وسرنا على هذا ساعة، ثم أحسست السيارة قد وقفت، وسمعت صرير بوابة تفتح، فنجوزها ثم تغلق، وبعد دقائق جزنا على هذا ببوابة أخرى، ثم بعد دقائق جزنا بثالثة، وأنا أشعر أثناء ذلك كله أننا نخوض حدائق غناء، تتضوع أزهارها، وتتغنى أطيارها، وأسمع لخلجانها آذيا وهديرا، ولجداولها مضمضة وخريرا، ثم وقفت السيارة وتدلى عنها الركب، وقادتني السيدة بيدها الناعمة فصعدنا أولا بضع سلاليم، ثم سارت بي قليلا وتقدمت إلى الخدم فرفعوا العصابة عن عيني، فإذا بي في بهو لا يتصور العقل سعة جنباته.
ثم جعل يصف لي ما حلي به من دمى وتماثيل وصور وتهاويل، ومنها ما نحت من المرمر، ومنها ما رصعت أطرافه بالدر والجوهر، مما لم يرد مثله عن الإيوان، أو عن قصر غمدان.
ثم مضت به إلى الطابق العلوي، ولا تنس أن الخصيان والجواري (البيض طبعا) وقوف صفين على طول الطريق، في أيديهم الشموع والمجامر تضوع بفتيت العنبر، وبالمسك الأذفر، حتى يأذن الله وينتهي المسير بإيوان، وإذا فيه أربعمائة فتاة كلهن أحلى من البدر، وأنضر من الزهر، وأبدع من الدهر إذا أقبل الدهر، وإذا هتاف يصم الآذان، وتصفيق يرج الإيوان، وإذا صاحبتي تصيح صياح مؤذن جاهد في الأذان: «لقد كسبت الرهان، فقد جئتكن بفلان!»
وتعزف الموسيقى وكل العازفات من الكواعب الأتراب، ولا تسل عن تهافت الفتيات عليه وتباريهن فيه إذا كان الرقص، وكان هصر القدود، أو كان عصر الخدود! •••
فإذا أنكرت علي، يا سيدي القارئ، إيماني بهذه «البطولة»، وإعجابي بهؤلاء «الأبطال»، فأنت امرؤ لا حظ لك في تذوق الشعر ولا في تقدير قدر الخيال!
غواة؟
فإذا أباها علينا صديقنا الأستاذ صادق عنبر قلنا هواة، وأمرنا لله!
الواقع أن بعض إخواننا الموظفين هواة، أو على الصحيح عند العامة غواة، شديدو الكلف «بالغية»، وليس يقع هواهم على شيء مما يتكلفه الناس في هذا الباب، من حذق تصوير ، أو حفر، أو تجويد ضرب على عود أو قانون، أو تربية الأزهار وتوليدها وتلوينها، أو الملاعبة بالحمام، والاشتغال بنطاح الكباش، ومهارشة الديكة، أو. أو. إلخ، فإن هواهم أو «غيتهم» إلى شيء آخر، أفتدري ما هذا الشيء؟ هو الكلام في «الحركة». فإذا كانوا من سلك القضاء كان الكلام في «الحركة» القضائية، وإذا كانوا من رجال الإدارة، فالكلام في «الحركة» الإدارية، وإنه لهوى يملك عليهم عواطفهم، ويستهلك أوقاتهم، فيطغى على لذائذهم جميعا.
وإنهم ليتعاهدون مكانا من فندق، أو موضعا في مقهى، أو منظرة في دار إذا كانوا في الريف. فإذا فرغوا من أعمالهم انتظم مجلسهم، وبدأ الكلام في «الحركة»، وميعاد صدور «الحركة». وراح كل يروي ما اتصل به من ذلك فمن قائل إنها ستصدر بعد ثلاثة أيام، ويسند هذا إلى خبر ثقة في وزارة الحقانية فيبتدره ثان بأنها لا تكون إلا بعد شهر على الأقل، ويحتج لهذا ثالث بأن هناك إشكالا فيمن يختار للمنصب الفلاني ...
ويدور الجدل والحوار في هذا ساعة أو ساعتين ... فإذا فرغوا منه أقبلوا يتفقدون من «عليهم الدور» في الحركة المقبلة. ومن هم الذين سيقع لهم الحظ فيها، فيجري الكلام في الترشيح للمناصب الخالية، وفيمن يخلف كل من يفارق منصبه إلى أعلى منه، وفيمن عليهم الدور للدرجة الأولى في القضاء ثم من عليهم الدور للدرجة الأولى في النيابة، ثم فيمن عليهم الدور للنقل إلى محكمة مصر. ومن ذا الذي سينقل إلى قنا. ومن ذا الذي سيندب للجنة المراقبة. ولا يزال يدافع الرجم والتخمين بالرجم والتخمين، وترتفع الأصواب بالتماس العلل، والاحتجاج للرأي، حتى ينتصف الليل أو يكاد، وينفض المجلس وينطلق كل إلى مثواه، فإذا كان أصيل اليوم الثاني، عادوا إلى مجالسهم، واستأنفوا شأنهم، وأعادوا ما بدأوه في أمسهم، لا يخوضون لحظة واحدة في غير حديثهم، فإذا كان يوم عطلة، عقدوا فيه جلسة «ماتينيه» للكلام في الحركة أيضا، وإنك لا تسمع أحدا منهم طول حياته يلوك بيتا من الشعر، أو يقلب لسانه في سبب من أسباب الحياة، أو يتجرى عليه نادرة ظريفة، أو طرفة تنتعش بها النفس، أو ملحة تملأ الشدق بالضحك! ولا تراه يوما يغشى مجلس غناء أو تمثيل، أو نحو هذا مما يطلبه الناس للرياضة والتفرج من كد العمل! ... إنما لذة العيش وقرة العين، ومتعة الحياة وأنسها وبهجتها، كل أولئك في الكلام على «الحركة» وحدها. حتى إذا غشى واحد من هؤلاء الهواة مجلس آخرين من إخوانهم، ممن لا يكرثهم أمر «الحركة»، ولا يقتلون وقتهم في الحديث عنها؛ لأنهم لا يشغلون وقت فراغهم إلا بما يشغله به سائر المتعلمين، من حوار في مسألة علمية، أو حديث في الأدب، أو جدال في المسائل العامة، أو رواية حادثة غريبة، أو إرسال نكتة بارعة، أقول إذ غشى واحد من أولئك مجلس جماعة من هؤلاء رأيته غريبا بينهم، منقبضا عن شأنهم، غافلا عن حديثهم، حتى لتحسبنه لا يعرف لغتهم ! وإنه ليهم المرة بعد المرة بتوجيه مجلسهم إلى الكلام في «الحركة»، فإذا لم يسترسلوا معه فيه تسلل عن المجلس بسلام!
Bilinmeyen sayfa