327

على أن هؤلاء «الأبطال» وإن اشتعبوا مذاهب البطولة، وتفرقت عبقرياتهم في مناحيها، فإنه تجمعهم طائفة من الخلال الكريمة، ما تكاد ترى لأحد منهم فضلا فيها على أحد، ومن هذه الخلال فرط الأدب، وشدة التواضع، ولين الجانب ومنها حسن التوافي للناس، والإقبال على مجالسهم حيث كانوا ومؤانستهم، والتسلية بفاخر الحديث عنهم، ولو لم تجر الصداقة بينهم وبينهم على أي عرق، فبحسبهم من كل هذا الكرم «المعرفة» المجردة والسلام!

ومن هذه الخلال الظرف، فإن أعوز ففي التظرف المتسع، ولقد يكون من هذا التظرف لفت الغافل عن «الحديث»، وتنبيه المشغول عنه بشأن آخر، ولقد يكون هذا اللفت والتنبيه بالكلام اللين من نحو: «واخد بالك يا سيدي» و«خليك معنا من فضلك!»، ولقد يكون باللكزة الرفيقة في الخاصرة أو في ثنايا الضلوع ! وكثيرا ما يمتد هذا الكرم إلى جهد النفس في إنشاط المتثاقل، وإضحاك العابس، وإدخال العجب على المتغافل!

وإن مدينة في مصر، وإن حاضرة من حواضرها، بل إن قرية من صميم ريفها، لا تخلو من بطل من هؤلاء أو من أبطال، وأنت خبير بأن البطولة من المقولات بالتشكيك، على تعبير أصحاب المنطق، فهي على ذلك مما يتفاوت في الناس كثرة وقلة، وقوة وضعفا، فلو قدرت النهاية العظمى بمائة درجة مثلا، فإنك واجد من غير شك من قد أحرزها وأصابها، كما تجد من تقاصر حظه إلى الثمانين، ومن تدلى إلى الستين، ومن استرخى وهو دون العشرين، على أنك لا تستطيع بأي حال، إلا أن تسلكه في جماعة الأبطال!

ومهما يكن من شيء، فإنك تستطيع أن تقسم على العموم هؤلاء «الأبطال» إلى قسمين: إخصائيين ومطلقين، أما الإخصائيون فقد توافر كل منهم على فن هذه البطولة، وترى من بين هؤلاء الإخصائيين من برعوا في بطولة الفروسة وقراع الأهوال، في البحار والجبال والأدغال، وصراع كل صائل من السباع والجوارح والأغوال!

ومنهم الإخصائي في فن الغرام، واصطياد كل شاردة من الآرام، وما يمنعه؟ وله من جفنيه أشراك، هيهات ما لآبدة منها فكاك، وإن له من لحظه لما يستنزل إليه الأراوي العصم، من صياصي الجبال الشم، فإذا جاءك أن غادة في الأرض قد تعذرت عليه في خدر، أو اعتصمت دونه وراء ستر، فإنك عنده حقيق بالرحمة والرثاء، لما تجهل من حقائق أحوال النساء.

وما له يجهد في طلبهن ويسعى، وما له يكد في استدراجهن ويشقى، وها هن أولياء يعترضنه كل يوم مواكب، ويتهاوين بين يديه كواكب؟ ولو كتب لك يوما أن تشهد مورد بريده في الصباح وفي المساء، لتعاظمك ما ترى من أحمال ثقال، وقد اجتمعت من الكتب الخفاف، وكلها موشى الحوافي منمنم الأطراف، وإن منها إلا ما يضوع شذاه، حتى ليكاد يسكر بطيب رياه: هذه تخطب وده، وهذه تشكو قلاه وصده، وتلك تحكي ما صنع الهوى، وأخرى تصف ما برحت بها برح الجوى، وخامسة لها عند الغرام مظلمة، فهي لا تسأل إلا العدل والمرحمة، وسادسة قد عز عليها الوصال، وشفها طول التجني والدلال، فأضحت لا تطمع في أكثر من نظرة إلى ذلك الجمال!

فإذا ما راجعت هذا الجبار العاتي، وسألته شيئا من الرقة لهؤلاء الوالهات المتدلهات، والعطف عليهن، ولو من قبيل «جبر الخواطر»، وفيهن أغلى الدرر، من بنات أعظم الأسر، ومن لم يقلبن الأعطاف إلا في النعيم، ولم يلابسن في أسباب العيش إلا كل جميل وثمين وكريم، وكلهن بحمد الله أحلى من البدر، وأشهى إلى النفس من ليلة القدر: لقد تراجعه في هذا فسرعان ما تثور ثوائره، وتقسو عليك بوادره، فيلقاك في هياجه، بأشد حدته وأحد احتجاجه، فيقول لك مثلا: حقا لقد قست القلوب وتحجرت، حتى أصبحت الرحمة لا تجد إليها سبيلا!، وهل جاءك يا سيدي أنني من بعض الحجارة أو من بعض الحديد؟ وإن الحجارة لتتفتت وإن الحديد ليذوب! وكيف حيلتي في كل هذه الجيوش التي لا يلحقها عدد، ولا ينقطع لها على الدهر مدد؟ وهل قلت لهن أحببن وتولهن، واعشقن وتدلهن؟ وترى هل خلا وجه الأرض من الرجال، فلم يبق غير «أخيك» هدفا لصبابة ربات الحجال؟

وهنا أردت يا سيدي أم لم ترد، تحس عاطفة قوية نحو هذا «البطل»، هي عاطفة الرحمة والإشفاق، حتى إنك لتفكر، إن كنت من أهل السلطان أو من المتصلين بأصحاب السلطان، في السعي لدى وزارة الأشغال لتدخل في مشروعات الري والصرف الجديدة، إنشاء قدر كبير من الترع والمصارف، ليتحول إليها جانب من هذا الغرام الطاغي، وإلا ساءت الحال، وحق على البلاد الوبال!

ولقد تبادى صاحبك بالاستراحة إلى عذره، فسرعان ما يسجو طرفه، وتشيع حمرة الخجل في وجهه، ويجيبك في لهجة تحسها مزجا من الفرح والشعور بالانتصار: «مش كده ولا إيه؟» كان الله في عون هذا «البطل» المسكين، وأمده من حوله وطوله بما يستطيع معه النهوض بأعبائه الجسام!

ومن هؤلاء «الأبطال» الإخصائيون أيضا في الجياد، وفي حذق فن الجياد، وفي اقتناء كرائم الجياد، مما يفوق في صفته ما خلا من أخبار عاد، وما لم يركب مثله عنترة بن شداد، وما لم تعهد مثله العرب والأعجام، وما لم يتعلق بوصفه شعر البحتري ولا أبو تمام! وإن عنده من كرائم الجياد لما يلحق البرق إذا برق، ويسبق السلك إذا خفق! •••

Bilinmeyen sayfa