وما أحسب محمدا تجاوز في الدراسة المنظمة التعليم الابتدائي، ثم جعل يتعلم على أبيه، ويكب على قراءة الكتب في العلوم والآداب، ثم اتصل بأئمة العلماء وأقطاب أصحاب الأدب، من أمثال السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والشيخ حسين المرصفي، ومحمود باشا سامي البارودي، وغيرهم من أعلام عصره، فحذق العربية وبرع فيها، وجود البيان أيما تجويد، وهيأ له جده واضطرابه في أسفاره بين الشرق والغرب تجويد اللغات الفرنسية، والتركية، والإيطالية؛ كما أصاب حظا من الإنجليزية واللاتينية، وكان كثير القراءة إلى غاية الممات، فلا تكاد تقتحم عليه إلا رأيته يعالج بالتنسيق حديقته، أو يقرأ في كتاب عربي، أو في كتاب يجري في إحدى هذه اللغات.
ولقد سألته ذات يوم عن أحسن الفرص التي هيأت له أعظم حظ من العلم، فقال: كنت في الآستانة في ضيافة رجل فاضل يدعى سليمان أفندي، وكانت عنده خزانة كتب تعد من أفخر خزائن الكتب الأهلية، فلبست ثيابي ذات عشية تأهبا للخروج كعادتي لأسهر في بعض ملاهي المدينة؛ وتفقدت كيسي فإذا هو صفر من الدرهم، فنضوت ثيابي ثانية وقلت باسم الله، ولبثت عاكفا على قراءة الكتب، لا أبرح هذه المكتبة إلا للنوم أو لغيره من حاجات الحياة، وظللت على هذه الحال ستة أشهر وبعض الشهر، حتى أذن الله بالفرج، وجاءني من المال ما هيأ لي استئناف الحياة مع الناس!
ومن يعرف صبر المويلحي، وشدة حمله على نفسه، لا يستطيع أن ينكر منه هذا المقال؛ وسألم إن شاء الله بهذه الخلة العجيبة فيه عند الكلام في عاداته وأخلاقه، وحسبي هذا الآن، فقد أطلت الحديث؛ وإلى الملتقى القريب.
تتمة في نشأته ودراسته
لقد عرفت مما قصصنا عليك أن هذا الرجل وإن نشأ عظاميا بما لبيته من الغنى والحسب، فقد نشأ عصاميا بما حصل من العلم والأدب، اتكأ على نفسه فأكب على الكتب داثرها ومجفوها، ولعل أكثر نظره إنما كان في كتب التاريخ والسير، ولو قد وقع لك صدر من آثار أبيه وآثاره لرأيت لهما في مواطن الاستشهاد فطنة عجيبة إلى دقائق دقيقة، مما يعلق بزوايا التاريخ أو بحواشيه، قل أن يفطن لها أكثر القارئين، وقل أن يحفل بها أو يعلقها من يفطن إليها من الدارسين، على أنها قد يكون لها في دواعي الكلام مقام عظيم، وكثيرا ما ترفعه درجات على درجات.
كذلك اعتمد محمد في تحصيل العلم والآداب على الاتصال بصدور أهل الفضل، يصاحبهم ويلابسهم، ويلازم مجالستهم، ويشهد محاضراتهم ومقاولاتهم، كذلك داخل رجال الحكم وأصحاب السياسة في مصر وفي الآستانة، فعرف أساليبهم، وأدرك مذاهبهم، ولم ينكسر على هذا وهذا؛ بل لقد صاحب كذلك أهل الظرف وأصحاب البدائه، وشاركهم في أسمارهم، ودخل في مناقلاتهم ومنادراتهم.
وعالج البيان من صدر شبابه، يصقل له أبوه القول، ويقرب له مصطفى اللفظ، ويأخذه بتجويد النسج، ويهديه إلى مضارب القلم، وسرعان ما نضج وأدرك، وجرى قلمه بالبيان حلوا متينا نيرا، ووقع من فنون المعاني على أجلها وأكرمها، ونهج لنفسه أسلوبا خاصا به، إن تأثر فيه بأحد، فبالأسبقين من أعلام الكتاب، فكان منه بذلك كله الأديب التام.
واحترف صنعة القلم، واشترك في تحرير جريدة المقطم بضع سنين على ما أظن، ولا أحسبه قد شارك أباه في تحرير الصحف التي أخرجها في عهد الخديو «إسماعيل»، فتاريخها إن لم يكن أبعد من مولده، فهو أبعد في أرجح الظن من حمله القلم، والله أعلم!
وكان أبوه رحمة الله عليهما، كثير الاختلاف إلى الآستانة مثوى الخلافة يومئذ، فكان يصحبه في بعض الرحلات، وقلد إبراهيم بك في زمن السلطان عبد الحميد منصب المستشار لوزارة المعارف العثمانية، وأقام فيه بضع سنين، لعلها تسع إن صدقتني ذاكرتي: فقضى محمد في الآستانة هذه السنين.
ولما اعتزل إسماعيل باشا إمارة مصر، وآثر المقام في إيطاليا، دعا بإبراهيم بك ليؤنسه ويسامره ويخدمه في بعض مساعيه عند السلطان، فحمل معه ولده وأقاما في نابولي في قصر إسماعيل بضع سنين، ومن هنا تدرك كيف حذق محمد لغة التليان.
Bilinmeyen sayfa