وبعد، فليست بنا حاجة إلى التقصي وطلب الصور المختلفة لمقامات الكلام؛ فذلك من القضايا المفروغ منها، ولقد أجمل الأقدمون هذا المعنى فقالوا: «لكل مقام مقال.»
ونرجع الحديث، بعد هذا، إلى ما سقنا له الكلام: أسلفنا أن الأدب العربي، في جميع ألوانه وصوره، قد أصيب في هذه السنين بنوبة عصبية قل أن تفارقه أو ترق عليه، وحسبك أن تقلب النظر في الصحف السياسية مثلا، فلا ترى إلا عنفا ولا ترى إلا حدا، وخاصة في مقام الجدل الحزبي، وإذا لم يكن في كل هذا الباب ما يجوز أن يجرى القلم فيه هينا رفيقا لأن موضع النزاع هين رفيق، أفكل مواضع الخلاف - على كثرتها وتفرق مذاهبها - حقيق بأن يصل العنف فيه إلى أقصى مداه ، وينتهي إلى غاية منتهاه.
اللهم إن من البديه أن التهمة - إذا كانت هنالك تهم - من المقولات بالتشكيك، على تعبير أصحاب المنطق، وهي في باب السياسة تنتهي بخيانة الوطن - والعياذ بالله - وتبدأ بالتفريط اليسير في اليسير من الحقوق العامة، وبين هذين الحدين مراتب كثيرة، ولكننا تعودنا أن نسم كل هذا بميسم واحد، ونطبعه بطابع واحد، ونجري القول فيه بدرجة سواء!
وما لي وللسياسة وكتابها، فذلك شيء قد نترت منه يدي من زمان بعيد، ولا والله ما قصدت - وأنا أصيب من هذا المعنى - صحفا بأعيانها، ولا تمثل لي كاتب بشخصه، فلقد أضحت هذه الخلة من عموم البلوى، على تعبير جماعة الفقهاء.
ولقد تزعم أننا في كفاح سياسي عنيف، ومن شأن هذا الكفاح أن يرهف الأعصاب، ويحد الأقلام، ويثير في النفس أعنف الشهوة إلى الخصم والفلج، لقد تزعم هذا، ولقد أستريح إلى هذا الزعم معك؛ فلنترك السياسة ولنترك الساسة يمضون لطياتهم راشدين، ولنتحول إلى غير هذا من مقامات البيان التي لا شأن لها بالسياسية ولا شأن للسياسة بها: سرح نظرك في أي جدل ديني أو علمي أو فني، فإنك لا تصيب إلا عنفا وإلا حدة في منازع الجدل والحوار!
ثم تعال نطالع المسرح المصري، فإننا لا نكاد نسمع منه إلا هدة الهدم، ولا نشاهد فيه إلا مسيل الدماء وتسعر النيران، هكذا يؤلف الكاتب المسرحي غالبا، وهكذا يختار المترجم للمسرح المصري من فنون «الروايات»!
وهنالك شبان ناشئون يعالجون وضع «الروايات» القصصية، أفرأيت فيها في الكثرة الكثيرة إلا المآسي، وإلا أعنف المآسي وأحدها، من ثكل الولد، وموت الخطيب، وفرار العروس، وخراب الدور العامرة؟ فإذا كان هناك هوى وصبابة، فخذ ما شئت من أقسى المعاني وأشدها، ومن أعنف الصور وأحدها، وعلى الجملة فأنت لا تكاد ترى في صور أدبنا المختلفة إلا مظاهر تلك العصبية التي غشيتنا جميعا في هذه السنين!
وإني لأذكر أنني دعيت لتقدير الدرجات في بعض الامتحانات الخاصة في مادة الإنشاء، وكان الموضوع المطروح على الممتحنين لا تستدعي طبيعته جدلا ولا تشميرا للقهر والفلج ، فإذا كان ولا بد ففي لين القول ورفيقه كفاية وغناء، ولكن لم يرعني إلا أن أرى الكاتبين جميعا قد أشبوا حربا وتمثلوا وجاههم عدوا، وسرعان ما ضريت نفوسهم وثارت حفائظهم، فاستحالت الأقلام في أيديهم قنا خطية راحوا يشقون الصفوف بها شقا، ويدقون بها أصلاب الأقران دقا، وما برحوا في كر وفر، ومد وجزر، وهل جاءك حديث الطرف الأغر؟ ثم تم لهم النصر والغلب، ومضى هذا في تعقب من فر وطلب من هرب، وتجرد هذا في استخلاص السبي واستصفاء السلب!
ولقد نبهت إلى هذا تنبيها قويا في تقريري الذي رفعته إلى وزارة المعارف يومئذ، وعلمت بعد من كبير في الوزارة أن الرأي قد اجتمع على لفت أساتيذ الإنشاء في المدارس إلى ذلك. •••
ولست أكتم القارئ أن هذه الحال لا بد عائدة على الأدب العربي بأبلغ الأخطار، ومن هذه الأخطار حرمان المتعلقين بالأدب الاستمتاع بكثير من الفنون التي لا تستريح إلا إلى الدعة والرفق واللين، كالوصف، والتحليل، والكشف، والتفكيه، وألوان المداعبات، ولا تنس وراء ذلك تلك المغازي البعيدة الرائعة التي يشكلها الكاتب اللبق النافذ القلم، في سراح ورواح،
Bilinmeyen sayfa