قبل أن أخوض في هذا الحديث الذي يستشرف له القلم اليوم أقرر، ولعلي أفعل للمرة العاشرة، أنني بالذات - على كثر ما قرأت للمتقدمين والمحدثين - لم أقع للأدب على تعريف جامع مانع، على تعبير أصحاب المنطق، ولا أدري إن كان الفرنج قد عرفوا الأدب على هذا أم لم يعرفوه؟ فإذا تحدثت عن الأدب، فإنني إنما أتحدث عن الأدب الذي ألمحه، وهو الذي خرج في لسان العرب.
وكيفما كان الأمر، فإنني بالذات لم أقع - كما قلت - على تعريف يجمع حدود الأدب، ويدفع عنه ما ليس منه ... ولقد أهبت مرارا بأعلام البيان وأئمة المتأدبين أن يعرفوا لنا الأدب أو يدلونا على مواضع التعريفات الصحيحة له، فأمسكوا ولم تتدل أقلامهم بجواب!
وعلى كل حال، فإن الأدب إذا لم يضبطه تعريف جامع مانع، فإن موضوعه واضح في مظاهره، وفي الغايات التي يطلبها ويتطاول إليها، فما من أحد إلا يرى أن أبلغ مظاهر الأدب في نفض الأحساس الكامنة، والعواطف الجائشة، وتصوير ما يعتلج في أطواء النفس من ألوان الانفعالات بعبارات موسيقية تتدسس إلى نفس السامع فتثير منها كل ما يثور في نفس الشاعر أو الكاتب، ولا شك عندي في أن هذا أبلغ مظاهر الأدب وأجل غاياته.
وأخرج من هذا إلى أن الطبيعة البشرية وإن كانت، على وجه عام، واحدة في الناس، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، إلا أن لكل أناس على ظهر الأرض أخلاقهم وصفاتهم، وأسلوب تفكيرهم، وتصورهم للأشياء، وتقديرهم لها، ثم أذواقهم، وألوان عواطفهم وما يثيرها من فنون العوامل.
ذلك بأن لكل قوم أصلهم وتاريخهم، ورقعة بلادهم، ومناظر أرضهم وسمائهم، وما درجوا عليه من أخلاق مطبوعة، وعادات موروثة، وأحداث مأثورة وغير ذلك مما يطبع كل أمة على غرار خاص، ويجليها في شخصية تغاير ما عداها من شخصيات الأمم الأخرى، وما من فكرة تتحرك في العقل، أو عاطفة تعتلج في النفس، أو خيال يحلق في الذهن، إلا وهو مستمد من حقيقة واقعة أدركها الإنسان بإحدى حواسه الخمس، أما أن يختلق الذهن ما لا يتكئ على حقيقة واقعة، فذلك ضرب من المستحيل، وإذا بهرك أن الخيال قد يخلق من الصور ما لم تقع عليه عين أو تتصل به أذن، فاعلم أنه ملفق لا أكثر ولا أقل: ملفق كل ما يجلو من الصور من أجزاء يرجع كل منها إلى حقيقة يقع عليها الحس.
وبعد، فإنما نحن في تفكيرنا وتصورنا وما يحوك في أنفسنا من ألوان العواطف، وما تتعلق به أذهاننا من فنون الأخيلة، إنما نترجم عن تاريخنا، وعاداتنا، وبيئتنا، ومناظر بلادنا، وغير أولئك من العناصر التي طبعتنا أمة واحدة، هذا هو الشأن الذي ينبغي أن يكون لكل أمة، وعلى هذا ينبغي أن يكون الأدب في كل أمة.
وإنك - على تقارب اللغات الغربية وتكافئ أصحابها في المدنية، وتوافي بعضها لبعض في أسباب الحضارة - إنك مع هذا لتسمع بالأدب الفرنسي، والأدب الإنجليزي، والأدب الألماني، والأدب الروسي، وغير ذلك، كما تسمع بالأدب العربي: ذلك بأن العلوم والصناعات وما إليها، أمور يمكن أن تتقارضها الأمم، أما الأذواق وخلجات النفوس ونزوات العواطف، فمما لا يقع عليه التقارض والإعارة، وإن جاز لأمة تقلد أخرى وتحذو حذوها في طريقة الأداء وأساليب الاستقراء والتحليل، وليس معنى ذلك تحويل الأذواق أو تلوين العواطف! •••
نعود بعد كل ذلك إلى أدبنا - نحن المصريين - ونقبل على أنفسنا بهذا السؤال: هل ما نتحرك فيه من الأدب اليوم يؤدي حقا مطالب الأدب التي سلف عليها الكلام؟ وبعبارة أخرى: هل الأدب الذي نعالجه اليوم مؤد حق الأداء لما يعتلج في نفوسنا من العواطف، وما يجيش فيها من فنون الإحساس؟ أو بعبارة ثالثة: هل نحن نترجم اليوم بهذا الأدب عما ينبغي أن يمليه علينا تاريخنا وطبيعتنا، وأخلاقنا، وعاداتنا، ومناظر بلادنا، وما جاز بنا من أحداث؟ وعلى الجملة: هل نترجم حقا عما تقتضينا جميع أسبابنا في الحياة؟
لا شك في أن أول ما يخطر على القلب في سبيل الإجابة عن هذا السؤال، أو هذه الأسئلة، هو استعراض مظاهر الأدب القائم اليوم، وتقري صوره وألوانه، وتحري مطالبه وغاياته، لنعرف أين يقع من مطالب الأدب التي تقدم فيها القول!
والواقع أنه مهما تختلف لهجات المتعاصرين من الأدباء في أية أمة من الأمم، وتتغاير أساليبهم في فنون البيان: شعرا كان أو نثرا، فإنك - ولا ريب - واجد لمجموعهم طابعا خاصا يدل على عصرهم، ويميزهم عن غيرهم، بحيث يتهيأ للناقد الخبير أن يستدل من نفس البيان على العصر الذي انتضح فيه دون أن يرفد بأية إشارة إليه، ولكنك، مع هذا، لا تستطيع أن تجد اليوم هذا الطابع للأدب في مصر، وتستطيع أن تزعم مثل هذا عن الأدب في الشام، ونقصر الكلام على الأدب المصري ففيه سقنا الحديث.
Bilinmeyen sayfa