195

رغبت إلى الأستاذ الصديق عبد العزيز البشري في أن أقدم الجزء الثاني من كتابه المختار، فتأبى علي وأظهر امتناعا ثم التواء، ولم أظفر منه بما أردت إلا بعد جهد وإلحاح، وما رغبت إليه في ذلك حرصا على كتابة فصل من الفصول، أو إيثارا لإملاء مقال طويل أو قصير، فالله يشهد لقد أضيق بالكتابة حتى أكره أن أسمع لفظها، وأتبرم بالإملاء حتى لا أسمح لصاحبي أن يتحدث إلي بذكر القلم والورق.

وما رغبت إليه في ذلك لأعرفه إلى الناس، وقد عرفه الناس قبل أن يعرفوني، ولا لأقدم كتابه إلى القراء، فليست آثار البشري من الآثار التي تحتاج إلى أن تقدم بين أيديها المقدمات، وإنما رغبت إليه في ذلك؛ لأني أرى له دينا في عنقي، وفي عنق كثير من المثقفين في هذا الجيل الذين يحبون الفن الرفيع من الأدب، ويحرصون على الاستمتاع به، ويخلصون له نفوسهم وعقولهم وقلوبهم وضمائرهم، فكل هؤلاء المثقفين قد وجدوا عند البشري منذ أوائل هذا القرن ما يرضي حاجتهم إلى الأدب العالي والفن الممتاز، وكلهم مدين له بساعات حلوة قضاها مستمتعا بلذة موسيقية رائعة، كان يشترك فيها سمعه وقلبه وعقله، وأيسر ما يجب للبشري عند هؤلاء أن يعترفوا له بالفضل ويسجلوا على أنفسهم هذا الجميل، ويشهدوا الأيام على أنهم ليسوا من الجحود والعقوق بحيث يقصرون في ذات كاتب عظيم كهذا الكاتب العظيم.

وما أحب أن يظن بي البشري مجاملة أو ملاطفة، أو مبالغة في القول، أو تزيدا في الثناء، فأنا أبرأ إلى الله وإليه من هذا كله في هذا الفصل الذي أمليه الآن. إنما هو ثناء صادق يصدر عن ضمير مقتنع اقتناعا صادقا بأن هذا الكاتب الأديب قد فرض على هذا الجيل لنفسه حقا ما أحسب أنه قادر على أن يؤديه أو ينهض به، وما أراه يبلغ من ذلك إلا أن يقدم إلى عبد العزيز البشري تحية مهما تكن فهي رمز متواضع يسير لما يشيع في النفوس، ويتغلغل في القلوب من شكر له، وإعجاب به وإكبار لفنه الجميل.

لست أدري أيرى الناس كلهم رأيي في فن عبد العزيز، ولكن الذين تحدثت إليهم في ذلك قد شاركوني فيما رأيت، ووافقوني على الصورة التي كونتها لنفسي من هذا الفن، وأخص ما يمتاز به أدب عبد العزيز أنه حلو سمح خفيف الروح، لا يجد قارئه مشقة في قراءته، ولا جهدا في فهمه، ولا عناء في تذوقه وتمثله، ومن الفنون الأدبية الرائعة ما يكون شاقا عسيرا، وغامضا ملتويا، وما تكون اللذة التي يؤتيها نتيجة لمشقته وعسره، وأثرا لغموضه والتوائه، فهو فن مقصور على الخاصة، أو على جماعة ضيقة من الخاصة، ومن الفنون الأدبية ما يكون سهلا يسيرا وقريبا داني المنال، لا يلتوي على أحد ولا يشق على طالب، ولكن إمتاعه لقرائه يسير مثله، ليس عميقا ولا بعيد المدى، لا يكاد يذاق حتى ينسى، ولا يكاد يستمتع به حتى ينقضي العجب منه والرضى عنه والرغبة فيه، فهو إلى أن يكون فنا لتمتيع العامة وإرضائها أدنى منه إلى أي شيء آخر، وليس أدب عبد العزيز من هذا ولا ذاك، وإنما هو أدب لا تنقطع أسبابه بينه وبين أوساط المثقفين، ولعل الأسباب أن تتصل بينه وبين عامة الناس، ولعلهم أن يجدوا فيه اللذة القوية إذا قرءوه أو سمعوا له، ولكنه مع ذلك - بل من أجل ذلك - يرتفع ويرتفع، حتى يرضي خاصة الناس ويبلغ إعجابهم، وينزل من قلوبهم أحسن منزل، ويقع من عقولهم وشعورهم أجمل موقع وألطفه، فهو فن ميسر ممهد موطأ الأكناف، فيه دماثة الرجل الذي حسنت أخلاقه، ورقت شمائله، وظرفت نفسه، واعتدل مزاجه، فهو محبب إلى الناس جميعا، مقرب إلى الناس جميعا، ويرغب الناس جميعا في صحبته، ويكلف الناس جميعا بعشرته، ويتحرق الناس جميعا إلى لقائه، ويعجز الناس جميعا عن فراقه وبعد العهد به.

وما عليك إلا أن تسأل من شئت من أي طبقة من طبقات الناس الذين يقرءون الأدب العربي الحديث عن رأيهم في أدب عبد العزيز البشري، فستلقى منهم جميعا رضى وحبا وإعجابا واستعذابا، وسيختلفون في تعليل ذلك وتأويله. يلتمسون هذا التأويل وذلك التعليل في أمزجتهم الخاصة، وفي حظوظهم المختلفة من الثقافة، وفيما يكونون لأنفسهم من رأي في الأدب، ومن مثل أعلى في الفن، ولكنهم سيتفقون على أنه أدب محبب إلى الأسماع والنفوس جميعا. وقد حاولت غير مرة فيما بيني وبين نفسي، وفيما بيني وبين أصدقائي، أن أتعرف مصدر هذه الخصلة التي يمتاز بها أدب عبد العزيز، والتي تحبب أدبه إلى الناس - على ما يكون بينهم من اختلاف الطبقة وتفاوت المنزلة - وأحسبني وفقت إلى هذا المصدر ووضعت يدي عليه، وما أدري أيقرني عبد العزيز على ما أرى أم يخالفني فيه؟ وما الذي يعنيني أن يرضى عبد العزيز من هذا أو يغضب؟ فأنا لا أكتب لأرضيه ولا لأسوءه ، وإنما أكتب لأقضي دينا وأؤدي حقا، ولعلي أن أرضي التاريخ الأدبي بعض الرضى.

وأول ما يبدو لي من مصدر هذه المزية التي يمتاز بها أدب عبد العزيز أنه جمع خصالا ثلاثا، فلاءم بينها أحسن ملاءمة، وكون منها مزاجا معتدلا رائع الاعتدال، فهو مصري قاهري كأشد ما يمكن أن يكون الإنسان مصريا قاهريا، يحس كما يحس أبناء الأحياء الوطنية، ويشعر كما يشعرون، ويحكم كما يحكمون، لولا أن ثقافته ترتفع به إلى هذه الطبقة الممتازة التي تحسن الحكم على الأشياء، وهو - على كل حال - قاهري الحس، قاهري الشعور، قاهري الذوق، وما أراه يجد مشقة يسيرة في أن يتحدث إلى أشد الطبقات في الأحياء الوطنية تواضعا، وما أراه يحتاج إلى أن يبذل جهدا ضئيلا في أن يبلغ من الحديث إلى هذه الطبقات رضى نفسه ورضى محدثيه، فهذه خصلة، والخصلة الثانية: أنه بغدادي الأدب كأشد ما يمكن أن يكون الأديب بغداديا، وقد عاشر أبا الفرج الأصبهاني وأصحابه، فأطال عشرتهم وتأثر بهم، وانطبعت نفسه وعقله ولسانه بطابعهم، فهو إذا تحدث إلى المثقفين تحدث بلغة الأغاني، لا يكاد يصرفه عن هذه اللغة صارف، إلا أن يأتي من قرارة نفسه المصرية القاهرية، فإذا هو يلقي النكتة المصرية بارعة رائعة لاذعة، ولكن لذعا يؤلم ولا يؤذي - إن أمكن مثل هذا التعبير - فهذه خصلة ثانية.

والخصلة الثالثة: أنه قد ألم بحظ من حياة المترفين الذين عرفوا الحضارة الغربية وذاقوها وتمثلوها، واستمع لأحاديثهم وشاركهم في هذه الأحاديث، فأخذ من هذه الحضارة الأوروبية شيئا يسيرا خفيف الظل قوي التأثير في الوقت نفسه، يستطيع أن يلائم مصريته الموروثة وبغداديته المكتسبة، فتكون له من هذه الخصال الثلاث مزاج غريب اشتركت في إنشائه بغداد والقاهرة وباريس.

اشتركت في تكوين هذا المزاج، ووفقت في هذا التكوين إلى أبعد مدى، إلى مدى لم توفق إلى مثله في تكوين كاتب من كتابنا المعاصرين، فأنت واجد عند الكتاب المعاصرين الظاهرين هذه العناصر الثلاثة كلها، ولكنك ترى العربية تغلب على هذا، والمصرية تغلب على ذاك، والإنجليزية أو الفرنسية تغلب على ثالث، فأما أن تتوازن هذه العناصر وتأتلف ويحب بعضها بعضا، ويطمئن بعضها إلى بعض، ويجتهد كل منها في أن يعين صاحبيه؛ فذلك شيء لا تظفر به إلا عند عبد العزيز.

ومن هنا كان أدب عبد العزيز مرضيا معجبا لطبقات المثقفين جميعا، إذا قرأه الأزهريون أعجبوا به؛ لأن فيه شيئا من الأزهر، وإذا قرأه أبناء المدارس المدنية أعجبوا به؛ لأن فيه روحا من أوروبا، وإذا قرأه أوساط الناس الذين ليسوا من أولئك ولا هؤلاء أعجبوا به؛ لأن فيه روحا من مصر، وإذا قرأه أهل الشام والعراق أعجبوا به؛ لأن فيه روح العربي الخالص القوي، والغريب أن التئام هذه العناصر قد أتاح لعبد العزيز ما لم يتح لكاتب آخر من المعاصرين ، فهو أكثر الكتاب المحدثين اصطناعا للنكتة البلدية. يصطنعها بلغتها العامية في غير تكلف ولا تحفظ ولا احتياط. يأخذها من حي السيدة أو من حي باب الشعرية، فيضعها في وسط الكلام الرائع الرصين الذي يمكن أن يقاس إلى أروع ما كتب أهل القرن الرابع والثالث للهجرة، فإذا نكتته البلدية العامية مستقرة في مكانها مطمئنة في موضعها، لا تحس قلقا ولا نبوا، ولا يحس قائلها قلقا ولا نبوا، ولكنها تفجؤه فتعجبه وتملأ نفسه رضى، ثم يحس أن الكلام ما كان ليستقيم لولا أن هذه النكتة قد جاءت في هذا الموضع واستقرت في هذا المكان.

وهذا الذي يصنعه بالنكتة البلدية في يسر ولباقة لا يعرف سرهما أحد غيره، ولعله هو لا يعرف سرهما، ولعله لا يتعمد ذلك ولا يصطنعه، وإنما هو وحي الطبع وإملاء الفطرة. هذا الذي يصنعه بالنكتة البلدية في يسر ولباقة يصنعه بالكلمة الأوروبية، أو بالجملة الأوروبية، فأنت تقرأ الفصل من فصوله فما تشك في أنك تقرأ لبديع الزمان، وإنك لفي ذلك، وإذا كلمة فرنسية تفجؤك فلا تزيد على أن تذكرك بأنك تقرأ لعبد العزيز البشري ليس غير.

Bilinmeyen sayfa