مهلا رويدا أيها الناس، فلقد والله ابتذلتم النعوت وأرخصتم الألقاب، وما لها لا ترخص ولا يلحقها أشد الوكس، وقد أصبحت لا تدل في أكثر الأحيان إلا على كل تافه وكل هزيل!
نعم، لقد خرجت هذه الألفاظ عن معانيها الموضوعة لها، فالألفاظ تخرج عن معانيها بالاستعمال حتى تصبح حقائق عرفية، بل حقائق لغوية بطول صرفها إلى معان جدد، كذلك سنة اللغة من قديم الزمان! ولقد تبحثون غدا عن ألفاظ تؤدي هذه المعاني على حقائقها وتجلو صورها المتمثلة في صدور الناس فلا تخرجون من هذا بكثير ولا قليل! •••
وبعد فلقد تجود بعض القرائح بالشعر الخالد، ولقد تصل الشاعرية إلى مرتبة الجبروت، ولقد يكون فينا اليوم، ولقد ينجم فينا غدا من يستحق بنبوغه وارتفاع مواهبه شيئا من هذه النعوت والألقاب، فكيف ندعوه؟ وبماذا ندل على موضعه؟ وما الذي نميزه به من سائر المشتغلين بالآداب؟
ثم إذا كانت هذه الألقاب والنعوت الضخمة التي لا ينضحها الزمان على الأفراد في الأمم الأخرى إلا في الحقب الطوال، إذا كانت هذه النعوت والألقاب مما لا ينقطع عندنا وبله المدرار، لا في الليل ولا في النهار، فترى ما الذي يبعث الهمم ويشحذ العزائم في إنضاج الملكات، وتربية ما عسى أن يكون مطويا من الموهبات في بعض النفوس، والمطلب يسير، وأضخم الألقاب معروضة بأبخس الأثمان في أكسد الأسواق؟
لقد يحتج علي بأن في مصر عنقا من مشيخة الآداب، وأن فيها كذلك فريقا من شباب الأدباء، وهؤلاء وأولئك يأخذون أنفسهم في باب النقد الأدبي بما شئت من دقة ومن نفوذ ومن إنصاف، وهذا حق لا ريب فيه، ولكن لا تنس أن هؤلاء قد غمرت آثارهم الكثرة الكثيرة بما تتهافت به كل يوم من النقد الفسل المغرض الشهوان، وبهذا يفوت الأدب نقد الفاضلين الأكفاء النزهاء.
وإذا اجتمع علينا إلى فقدان موازين النقد الأدبي إهدار رأي كل ذي رأي، وتهاون قدر كل ذي قدر، وإضلال الناشئين في بيداء مجهل، فذلك الخذلان من الله، والعياذ بالله!
أسأل الله تعالى أن يتولانا بهدايته، إنه على كل شيء قدير.
في رثاء صبري1
مضى المغفور له إسماعيل باشا صبري إلى جوار ربه كما مضى قبله وكما يمضي بعده كل من يتكلف شعرا أو يعالج فنا أو يشارك في علم، وعقدوا له يوما للرثاء كما عقدوا وكما يعقدون لأولئك كلهم، ودعوا للقريض شوقي وحافظا ومطران والهراوي وعبد المطلب كما يدعونهم للقريض في كل ذاهب، وشمر شوقي وحافظ ومطران وعبد المطلب والهراوي للشعر كما شمروا لغير إسماعيل صبري، ولقد قالوا في صبري كما قالوا في الناس كلهم: إن وجهه آلق من البدر، وإن راحته أندى من البحر، وإن شمائله أزكى من الزهر، وإن عبقريته أبقى على الدهر من الدهر!
ولقد قالوا مثل هذا كله فيمن خفوا لرثائهم ممن لا نحب أن نزدري أقدارهم، أو نتهاون أخطارهم ، أو نذم أشعارهم، ولكنهم على كل حال لم يبلغوا كثيرا ولا قليلا مما بلغ إسماعيل باشا صبري جلالة نفس، ولا عظمة خلق ولا فصاحة شعر، ولا فتحا في الأدب هذا الفتح!
Bilinmeyen sayfa