خطره هو إلى غيرها من الجياد، وإنما آثرني أنا بما خسرانه مكفول، والربح فيه ألبتة غير مأمول!
ولقد يعلم أنني هيأت لنفسي بعض المتاع أتفرج به وأسلي عن نفسي، فلا يفتأ يتنسم الأخبار، ويترسم الآثار، حتى إذا تم له الوقوف على كل شيء، جعل يعمل الحيلة، ويتوسل إلى إفساد الأمر بكل وسيلة، فيدس علي من يزعم أنه من قبل الصحب، وأنهم قد أجلوا جلستهم لطارئ طرأ، وحادث فجأ، ولقد يدسه عليهم على أنه رسولي إليهم ليبلغهم عني مثل ذلك، فإذا تعذر ذلك عليه، وكشفت لي ولصحبي حيلته، وظهرت دسيسته، استحدث لي من الأسباب ما ينغص عيشي، ويكدر صفوي، ويبدل سروري قلقا وغما!
وإنه ليعلم أنني أخاف ركوب السيارة فلا أتخذها إلا مضطرا، فإذا ركبتها تفرقت نفسي بين يديها لعلها تصدم أو لعلها تصدم، فتهشم أو تتهشم، وأن لساني لا يفتر عن سؤال السواق الهون والرفق في المسير طوال الطريق، وإنه كذلك ليعلم أنه ما من حدث من أحداث الدنيا يزعجني عن نومة الظهيرة، وخاصة في أيام الصيف، ومع هذا فلقد يقتحم علي غرفة نومي، وقد تعودت أن أنام وحدي، ويكون ذلك منه في بعض الساعة الثالثة بعد الظهر في يوم من أيام شهر يوليو مثلا، وإنه ليبعثني من نومي وما عللت منه ولا نهلت، فأهب منزعجا مبهوتا مكدودا لقس النفس موزع الفكر، فإذا بي أراه واقفا بسريري، فأسأله الخبر في روعة وفزع؛ فيسألني أن أسرع في وضع ثيابي لأننا مسافران من فورنا في السيارة إلى بورسعيد في أمر جلل لا يخبرني خبره إلا إذا بلغنا سالمين!
بورسعيد! بورسعيد! وفي هذه الساعة! وفي السيارة!
وإنه ليسرف في الإلحاح علي بدعوى شدة حاجته إلى أن أكون معه في هذه الطلبة، وإلا تأخرت حاجته العاجلة إذا لم يفسد الأمر كله، فإذا اعتللت عليه، وأظهرت شيئا من البرم بهذه الرحلة الشاقة الخطرة، أقبل علي في مثل صورة المتوسل يذكرني الود القديم والصحبة الطويلة، وهو وإن كان يتعفف عن أن يذكر سوابق يده عندي، ويتعالى عن أن يمتن بها ويتطول، فإنني في هذا المقام لأذكرها وحدي من غير حاجة إلى من يذكرني، ولا شك أن هذا أوقع في النفس وأبعث لداعية المروءة، وعلى هذا لا يسعني إلا مطاوعته، ولقد أتكلف الاغتباط بهذه الرحلة الجميلة!
ولقد يتفضل المولى جل وعلا فيصل في الأعمار حتى نبلغ مدينة الإسماعيلية ولم نكلم كلما، فاسترحنا فيها ساعة، ثم واصلنا المسير فصرنا على ذلك الصراط المتلوي المتأود الذي لا يطرد في استقامته عشرة أمتار سويا وقناة السويس عن أيماننا، والترعة الإسماعيلية عن شمائلنا، والسيارة تسلك ما بينهما مسلك الخيط من سم الإبرة، فإذا كنا على هذا أومأ إلى سائقه الجبار فأطلق للسيارة العنان ووخزها وخزا عنيفا، فطارت كل مطار، ما تخشى بأس الأرض ولا ترهب سطوة البحار، وليس على يميننا إلا غرق ، ولا على يسارنا إلا غرق، أما من قدام، فليس إلا الصدام والموت الزؤام، وللسيارة زفير وشهيق، وصهيل كصهيل الجواد العتيق، وإن بصري ليزيغ، وإن قلبي ليرقص في جوفي فأراه يغمز جنبي مرة، ويصك حنجرتي مرة، وإذا استطعت أن أجمع نفسي فسألته الرفق، أومأ إلى السائق ليزيد، إذا كان في قوة السيارة فضل لمزيد!
وأقول له ذات يوم، ونحن على هذه الحال: إذا كان بك أن تهلكني، وتعجل اليتم لبني، فما حاجتك إلى أن تهلك أنت وتعجل اليتم لبنيك؟ فأجابني من فوره بقول الشاعر، وقد أخذ التنمر والشهوة إلى افتراس العدو من خلفه كل مأخذ:
فاقتلوني ومالكا
Bilinmeyen sayfa