كان حتما علي بعد ذلك أن أختار موضوع حديثي إليكم، ففكرت ثم فكرت، فلم يهدني تفكيري، على طول الترديد، إلا أن ألم إلمامة يسيرة بتطور الأدب العربي وموضعه في مصر اليوم، فلعلي بهذا أجلو منه صورة واضحة بعض الوضوح على من عسى ألا يكون قد عني بمطالعته من إخواننا السادة الغربيين.
وقبل أن أسترسل إلى هذا الغرض، أبادر فأقرر أنني مؤمن كل الإيمان بأن الأدب ما كان في يوم من الأيام - ولعله لا يكون في يوم من الأيام - فنا محدود الأطراف، ثابت الأبواب، مرسخ القضايا، ينتهي من التأصيل والتقعيد إلى كمال معين أو شبه كمال معين، شأن الفنون الموصولة بالعقل، أو بالطبيعة، أو بالواقع، فلا يدخل على قضاياها التغيير إلا بحدث عظيم من نحو استكشاف مجهول خفي في الزمان على أنظار العلماء، بل إن الأدب لعرض يتكيف ويتلون طوعا لعقلية كل قوم، وتاريخهم، وأخلاقهم، وعاداتهم، والجو الذي يعيشون فيه، وأسبابهم الخاصة، ومبلغ شعورهم بالجمال، بل بصور هذا الجمال أيضا.
فالأدب الحق لكل قوم هو ما يكافئ عقليتهم، ويرضي أذواقهم، ويواتيهم في سائر أسباب الحياة.
وعلى هذا، لقد يكون من العبث أن نطلب للعامة من سكان الصعيد الأعلى مثلا، وهم شركاؤنا في الجنس واللغة، الأدب الذي يترواه ويمتع به المتعلمون في كبد الحضر، وأن ننعى عليهم تخلفهم في هذا، وإن عبثا كبيرا أن يراد تنعيمهم وتلذيذهم بمثل أدب الجاحظ والأغاني، وبما انتضحت به قرائح أئمة البيان وقادة الفكر في الشرق والغرب، ولو ترجم إلى لغاتهم، وأدي إليهم في لهجاتهم.
عصور الأدب العربي
سيداتي، سادتي
لقد كان لسلفنا العرب في جاهليتهم أدب قوي جدا يكافئ بداوتهم وشدة طباعهم، وقوة غرائزهم، وصفاء نفوسهم، أدب يواتي كل أسبابهم في الحياة من الحرب والغزو والطرد، والتفاخر بالكرم والإيثار، والتكاثر بالأهل والعشيرة، وقوة الغزل، ودقة الوصف لكل ما يتناوله حسهم، والوقوف بالديار، ومساءلة النؤي والأحجار.
فلما فتح الإسلام عليهم من أقطار الأرض، جعلت أشعارهم وسائر آدابهم تتلون بلون الحضارة التي لابسوها، والحياة التي أخذوا في تذوقها، حتى إذا بلغوا من العلم حظا، واطردت بهم الحضارة الواسعة في عهد العباسيين، كان الأدب العربي شيئا آخر، شيئا يواتي مطالب عقولهم، ويتوافى لأحلامهم وأذواقهم في أسبابهم الحديثة.
ومثل هذا يقال في أدب الأندلس، فإن صوره ما برحت تدارج شأنهم في حضارتهم فتترف بترفهم، وتلين بلين عيشهم، حتى كان الأدب يصاب فيهم بالتزايل والاسترخاء، وحتى ولدوا في الشعر فنونا لتؤدي من الأغراض اللينة الرخوة ما عسى أن تثقل عليه أوزان الشعر!
ومصر أيضا، لقد كان لها من عهد شيوع العربية أدب يكافئ عيشها في كل عصر، على أنه وإن كان أدبها في مبتدأ الأمر لا يكاد يختلف عنه في قاعدة الخلافة؛ لأن الأدب العربي إنما كان فيها شبه عارية، لا يكاد يعالجه إلا من انحدروا إليها من الأقطار العربية؛ فإنه على تطاول الزمن جعل يتأقلم، وما برح يطرد في هذا حتى أصبح يحمل الطابع المصري الخالص، حتى إن العديد الأكبر ممن هبطوا مصر من العلماء والشعراء والكتاب في أواسط القرن السابع الهجري، عقب سقوط بغداد في أيدي التتار، لم يستطيعوا أن يحيلوا لون الأدب المصري؛ بل لقد طبعهم وأنسالهم بطبعه على الزمان!
Bilinmeyen sayfa