كلمة المؤلف
الباب الأول: في الأدب
تطور الأدب العربي وموضعه بمصر اليوم1
حيرة الأدب المصري!1
كفاح اللغة العربية في سبيل الحياة والنهوض1
القصص في الأدب العربي1
في الأدب بين القديم والجديد1
في النقد الأدبي
في رثاء صبري1
الأدب الحاد
رسالة الأدب!
خيال الشاعر بين الطبع والصنعة1
شوقي ...!1
الباب الثاني: فى الوصف
هو ...1
إسماعيل صبري1
شوقي1
عدو صميم، أم ولي حميم؟ ...1
عبرة1
قصة1 حياء!
أولادنا!1
الطفل ملك صغير
الطفل الشريد1
إلى أين؟ إلى أين؟1 ألا من قرار؟! ...
الشباب المولي!
لا صحة إلا في المرض!1
في الطيارة بين ألماظة والدخيلة1
الراديو1 كما يصفه أعرابي قادم من البادية
مجدولين1
إفلاس!1
في الجمال1
بنك مصر1
الباب الثالث: في التراجم والتعزيات والمراثي
رشدي باشا1
الشيخ علي يوسف1
محمد بك المويلحي1
عزاء1
تعزية صديق لصديقه1
من صديق1 إلى الدكتور نجيب بك (باشا) محفوظ
مسكين!1
إسماعيل1
محمد بك أباظة1
محمود باشا سليمان1
والرجال قليل!1
أحمد عبد الوهاب1
يا حافظ!1
ابني! ...1
مقدمة
الباب الرابع: في الفن والمفتنين
في الفن وحده1
في الفن1
في علوم البلاغة
في الفن والمفتنين1
تطور الموسيقى المصرية في العصر الحاضر1
في الأغاني المصرية1
التجديد والمجددون1
ديمقراطية الفنون!
المفتن أبو نواس1
رجال ينبغي أن يذكروا1
الشيخ سيد درويش1
الشيخ أحمد ندا1
غني يا ...!1
طرب!1
الباب الخامس: في المداعبات والأفاكيه
النكتة المصرية في العصر الحديث1
آداب العراك في الجيل الماضي1
مشروع معركة!1
التطفيل والطفيليون1
التطفيل والطفيليون1 في الجيل الماضي
الشيخ حسن غندر
الباعة الجوالون1 ومساحو الأحذية
إلحاح ...!1
يا لطيف!1
الشحاذون ...!1
ابن العم ...!1
ظرف ...!
إلى الحكومة
عشاء!
قرحة البطن!
تنمر ...؟
غرام ...!
من خلق الله! ...
ما شاء الله! ...
غرور ...!1
رجل غريب!1
إقناع معدة ...!
اقتصاد سياسي! ...
في البخل! ...
أصحاب اللقط والتعويض!
رزق ...!1
ولع! ...
عبقرية!
مفتش عموم ...!
الغرام المجاني!
بطولة! ...1 (1)
بطولة (2)
بطولة (3)
غواة؟
فن الوظيفة؟
امتحان! ...1
يا خسارة! ...
بين القاضي والمأمور
يوم ويوم! ...
أعوذ بالله! ...
أوكازيون!
شعراؤنا والندابات!1
كلمة المؤلف
الباب الأول: في الأدب
تطور الأدب العربي وموضعه بمصر اليوم1
حيرة الأدب المصري!1
كفاح اللغة العربية في سبيل الحياة والنهوض1
القصص في الأدب العربي1
في الأدب بين القديم والجديد1
في النقد الأدبي
في رثاء صبري1
الأدب الحاد
رسالة الأدب!
خيال الشاعر بين الطبع والصنعة1
شوقي ...!1
الباب الثاني: فى الوصف
هو ...1
إسماعيل صبري1
شوقي1
عدو صميم، أم ولي حميم؟ ...1
عبرة1
قصة1 حياء!
أولادنا!1
الطفل ملك صغير
الطفل الشريد1
إلى أين؟ إلى أين؟1 ألا من قرار؟! ...
الشباب المولي!
لا صحة إلا في المرض!1
في الطيارة بين ألماظة والدخيلة1
الراديو1 كما يصفه أعرابي قادم من البادية
مجدولين1
إفلاس!1
في الجمال1
بنك مصر1
الباب الثالث: في التراجم والتعزيات والمراثي
رشدي باشا1
الشيخ علي يوسف1
محمد بك المويلحي1
عزاء1
تعزية صديق لصديقه1
من صديق1 إلى الدكتور نجيب بك (باشا) محفوظ
مسكين!1
إسماعيل1
محمد بك أباظة1
محمود باشا سليمان1
والرجال قليل!1
أحمد عبد الوهاب1
يا حافظ!1
ابني! ...1
مقدمة
الباب الرابع: في الفن والمفتنين
في الفن وحده1
في الفن1
في علوم البلاغة
في الفن والمفتنين1
تطور الموسيقى المصرية في العصر الحاضر1
في الأغاني المصرية1
التجديد والمجددون1
ديمقراطية الفنون!
المفتن أبو نواس1
رجال ينبغي أن يذكروا1
الشيخ سيد درويش1
الشيخ أحمد ندا1
غني يا ...!1
طرب!1
الباب الخامس: في المداعبات والأفاكيه
النكتة المصرية في العصر الحديث1
آداب العراك في الجيل الماضي1
مشروع معركة!1
التطفيل والطفيليون1
التطفيل والطفيليون1 في الجيل الماضي
الشيخ حسن غندر
الباعة الجوالون1 ومساحو الأحذية
إلحاح ...!1
يا لطيف!1
الشحاذون ...!1
ابن العم ...!1
ظرف ...!
إلى الحكومة
عشاء!
قرحة البطن!
تنمر ...؟
غرام ...!
من خلق الله! ...
ما شاء الله! ...
غرور ...!1
رجل غريب!1
إقناع معدة ...!
اقتصاد سياسي! ...
في البخل! ...
أصحاب اللقط والتعويض!
رزق ...!1
ولع! ...
عبقرية!
مفتش عموم ...!
الغرام المجاني!
بطولة! ...1 (1)
بطولة (2)
بطولة (3)
غواة؟
فن الوظيفة؟
امتحان! ...1
يا خسارة! ...
بين القاضي والمأمور
يوم ويوم! ...
أعوذ بالله! ...
أوكازيون!
شعراؤنا والندابات!1
المختار
المختار
تأليف
عبد العزيز البشري
تقديم الكتاب
بقلم خليل مطران
رغب إلي صديقي الكريم الأستاذ الكبير الشيخ عبد العزيز البشري في تقديم كتابه هذا، فتفرست فيه فإذا هو لا يهزل، هلا فعل أيام كنت أنشئ المجلة المصرية، ولي من قرب عهدي برياسة تحرير الأهرام بضع سنين، ومما ينشر لي من الفصول في المؤيد واللواء وغيرهما شهرة وذيوع صيت، فأقدم آنئذ للناس بواكير فتى فارق حلقات الدرس حديثا، ودلت الأول من ثمرات بيانه، على ما سيجنيه العالم العربي من قطوف أدبه وافتنانه؟
أما وهو اليوم أعرف من كل معرف بين الناطقين بالضاد في مشارق الأرض ومغاربها، فلقد سامني من هذا التقديم ما ليس بيسير، على أنني سأطلع من ثنايا مباحثه إلى ذروة أرفع عليها علم أدبه، وسأقتبس من آيات نبوغه ما أجلو به للمطالعين أمثلة من صور فضله.
لقد ألهم الله الأستاذ خيرا، فواتى أمنية تجيش في صدور محبيه والمعجبين به بأن جمع من خطبه البارعة، ومقالاته الرائعة، ما تفرق في الصحف والمجلات، فاستوت كتابا هو في وقته كنز لأولي الألباب، وسيظل فيما يلي من الزمن ذخرا للأعقاب.
وبعد، فلم لا أقف من هذا الكتاب موقف الدليل من المتحف، فهو في الحق متحف حافل بالمفاخر، وكل طرفة من طرفه جديرة بأن تطالع في تدبر وروية، على أنني سأكتفي بالإشارة المجملة إلى ما يتضمنه كل قسم، وأتفادى من سماجة الدليل الذي يعطل بثرثرته مآخذ الذهن من التأمل الصامت فيما تقع عليه العين من روائع الفن، وأحب إليه بل أجدى عليه أن يتملاها نظرا، من أن يترواها خبرا.
الباب الأول: في الأدب
ها هنا يمر المطالع بقلائد وفرائد من خطب وفصول في الأدب لا يخرج يتيمها، ولا يحكم صوغها وتنظيمها إلا قلم البشري ولسان البشري، تحركهما نفس كبيرة الهم، بعيدة المرامي، قلقة في مهاب الأهواء ومثارات المنازع، فياضة بحب مصر، وإيثار العربية الفصحى لها لغة، تتجنب التحقيقات العلمية، والتعاريف المنطقية، وإن تبتغي إلا اقتناع المتأدبين من طريق الباعث الغريزي فيهم، ومن طريق إخبارهم بما يجري عند الأمم الغربية الراقية من مثل ما عندهم، بأن البيان يجب أصلا أن يكون عربيا سليما في اللفظ والأسلوب والاصطلاح، وأن يتكيف مع سلامته ومراعاته لتلك الأصول، فينطبع بطابع الفطرة المصرية التي لها ما تتخيره خاصة من تلك اللغة وتلك الأصول ، فإذا أحيط البيان بهذا النطاق، وصين من تسرب العجمة إليه، فلا مانع يمنع من كل ابتكار وتجديد، على ألا يعدو حدوده، ولا يمس الخصيصة القومية في جوهرها.
يقول في الأدب بعد أن أمسك عن تعريفه، وبعد أن أهاب مرارا بأعلام البيان وأئمة المتأدبين أن يعرفوه أو يدلوا على مواضع التعريفات الصحيحة له، فلم تتدل أقلامهم بجواب:
وعلى كل حال، فإن الأدب إذا لم يضبطه تعريف جامع مانع، فإن موضوعه واضح في مظاهره، وفي الغايات التي يطلبها ويتطاول إليها، فما من أحد إلا يرى أن أبلغ مظاهر الأدب في نفض الأحساس الكامنة، والعواطف الجائشة، وتصوير ما يعتلج في أطواء النفس من ألوان الانفعالات بعبارات موسيقية تتدسس إلى نفس السامع، فتثير منها كل ما يثور في نفس الشاعر أو الكاتب، ولا شك عندي في أن هذا أبلغ مظاهر الأدب وأجل غاياته.
كذلك لقد ضبطت بالشكل كل ما المصري القائم:
وعلى الجملة إنك لو تصفحت هذا الأدب المصري القائم، لرأيته موزعا بين حياة في الجزيرة لعصر الجاهلية وصدر الإسلام، وبين حياة في بغداد أو الأندلس، فيما يلي ذلك العصر، وبين حياة في لندن أو برلين أو باريس أو روما أو موسكو، ولكن أين هذا الأديب الذي يعيش في مصر ويصور عواطفه المصرية التي يلهمها ما ينبغي أن يلهم المصري من عواطف وإحساس؟
ثم يعود فيفصل بعض الشيء ما أراده بالأدب العربي القومي، وما أبلغ الكلام الذي أوحي إليه في هذا الغرض، ومنه قوله:
إذن لا مفر لنا من أن نلتمس أدبنا القومي، ولا يكون هذا الأدب إلا عربي الشكل والصورة، مصري الجوهر والموضوع، وإذن فقد حق علينا أن نبعث الأدب العربي القديم، وننثل دواوينه، ونستظهر روائعه، ونتروى منها بالقدر الذي يفسح في ملكاتنا، ويقوم ألسنتنا، ويطبعنا على صحيح البيان، فإذا أرسلنا الأقلام في موضوع يتصل بالآداب، بوجه خاص، أطلقنا القول في صيغة عربية لا شك فيها، على ألا نطلب بها إلا الترجمة عما يختلج في نفوسنا، ويتصل بإحساسنا، ونصور بها ما نجد مما يلهمه كل ما يحيط بنا، وما يعترينا في مختلف أسبابنا من فكر ومن شعور ومن خيال.
ولقد قدمت لك أننا قد نكون في حاجة شديدة جدا إلى مطالعة آداب الغرب وإطالة النظر فيها، واستظهار الكثير من روائعها، ونقل ما يتهيأ نقله إلينا منها في لسان العرب، وهذا أمر لا شك فيه، ولا غناء لنا عنه، فإن ذلك مما يهذب من ثقافتنا، ويفسح في ملكاتنا، ويرهف من حسنا، ويهدينا إلى كثير من الأغراض التي تشتعبها آداب الغرب في هذا العصر، والواقع أننا تهدينا من آداب الغرب إلى فنون لم يكن لنا بها عهد من قبل، أو أنها مما عالجه سلفنا ولم يكن حظهم منه جليلا، ومن أظهر هذه الفنون القصص بالمعنى القائم، ومذاهب النقد الحديث.
على أن شيئا من ذلك الأدب الأجنبي لا يجدي علينا، ولا يؤدي الغرض المقسوم بمطالعته والإصابة منه إلا إذا هذبناه وسوينا من خلقه ولونا من صورته حتى يتسق لطباعنا، ويوائم مألوف عاداتنا، ويستقيم لأذواقنا، كما ينبغي أن نجهد الجهد كله في تجليته في نظام من البلاغة العربية محكم التنضيد، فلا نحس فيه شيئا من نبو ولا نشوز، وبهذا نزيد في ثروة الأدب العربي، ونرفع من شأنه درجات على درجات.
هذا هو الهدف الأكبر فيما رمى إليه الأستاذ بمختلف مباحثه القيمة في الأدب: ما تناول منها الموضوع في لبابه أو جال به جولاته في النقد والشعر، ومن مر بالقلائد التي نظمها في هذه الفصول كلها والفرائد التي رصعها بها، لم يفارقها إلا بقلب مشتاق، ولب يستظهر بالذكرى على ألم الفراق.
الباب الثاني: في الوصف
هذا الجناح من المتحف فيه العجب العجاب: أتنظر بعين البدوي إلى تلك الآلة العجيبة «الراديو» فترى هيئتها كما يراها وتدهش من مفاعيلها مثل ما دهش منه؟ أتشهد المؤلف قبل أن يركب الطيارة وحين ركبها، وبعد أن تدلى منها وصار إلى مأمن، وأعاد ذكراها في نفسه مروعا حين رآها في السماء قافلة، وهو يجالس بعض صحبه على شاطئ البحر بالإسكندرية؟
أتتفرس في رسم المؤلف حين يهتف هاتف من أصدقائه بسنه وقد تشرف على الخمسين، وتقرأ في ذلك الرسم كل ما تراءى عليه من الأحساس المتلونة التي تكن أمثالها جوانح كل حي؟ ولكن من فيهم يستطيع جلاءها كما جلا؟
أيروعك شكله وهو صحيح معافى؟ غير أنه لا يشعر بأنه مجتمع الشمل، ولا يسكن إلى ما هو فيه، وكلما اطلع على ساعة من ساع الزمان رآه مشغولا بالانحدار إلى التي تليها، فعلى محياه يرتسم سؤال: «إلى أين؟ إلى أين؟» وسؤال آخر: «ألا من قرار؟» على أن إجابته عن هذا السؤال هي إجابة الإنسانية كلها، أجل، ولكنها إجابتها بأفصح ما يتسنى لنفس أن تعبر به تعبيرا خلابا بديعا عن أسرار حيرتها الدائمة!
أتنظر إليه في رسم آخر وهو ينمق ما يوحيه إليه الجمال، فتمر بك الألواح العجيبة من بزوغ شمس واستوائها على عرش ملكها تصدر توقيعاتها في حياة هذا العالم، ومشبها بعد ذلك متثاقلة إلى خدرها، لتتوارى عن العيون خلف سترها؟
ثم من طلوع القمر «يبدو لك أول الشهر خيطا دقيقا، ويبدو في ثانيه كحاجب الأشيب، ويستوي بعده قوسا، ولا يزال ينمو ويدرك حتى يستوي بدرا كاملا»، فهو في كل حالاته أولئك «ما حضر إلا أهنأ وهدى، وما غاب إلا أضل وأشقى».
ثم من روض أريض «قد انسرح بانه، وفرعت فروعه وبسقت أغصانه، وزكت أوراقه، ورف بوحي النسيم نبته وجلجل اصطفاقه» إلخ، فأنت مفتتن بما يطالعك به، أبدع وشي في أبرع ديباجة.
هذه أمثلة من طرف هذا الجناح، ولكن أبت العبقرية إلا أن نختم سلسلتها بقصة جعل الأستاذ عنوانها لفظة «حياء» وماذا أذهب به وأغرب في سرد ما سرد من وقائعها، وفي صدق تصويره لصاحبها بحسه ومعناه، وفي مختلف أطواره وفي إحكام السياق إلى أن أطفى من الرسوب، في أبعد قرارة من النفس، معنى من أدق معاني الحياء، ولقد قال في استهلال تلك القصة:
وحين أترجم لموضوع اليوم بكلمة «قصة» لا أعني الرواية ولا ما يشبه الرواية، فإنني لا أشيع فيها خيالا، ولا أخترع لها أبطالا، ولا أخلق مفاجآت، ولا أبتكر مواقف، ولا أمد لها مغزى يصيب غرضا، ولا أعالج تحليل نفس أو فكرة، لأنني لا أجيد هذا الضرب من البيان ولا أحذقه، بل إنني لم أحاوله قط طول حياتي الكتابية، وإنما أقص حادثة وقعت بسمعي وبصري، فإن هي أصابت غرضا أو اتصل بها مغزى، فذلك من صنعها نفسها، لا فضل لي من ذلك في كثير ولا قليل.
وها هنا لي استدراك على الأستاذ أبديه لزائر المتحف أو مطالع هذا الكتاب! لو أن شيخنا - بالفضل لا بالسن - الأستاذ البشري ابتدع هذه القصة استخلاصا من الوقائع التي تجري كل يوم بأسماعنا وأبصارنا كما يفعل منشئو الروايات، ولم تكن مما شهده على حد ما ذكر، لكان من أبرع القصاصين الذين عرفناهم، الله الله في دقة الوصف، واستشفاف ألطف ما يتحرك به الحس في أطواء النفس، الله الله في روعة الأسلوب وصفاء العبارة، وبلاغة تمهيد الفواتيح للخواتيم.
على أنه لا يزيدك بيانا على مقدرة الأستاذ في قصصه مثل وقوفك على تراجمه وهي ضرب آخر منه، وقد جلا بعض مأثوراتها في كلامه على المرحوم شوقي، وفي تراجمه التي أفرد لها الباب الثالث.
الباب الثالث: في التراجم
هذا القسم لا يعرض لك فيه المؤلف إلا ثلاث صور: رشدي باشا، الشيخ علي يوسف، محمد المويلحي، ولكنها ثلاث لا تقوم بها محتويات متحف مهما كثرت وغلت، على أنك تستشعر من البدء إلى النهاية في هذه التراجم أن محرك العبقرية فيها إنما كان الوفاء، وفي مثل هذا يتجلى بأبهج الصور جلال التآزر بين القلب والعقل.
في هذه التراجم الثلاث حدث الأستاذ واستفاض في الحديث، عن ثلاثة من أكابر رجالات مصر، عرفهم حق المعرفة، وتروى حوادثهم شاهدا أو آخذا عن ثقات، وعلق من نوادرهم أعلاقا، فيها من النفائس ما يضمن الخلود.
خذ من بعض ذلك إحدى الصور التي صور بها رشدي باشا، قال: «ولقد حدثت أحداث الإسكندرية في مايو سنة 1921، ورشدي مع عدلي في لندن يفاوضان كيرزن في المسألة المصرية، وكانت السلطة العسكرية قد ملكت الأمر كله عن الحكومة المصرية، وتولت هي التحقيق بقوة الأحكام العرفية التي كانت مبسوطة يومئذ على البلاد، فلما انتهت المفاوضات إلى الكلام في حماية الأجانب وعارض المفاوضون المصريون في أن يكون هذا إلى إنجلترا، دفع اللورد كيرزن إليهم بتحقيق السلطة العسكرية في حوادث الإسكندرية، وما دمغ المصريين ظلما بألوان الوحشية، وما أضاف إليهم من أمور تقشعر منها الجلود، فتناول رشدي باشا هذا التحقيق ويداه صفر من كل شيء، لأن التحقيق كما قلت لك، استقلت به السلطة العسكرية، فأبت على رشدي عزيمته، وأبت عليه وطنيته، وأبت عليه عبقريته إلا أن يكب ليلته كلها على هذا التحقيق، والله يعلم ماذا بذل من مخه، والله يعلم ماذا هراق من ذكائه حتى اتسق له في الصباح تقرير يعصف بهذا التحقيق عصفا، ويشهده على نفسه بالبطل، وشدة الحمل على المصريين، ثم مضى به إلى لورد كيرزن فألقاه إليه، وما إن قرأه حتى سأل أن يتقاص الطرفان، وكذلك أخلت حوادث الإسكندرية وجه الطريق.»
ثم خذ صورة للمرحوم الشيخ علي يوسف صاحب المؤيد، تجده بها حيا ناطقا، وتستطلع طلع الحقيقة فيه محللة تحليلا يعرف مكانه من الدقة من عرف ذلك الكاتب القدير الذي تصرف في اليسير من مادة اللغة بأحسن مما يتصرف غيره في الكثير، فأحدث من بالغ الأثر في نفوس قارئيه ما تنطق به هذه الشهادة له من أديب لا يشق له غبار في معرفة اللغة كالأستاذ صاحب هذا الكتاب، قال:
وفي هذا المقام يجدر بي أن أنبه إلى شيء جدير بالانتباه: ذلك أن حسن البيان وجودة المقال لا ترجع في جميع الأحوال إلى تمكن الكاتب من ناصية اللغة وتفقهه في أساليبها، وبصره بمواقع اللفظ منها، واستظهاره لصدر صالح من بلاغات بلغائها، إلى حسن ذوق ورهافة حس، بحيث يتهيأ له أن يصوغ فكرته أنور صياغة، ويصورها أبدع تصوير، بل إن ذلك ليرجع في بعض الأحوال، وهي أحوال نادرة جدا، إلى شدة نفس الكاتب وقوة روحه، فقد لا يكون الرجل وافر المحصول من متن اللغة، ولا هو على حظ كبير من استظهار عيون الكلام، ولا هو بالمعني بتقصي منازع البلاغات، ومع هذا لقد يرتفع بالبيان إلى ما تتقطع دونه علائق الأقلام، ذلك لأن شدة نفسه، وجبروت فكره، تأبى إلا أن تسطو بالكلام فتنتزع البيان انتزاعا، ولعل في بيان السيد جمال الدين الأفغاني وهو غريب عن العربية، وقاسم بك أمين وهو شبه غريب عنها، أبين مثال على هذا الذي نقول، ولقد يعجب القارئ أشد العجب إذا زعمت له أن المرحوم حسين رشدي «باشا»، وكان رجلا قل أن تطرد على لسانه ثلاث كلمات عربية متواليات، قد كان أحيانا يرتفع بالعبارة إلى ما يتخاذل من دونه جهد أعيان البيان!
والآن أستطيع أن أزعم أن الشيخ علي يوسف، على أنه تعلم في الأزهر وقرأ طرفا من كتب الأدب، واستظهر صدرا من مظاهر البلاغة في منظوم العربية ومنثورها - إلا أنه لم يكن مدينا في بيانه لشيء من هذا بقدر ما كان مدينا لشدة روحه وسطوة نفسه، وإنك لتقرأ له المقال يخلبك ويروعك، وتشعر أن أحدا لم ينته في البيان منتهاه، ثم تقبل على صيغه تفتشها وتفرها، فلا تكاد تقع على شيء من هذا النظم الذي يتكلفه صدور الكتاب، وبهذا أنشأ الرجل لنفسه أسلوبا، أو على الصحيح لقد خط قلمه القوي نهجا من البلاغة غير ما تعاهد عليه الناس من منازع البلاغات.
ثم إليك صورة للمرحوم محمد المويلحي، أعجب ما فيها إبانتها عن سر فلسفته الخاصة في حمله على نفسه وصبره على مضض الأيام، موفقا في ذلك بين مذهبه الفكري وسيرته العقلية في الحياة، قال الأستاذ:
ومن أهم ما يلفت النظر في خلاله أنه كان أقل خلق الله تأثرا بما يغمر المرء من متعارف الناس ومصطلحهم في عاداتهم وتقاليدهم وسائر أسبابهم، بل لقد كان له نظره الخاص في الأشياء، وكان له حكمه الخاص عليها، وهو إنما يأخذ نفسه بما يصح عنده من هذه الأحكام، لا يبالي أحدا، ولا يتأثر، كما قلت، بأثر خارجي ولو كان مما انعقد عليه إجماع الناس، وإذا كنت قد نعته «بالفيلسوف» فإنما أعني هذه الصفة فيه؛ فإنني لم أكد أرى رجلا لاءم كل الملاءمة بين رأيه في أسباب الحياة، وشدة تحريه أخذ النفس بأحكام هذا الرأي، كما بان لي من خلة هذا الرجل بحكم ملابستي له السنين الطوال.
إلى هنا انتهيت بك أيها القارئ الكريم من الطواف عاجلا بأقسام المتحف، وليس يذهب عني أنني لم أزدك شيئا على ما يعطيك عامة الأدلاء في المتاحف من الإرشاد الساذج الناقص، إلى مواضع مختلفة من مواقع الجمال والجلال.
فانصرف الآن موفقا إلى تروية نفسك من اللذائذ الذهنية التي توحيها إليك - بلا وساطة - مطالعة ما في هذا الكتاب من الآيات الفنية.
كلمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله تعالى وسلم على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
وبعد، فما كنت أقدر في يوم من الأيام أن يستوي من بعض هذا الذي أرسله في الصحف الدائرة الحين بعد الحين كتاب مجموع، وإن عادة لي لزمتني من يوم ضبطت القلم ألا أحرص على حفظ شيء من آثاره المنشورة في هذه الصحف، فإذا وقع لي شيء من ذلك أسرعت إلى إتلافه تمزيقا أو تحريقا.
وسبيل هذه العادة إلي أنني أول ما عالجت الكتابة وتعلقت بصنعة القلم، كنت أدرك تمام الإدراك أنني ناشئ لا أجيد البيان، فإذا كانت لي طبيعة فلن تتهيأ لي الإجادة إلا بعد شدة معاناة وطول تمرين، وظللت على هذا دهرا وأنا في ارتقاب الأحسن مما يثبت للأنظار لأحفظه وأدخره للجمع ثم للطبع، فلا أراه قد تهيأ لي، فلا أبرح أهمل كل ما ينتضح به القلم، ولا أبقي منه على كثير ولا قليل.
وظللت كلما اطرد بي الزمن أشعر بأن المدى بيني وبين الكمال الذي أنشد يطول ولا يقصر، وأن الغاية التي أطلب تبعد على الأيام ولا تقرب، حتى لقد جعلت نفسي تبرم وتضيق كلما وقع لي عفوا شيء من تلك الآثار، ثم لقد أصبحت تعفينها وإتلاف ما يقع ليدي منها عادة من تلك العاد التي تتصل بالفطر والطباع، حتى لو خرج المقال فأزهاني به شيطان الفتنة بالنفس، وهتف به الصحاب وغير الصحاب، فإنه لا يتعذر مني على ذلك المصير.
وكثيرا ما استحثني صدقاني على أن أسوي من تلك الرسائل مجموعات أطبعها وأنشرها للناس، فإذا اعتلوا على عذري بأن هذا الذي أصنع مما لا أراه يرتقي إلى هذا المكان، رحت أجاريهم بظاهر من القول، وفي التعليق على مشيئة الله تعالى عن الكذب منتدح.
ولقد ظل هذا شأني إلى أن لحقتني في صدر هذا العام شكاة ألزمت جنبي الفراش ثلاثة أشهر تعلقت فيها بين الموت والحياة، ولعل جانب الموت عندي كان أرجح، وحجته كانت بحالي أسطى، وهنا بان لي أنني كنت حق مخدوع في ذلك التأميل، شأن المرء في جميع أماني الحياة.
إذن لم أبلغ ذلك الكمال، ولست بدان منه ولو وصلت بالأجل آجال، وما أنا بظافر بغير ما كان لي بحال، فالطمع فيما وراءه من بعض المحال.
وإذن فهذا قسمي من صنعة القلم، وما بات للتأميل من بعد ذاك مآب، وهيهات أن يدرك المشيب ما انقطع دونه جهد الشباب!
وكذلك ألحت علي الرغبة في أن أستعرض آثار هذا القلم، ففي استعراضها استعراض لما يصح أن يدعى بالحياة، ولعله قد وقع لسمعك ذلك المثل الشائع: «إن التاجر إذا أفلس رجع إلى دفاتره القديمة»، على أنني إذا شاركت ذلك التاجر، في هذا الحظ العاثر، فقد زاد حظي عليه فقدان تلك الدفاتر.
لم يبق بد من أن أذكي النساخ في المكتبات العامة، فرجعوا إلي بكثير جمعت منه هذا الجزء ينتظم أبوابا ثلاثة: الأدب، والوصف، والتراجم.
1
وسيتلوه إن شاء الله آخر في الفن والمفتنين، والأفاكيه، والمراثي.
على أنني وإن لم أحرف رأيا سلف لي أو أعدل في فكرة، وإن عدلت في الواقع عنها، حفظا لحق التاريخ علي؛ فإنني قد عدت بشيء من الصقل والتسوية في بعض العبارات، واستدراك ما عسى أن تكون قد فوتت العجلة مما يستقيم به نظم الكلام.
كذلك لقد ضبطت بالشكل كل ما يشيع الخطأ في النطق به على ألسنة الكثير من الناس، وشرحت ما عسى أن يخطئهم من مفردات اللغة علمه، تيسيرا للناشئين من المتأدبين. •••
وبعد، فوالذي نفسي بيده لو كنت أعلم بظهر الغيب أن أستاذي إمام البيان وشاعر القطرين سيصفني بما وصف، ما سألته ما سألت، ولكنه أبى إلا أن ينظر إلي نظر الأستاذ إلى تلميذه الخاص فلا يرى إلا حسنا، وحبذا لو كان قد جمع عزمه، وحمل على نفسه، وخرج قليلا عن عطفه، فبصرني مساقط عيوبي، فما أحوجني إلى أديب عالم نزيه يبصرني هذه العيوب، ومن أولى بهذا من أستاذي مطران؟
وإذا كان قد أخذني بأني لم أتقدم إليه بما تقدمت وأنا فتى ناشئ وهو يخرج «المجلة المصرية» ويجول قلمه في كبريات الصحف كل مجال، فليعلم - وصل الله في حياته النافعة - أنني ما برحت أنظر إليه اليوم بتلك العين التي كنت أنظر إليه بها في تلك الأيام.
عبد العزيز البشري
الباب الأول
في الأدب
تطور الأدب العربي وموضعه بمصر اليوم1
تعارف حملة الأقلام
سيداتي، سادتي
وأخيرا فهذا نادي القلم، يجمع في مصر أيضا بين رجال القلم، ولقد يتداخل بعض الناس العجب من أن آخر من يفكر من أرباب المهن في التعارف والاتصال والتعاون في أسباب المهنة هم أصحاب القلم!
والواقع أن الأمر، لو جاز به النظر لا يبعث على كثير ولا قليل من العجب، فإن رجال القلم هم، من صدر الزمان، المتعارفون المتواصلون المتعاونون، وإن تراخت بينهم الديار، يلتقون كل حين في حلق الدرس، وعلى متون الصحف، وفي بطون الكتب، يلتقون لا بصورهم وأشباحهم، بل بعقولهم وأرواحهم، فإذا كان تعارف غيركم وتعاونهم أثرا لاجتماعهم واتصالهم، فإنما يكون اجتماعكم أنتم أثرا لتعارفكم، وتعاونكم، فاتصالكم اليوم، على تفرق أصنافكم وألسنتكم وأهوائكم، إنما هو من تسجيل الأمر الواقع لا أكثر ولا أقل.
وهذا هو الاجتماع الذي لا تقوى على تصديعه يد الزمان!
سيداتي، سادتي
لم تكن ثمار الفكر ملك أمة ولا خلصا لوطن، ولا حكرة لخلق من الناس، أفرأيتم كيف اجتمع لنادي القلم ، في كل هذا اليسر، مع المصريين أصناف شتى من الغربيين؟ وكيف استوت السيدات في مجالسهن أثناء الرجال؟ بل كيف توافى له من عسى ألا يجمع بينهم من مذاهب الحياة إلا صنعة القلم؟ أفرأيتم إذن صلة أوثق من هذه الصلة، ورحما أبر من هذه الرحم؟ •••
بعد هذا، لقد أقبلت على نفسي أسائلها: لماذا آثرني بعض إخواني بالدعوة إلى إلقاء أول كلمة في أول اجتماع لنادي القلم؟ ولماذا كلما زدتهم اعتذارا زادوني إلحاحا حتى لم أجد لي من المطاوعة، بظهر الغيب، مفيضا؟
لقد أقبلت على نفسي أسائلها، وكلما استصعبت وتعذرت علي في الجواب زدتها كذلك إلحاحا حتى طاوعتني هي الأخرى، فإذا الجواب الذي استراح إليه فكري أن العادة جرت بأنه إذا انتظمت مواكب الجيش تقدم الأحدثون، فالذين من فوقهم درجة، وهكذا حتى يخلص آخر صف للقادة العظام، وما لي وللعسكرية وقد سلخت في منصب القضاء دهرا، وآداب القضاء تجري بأن يبدأ باستخراج الرأي من أحدث الجالسين جميعا.
إلى هذا المعنى استراحت نفسي، وعلى هذا الاعتبار تقدمت إلى إلقاء أول كلمة في هذا الاجتماع الكريم.
ولست بالضرورة، أعني بالحداثة الحداثة في السن، وإلا لكنت من آخر من يتكلم فيكم جميعا!
الأدب عرض يتلون ويتكيف
سيداتي، سادتي
كان حتما علي بعد ذلك أن أختار موضوع حديثي إليكم، ففكرت ثم فكرت، فلم يهدني تفكيري، على طول الترديد، إلا أن ألم إلمامة يسيرة بتطور الأدب العربي وموضعه في مصر اليوم، فلعلي بهذا أجلو منه صورة واضحة بعض الوضوح على من عسى ألا يكون قد عني بمطالعته من إخواننا السادة الغربيين.
وقبل أن أسترسل إلى هذا الغرض، أبادر فأقرر أنني مؤمن كل الإيمان بأن الأدب ما كان في يوم من الأيام - ولعله لا يكون في يوم من الأيام - فنا محدود الأطراف، ثابت الأبواب، مرسخ القضايا، ينتهي من التأصيل والتقعيد إلى كمال معين أو شبه كمال معين، شأن الفنون الموصولة بالعقل، أو بالطبيعة، أو بالواقع، فلا يدخل على قضاياها التغيير إلا بحدث عظيم من نحو استكشاف مجهول خفي في الزمان على أنظار العلماء، بل إن الأدب لعرض يتكيف ويتلون طوعا لعقلية كل قوم، وتاريخهم، وأخلاقهم، وعاداتهم، والجو الذي يعيشون فيه، وأسبابهم الخاصة، ومبلغ شعورهم بالجمال، بل بصور هذا الجمال أيضا.
فالأدب الحق لكل قوم هو ما يكافئ عقليتهم، ويرضي أذواقهم، ويواتيهم في سائر أسباب الحياة.
وعلى هذا، لقد يكون من العبث أن نطلب للعامة من سكان الصعيد الأعلى مثلا، وهم شركاؤنا في الجنس واللغة، الأدب الذي يترواه ويمتع به المتعلمون في كبد الحضر، وأن ننعى عليهم تخلفهم في هذا، وإن عبثا كبيرا أن يراد تنعيمهم وتلذيذهم بمثل أدب الجاحظ والأغاني، وبما انتضحت به قرائح أئمة البيان وقادة الفكر في الشرق والغرب، ولو ترجم إلى لغاتهم، وأدي إليهم في لهجاتهم.
عصور الأدب العربي
سيداتي، سادتي
لقد كان لسلفنا العرب في جاهليتهم أدب قوي جدا يكافئ بداوتهم وشدة طباعهم، وقوة غرائزهم، وصفاء نفوسهم، أدب يواتي كل أسبابهم في الحياة من الحرب والغزو والطرد، والتفاخر بالكرم والإيثار، والتكاثر بالأهل والعشيرة، وقوة الغزل، ودقة الوصف لكل ما يتناوله حسهم، والوقوف بالديار، ومساءلة النؤي والأحجار.
فلما فتح الإسلام عليهم من أقطار الأرض، جعلت أشعارهم وسائر آدابهم تتلون بلون الحضارة التي لابسوها، والحياة التي أخذوا في تذوقها، حتى إذا بلغوا من العلم حظا، واطردت بهم الحضارة الواسعة في عهد العباسيين، كان الأدب العربي شيئا آخر، شيئا يواتي مطالب عقولهم، ويتوافى لأحلامهم وأذواقهم في أسبابهم الحديثة.
ومثل هذا يقال في أدب الأندلس، فإن صوره ما برحت تدارج شأنهم في حضارتهم فتترف بترفهم، وتلين بلين عيشهم، حتى كان الأدب يصاب فيهم بالتزايل والاسترخاء، وحتى ولدوا في الشعر فنونا لتؤدي من الأغراض اللينة الرخوة ما عسى أن تثقل عليه أوزان الشعر!
ومصر أيضا، لقد كان لها من عهد شيوع العربية أدب يكافئ عيشها في كل عصر، على أنه وإن كان أدبها في مبتدأ الأمر لا يكاد يختلف عنه في قاعدة الخلافة؛ لأن الأدب العربي إنما كان فيها شبه عارية، لا يكاد يعالجه إلا من انحدروا إليها من الأقطار العربية؛ فإنه على تطاول الزمن جعل يتأقلم، وما برح يطرد في هذا حتى أصبح يحمل الطابع المصري الخالص، حتى إن العديد الأكبر ممن هبطوا مصر من العلماء والشعراء والكتاب في أواسط القرن السابع الهجري، عقب سقوط بغداد في أيدي التتار، لم يستطيعوا أن يحيلوا لون الأدب المصري؛ بل لقد طبعهم وأنسالهم بطبعه على الزمان!
دخول الصنعة في الشعر
سيداتي، سادتي
لقد امتحن الشعر العربي من العصر العباسي الأول بدخول شيء من الصنعة عليه، وكانت هذه الصنعة أول الأمر تعتريه في رفق ولين ، وكان أكثر ما يتغشاه من ألوان البديع الطباق والتقسيم والتجنيس، وكيفما كان الأمر فإن الاحتفال للصنعة في الشعر مما يفتر في الترجمة عن صادق الحس، وكلما أمعن الشاعر في الاحتفال للصنعة ازداد - بالضرورة - التراخي بينه وبين نفسه.
ثم ما برح يطرد هذا الصنيع ويشيع في الشعر العربي، إلى أن يطلع في العصر العباسي الثاني فيلسوف الأدباء قاطبة وأعني به أبا العلاء المعري، يطلع بديوان كامل، ديوان تضمن أجل ما تنزل عليه من الحكمة، ينتظم جميع أبياته لون واحد من البديع، وهو لزوم ما لا يلزم من إجراء القافية على حرفين أو أكثر!
ولقد شاعت هذه المحنة وتغلغلت، لا في الشعر وحده، بل في الشعر والنثر جميعا، وكان لمصر منها حظها العظيم.
وليس يتسع هذا المقام للحديث في أصحاب البديعيات من الشعراء، ولا في القاضي الفاضل وتلاميذه من الكتاب، وكل ما أستطيع أن أرده الآن في هذا الباب، أن الأدب كله أصبح عبدا للصنعة، يرتصد للنكتة البديعية، ولا يزال يتحرف باللفظ لإصابتها واقعة ما وقعت بعد هذا مرامي الكلام، حتى لقد ترون الشاعر يعقد في قصيدته القافية على حرف عزيز كالثاء مثلا، دلا ومكاثرة، فيستخرج القوافي أولا، ثم ما يزال يجد ويجهد في تجنيد الألفاظ لها، وقسر الكلام عليها، حتى يصيبها عن طواعية أو استكراه!
وعلى الرغم من أن مصر قد استوفت قسطها من هذا اللون من الأدب، فقد بقي فيها الشعر والنثر كلاهما يحملان طابعها الخاص: حلاوة في اللفظ، ورقة في الغزل، ودقة في وصف مشاهد الطبيعة.
الأدب في عهد الترك
سيداتي، سادتي
لقد كرث الحكم التركي مصر في كل شيء: في العلم، وفي الفن، وفي الأخلاق، وفي الصناعة، وفي التجارة، وفي سائر وسائل العيش، فأصبح من الطبيعي أن يتلون الأدب، على الزمن، بلون هذه الحياة، ولو قد ظل مع هذا على شأنه الأول من القوة وسعة التصرف لما كان أدبا مصريا، ولا كان مما يتسق لأذواق المصريين!
ضعفت ملكة العربية، وشاعت التركية على الألسن، بل على بعض الأقلام، واستأثرت بجميع الأسباب الديوانية، ودار الشعر في أضيق الأغراض من المديح والرثاء والغزل المتكلف المصنوع، ونحو هذا مما لا غناء فيه لمطالب العقل القوي، ولا لحاجات النفس الكريمة، وقد هزلت المعاني، وتزايلت التراكيب، وقلت العناية باصطفاء اللفظ الشريف.
وما برح شأن الأدب على هذا حتى كان الفتح الفرنسي في مؤخرات القرن الثامن عشر، وتنظرت بعض أسباب الحضارة الغربية لخاصة المصريين، ثم أقبلت النهضات في عهد محمد علي دراكا في العلوم والصناعات، وخاصة من هذه ومن هذه ما كان بسبب من المطالب العسكرية.
الأدب في عهد محمد علي
سيداتي، سادتي
لسائل أن يعترضني بهذا السؤال: لقد زعمت أن الأدب عرض يلحق حال كل أمة في عقليتها وأسباب حضارتها، فما بال الأدب ظل على شأنه طوال عهد محمد علي إلى صدر كبير من عهد إسماعيل، مع أن البلاد قد تحولت حالها بما أصابت من الفن وما حصلت من العلم الحديث؟
وإنني لأجيب سائلي بأن عقليات الأمم لا تتحول بمثل هذه السرعة، إلى أن المتعلمين من بني مصر يومئذ كانوا في شغل دائم بالوسائل المادية التي كان يريد القائم أن يخط بها ملكه، إلى أن التركية كانت ما تزال شائعة على الألسن، منتضحة على الأقلام، إلى أن مثل هذا العرض، أعني به الأدب، لا يواتي معروضه من الساعة الأولى، بل لا بد من مر الزمن حتى يثبت الطابع الحديث للعقلية العامة في موضعه.
على أنني أزعم، بعد ذلك، أن الأدب في هذه الفترة إذا لم يكن دارج الحضارة الحديثة، فقد لمحها وأصاب منها في بعض الحين.
الأدب في عهد إسماعيل
سيداتي، سادتي
أدركت مصر في عصر إسماعيل حظا محمودا من الحضارة، فشاعت فيها العلوم، واستوثق الاتصال بينها وبين بلاد الغرب التي كثر روادها من المصريين، وانحدر العديد الأكبر من الغربيين إلى هذه البلاد سياحا ومستوطنين، كما نزحت إليها طائفة من أعيان الأدباء والكتاب السوريين.
بهذا وبهذا وبذلك جعلت الثقافة العامة تتلون بلون جديد، وجعلت الأقلام تستشرف، بقدر ما، إلى أسباب الحضارة الحديثة، ولا يفوتكم أن المطالب العسكرية في ذلك الحين لم تصبح مما يستغرق هم القائم، بل لقد انبسط منه فضل كبير للآداب والفنون، وكان أول من انبعث في هذين البابين الصحافة الشعبية والتمثيل.
ولقد انبعث طوعا لهذه الحال، جماعة من مشيخة العلماء في طلب أدب خير مما عانوا من أدب، فكان أول ما طلبوا مجفوات كتب الأدب القديم، واستخرجوا دواوين الفحول من متقدمي الشعراء، وجعلوا يتروون هذا الأدب الجزل ويروونه تلاميذهم بالدرس والمحاضرة، وبمجلة «روضة المدارس» التي كانت مجالا لأبرع الأقلام في ذلك العهد، فاستقامت الملكات، وصفت الطبائع، ورهفت الأذواق، وجرت فصح العربية ناصحة على بعض الأقلام من أمثال المرحومين إبراهيم المويلحي وإبراهيم اللقاني من الكتاب، وعبد الله فكري ومحمود سامي البارودي من الشعراء.
إذن لقد جاد الشعر وجاد النثر، أو لقد جادا على ألسن نفر من الشعراء ومن الكتاب، وأشرقت ديباجة البيان، وجرى ماء العربية صفوا، على أن النظم والنثر وإن اشتركا في هذا المعنى، فإن النثر كان أوسع في فنون البيان تصرفا، كما كان أسبق إلى الإصابة من المعاني التي يقتضيها عيش الحضارة الحديث.
مذاهب الأدب واتجاهاته
ولقد اطردت هذه النهضة البيانية في مصر؛ ولكنها لم تجر كلها في مذهب واحد، ولم تجتمع على الاتجاه في سمت معين، بل لقد كان شأنها شأن القنبلة تنفجر فتتطاير شظاياها إلى اليمين وإلى الشمال وإلى وراء وإلى قدام! فخلق من أدبائنا لم يسلموا قط بأن الأدب شيء يعدو شعر امرئ القيس ، وعيش امرئ القيس فإن هم تطاولوا إلى الفرزدق وجرير فمن بعض التطول والإحسان: المركب: الناقة، والمأكل: سنام البعير «كهداب الدمقس المفتل»، والمورد: النبع أو القليب، والأرض: الموماة، والمنزل: الخيش أو الشعر، وملتقى الأحبة: سقط اللوى، أما اللفظ فالمنتقى المنتخل من كل ما ند عن الطباع، ونشز على الأسماع!
موقف أبناء الثقافة الغربية منه
وقام بإزاء هؤلاء جماعة من شباننا قد استهلكهم الأدب الغربي، فلا يرون أدبا إلا ما قال شكسبير وبيرون وأضرابهما، وأدوا إلينا طريفا من هذا النظم في لغة ليس منها عربي إلا مفردات الألفاظ، ألفاظ يكاد المرء يشهد ما بينها وبين ما قسرت عليه من المعاني من التصافع بالأيدي والتراكل بالأرجل، ولولا ما يرتبطها من مثل قيد الحديد لطار كل منها إلى عشه، فخرج لنا من ألوان التعابير ما لا يرضي الذوق الشرقي، ولا يستريح إليه الطبع العربي!
وجعل كذلك جماعة ممن تعلموا في بلاد الغرب، بنوع خاص، يعالجون في العربية إصابة المعاني الطريفة التي لامسها حسهم، وهدتهم إليها أسباب تفكيرهم، فعجزت اللغة، أو عجز على الصحيح علمهم باللغة عن حق أدائها، فخرج لهم الكلام إما غامضا مبهما، وإما عاميا أو ما يدنو من العامي.
وبقي كتاب وبقي شعراء على ما تحدر إليهم عن آبائهم من صور الأدب: ضيق في الأغراض، وإسفاف في المعاني، وفسولة في الألفاظ!
وارتصد لهؤلاء أولئك أعناق من النقدة، خلص بعضهم لوجه اللغة، وبعضهم تجرد في الطريف، وإن شئنا قلنا في الغريب من المعاني، أولئك لا يرون في شوقي ولا في حافظ شاعرا، ولا في المويلحي ولا في الشيخ علي يوسف كاتبا! وكيف ذلك؟ ذلك بأنه قال: أثر عليه، إذ الصواب: أثر فيه، وقال: غير مرة، والصواب: أكثر من مرة! وهؤلاء لا يؤمنون بشاعرية البارودي لأنه لم يقع في كل شعره على الشفق الباكي، ولم يتحدث قط عن الموت اللازوردي!
على أنه من الإنصاف أن نقرر أن النقد كان له أثره في تقويم الألسن وتحري الفصيح من جهة، ثم كان له أثره الحي بعد لأي، في الاحتفال للمعاني وتعمد الإصابة من جهة أخرى.
تعريف الأدب اليوم
سيداتي، سادتي
كذلك كانت حالنا من ثلاثين سنة خلت، بعضنا يريد أن يرضي العقل المحض، وبعضنا لا يتجرد إلا في إرضاء اللفظ المحض، وبعضنا خلبته آداب الغرب، وفتنته تشبيهات شعرائه وكتابه، فهو يتصيدها واقعة حيث وقعت من ذوق الشرق ومن لغة العرب!
كنا إذن من أمر الأدب في بلبلة أو في شبه بلبلة، وما لنا لا نكون كذلك ونحن حق مختلفين على ماهية الأدب، مختلفين على ما ينبغي أن يؤديه الأدب ؟
ولكن الأستاذ الأعظم، وأعني به الزمن، قد أنشأ يلقي علينا من دروسه البليغة ما يقصر كل يوم من مدى الفرقة، ويوثق من أسباب الألفة، حتى اتفقنا، أو بتنا على شرف من الاتفاق على أن الأدب إنما هو أولا الأداة الجميلة لمواتاة مطالب العقل والحس والعاطفة جميعا، وتأدية كل شعورنا بما نلمس من أسباب الحضارة القائمة؛ على أن يترجم عن هذا كله لسان عربي ناصح، لا وحشة فيه ولا استعجام.
ولا شك في أن مظهر هذا الخير أجمعه هو الصحافة، فللصحافة بهذا الفضل ندين.
كنوز الأدب القديم
ومن الواقع الذي لا تلحقه الريب أن العربية القديمة زاخرة بكنوز البلاغة في جميع ألوان المعاني: فلقد مثلت فأبدعت في التمثيل، وصورت فأوفت على الغاية من دقة التصوير، ولكم ترجمت عن أعمق ما تدسى في النفس، وعبرت عن أشف ما يترقرق به الحس، ولكن لا تنسوا أنه ليس من العدل أن نجشم هذه اللغة أن ترتصد - بظهر الغيب - لإصابة كل ما عسى أن يجد من الأسباب بعد ألف عام!
إنشاء أدب قومي
إذن لقد أصبح مهمنا الأعظم اليوم هو استثمار تلكم الثروة الواسعة في تجلية شعورنا، والترجمة عن عواطفنا، والتعبير عن كل ما يلامس حسنا نحن فيما جل ودق من أسباب هذه الحياة، وبهذا نصل ماضينا بحاضرنا، وبهذا ندرك ما ينبغي لنا، لا من أدب عربي فحسب، بل من أدب قومي يطلق عليه التاريخ: أدب مصر، وهذا هو الجهد الجبار الذي يعانيه رجالات الأدب في مصر اليوم، وكثير منهم ماثلون في هذا المجلس الكريم.
ولكي أكون متسقا مع نفسي أقرر أننا لا نحاول أن نخلق لنا أدبا مصنوعا؛ بل إننا نتقرى هذا الأدب الذي يواتي عقليتنا، ويشاكل إحساسنا، ويرضي أذواقنا في هذا العصر الذي نعيش فيه، فنحن بهذا إنما نروض الأدب على حكم الطبع، ولا نروض الطبع على حكم الآداب!
التجديد، ما هو؟
ولست أختم هذا الكلام دون أن ألم بمسألة كانت في هذه الأثناء، ولعلها ما برحت، من شغل الأدباء، وهي مسألة «التجديد ».
هنالك معركة مستحرة بين التجديد وأنصاره، وبين القديم وأوليائه، وأرجو أن تصدقوني إذا ادعيت بين أيديكم أنني إلى هذه الساعة لم أتبين وجه الخلاف الحق بين المتناضلين، على أنني أرجو أن نتفق في القريب على أن الأدب أيضا كائن حي يجب أن يشب وينمو ويتطاول إلى ما قدر له من كمال، على ألا تتنكر صورته، ولا يخرج عن شخصه.
مستقبل الأدب
سيداتي، سادتي
قدمت لكم أننا أبناء العرب قد تعارفنا بعد تناكر، وتلاقينا بعد تهاجر، واجتمعنا بعد فرقة، وتآلفنا بعد طول وحشة، على أننا لم نقنع بهذا، فلقد كان لاستيثاق الصلات بيننا وبين الغرب أثره في شدة إقبالنا على أدبه وتروينا منه، وطبع كل ما يسوغ طبعه على غرار أدبنا حتى ليمكن لهذا العصر أن يسجل ما أصبنا سواء في وسائل النقد أو في طرائق التفكير، وإن تعاون رجال العلم في بلادنا اليوم مع إخوانهم من الغربيين لعلى هذا من بعض الدليل.
وإنني لأرجو، بفضل أدبائنا العظام وقوة جهودهم، أن يفسح الأدب العربي لنفسه المكان الكريم بين سائر الآداب العالية، لا ليدل على نفسه فحسب، بل ليساهم، بحظ كبير في حركة الفكر، وفي تنعيم الذوق الإنساني في العالم المتحضر كله.
حيرة الأدب المصري!1
قبل أن أخوض في هذا الحديث الذي يستشرف له القلم اليوم أقرر، ولعلي أفعل للمرة العاشرة، أنني بالذات - على كثر ما قرأت للمتقدمين والمحدثين - لم أقع للأدب على تعريف جامع مانع، على تعبير أصحاب المنطق، ولا أدري إن كان الفرنج قد عرفوا الأدب على هذا أم لم يعرفوه؟ فإذا تحدثت عن الأدب، فإنني إنما أتحدث عن الأدب الذي ألمحه، وهو الذي خرج في لسان العرب.
وكيفما كان الأمر، فإنني بالذات لم أقع - كما قلت - على تعريف يجمع حدود الأدب، ويدفع عنه ما ليس منه ... ولقد أهبت مرارا بأعلام البيان وأئمة المتأدبين أن يعرفوا لنا الأدب أو يدلونا على مواضع التعريفات الصحيحة له، فأمسكوا ولم تتدل أقلامهم بجواب!
وعلى كل حال، فإن الأدب إذا لم يضبطه تعريف جامع مانع، فإن موضوعه واضح في مظاهره، وفي الغايات التي يطلبها ويتطاول إليها، فما من أحد إلا يرى أن أبلغ مظاهر الأدب في نفض الأحساس الكامنة، والعواطف الجائشة، وتصوير ما يعتلج في أطواء النفس من ألوان الانفعالات بعبارات موسيقية تتدسس إلى نفس السامع فتثير منها كل ما يثور في نفس الشاعر أو الكاتب، ولا شك عندي في أن هذا أبلغ مظاهر الأدب وأجل غاياته.
وأخرج من هذا إلى أن الطبيعة البشرية وإن كانت، على وجه عام، واحدة في الناس، على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، إلا أن لكل أناس على ظهر الأرض أخلاقهم وصفاتهم، وأسلوب تفكيرهم، وتصورهم للأشياء، وتقديرهم لها، ثم أذواقهم، وألوان عواطفهم وما يثيرها من فنون العوامل.
ذلك بأن لكل قوم أصلهم وتاريخهم، ورقعة بلادهم، ومناظر أرضهم وسمائهم، وما درجوا عليه من أخلاق مطبوعة، وعادات موروثة، وأحداث مأثورة وغير ذلك مما يطبع كل أمة على غرار خاص، ويجليها في شخصية تغاير ما عداها من شخصيات الأمم الأخرى، وما من فكرة تتحرك في العقل، أو عاطفة تعتلج في النفس، أو خيال يحلق في الذهن، إلا وهو مستمد من حقيقة واقعة أدركها الإنسان بإحدى حواسه الخمس، أما أن يختلق الذهن ما لا يتكئ على حقيقة واقعة، فذلك ضرب من المستحيل، وإذا بهرك أن الخيال قد يخلق من الصور ما لم تقع عليه عين أو تتصل به أذن، فاعلم أنه ملفق لا أكثر ولا أقل: ملفق كل ما يجلو من الصور من أجزاء يرجع كل منها إلى حقيقة يقع عليها الحس.
وبعد، فإنما نحن في تفكيرنا وتصورنا وما يحوك في أنفسنا من ألوان العواطف، وما تتعلق به أذهاننا من فنون الأخيلة، إنما نترجم عن تاريخنا، وعاداتنا، وبيئتنا، ومناظر بلادنا، وغير أولئك من العناصر التي طبعتنا أمة واحدة، هذا هو الشأن الذي ينبغي أن يكون لكل أمة، وعلى هذا ينبغي أن يكون الأدب في كل أمة.
وإنك - على تقارب اللغات الغربية وتكافئ أصحابها في المدنية، وتوافي بعضها لبعض في أسباب الحضارة - إنك مع هذا لتسمع بالأدب الفرنسي، والأدب الإنجليزي، والأدب الألماني، والأدب الروسي، وغير ذلك، كما تسمع بالأدب العربي: ذلك بأن العلوم والصناعات وما إليها، أمور يمكن أن تتقارضها الأمم، أما الأذواق وخلجات النفوس ونزوات العواطف، فمما لا يقع عليه التقارض والإعارة، وإن جاز لأمة تقلد أخرى وتحذو حذوها في طريقة الأداء وأساليب الاستقراء والتحليل، وليس معنى ذلك تحويل الأذواق أو تلوين العواطف! •••
نعود بعد كل ذلك إلى أدبنا - نحن المصريين - ونقبل على أنفسنا بهذا السؤال: هل ما نتحرك فيه من الأدب اليوم يؤدي حقا مطالب الأدب التي سلف عليها الكلام؟ وبعبارة أخرى: هل الأدب الذي نعالجه اليوم مؤد حق الأداء لما يعتلج في نفوسنا من العواطف، وما يجيش فيها من فنون الإحساس؟ أو بعبارة ثالثة: هل نحن نترجم اليوم بهذا الأدب عما ينبغي أن يمليه علينا تاريخنا وطبيعتنا، وأخلاقنا، وعاداتنا، ومناظر بلادنا، وما جاز بنا من أحداث؟ وعلى الجملة: هل نترجم حقا عما تقتضينا جميع أسبابنا في الحياة؟
لا شك في أن أول ما يخطر على القلب في سبيل الإجابة عن هذا السؤال، أو هذه الأسئلة، هو استعراض مظاهر الأدب القائم اليوم، وتقري صوره وألوانه، وتحري مطالبه وغاياته، لنعرف أين يقع من مطالب الأدب التي تقدم فيها القول!
والواقع أنه مهما تختلف لهجات المتعاصرين من الأدباء في أية أمة من الأمم، وتتغاير أساليبهم في فنون البيان: شعرا كان أو نثرا، فإنك - ولا ريب - واجد لمجموعهم طابعا خاصا يدل على عصرهم، ويميزهم عن غيرهم، بحيث يتهيأ للناقد الخبير أن يستدل من نفس البيان على العصر الذي انتضح فيه دون أن يرفد بأية إشارة إليه، ولكنك، مع هذا، لا تستطيع أن تجد اليوم هذا الطابع للأدب في مصر، وتستطيع أن تزعم مثل هذا عن الأدب في الشام، ونقصر الكلام على الأدب المصري ففيه سقنا الحديث.
عندنا شعراء عظام، وكذلك عندنا كتاب عظام، على أنك حين تبلو آثارهم، وتقلب النظر في ألوان بلاغاتهم، لا تصدق - لولا أنك تعيش فيهم - أنه يجمعهم عصر واحد في أمة واحدة! وليس هذا التبلبل مقصورا على أساليب البيان ونسج الكلام والملاءمة بين الألفاظ، بل ليتعدى هذا إلى الأغراض والمطالب، وطريقة نفض العواطف الباطنة، وبزل النزوات الكامنة.
هذا شاعر فحل لا يرى الشعر يجود، بل لا يرى فيه شعرا ألبتة إلا إذا خرج في كلام جزل، وتحرى الإتيان فيه بغريب اللفظ وشامسه،
2
وحسبه من المطالب الوقوف بالديار، والبكاء على النؤي والأحجار، والتشبيب بهند ودعد، والهتاف برضوى وسلع، وطلع بك على مضارب القباب، وما أجنت من عاتكة والرباب، ووصف لك النياق وما صنع بها الوجيف في الموامي حتى أتت أنقاضا على أنقاض!
وهذا شاعر لا يرى الشعر إلا أن يكون الكلام جزلا سهلا، متين الرصف، متلاحم الأجزاء، مشرق الديباجة، واقعة أغراضه ومعانيه بعد ذلك حيث وقعت!
وهذا شاعر يعتصر ذهنه، ويكد عصبه، في تصيد معنى جديد، والوقوع على تشبيه طريف ... إلخ.
وهذا كاتب أجل همه تجويد العبارة وصقلها، وتلقط ما جالت به أقلام السابقين من الألفاظ المشرقة والجمل النيرة لا يسوقها إلى معان قائمة في نفسه، وإنما يسوقها لنفسها، ولو استكره المعاني عليها استكراها!
وهذا أديب لا يراك حقيقا بالبقاء في هذا العالم إذا زل بك القلم فقلت: «أثر عليه» ولم تقل: «أثر فيه» أو قلت: «الشماعة» ولم تقل: «المشجب» أو قلت: «غير مرة» ولم تقل: «أكثر من مرة» إلخ إلخ - لا يراك كفؤا للحياة بله حمل القلم، ولو لم يتعلق بغبارك في العلم والأدب والبيان أحد!
وهؤلاء كتاب وجلهم من ساداتنا أصحاب التجديد، لا يعجبهم كاتب عربي، ولا فكر شرقي، ولا شيء مما يتصل بأسبابنا باعتبارنا مصريي البيئة، عربيي اللغة، ذلك بأنهم قرأوا شكسبير، وبيرون، وماكولي، ودنتي، وفلانا وفلانا من تلك الأسماء التي تسكبها أقلامهم في آذاننا كل يوم، ولقد يطلعون علينا بألوان من البيان لا ندركها لأنها لا تتصل منا بسبب، ولقد يريدوننا على اتخاذ نماذج لألوان من البيان لا نفهمها ولا نستطيع فهمها ولا تذوقها، فضلا عن أن نصنعها ونجودها، لأن طبيعتنا غير طبيعة أصحابها، وبيئتنا غير بيئتهم ولساننا غير لسانهم ، وكل شيء فينا مغاير لكل شيء فيهم!
وعلى الجملة، فإنك لو تصفحت هذا الأدب المصري القائم، لرأيته موزعا بين حياة في الجزيرة لعصر الجاهلية وصدر الإسلام، وبين حياة في بغداد أو الأندلس، فيما يلي ذلك العصر، وبين حياة في لندن أو برلين أو باريس أو روما أو موسكو، ولكن أين هذا الأديب الذي يعيش في مصر ويصور عواطفه المصرية التي يلهمها ما ينبغي أن يلهم المصري من عواطف وإحساس؟
الواقع أن الأدب المصري من هذا في أشد الحيرة والاضطراب، على أنه لا ينبغي لنا أن نبتئس بهذا ولا أن يشتد ضيقنا به، فإن من الواقع المحسوس أيضا أن أساليب أصحاب البيان جعلت تتقارب رويدا رويدا، كما جعلت منازع تفكيرهم تتصل شيئا فشيئا، ولا شك في أن الفضل في هذا يرجع إلى قوة انتشار الثقافة العامة وتعاظم وسائلها في هذه السنين.
كفاح اللغة العربية في سبيل الحياة والنهوض1
لقد أدال القدر من الدولة العربية، فكان أول ما دهيت به من جلى الأحداث سقوط بغداد في أيدي التتار، ثم طرد العرب من الأندلس، وتشريد من سلم منهم على التقتيل والإحراق، ثم استيلاء الدولة التركية شيئا فشيئا على البلاد التي تتكلم العربية في الشرق والغرب جميعا، خلا مراكش في المغرب الأقصى، وما لا خطر له في هذا الباب إذا كان قد سلم من الفتح التركي بعد ذلك شيء من البلاد.
لست الآن بسبيل سرد الأحداث التاريخية التي صبها القدر على الأقطار العربية والمستعربة، ولا بسبيل طرد تلك الأحداث وتسلسلها، والكشف عن أسبابها وبواعثها، وإنما الذي يعنيني تقريره في هذا المقام أن العربية، بزوال سلطان العرب في كل مكان، لم يبق لها معقل تلوذ به، ولا مدد تسترفده، بل لم يبق لها مجال في مذاهب الحياة، فإن الترك الحاكمين كانوا يفرضون لغتهم فرضا في جميع الأسباب الحكومية، كما كانوا هم وعمالهم لا يتحدثون إلى الأهلين إلا بالتركية، فأصبحت هذه لغة الخاصة أولا كما شاع كثير من صيغها وبخاصة في الشئون الدائرة على ألسنة العامة أيضا ، فشوهت العربية بهذا الخلاط تشويها شديدا.
ولو اقتصر الخطب على حديث الحاكمين وعمالهم لما أعيا على أبناء العربية أثره، ولكن حكم القوم إنما كان قائما على استخراج الأموال للساعة من أي سبيل، واقعا ذلك حيث وقع من أسباب التعمير والتثمير والتحضير، فكان ذلك بالضرورة مدعاة إلى جثوم التجارة وتقلص الصناعة، بل إلى فرار جماعات الزارعين من زراعة أرضيهم، وما لهم لا يفرون بل ما لهم لا يخلعون ملكية الأرض عنهم إذ هي قد أصبحت لا تغل مع الجهد إلا قليلا بالقياس إلى ألوان الجبايات تقتضى عليها اليوم بعد اليوم والساعة بعد الساعة، فإذا عجزوا عن الوفاء وهم لا بد عاجزون، ففي السوط (الكرباج) فضل للإبراء!
أظن أنك بعد هذا في غير حاجة إلى من يقيم لك الدليل من مراجع التاريخ على أن المدارس قد عطلت، وأن دور العلم قد عفيت، وأن الناس قد ارتدوا إلى جهالة عمياء، وانكسروا في وسائل الحياة جميعا على طلب ما يقيم الأود، ويستر الجسد، فإذا بقي بعد ذلك فضل من الجهد، فهو حبس على التحرف عن مواقع سطوة الظالمين! وبحسبي أن أقول لك: إن السلطان سليما لما فتح مصر جمع كل الحذاق في فنون الصناعات المختلفة وحملهم إلى الآستانة ليبنوا له هناك ويعمروا وينجدوا ويزخرفوا، وبهذا قضى على جميع الصناعات البارعة في مصر القضاء الحاسم!
وبعد، فإذا صارت أمة إلى ما صارت إليه مصر بالفتح التركي - قفر وفقر وظلم تغشاه ظلمات ، فلا علم ولا فن ولا تجارة ولا صناعة، ولا أي مظهر من مظاهر الحضارة - ففيم تجري اللغة، وماذا عسى أن تتناول من الأغراض، وعم تترجم من ألوان المعاني؟ اللهم إنه لم يبق بين يديها إلا ما يغني في أدائه أخس العامية ولو شاهت بخلاط هذه التركية!
العربية تنبعث للعلم
لقد ركدت اللغة العربية في مصر إذن وجف عودها، وجعلت تتقلص يوما بعد يوم إلى الغزو الفرنسي، وإلى قيام محمد علي، حتى خيل إلى مترسم التاريخ أنها ماتت موتا لا بعث لها منه إلى غاية الزمان!
ولا يتعاظمنك أنه كان يقوم في مصر في تلك الأيام «أدب» وأنه كان يقوم فيها «أدباء» فلقد كان فضالة الثمرة الجافة، وأثارة البقلة الذابلة، وناهيك بأدب كل همه إلى التحرف لإصابة نكتة بديعية، إذا لم تغن في إسلاسها الحيلة جرت جرا، واستكرهت استكراها، أما دقاق المعاني وأما كرائم الأغراض فمما لا تستحق عند الكاتبين ولا الشاعرين جليلا من الاحتفال والتشمير!
كان هناك نفر يقرضون الشعر، ويزخرفون المرسل من القول، وقد يقع الجيد في بعض ما ينظمون وفي بعض ما ينثرون، ولكنه لا يصدر عن طبع، وإنما تجيء به المصادفة، أو تأتي به مشاكلة المحفوظ عن متقدمي البلغاء!
وكيفما كان الأمر، فإن هؤلاء الأشتات من «الأدباء» كان أدبهم وما تسلك أقلامهم من فصح العربية في شبه منقطع عن سائر الناس، عالمهم وجاهلهم في هذا بمنزلة سواء، وعلى الجملة لم يكن ذلك «الأدب» ولا ما يجري فيه من صحاح العربية بمترجم، ولو بطريق التكلف والاستعارة، إلا عن أولئك النفر الأقلين، أما الجمهرة فليست من ذاك وليس ذاك منها في كثير ولا قليل، فإذا زعمنا أن لغة المصريين في ذلك الزمان كانت العربية، فإننا نمضي هذا على ترخص بعيد!
ويستقر الأمر لمحمد علي، وتستمكن من ناصية الحكم يده، ويتجه إلى تجييش جيش وافي العدة مدرب على النظام الحديث، فللرجل في السلطان مرام بعيد، والجيش يحتاج إلى الأطباء، إذ ليس في البلد كله طب ولا طبيب، فيقيم مدرسة للطب ويسوق إليها فيمن يسوق بعض المتقدمين من مجاوري الأزهر، لا يعرفون كلمة إفرنجية واحدة، ويرميهم بمعلمين من حذاق الأطباء في الغرب لا يعرفون كلمة عربية واحدة، فيقوم المترجمون بين الأساتيذ وتلاميذهم ليؤدوا ما يلقي أولئك إلى هؤلاء.
بعث أولئك المترجمون العربية في عنف وغلطة، وما كان لهم من هذا محيص، فهبت هبوب النائم المستغرق في حلمه وقد أزعجه عنه من الطوارق ما يستطير اللب، فركب رأسه وجرى لا يلوي على شيء، ما يبالي أعثرت رجله أم اصطدم بالجدار جبينه، وإن الذعر لأعصى من أن يدع لمثل هذا فضلا من الفكر فيما يأخذ من عدة القتال وما يدع!
ولقد بان لك أن العربية لم تمت، ولو قد ماتت ما قدر لها بعث أبدا، ولكنها إنما تقبضت وتقلصت وجثمت في أفحوصها دهرا طويلا، لا تطالعها شمس، ولا يقرب إليها غذاء، ومع هذا لقد ظلت مطوية على حيويتها، وهي لحسن الحظ حيوية قوية متينة، فإنها لم تكد تحس حرارة الشمس وتصيب المتنفس في الجو العريض، حتى انتعشت وراحت تطلب من وسائل الحياة ما يطلب سائر الأحياء!
فهذا رفاعة الأزهري يعود من فرنسا بعد المقام فيها مع إحدى البعثات بضع سنين، وإنه ليقوم في جماعة من لداته وتلاميذه على «قلم الترجمة» وقد راحوا يصبون ألوان الصيغ والمصطلحات في شتى العلوم والفنون، يتوسلون إلى هذا بالبحث فيما أثر عن الأقدمين تارة بالاشتقاق، وأخرى بالتعريب، وأحيانا بغير أولئك من وسائل الدلالات، واللغة تتئد في مماشاتهم مرة، وتخف في التسيار مرة، على أنها في الحالين واتت - بقدر ما - مطالب العلم الحديث، فحقق جهدهم فيها وجهدها معهم ما كاد يصله الظن بجملة المستحيل!
ولقد جعلت اللغة أبلغ همها إلى العلم؛ لأن النهضة إنما كانت تعتمد في جلى وسائلها على العلم، أما الأدب فقد فرضت له حظا ضئيلا من يوم تقدم محمد علي بإخراج «الوقائع المصرية» وعهد بتحريرها إلى العالم الشاعر الأديب الشيخ حسن العطار، رحمة الله عليه.
العربية تنقبض عن العلم وتتحرر للأدب
أمعنت العربية في ألوان العلوم والفنون، وخرجت فيها الكتب المؤلفة والمترجمة في الطب والهندسة والرياضة والزراعة والمعادن وطبقات الأرض والفنون العسكرية وغير ذلك مما جادت به القرائح في العالم الجديد إلى تلك الأيام.
ثم خبت هذه الجذوة، وسكنت بانتهاء ولاية محمد علي تلك الفورة، حتى قام حكم إسماعيل، فانبعثت في عهده اللغة ثانيا، ولكنها لم تكسر أجل همها هذه المرة على العلوم، بل لقد فرضت من جهدها صدرا عظيما للآداب، فخرجت الصحف الدورية تتبارى على متونها سوابق الأقلام.
ويقوم في ذلك العهد العالم الكاتب الأديب المجدد حقا أعني به المرحوم الشيخ حسن المرصفي فيلفت جمهرة الأدباء عن ذلك الأدب الضامر، ويوجه أذهانهم وأذواقهم جميعا إلى الخالص المنتخل من أدب العرب في جاهليتهم وفي إسلامهم، ويبعث لهم شعر أبي نواس وأبي تمام والبحتري وغيرهم من فحول الشعراء، كما يدل على بيان ابن المقفع والجاحظ والصولي وأحمد بن يوسف وأضرابهم من متقدمي الكتاب، فسرعان ما يصفو البيان ويحلو، وسرعان ما يجزل القول ويعلو، وسرعان ما تنفرج آفاق الكلام وتتبسط أسلات الأقلام في كل مقام، وناهيك بغرس يخرج من ثماره إبراهيم المويلحي في الكتاب ومحمود سامي البارودي في الشعراء!
وفي أعقاب نهضة المرصفي يقبل العالمان الأديبان اللغويان الشيخ حمزة فتح الله والشيخ إبراهيم اليازجي، فيكشفان عن مجفو العربية، ويستظهران من أوضاعها وصيغها ما يدل على الكثير من الأسباب الدائرة، ويتعقبان الأخطاء الشائعة، ويدلان على الصحيح الناصح من كلام العرب، فيأخذ الكتاب والشعراء أنفسهم بالتحري في التماس الصحيح حذر النقد والتشهير، وكذلك تصفو اللغة وتشرق ديباجتها، ولا شك في أن للصحف السيارة في هذا الباب فضلا غير منكور.
وظلت لغة الآداب في رقيها واطرادها في سبيل كمالها إلى اليوم، أما لغة العلم فلقد دهاها من السياسة ما دهى، فإن «دنلوب» ما كاد يقبض على زمام التعليم في المعارف وينفرد بالسلطان فيها حتى جعل يحيل لغة العلوم إلى الإنجليزية وتم له من هذا في المدارس الثانوية فما فوقها كل ما أراد، ولو قد تهيأ له أن يدرس الطلاب قواعد العربية نفسها بالإنجليزية لما أعوزه الإقدام!
وطالت هذه الحال، وخرجت كتب الدراسة في العلوم في الإنجليزية، وتقلبت فيها ألسنة الطلاب في دور التعليم، وجعلت لغة العرب تتقلص عن أداء الصيغ والمصطلحات في شتى العلوم والفنون، حتى تم التناكر والقطيعة بينها وبين تلك أو أشرف على التمام.
إذن لقد كان بعض اللغة - أعني لغة الآداب - في تبسط وازدهار، إذ بعضها وهو ما يتصل بالعلوم في تقلص وإقفار!
ويشاء القدر الحاني على لغة الكتاب أن يتولى المرحوم سعد زغلول باشا نظارة المعارف، وهو من هو في وثاقة علمه بالعربية، ونفوذه إلى دقائق أسرارها، وقوة يقينه بأنها زعيمة، لو قد مرنت بالعلاج، بأن تسع علم الآخرين كما وسعت علم الأولين، فتقدم من فوره بدراسة العلوم، بكل ما يتسع له الذرع، باللغة العربية، فشمر الأساتيذ لهذا، وأقبل العالمون على رفد العربية بالعلوم المختلفة من كلتا الطريقتين: الترجمة والتأليف، وخلفه على نظارة المعارف المرحوم أحمد حشمت باشا، وحذا حذوه في حياطة هذه اللغة وحضانتها، وكان من توسعه في هذه الناحية أن أنشأ في نظارة المعارف قلما للترجمة لينقل إلى العربية ما يتدارسه الطلاب في شتى العلوم والفنون، وإذا كان هذا «القلم» لم يغن في هذا المطلب جليلا فلأنه كان حق عسير، وألف لهذه الغاية أيضا لجنة دعاها «لجنة الاصطلاحات العربية» وعقد رياستها له ودعا إلى عضويتها بعنق من المشهود لهم بسعة العلم وجزالة الفضل، والتضلع في فقه العربية مع المشاركة في مختلف العلوم.
العربية لغة علم وأدب
وبعد، فالحق أن اللغة العربية إذا كانت في هذا العصر الذي نعيش فيه قد أزهرت وأشرقت وأضحت تواتي في يسر حاجة الآداب، فإنها ما برحت تثقلها مطالب العلوم، بل لا غرو علي إذا زعمت أنها ما برحت تحس العجز الشديد، فلقد ازدحمت مصطلحات العلوم في هذه الأربعين سنة الأخيرة، على وجه خاص، ازدحاما هائلا مروعا بما أخرجت القرائح فيها من فنون المخترعات والمستحدثات في مختلف وسائل الحياة، وإن إحساس أبناء العربية، وبخاصة من يتولون منهم شأن التعليم والتأليف، بهذا العجز هو الذي كان يبعث أعيان أصحاب العلم والبيان في مصر الفترة بعد الفترة على الدعوة إلى تأليف المجامع اللغوية لعلاج لغتنا، ومدها بالوسائل المختلفة، حتى تواتي حاجات العلوم والفنون، ولم يقدر لشيء منها النجاح، لأنها كانت تعوزها بعض وسائل الحياة، ومن أهمها المال والسلطان.
وأخيرا أنشئ «مجمع اللغة العربية» وفوق أنه فرض صدرا عظيما من جهده لاستظهار ألوان الصيغ والمصطلحات في شتى العلوم والفنون، فقد راح يتبسط في قواعد العربية ما أسعدته على هذا التبسط مذاهب السلف الأكرمين، إلانة للغة، وتيسيرا لما كان يتعاصى في هذا المطلب على جمهورة المعلمين والمؤلفين، وقد قطع في هذا الشوط الخطا العراض، والأمل معقود بأن هذا المجمع في ظل نظامه الجديد سيبلغ العربية منيتها إن شاء الله في وقت غير طويل.
هذا كفاح العربية في مائة عام، وإن لغة ترزق هذا الصبر وهذا الجلد في الكفاح، وهذه الجدات على كثرة دواعي البلى، لحقيقة في النهاية بالظفر والعزة في الدنيا على طول الزمان.
القصص في الأدب العربي1
أخذ العرب عن اليونان فلسفتهم وحكمتهم، كما نقلوا عنهم إلى العربية علوما شتى كالطب والنجوم وغيرها؛ ولكنهم لم يأخذوا عنهم فن القصص، وخاصة القصص التمثيلي (الروايات المسرحية)، ولا أدري أكان ذلك يرجع إلى اعتبار ديني، وكراهة الشرع والطبع العربي أيضا أن تسنح امرأة لجمهرة النظارة تمثل عاشقة أو معشوقة؟ أم يرجع إلى أن العرب في مطلع حضارتهم كانوا ككل الأمم الناشئة، تعنى أول ما تعنى بالضروريات، حتى إذا أصابت منها حظا محمودا لفتت بعض سعيها للكماليات؟
وهنا أرجو ألا تنسى أن العرب إنما عنوا بنقل فلسفة اليونان ومنطقهم إلى لغتهم لغرض ديني، فقد وصلوهما بالعقائد، وأقاموا عليهما علم الكلام (التوحيد)، والدين كما لا يذهب عنك من أخص الضروريات.
أم أن انصراف العرب عن ذلك الفن يرجع إلى أن الحياة الاجتماعية لم تكن قد استقرت عندهم استقرارا يدعو الأذهان إلى التغلغل في تحليل حياة الفرد والجماعة، والخروج بفكرة عامة تجلو على الجمهور رواية قصصية أو تمثيلية، أم أنه يرجع إلى بعض هذه الأسباب دون بعض، أم يرجع إليها جميعا؟ ومهما يكن من شيء فذلك الذي وقع والسلام.
على أن العرب كانوا إذا عالجوا القصة لم يعدوا إثبات شيء وقع، أو شيء يتخيلون وقوعه، فكان حظهم في هذا الفن ضئيلا؛ لأن شيئا من ذلك لم يتعرض لتحليل ناحية من حياة المجتمع، والخروج بفكرة عامة، هي في الواقع معقد القصة والغاية من وضعها.
ولقد نزل القرآن الكريم فجاء بكثير من قصص الأمم الغابرة، وبين كيف فتنوا وكيف ضلوا، وأتى على من بعث فيهم من المرسلين ، ومن آمنوا بهم ومن كفروا برسالاتهم، وما أعد الله لأولئك وكيف صنع بهؤلاء.
والقرآن كتاب الله تعالى لا تخييل فيه ولا اختراع، ولا خلق لحوادث لم تقع، ولا تجلية لأناسي لم يكونوا، تصويرا لفكرة، واستدراجا لفهم الجمهور بوسائل التلفيق والتخييل، إنما هو القول الحق يروي به الكتاب العزيز ما وقع للسالفين للعبرة والادكار.
ولقد بقيت القصة مقصورة، في الجملة، على الشعر، ولكن بالقدر الذي أسلفناه عليك، حتى إذا كان عهد الدولة العباسية، التفت الناس للقصص، وترجم ابن المقفع «كليلة ودمنة»، وترجم غيره كتاب «هزار أفسانه» ألف خرافة، وهو الذي قالوا إنه أصل كتاب «ألف ليلة وليلة».
وعلى ذكر كتاب «ألف ليلة وليلة» أقول لك إن أبسط نظرة فيه تعرفك أنه لم يكتب بقلم واحد، ولم يؤلف في زمان واحد، ولا في مكان واحد، فإنه قد يعلو في أغراضه ومعانيه وعباراته علوا كبيرا في بعض المواضع، وإنه ليسف في ذلك إلى غاية الإسفاف في مواضع أخر، وإنه ليحدثك حديث شاهد العيان عن بغداد في أزهى أيامها، كما يحدثك حديث شاهد العيان عن القاهرة في أظلم عهودها إلخ، كما أنك تجد هذا الكتاب في العربية غيره في التركية، وتجده في كلتيهما غيره في الفارسية.
ولست هنا بصدد البحث في كتاب «ألف ليلة وليلة» وكيف نجم، وكيف تألف، ولعلي إن تجردت في هذا البحث لا أبلغ منه مدى؛ وإنما هي كلمة اطرد بها القلم، ومن حقنا أن نعود بعدها إلى ما نحن بسبيله.
ولقد أخرج الجاحظ كتاب «الحيوان»، بحث فيه طبائع الحيوانات وعاداتها، وعقد المناظرات الكثيرة بين أصحابها، والجاحظ رجل واسع العلم، شديد التمكن من النفس، قوي الحجة، يملك من ناصية البيان ما لا أحسب أن قد ملكه بعده كثير، فهو لا يزال يمهد على لسان هذا الرأي، ويفلج بالحجة، ويبعث بالشاهد في عقب الشاهد، ويضرب المثل بعد المثل، حتى يأخذ عليك مخانق الطرق، فلا تجد بعدها محيصا من الإذعان والتسليم، ثم يبعث لك الطرف الآخر، فما يزال يدافع تلك الحجج، وينقض ما قام بين يديك من الأدلة والشواهد، ثم ما يزال يبريها ويفريها حتى تستحيل هباء يتفرق في الهواء، ثم يردك إلى مكانك الأول، ثم يعود بك إلى الثاني، ويظل يرجحك بين الرأيين المختلفين بقوة حجته، وسلاطة بيانه، حتى إذا قدر أنه دوخك وأرضى شهوته بإذلال ذهنك، رحمك فعدل بك إلى حديث آخر!
ولقد عرض الجاحظ في كتاب «الحيوان» لمسائل من العلم ومن الحكمة، وحلل شيئا من الطباع والأخلاق، بل لعله بالتكنية الغامضة والتورية البعيدة قد مس أشياء تتصل بحياة المجتمع، ولكن لا تنس، مع هذا، أنه لا الجاحظ ولا ابن المقفع، ولا من نحا نحوهما عرض لاصطناع القصة على النحو الذي كان يعرفه قدماء اليونان ونعرفه نحن اليوم، وكل ما طلبوه من هذا فيما أخرجوا من الكتب لا يعدو أن يكون حكما منثورة، وعظات جزئية لا ينتظمها سبب، ولا يجمع بينها نسب «أما القصة بمعنى اختراع الأشخاص، وتمهيد المكان، وابتكار الحوادث، وخلق الوقائع، ونفض الصفات على ممثليها، على أن يتجه كل ذلك إلى غاية واحدة، ويدرج إلى غرض معين، فذلك ما لم يعن به العرب ولم يتوجهوا إليه».
ولكن لا ينبغي لنا أن نغفل، في هذا الباب، أمرا آخر له أثره وله خطره: ذلك أن العرب، وخاصة في عصر الدولة العباسية، قد عنوا بلون من القصص، وهو الحكايات القصيرة يضيفونها إلى بعض الناس لتشهيرهم والعبث بهم، أو لمجرد التفكيه والترفيه بما يتندرون به عليهم، وهذه الأقاصيص وإن عرضت في بعض الأحيان لتحليل جانب من نفس إنسانية، فإن ذلك لا يترامى إلى الغرض الذي تجتمع له القصة على ما كان يعرفه لها قدماء اليونان ونعرفه لها نحن اليوم.
وعلى هذا كتاب «البخلاء» للجاحظ، ولا أظن أن الجاحظ كان صادقا في أكثر ما روى عن بخلائه، ولعله إن صدق في أصل بعض فقد غلا فيه غلوا كبيرا! وعلى كل حال، لقد كان الرجل في تصويره وتخييله، وتشبيهه وتمثيله، بارعا تام البراعة، رائعا بالغ الروعة!
وهناك غير أحاديث «البخلاء» أحاديث فيها عجب وفتنة، ما أحسب أكثرها إلا قد اخترعت اختراعا لا لشيء إلا للتشهير والعبث، أو لمجرد التفكيه وإدخال السرور على نفوس الناس، ولعلي أوفق يوما إلى أن أعرض طائفة منها للقارئ الكريم.
وعلى أي حال فإن أثر هذا اللون من القصص لا يجاوز التسلية والتفريج عن النفوس بالإتيان بالعجيب يتعاظم الأحلام!
على هذا فهم العرب القصة، وعلى هذا اتخذوها، فنشأ القصاص تعد لهم الحلق ليحدثوا الناس عن أبطال الحرب، وعن أبطال الجود، وعن أبطال الغرام وعن غير أولئك من الأبطال، وتجمعت أحاديث «ألف ليلة وليلة»، وبرزت قصة «عنترة»، ووضع كتاب «قصص الأنبياء»، وخرج كتاب «بدائع الزهور، في وقائع الدهور»، وكتاب «سيف بن ذي يزن»، ثم استرسلت العامية في مصطفى منظومها ومنثورها في سيرة أبي زيد الهلالي وأصحابه، واحتفلت الاحتفال كله لذكر وقائعهم ومغازيهم وفتوحهم، وما يكون منهم، إذا استحر القتال، وتداعى الأبطال للنزال، فترى الواحد منهم يقط الأعناق عشرين وثلاثين بضربة من السيف واحدة! ... إلخ.
ولا زال الشعراء - وليسامحنا شوقي وحافظ ومطران وإخوانهم في هذا التعبير فإنه الشائع في السواد - ما زال هؤلاء الشعراء يتخذون لهم مجالس عالية في بعض المقاهي البلدية ليقصوا على العامة سيرة أبي زيد وأصحابه في ترتيل وتنغم يوقعونه في لباقة ولطف أداء على «رباباتهم»، ولأولئك العامة بهم ما شاء الله من افتتان، ولهم ما شاء الله من التطريب على تلك الألحان!
على أن تأليف الحكايات في العربية وإجراءها مجرى الخيال لم ينقطع في زمن من الأزمان، ولعل أبرز ما ظهر من ذلك أثناء هذه النهضة الحديثة كتاب «علم الدين» للمرحوم علي مبارك باشا، و«حديث عيسى بن هشام» لمحمد بك المويلحي، و«حديث موسى بن عصام» لأبيه إبراهيم بك، عليهما رحمة الله، وما قام على ترجمته المرحوم عثمان بك جلال.
ومن أوائل من وضعوا القصة في مصر، بالمعنى المعروف، أحمد شوقي بك «النضيرة بنت الضيزن»، وأحمد حافظ بك عوض «رواية اليتيم»، ولقد ترجم المترجمون مع هذا في هذا العصر من قصص الغرب ما لا يحصى كثرة.
وأما القصص التمثيلي «الروايات المسرحية» فأول عهد العربية بها هذا العصر الحديث، وقد بدأت بالترجمة من لغات الغرب، وأول من عالج هذا في الأمم العربية إخواننا السوريون، لأنهم أول من عالج التمثيل المسرحي في أبناء العرب، وأول ما شهدت مصر التمثيل المسرحي، وكان ذلك في عصر إسماعيل، شهدته من فرقهم التي هبطت مصر في ذلك العهد واحدة بعد أخرى، على أن تخلفنا في هذا الباب عنهم يرجع إلى أسباب لا محل لها لذكرها في هذا المقام.
وإذا كانت مادة التمثيل إلى هذا الوقت هي ما يترجم إلى العربية من لغات الغرب، فإن كثيرا من أبناء العرب عالجوا بعد ذلك الوضع والتأليف، وكان من أسبقهم إلى هذا الشيخ نجيب الحداد وإسماعيل بك عاصم.
ولقد كثر في هذا الوقت الذي نعيش فيه واضعو القصص التمثيلية؛ على أنها في جوهرها وغاياتها ومغازيها وسائر أسبابها لم تبلغ مبلغ الروايات الغربية.
وأخيرا تقدم أمير الشعراء أحمد شوقي بك، فنظم روايتين «كيلوبترا وعنترة»
2
فأوفى الشعر فيهما على الغاية.
وكلتا القصتين تاريخية، إذا رمت إلى غرض فلا شأن لنا به، ولا دخل لعيشنا الحاضر فيه!
وهنا ينبغي لنا ألا نغفل أن مؤلفي روايات الريحاني والكسار ومن ينحون نحوهما في أسلوبهما التمثيلي يعرضون لنواح من الحياة المصرية، ولكن على سبيل التهكم عليها والزراية بها، في أساليب رشيقة طلية، طلبا لإضحاك النظارة والتسلية عنهم؛ فإذا كان لشيء منها مغزى بعد ذلك، فهو مغزى ضئيل لا يتسق لما نخوض إليه من جسام المطالب، هذا إلى أنها كلها تفرغ في لغة عامية بحت، فهي ليست من الأدب الذي نعنيه في كثير ولا قليل.
وبعد، أفلا يمكن أن يستشرف الأمل إلى أن يخرج فينا مؤلفون مسرحيون يضارعون كتاب الغرب في سبك رواياتهم، وإمعانهم في التحليل بطريق التخييل والتمثيل، وإصابة الأغراض البعيدة وتجليتها على النظارة بطريق التلويح لا بالمواجهة والتصريح؟ فذلك الأشحذ للأذهان، وذلك الأبلغ موقعا من النفوس، بحيث يكون موضوع هذه الروايات مصريا بحتا يصيب من عاداتنا، ويحلل جوانب من حياتنا، ويهدينا في بعض أسبابنا السبيل.
ألا ليس ذلك على الله بعزيز!
في الأدب بين القديم والجديد1
لقد كان يتداخلني العجب كلما رأيت أن المتقدمين من أهل العلم والأدب إجماع على تقديم شعراء الجاهلية عامة على الشعراء المولدين عامة، ولم يقع لي فيما طالعته من كتب الأدب ونقد الشعر والموازنة بين الشعراء، مفاضلة بين شاعرين أحدهما جاهلي والآخر مولد، إنما تعقد الموازنة بين شاعرين وقعا في الجاهلية أو بين شاعرين نجما في الإسلام، ولقد يعود هذا إلى الإيمان بأن من حق شعر العرب أن يرتفع عن أن يقايس بشعر غيرهم من المولدين.
ولقد قرأت شعر امرئ القيس والنابغة والأعشى ومن إليهم من المتقدمين، وقرأت شعر بشار وأبي نواس والبحتري ومن إليهم من المتأخرين، فأجد لهؤلاء من نضارة الشعر، ونصاحة القول، وحلاوة التعبير، وسعة الخيال، ودقة الأداء، والتصرف في فنون الكلام ما لا يشيع في كلام أولئك، وإنما تتلقطه في دواوينهم تلقطا، فكيف لا يقوم في شريعة الأدباء أحد من أولئك بأحد من هؤلاء؟
لقد تداخلني العجب من هذا حتى ظننت أني اهتديت إلى سببه وعلته: ذلك أن القوم قدروا هذا الشعر صناعة عربية، منجمها طبائع العرب وما تجري به سجاياهم، فإذا تقدم غيرهم لقرض الشعر فهو مقلد لهم ومتشبه بهم ومحتذ لمثالهم، وهو لا يتوسل إليه بطبع، ولا يجري فيه على عرق، إنما هو متكلف متصنع، وليس يكون للمقلد مهما يوف على الإتقان شأن المبتدع، ولا للمتكلف مهما يعظم خطره شأو من ينضح بالفطرة، ويجود بالطبع.
ولقد جرى الشعراء المحدثون أنفسهم على هذا وسلموا به، فكان الشاعر يخرج في صدر شبابه إلى البادية فيقيم الحول أو الأحوال ليحذق اللغة ويحفظ الغريب، ويتروى أراجيز العرب وأشعارهم، ويتعرف أحوالهم وأخبارهم، ويلم بكل أسبابهم وفنون تصورهم وتخييلهم، ويعنى العناية كلها بأسماء إبلهم وأوصافها وكيف ينيخونها، وكيف يبعثونها، وكيف يضربون أكبادها، وكيف يسوسون أولادها، وكيف يرعونها الأكلاء، وكيف يوردونها موارد الماء، وكيف يكون العلل والنهل، وكيف يكون الخمس والسدس، وغير هذا مما تحتفل به أحاديثهم، وتسير به أشعارهم، حتى إذا رجعوا إلى الحاضرة فقرضوا الشعر لمدح أو ذم أو هوى أو وصف أو غير هذا من مطالب الكلام، ذكروا الإبل وكيف حدوها، وكيف قادوها بأشطانها، وكيف أبركوها في أعطانها، وأطالوا في وصف مشيها بين وخد وخبب، ونزيد ورسيم، وغير هذا من هيآتها وحركاتها وأوصافها مما تجده في صدور أشعارهم، وإنما كان منهم هذا التكلف كله ليتشبهوا بالعرب وليحاكوا بأشعارهم ما استطاعوا شعر العرب، إذ كان مقدرا أن البلاغة فنهم، وأن الشعر الأصيل ما قرضوا هم وما نظموا، وهذا رؤبة وهذا العجاج الراجزان: لقد عاشا في دولة بني أمية وأدركا حضارة دمشق، وأصابا كثيرا أو قليلا من مناعم تلك الحضارة، ومع هذا فإني أعوذ لي ولك بالله تعالى من أراجيزهما، وحسبك أن تنشر بين يديك واحدة منها فتعرض كل كلمة منها على معجمات اللغة، حتى إذا واتتك وتوافت لك بحل طلاسمها، وجلت عليك مستغلق معانيها، رأيت ذلك البلاء كله «كما قال بعض شيوخنا» لم يعد وصف أتانة أو بعر قعود، أو هملجة برذون، ولا يمكن ألا يكون رؤبة والعجاج قد رأيا شيئا في دمشق حقيقا بالوصف، ولا يمكن ألا يكون حسهما قد وقع على معنى يحرك القريض، ولكنهما قد شغفا بالتبريز، وظنا أن لن يتهيأ لهما ذلك إلا إذا قالا وأسرفا، على طريقة العرب، وحبسا قولهما على أسباب عيش البادية وتصرف أهلها وخيالهم.
وهذا أبو نواس، أفرأيت أحلى منه قولا، أو أبدع شعرا، أو أدق وصفا، أو أقدر تصرفا في فنون الأغراض، أو أشد استمتاعا بكل وسائل الرفاهية في صميم دولة بني العباس؟ أو إرفادا للأدب بوصف كل ما وقع للشاعر من جليل الأمر وحقيره؟ ومستملحه ومقبوحه؟ حتى لقد كان الصدق في الفن والحرص على دقة الوصف يتدليان به أحيانا إلى العامي المبتذل من القول والمسترخي الساقط من الكلام، حتى يجلي عليك الصورة كلها وينفض على نفسك الحديث أجمعه، لم يلته بترك هنة أو إشارة قد يفسدها أن تؤدى باللفظ الشريف، أفرأيت أن هذا كله إنما كان يتكلف التبدي تكلفا ويصطنع الغريب اصطناعا حين يقول:
إليك ابن مستن البطاح رمت بنا
مقابلة بين الجديل وشدقم
مهارى إذا أشرعن بحر مفازة
كرعن جميعا في إناء مقسم
نفخن اللغام الجعد ثم ضربنه
على كل خيشوم نبيل المخطم
حدابير ما ينفك من حيث بركت
دم من أظل أو دم من مخدم
ويقول كذلك يصف ناقة له وتلعاب ذنبها:
ولقد تجوب بي الفلاة إذا
صام النهار وقالت العفر
شدنية رعت الحمى فأتت
ملء الحبال كأنها قصر
تثني على الحاذين ذا خصل
تعماله الشزران والخطر
أما إذا رفعته شامذة
فتقول رنق فوقها نسر
أما إذا وضعته عارضة
فتقول أرخي فوقها ستر
ولا تفوتنك قصيدته الطويلة السابغة التي مطلعها «وبلدة فيها زور» وما أحسب أديبا في أي عصر من العصور الإسلامية قد تفهمها واستوضح معانيها بغير كد ومطاولة وتقليب في معجمات اللغة وطول تنقيب!
وهذا هو أبو نواس الذي يقول ما لا أستطيع أن أحدثك به في صحيفة سيارة ضنا بالأدب العام، والمتأدبون يقرأونه في مواطنه من تراجم أبي نواس ودواوين أشعاره، وكله سهل لين يقع فيه كما حدثتك العامي والمبتذل والساقط من الكلام!
وإنما كان أبو نواس يجري في هذا على السجية المرسلة، فيصف الأشياء كما ينبغي أن توصف، ويطلق القول كما يجب أن يطلق، وإنما كان في تلك يتطبع ويتكلف ليشاكل العرب حرصا على معنى الشاعرية عند الناس، وليظفر برضى أمثال أبي عبيدة من حفاظ لغة العرب، وليبعثهم على الاحتجاج بكلامه، وتلك المنزلة كانت في الأدب تجدع دونها الأنوف وتقط الأعناق.
ولست تجد دليلا أبين ولا حجة أوضح على أن أبا نواس كان في ذلك الشعر البدوي متكلفا متصنعا لا يترجم عن شيء يجده هو، من قوله نفسه يتهزأ بمن يذهب هذا المذهب من الشعراء، ويبالغ في السخرية منهم:
قل لمن يبكي على رسم درس
واقفا ما ضر لو كان جلس؟!
تصف الربع ومن كان به
مثل سلمى ولبينى وخنس
اترك الربع وسلمى جانبا
واصطبح كرخية مثل القبس
وله في هذا الباب شيء كثير .
وبعد فإن الحياة متحركة غير جامدة، والشعر لا يعدو أن يكون وصفا لأمر واقع، أو خيالا ملفقا من أمر واقع، أو إحساسا يستمد كل أسبابه من الأمر الواقع، فلم يكن في طوق الشعر أن يعشى عن كل هذه الحضارة الواسعة التي تبسطت فيها دولتا بني أمية وبني العباس، وأن يظل حبسا على ما جال فيه شعراء الجاهلية، على ما أسلفته عليك، بل لقد مشى الشعر طلقا مع الحياة، فتناول كل ما أخرجته الحضارة، فافتن في وصف القصور ورياشها وآنيتها، وجواري البحر ووصف هواديها وقوادمها، وأزهار الروض وأنواره، ولكم جال في وصف الخمر والطرد، وقال حتى قال في العلم نفسه، وتناول من ألوان المعاني والترجمة عن فنون الأحساس ما جاشت به كل تلك الأسباب.
الواقع أن حياة الدولة العربية تطورت فتطورت معها لغتها وأدبها وشعرها أيضا، ولم يكن إلى غير هذا من سبيل، إلا أنها على عظم هذا التطور لم تتنكر لهجاتها ولا نشزت عليها أساليبها، بل ظلت على الدهر عربية لها كل مشخصات لغة العرب ومميزات حياتها، وكان شأنها في هذا شأن جميع الكائنات الحية، تزيد بما يدخل عليها من جديد، وتنقص بما يخرج عنها من قديم، إلا أنها تظل بكلها هي هي، لأن هيكلها وصفتها العامة ومقومات حياتها الخاصة ما زالت هي هي.
ولقد خرجت الدولة العربية من بداوة مطلقة إلى حضارة مطلقة، وتبدلت في كل شيء عيشا بعيش، فدارجتها لغتها البدوية، وواتت حضارتها العريضة بكل مطالبها في غير رجة ولا مطاولة ولا عنف، والفضل في ذلك يرجع إلى قوة اللغة وسعتها، وإلى حرص أصحاب اللسان وشعرائهم، على وجه خاص، على أن يشاكلوا العرب في منطقهم ولهجاتهم ومنازع كلامهم، وإذا قلت العربية فلست أعني مفرداتها فحسب، فلقد تقرأ الكلام لا يقع فيه إلا عربي صحيح، وهو مع هذا ليس من العربية في كثير ولا قليل، وإنما أعني فيما أعني الأسلوب وطريقة تأليف الكلام، وسنعرض لهذا المعنى في كلامنا عن الجديد إن شاء الله.
ولقد ظل الشعراء دهرا طويلا، على تقلبهم في فنون الحضارة، وافتنانهم في ذكر أسبابها، ووصفهم لمناعمها، وهتافهم بما جل ودق من مستحدثاتها، يجولون بالشعر أيضا مجال أهل البادية في أسلوب عيشهم وسائر أسبابهم، ولقد يكون هذا ضربا من التكلف كما ذكرت لك، ولكن الذي لم يدخله التكلف ولم تلحقه الصنعة أن هؤلاء الشعراء من المحدثين إنما كانوا يتصورون، بوجه عام، كما كان يتصور العرب، ويذوقون مذاقهم، وينزعون في مذاهب النظر والحس منازعهم، وليس هذا بعجيب لأنهم أبناؤهم ومواليهم، وأبناء جيرتهم، الناشئون في دولتهم، ولهذا ترى أن الذوق الشعري العام واحد في العهدين؛ وإن اختلف فيهما بالصنعة وإرسال الطبع، وبخشونة عيش البداوة وضيق مجاله، واتساع حياة الحضارة ولين أسبابها.
ولقد جاء المتنبي، والمتنبي من أفحل من حذقوا لغة العرب وحصلوا غريبها، وممن خرجوا إلى البادية ليتعلموا لغة الأعراب ومنازع بلاغاتهم وطرق عيشهم، فهو من هذه الناحية غير متهم، لقد طالما أخذ إخذهم وجرى على سنتهم، ولكن للرجل عقلا عبقريا قد يسمو به عن هذا الأفق ويحلق به فوق هذا المستوى، فيدرك أشياء على غير ما أدركوا، ويتصور أشياء على غير ما تصوروا فينحط بها إلى الشعر.
ولقد يشعر بعقله لا بوجدانه، فيجري كلامه على منطق الفلسفة لا على منطق الشعر، ولقد يجازف في إصابة المعنى الذي ارتصد له بأحكام البلاغة؛ بل لقد ينشز على قوانين اللغة نفسها ما يبالي في كثير ولا قليل!
أتعرف موقع هذا من آراء علماء الأدب ونقدة الشعر؟
لقد قال بعضهم في غير تردد ولا تحبس: إن المتنبي ليس بشاعر ألبتة؟
وما كان هذا إنكارا منهم لفضل المتنبي ولا جحودا لخطره، ولكن لأن ما جاء به ليس من جنس ما يقوله الشعراء رعاية لقوانين الأدب، ومشاكلة لمنازع لهجات العرب. •••
ولقد أطلت الحديث هذه الليلة، وهذا الموضوع الذي نعالجه يحتاج إلى حديث بعد حديث، ولعلنا نوفق غدا إلى غاية الكلام إن شاء الله!
انتهى الحديث أمس بنا إلى أن قوما من نقدة الشعر قالوا: إن المتنبي على جلالة محله، لم يكن شاعرا ألبتة، ولقد تجد لأبي الطيب في بعض شعره من حسن النسج وقوة التعبير وسطوة الكلام ما تجده في شعر أبي تمام، وهذا في نحو قوله مثلا إذ يصف الأسد وما كان من تعفير سيف الدولة له بسوطه:
ورد إذا ورد البحيرة شاربا
ورد الفرات زئيره والنيلا
متخضب بدم الفوارس لابس
في غيله من لبدتيه غيلا
ما قوبلت عيناه إلا ظنتا
نار الثرى تحت الفريق حلولا
يطأ الثرى مترفقا من تيهه
فكأنه آس يجس عليلا
ألقى فريسته وبربر دونها
وقربت قربا خاله تطفيلا
فتشابه الخلقان في إقدامه
وتخالفا في بذلك المأكولا
أمعفر الليث الهزبر بسوطه
لمن ادخرت الصارم المصقولا؟
ولقد كان المتنبي يرق فيقول في مثل ديباجة البحتري، حتى لتحسبه ينظم من زهر الروض أو من نسم السحر:
حببتك قلبي قبل حبك من نأى
وقد كان غدارا فكن أنت وافيا •••
يا أخت معتنق الفوارس في الوغى
لأخوك نم أبر منك وأرحم
وغير هذا وغير هذا تجده في شعر أبي الطيب، ولكنه من القليل أقل، أما سائر شعره فمن نظم العقل لا من نظم القلب، ومذهبه إلى صحة الفكر لا صحة الديباجة.
ولقد حدثتك أمس أن للرجل عقلا عبقريا قد يسمو به عن هذا الأفق ويحلق به فوق هذا المستوى فيدرك أشياء على غير ما يجري في تصور جمهرة الناس، فينحط بها إلى الشعر ضغطا في غير تزويق، وعلى هذا لا تقوى على احتمالها مثلي ديباجة البحتري، وهي كما وصفها بعض أصحابنا من «الدنتلا» فتتمزق من دونها تمزيقا، بل لقد تضطرب بجانبها قوانين البلاغة، ولقد تنشز على الذوق العام.
ولقد أرى أن الموضوع الذي نعالجه بهذه الأحاديث - القديم والجديد - لم ينجم اليوم ولا في هذا الجيل، وإنما نجم مع شعر المتنبي من قرابة ألف عام.
على أن هذه المسألة لا يتهيأ حلها قبل الاتفاق على جواب هذه المسألة: ما الأدب؟ ثم ما الشعر؟
ولو قد تهيأت لنا معرفة حدهما والاتفاق على تعريفهما، لما تعذر علينا حسم النزاع في هذا الموضوع الذي نعالجه اليوم.
ولا أزعم أني وقفت للأدب أو للشعر على تعريف وقع عليه اتفاق الأدباء كلهم أو أكثرهم في أي عصر من العصور، ولا أزعم أني أستطيع أن أحد كلا منهما بالتعريف الجامع المانع؛ فذلك مني فوق الغرور، ولو قد تقدمت له لصادرت أحد الفريقين على المطلوب، لأن القضاء في هذا تسلف للقضاء في ذاك.
ولكن هذا كله لا يعني أننا لا نلمح وجه الخلاف، ولو بصفة عامة، بين أنصار القديم وأشياع الجديد، فلقد نلمحه على الأقل من الخلاف بين من قالوا إن المتنبي أكبر شاعر، وبين من ذهبوا إلى أن المتنبي ليس بشاعر ألبتة.
ولقد نستطيع أن نصور هذا الخلاف ولا نحدده، ولقد نصوره بأن الشعر عند قوم لا ينبغي أن يتجاوز لهجة العرب وما كانت تستريح إليه أذواقهم، وبحيث لا يعدو لغتهم وقوانين بلاغاتهم، ويرى الآخرون أن الشعر كما هو مظهر الشعور ينبغي أن يكون مظهر حاجات العقل والفكر معا، فليس من حق الديباجة ولا من حق الأسلوب المتخير ولا من حق الذوق العربي أن تعترضها في هذا السبيل.
وكذلك حدث في الأدب عندنا: أهو مسألة عربية لغوية؟ أم هو المسألة الجامعة لكل مطالب العقل والتصور والخيال؟ مهما تنحرف عبارتنا في تصوير هذه المطالب عن أسلوب اللغة ولهجاتها وديباجتها المرتضاة؟
والذي يعظم في أثر هذا الخلاف أن اللغة العربية قد ركدت قرونا عدة انقبض فيها أهلها عن تقليبها وإجالتها فيما تجد الأيام من فنون المعاني ، وفي هذه المدة لقد انبعث الغرب وتحركت فيه علوم كثيرة وفنون، وسطعت من أفقه في العالم مدنية جليلة تناولت كل أسباب الحياة، ثم هببنا نحن الآخرين من نومتنا الطويلة، ونحن في تثاؤبنا وفرك عيوننا، نبعث أيماننا فإذا لغة عظيمة راكدة في الشرق من عدة قرون، ونبعث شمائلنا فإذا حضارة هائلة شبت في الغرب من بضعة قرون، ولا بد لنا لنأخذ في أسباب العلم والفن والقوة، ولنجاري هذا العالم في حضارته، من أن نطابق بين قديم الشرق وجديد الغرب، ونعمل على الملاءمة بينهما، وما كان ليتسق لنا هذا، إذا هو اتسق، بمثل هذه السرعة التي يقدرها منا كثير، فالمطلب، في الواقع، حق عسير.
ولقد بدأ اتصالنا الحديث بالغرب في عهد محمد علي، إذ أراد أن يبعث العلم الحديث في هذه البلاد، فجاء له إلى مصر بمعلمين، وأشخص إليه من مصر متعلمين، ومن ثم ترجمت عن لغاته كتب في مختلف العلوم والفنون لتدرس في معاهد مصر بلغة البلاد، فجاءت مزجا من العامية والعربية والتركية والإفرنجية المعربة، ولم يكن إلى غير هذا من سبيل.
ثم جاء إسماعيل وبعثت الحركة العلمية فترجمت كذلك كتب لم تواتها اللغة العربية، ولم يكن من سبيل إلى أن تواتيها بكل ما عرضت له من أسباب هذه الحضارة.
وأنشئت لعهده مدرسة دار العلوم، وقام على تعهدها المرحوم علي مبارك باشا، وأتى لها بالأفذاذ من أقطاب اللغة العربية، مثل الشيخ حسين المرصفي، فرووا طلبتها أدب العرب، ولقنوهم متخير شعرهم وفنون بلاغاتهم، فخرج منهم ناظورة العلماء في اللغة والأدب العربي في هذه البلاد؛ وكانوا مثار نهضتها الجديدة في هذا الباب.
إلا أن هذه النهضة، مع شيء من الأسف كثير، كانت عربية خالصة، فلم تتصل بالعلم الغربي الذي هو ينبوع حضارتنا الجديدة، ولم تلائم بينه وبين اللغة العربية في كثير.
وإني لأستطيع أن أقول إن العلم بقي في ناحية، وبقيت اللغة في ناحية أخرى، وظل الأدب عندنا يجول في حفظ المعلقات السبع، ولامية العرب، وقصيدة ابن زريق، و«أفاطم لو شهدت ببطن خبت»، وفي رواية حادثة طسم وجديس، وحرب داحس والغبراء، وحرب الفجار، وحفظ صدر من مقامات بديع الزمان وأبي محمد الحريري، ونحو هذا وهذا، ويعيش أدبنا بهذا دهرا!
ثم جاءنا الشنقيطي، وجاءنا اليازجي، وجعلا يتسقطان الأدباء والكتاب والشعراء فيما يقع لهم مما لا يجري على قوانين الصرف، ولا تقره معجمات اللغة؛ ودعت هذه الحركة الجديدة إلى أن يشيع في الناس كتاب «درة الغواص، في أوهام الخواص» للحريري، وكتاب «لغة الجرائد» لليازجي، يستظهرهما المتأدبون، ويرتصدون للكتاب والشعراء يأخذون عليهم كل سبيل، فإذا قال كاتب: «أثر عليه» فلأمه الهبل ،
2
إذ هي: أثر فيه، وإذا قال شاعر «طبيعي» فما أجهله وما أقصر علمه، فإن النسبة إلى «الطبيعة» طبعي لا طبيعي، ويخرج ذاك غير كاتب مطلقا، وهذا غير شاعر ألبتة، وهل يكون شاعرا أو كاتبا من يسف هذا الإسفاف ويسقط كل هذا السقوط؟!
أما اللغة التي تواتي حاجات العلم وحضارة العلم، فلم يكن لها أي حظ في تلك النهضة، إذا صح هذا التعبير، إذا استثنينا جمعية أو مؤتمرا لغويا عقده السيد توفيق البكري في داره، ودعا إليه أئمة اللغة والبيان، فتمخض عن عشر كلمات عربية تصلح للتعبير عن أغراض حديثة، فوقع من نصيب «التليفون»: المسرة، ومن حظ «البسكليت»: الدراجة، ومنها ما أخذ الأدباء به ومنها ما أهملوا، ولست أخفي عليك أن حاجة العلم والفن قد امتدت من ذلك التاريخ وحده إلى عشرة آلاف كلمة أو تزيد!
والعجب العاجب مع كل هذه العناية باللغة أن القائمين بالنهضة في ذلك العهد لم يعنوا حتى بأساليب اللغة ولهجتها وذوقها، بل لقد حبسوا كل عنايتهم على مفرداتها، وقد قلت لك أمس: «إني إذا قلت العربية فلست أعني مفرداتها فحسب، فلقد تقرأ الكلام لا يقع فيه إلا عربي صحيح، وهو مع هذا ليس من العربية في كثير ولا قليل، وإنما أعني فيما أعني الأسلوب وطريقة تأليف الكلام.»
وتقدمت نهضتنا اللغوية حقا، كما تحركت رغبتنا في العلم حقا، فعكف ناس على اللغة فحفظوا مفرداتها، وفتحوا أذواقهم للهجاتها وأساليبها؛ كما عكف ناس على علم الغرب، فاطلعوا عليه واستشرفوا له، ورغبوا رغبة صادقة في أن يرجعوا به إلى قومهم، ويلقوه معشرهم في لغتهم، إذ اللغة، أو إذ علمهم باللغة، أو إذ هما معا لا يستطيعان أن يواتيا كل أغراض العلم، وإذ العلم لا يرضى أن يذلل لأساليب اللغة أو إلى الأساليب التي لا يستريح إليها إلا المتصدون لحفظ اللغة، فعندنا قوم يحبون أن يخضعوا العلم للغة، وعندنا آخرون يريدون أن يخضعوا اللغة للعلم، وهذا أصل الخلاف ومنجم الشقاق.
ولقد تبسط بي الكلام إلى الحد الذي لم أكن أقدره، إذ وعدتك أمس بأني موف على غايتي في حديث اليوم، فانتظرني إلى غد، واعذرني إذ أطيل عليك هذا الحديث.
ذهب عني وأنا أعرض عليك في مقال أمس تلك الصور التي اضطرب فيها الأدب العربي في هذا العهد الحديث، أن ألم بصورة كان لها أثر في نهضتنا الأدبية، ولا يزال لها فيها أثر غير ضئيل، فقد أخذ شباب من أذكياء شبابنا بحظ من لغات الغرب وترووا أدبه واستظهروا من شعر شعرائه، وجاشت نفوسهم بكثير من معانيهم وأخيلتهم، وفنون استعارتهم وتشبيههم، وكان لهم كذلك حظ غير قليل من أدب العرب، واستظهار كثير مما نضحت به قرائح شعراء الصدر الأول؛ ولقد حفزوا عزائمهم ليصلوا أدب الشرق بأدب الغرب، أو ليجلوا في ديباجه البحتري ما قال شكسبير، فنظموا كذلك وترسلوا، ولكن كان هذا المرام فوق مناط الطبيعة، فخرج كلام لا ترضى عنه أساليب العربية، ولا تستريح إليه أذواق المتأدبين.
على أن أولى هذه النهضة أنفسهم قد فطنوا إلى ما في هذه الوثبة الهائلة من شديد الخطر على لغة العرب، إذ إنها لا تستبقي منها إلا ألفاظا تحشر إلى ألفاظ، أما رونقها وأما بهجة أسلوبها فقد يدركهما العفاء، فرجعوا إلى اللغة يبعثونها في رفق وفي لين، ولا يحملونها من بلاغة الغرب إلا ما كان أشبه بذوقها، وإلا ما صقلوه بصقالها، فدار في أساليبها لا نابيا ولا متعصيا.
على أن هذا النوع من البيان قد تسرب إلى المسارح وإلى بعض الآثار المترجمة أو المنشأة، فلا زلنا نسمع ونقرأ «الموت البنفسجي - وضوء القمر الطري - والصخرة المدمدمة - والزهرة الفيلسوفة - واضطراب الشيطان في نسيج عنكبوته»!
ونعود بعد هذا إلى ما كنا بسبيله؛ ولقد قرأت رسالة صديقي الدكتور هيكل في صحيفة الأدب التي خرجت بها السياسة أمس، وبين فيها رأيه في القديم والحديث؛ وإني لأوافقه على كل ما قاله في جملته وتفصيله، وأعلن فوق هذا إعجابي بدقته واعتداله وصحة حكمه.
وإذا كان المقام يحتمل مزيدا على ما كتب ففي بعض التفصيل.
ولقد عرفت أن عندنا أنصارا للقديم وأنصارا للجديد، أما أولئك فالذين يرون بوجه عام أن الأدب مسألة عربية لغوية، فما جاءنا عن العرب وما انتهى إلينا من بلاغة الصدر الأول والذين يلونهم إلى عهد انقباض اللغة هو الأدب لا غيره، وأما هؤلاء فلا يرون إلا أن الأدب هو الوفاء بحاجة العقل والفكر والتصور والشعور، وأن اللغة وأساليبها ليست إلا أداة لها وظرفا، وثمرة هذا الخلاف تظهر، كما حدثتك أمس، في أنه إذا لم تتواف اللغة لكل تلك الحاجات فأيهما ينبغي أن يخضع للآخر؟
ونحن حين نتحدث عن أنصار القديم وأنصار الجديد نثر الحقيقة ونظلم الواقع إذا نحن نظمنا كل فريق في صف واحد، فإن أنصار القديم يبتدئون بقوم لم يتصل لأدبهم حس بحضارة القرن العشرين، وينتهون بقوم قد اتصل شعورهم بكل ما حولهم، وإنك لتراهم يستشرفون لكل ما يلامسهم من فنون الحضارة وحاجات العقل والتصور في هذا العصر، ويشكونه بالترجمة والتعبير ما استطاعوا بشرط ألا ينبو عنه الذوق العربي ولا تشمس عليه أساليب الكلام، وأما الآخرون فينتهون بطائفة لعلها لا تلمح شيئا من بهاء هذه اللغة ورونقها، ولا ترى لديباجتها وأسلوبها حقا ولا كرامة، وأولئك الذين لا يقع لكلامهم من العربية إلا مفرداتها، ولكن بيانهم نفسه ليس من العربية في شيء أبدا!
ولعله لا يشق على الفريقين أن يسقطا ذينك الطرفين من حساب هذا الخلاف، فيدعا أولئك مزملين بشملاتهم، ظاعنين على عيسهم، حتى إذا «وخدت» بهم يوما في شارع عماد الدين صدمها «المترو» صدمة جعلتها وجعلتهم «أنقاضا على أنقاض»، ويدعا هؤلاء في رطانتهم وعجمتهم، فإلى المالطية غايتهم وبئس المصير!
وبعد أن ينفض الطرفان أيديهم من تراب أولئك وهؤلاء لا يبقى إلا قوم تفقهوا في لغة قومهم، وحذقوا أساليبها، وهم مع هذا دائمو الاستشراف لما تطلع به الحضارة الحديثة من علم وفن، حراص على أن يشكوه بلغتهم وينتظموه ما استطاعوا في أساليبها النصاح، وقوم حذقوا العلم والفن يحبون أن يجلوهما على قومهم بلغة العرب؛ فهم دائمو البحث والتقري، علهم يعثرون بين محكم صيغها وروائع تعبيراتها على ما يمكنهم من أن يحملوه رسالة العلم الحديث.
وهذا هو الواقع والحمد لله، وإن من حقنا أن نغتبط كل الاغتباط بهذه النهضة الكريمة، نهضة العلم والفن الحديث، تجاولها نهضة اللغة والأدب القديم، ولن يخرجا من هذه الحرب إلا إلى الصلح والسلام، ولن يفضي بينهما هذا الخلاف إلا إلى الوفاق والوئام.
سيقول فلان من أنصار الجديد: إني ليعتلج في نفسي معنى لا أستطيع أن أنفضه في ديباجة عربية صحيحة، وسيبادره فلان من أنصار القديم بأن هذا أو قريبا منه قد وقع في تعبير المتقدمين فهاكه، وبهذا يحيا الأدب وتحيا اللغة معا. •••
لم يبق من مواطن الإشكال إلا فيما لم يعن فيه القديم على الوفاء بأداء الجديد، ولا شك أن أكثر هذا أو كله من مستحدثات العلوم والفنون، وكيف الحيلة في هذا، وما عسى أن يرى فيه أنصار القديم؟ أيرون أن يلينوا بقديم لغتهم حتى يتسع له؟ أم يرون أن يذاد جملة ويدافع ألبتة حتى لا يقع للعربية ما يفسد كرائم مفرداتها ويذهب بأساليبها النصاح؟ وكذلك تكتب الفرقة بين العلم والعربية إلى غاية الزمان!
وتلك مسألة لا يحلها إلا الزمن، وسيكون الفوز فيها للأنفع على كل حال.
3
على أن الحياة متحركة والمعاني تستحدث في كل يوم، ولا بد للعلماء والأدباء من أن يقولوا، وهم يقولون فعلا، وهم يؤدون أغراضهم بما يتهيأ لكل منهم من فنون الكلام، وهنا لا يسعني إلا أن أذكر بالخير كله أنصار القديم، فلولا غيرتهم وحرصهم على لغتهم ، واستظهارهم لبدائعها، وتعقبهم لكل منحرف عن قوانينها، ناشز على أساليبها، لعفت اللغة، وتبلبلت الألسن، وتشعبت اللهجات، وأضحى هذا التراث الجليل أثرا من الآثار، وبخاصة في هذا العصر الذي هجمت فيه حضارة الغرب على أهل الشرق من كل مكان.
ومهما يكن من شيء فإن من أفحش الظلم أن يتدلى أنصار الجديد بمعانيهم في ألفاظ وصيغ لا تستقيم للغة إذا كان في فصيح العربية ما يغني في أدائها كاملة غير موتورة، وأحسب أن هذا موضع اتفاق بين الفريقين، وأرى أن حركتنا في هذا الباب مرضية - بقدر ما - إن لم تكن كاملة، فاللغويون يعرضون، والأدباء يستظهرون، والمترجمون يتحرون؛ ولغتنا كل يوم تتبسط لتتناول مختلف الأغراض.
أما ذلك الإشكال الذي أسلفت الكلام فيه فكأني بصديقي الدكتور هيكل قد فطن إلى أنه لا يمكن أن يحل بجهد الجماعات، فلقد جربت مصر لهذا الغرض نفسه جمعية بعد جمعية، وبلت مؤتمرا بعد مؤتمر، فلم تظفر اللغة منها كلها إلا بخذلان، فالتفت بالأمل إلى جهد النوابغ الأفذاذ، وفي الحق إننا مدينون بكل نهضاتنا، والأدبية منها بوجه خاص، لجهد أولئك النوابغ الأفذاذ.
وقد رد الدكتور هيكل سبب انصداع المتأدبين إلى أنصار قديم وأنصار حديث إلى أن «مثل هذا الخلاف يرجع إلى قيام طائفتين اختلف تهذيب كل منهما، واختلفت ثقافتها عن الأخرى، فتعذر عليهما التعاون الواجب لخلق روح قومية للثقافة والأدب، ولن يزال هذا الخلاف ما بقي الاختلاف بين الطائفتين في التهذيب والثقافة، وما بقيت الأمة في علمها وأدبها كلا على سواها وعالة على غيرها» ا.ه.
وهذا كلام صحيح، وإن من يمن الطالع أنه في الوقت الذي تدور فيه هذه المناقشة تأخذ وزارة معارفنا أهبتها لإنشاء جامعة تضم إلى كلياتها العظيمة كلية للآداب خاصة، ولا شك في أنها ستروي طلبتها آدابا من آداب أمم الشرق والغرب، ولكن ملاك الأدب فيها ومادته وأساسه لن تكون بالطبع غير العربية، فليطمئن صديقي، فلن نلبث طويلا إن شاء الله حتى نظفر بأدبنا القومي، فلا نكون عيالا على غيرنا، وحتى تتقارب مذاهب أنظارنا باتحاد ثقافتنا، فلا يرى بين ناشئتنا الجديدة - على الأقل - ما يرى بيننا نحن من فرقة في قضية الأدب وانصداع.
فلننظر المستقبل في غبطة وأمل وارتياح.
كيف نبعث الأدب
4
وكيف نترواه؟
عرض وجلاء تاريخ
لا شك في أن من أهم نهضاتنا التي نتواثب فيها الآن ومن أبرزها نهضة الآداب: فلقد زاد عدد المقبلين على الأدب العربي والذين يعالجونه في هذا العصر بقدر عظيم، كما أعليت مكانته، وأبعدت أغراضه، وتلونت فنونه، وبعد أن كان يضطرب في أضيق مضطرب، ويتقلب في أفسل المعاني، ولا يستشرف إلا للضئيل التافه من الغايات : من المديح الوضيع الذليل، ومن الغزل المصنوع المتكلف، ومن فخر مكذوب لا يمت إلى مفاخر العصر بسبب، ومن وصف مفترى على الطبيعة، فلا هو مما ينتظم الواقع، ولا هو مما يخلع عليه الخيال الصناع صورة الواقع، ومن هجو تتلقط فيه المعايب والمقاذير من هنا ومن هنا لتعفر بها وجوه الناس عفرا، ونحو ذلك مما كان يجول فيه الأدب في الجيل الماضي، على وجه عام، وتتجرد في طلبه والتشمير له جمهرة المتأدبين، على أنه لم يكن له أي حظ من وجدان ولا من جيشان عاطفة، وكيف له بهذا وهو لم يذك له حس، ولم يخفق به قلب، وإنما أمره إلى حركة آلية لا تكاد تعود في مذهبها تلك الحركة التي تنبعث بها الصناعات اليدوية، إلى أن تلك المعاني، إذا صدق أن مثل ذلك مما تطلق عليه كلمة المعاني، كانت، في الكثير الغالب، تجلى في صور مترهلة متزايلة، لا يقوي بناءها أو يشد متنها شيء من جزالة اللفظ ومتانة الرصف، وتلاحم النسج، ولا يجتمع لتزيينها وتبهيجها شيء من حسن الصياغة وإشراق الديباجة وجمال النظام!
ولقد قيدت هذا «بالكثير الغالب»؛ لأن ذلك الجيل الماضي لم يخل من كتاب ومن شعراء أغلوا حظ الأدب، ففسحوا في أغراضه، وأبعدوا في مطالبه، وحلقوا بمعانيه، وأبدعوا في البيان، فاتسق لجلالة المعاني شرف اللفظ، وبراعة النظم، وإحكام النسج، وكذلك استوى من المنظوم والمنثور كليهما كلام يترقرق ماؤه، ويتألق سناؤه، ورحم الله إبراهيم المويلحي وإبراهيم اللقاني وأضرابهما في الكتاب، ومحمود سامي البارودي وإسماعيل صبري في الشعراء، فقد هدوا إلى حسن البيان السبيل. •••
وإذا كان الأدب يتمثل لأدباء هذا الجيل في صورة أبدع وأروع من الصورة التي كان يتمثل فيها لسلفهم القريب، كما أدركوا هم أن له مهمات أوسع أفقا وأبعد، مدى من تلك التي كان يدور فيها في ذلك العهد، حتى لقد أصبح يتقلب في جلى أسباب الحياة، بل لقد تجاوز أو كاد يتجاوز أفق الكماليات البحت إلى موطن الضرورات في الحياة الاجتماعية إذا كان المتأدبون قد أصبحوا يحلون الأدب هذا الموضع، ويتمثلونه على هذه الصورة، فذلك لأنهم طالعوا أدب الغرب ورأوا ما يتصرف فيه من مختلف الفنون، وما يتجرد له من جسام المطالب.
لقد أصبح الأدب وسيلة من وسائل تنعيم النفس وتلذيذها بما يجلوا عليها من صور الجمال، وبما يرهف من الحس حتى يتفطن من ألوان المعاني إلى كل دقيق وإلى كل بديع، كذلك لقد تبسط الأدب واسترسلت آثاره إلى كثير من الأسباب العامة، على ما تقدمت الإشارة إليه، فعظم بذلك أمره وجل في عيش الحضارة خطبه، وكذلك أضحى للبارعين من أهله في الغرب من الشأن ما لا يكاد يوصل به شأن.
ولقد زعمت لك أن الذي بعث تقدير أبناء العربية للأدب هذا المبعث ما جلي عليهم من أدب الغرب، وما طالعوا من بعيد آثاره في شتى الأسباب، فراح كثيرون منهم يتأثرونه، ويتصرفون بالبيان في مثل ما يتصرف فيه من مختلف الفنون، على أن كثيرين من هؤلاء الكثيرين قد انقطع جهدهم دون هذه الغاية، فلم يظفروا من الأمر بجليل، ولا شك أن ذلك يرجع إلى أنهم - في غالب الأحيان - إنما ينقلون إلى العربية ما يتهيأ لهم نقله من آداب الغرب على الصورة التي يستوي فيها لأهله، لا يحاولون، أو لعلهم يعجزون إذا هم حاولوا، أن يطبعوه على ما يألفه الخيال الشرقي، ويستريح إليه الذوق العربي، وتسلس له بلاغات العرب!
ولقد يكون هذا من أثر الافتتان بأدب الغرب، والتجرد في محاكاته وتقليده من جهة، وقلة المحصول من فقه العربية ورقة الزاد من ألوان بلاغاتها من جهة أخرى.
وبعد، فما نحسب أن هناك من ينكر على الأدب العربي جليل خطره في عهد الجاهلية وفي قيام الدولة العربية في الشرق والغرب؛ وأنه كان - في الجملة - يؤدي من مطالب الحياة ما يؤديه الأدب الغربي اليوم، وأقول - في الجملة - لأن الأدب قد تشعبت في هذا العصر فنونه، وتطاولت آثاره إلى كثير لم يلتفت إليه في الزمان القديم، ولعله لو ظلت دولة العرب قائمة، وظلت حضارتهم في اطرادها، ما تقاصر اليوم عن شأو الأدب الغربي، بل لعله كان يسبقه إلى كثير! ولو قد عني النشء من متأدبينا بدراسة هذا الأدب، وخاضوا في أمهات كتبه، وأطالوا تسريح النظر فيما أثر من روائعه، لرجعوا إلى نفوسهم بأنه أدب عظيم كل عظيم، أدب يمتع حقا وينعم الروح حقا بما ينفض من عاطفة معتلجة، ويصور من دقيق حس، ويتدسس إلى ما استكن في مطاوي الضمير؛ إلى ما أصاب من المعاني البارعة، وما تعلق به من الأخيلة الرائعة، وما تصرف فيه من كل دقيق وجليل في جميع الأسباب الدائرة بين الناس، ما ترك جليلا من الأمر ولا دقيقا إلا مسه وعرض له وعالجه بالتصوير والتلوين، وكل أولئك يصيبه في مصطفى لفظ، ومحكم نسج، وبارع نظم، ودقة أداء، وحلاوة تعبير!
على أن الأدب العربي، مع هذا، طالما جال في بعض الأسباب العامة وساهم في الأحداث السياسية والقومية والمذهبية بقدر غير يسير؛ ومهما يكن من شيء فهو أدب واسع الغنى، رفيع الدرجة؛ بل إنه لمن أغنى الآداب التي قامت في العالم ومن أعلاها مكانا.
والواقع أنه قد انقبض بانقباض الدول العربية وضعف بضعفها، فجعلت تضيق أغراضه، وتتواضع معانيه، ويجف ماؤه، ويتجلجل بناؤه، حتى صار إلى ما صار إليه، وظل عاكفا عليه، إلى ما قبيل نصف قرن من الزمان.
ولا يذهب عنك أنه في فترة انقباضه الطويلة قد انبعثت في الغرب حضارة جديدة جعلت على الزمن تنبسط وتتناول وسائل الحياة دراكا حتى بلغت شأوا بعيدا، ومما ينبغي أن يلتفت إليه أشد الالتفات في هذا المقام، أن هذه الحضارة أولت أجل عنايتها للشئون المادية، فكان حظ العلوم الطبيعية والكيميائية منها عظيما، فاستكشفت أشياء كثيرة، واخترعت أشياء كثيرة، حتى كاد الإنسان لا يتناول شأنا من شئون الحياة إلا بسبب طريف، وبذلك كثرت الآلات المادية كثرة تفوق حدود الوصف، وهي تطرد في الزيادة كل يوم، إذ اللغة العربية جاثمة في أفحوصها
5
لا تمتد بالتعريف عن هذا، إذا هي امتدت، إلا إلى القليل، بل إلى أقل من القليل!
ولقد كان من آثار فقر العربية في هذا الباب أنها حتى بعد نهضتها الأخيرة لزمت في بيانها دائرة الأدبيات لا تصيب من المحسات المادية، إن هي أصابت، إلا في حرج وفي عسر شديد! وكيف لها بهذا وليس لها به عهد قريب ولا بعيد؟!
وإذا كانت الحاجة تفتق الحيلة كما يقولون، فقد بعثت النهضة العلمية في عهد محمد علي رفاعة وأصحابه إلى أن ينفضوا قديم العربية لعلهم يجدون بين مفرداتها وما أثر في كتبها من المصطلحات العلمية والفنية ما يدلون به على ما استوى لهم من جديد في العلوم والفنون، فإذا أصابوا هذا وإلا عمدوا إلى الوسائل الأخرى من النحت والاشتقاق والتعريب، وإذا كان قد اجتمع لهم فيما نقلوا إلى العربية من علوم الغرب وفنونه صدر محمود، فإن ذلك أصبح لا غناء فيه ولا سداد له، بعد أن فترت تلك النهضة وخبت جذوتها، على حين تطرد العلوم والفنون في تبسطها حتى لتخرج على العالم كل يوم بجديد، وهذه الحاجة الملحة، والتي يشتد إلحاحها ويتضاعف كلما تراخت الأيام، لقد كانت تبعث جماعات الفضلاء الفينة بعد الفينة إلى تأليف الجمعيات للبحث والنظر في تحريك لغة الغرب حتى تستطيع أن تتوافى لمطالب الحضارة الحديثة، على أنه لم يقدر لها النجاح لأسباب لا محل لذكرها في هذا المقام، فلم يبق بد من أن تضطلع وزارة المعارف بالأمر، وبعد لأي قام «المجمع اللغوي»، نسأل الله تعالى أن يمده بروحه، ويعينه على مهمة جليل المشقة جليل الآثار، وأن يهديه إلى أقوم سبيل! •••
لقد استطرد القلم من حديث الأدب إلى حديث اللغة، وما له لا يفعل واللغة مادته وملاكه، وإذا كان أجل همه إلى المعنويات فليس له عن هذه المادة غناء بل لقد تكون وسيلته وأداته حتى في التعبير عن أخفى العواطف وأدق خلجات النفوس، على أن أهم ما يعنينا من هذا البحث إنما هو حيرة الأدباء، أو على تعبير أضبط، حيرة بعض من يعانون الأدب في هذا العصر، وذلك أن في مأثور العربية أدبا غنيا سريا، واتى سلفنا العظيم بمطالب الشعور ومطالب الحضارة جميعا، على أننا نعيش الآن في حضارة غير حضارتهم، ونعالج من وسائل الحياة غير ما عالجوا، ثم إنه مهما تطبعنا الوراثة على طبعهم، وتنضح علينا من أذواقهم وشعورهم وغير ذلك من خلالهم، فإن مما لا شك فيه أن لتطاول الزمن، وتغير البيئات، وتلون الحضارات، وما يجوز بالأقوام من عظيمات الأحداث أثرا قد يكون بعيدا في كل أولئك، وأنت خبير بأن الأدب الحق إنما يتكيف بما هو كائن، ويترجم عما هو واقع،
6
ومن هذا تجد كل أدب حي متحرك في تطور مستمر طوعا لتطور العوامل والأسباب، ولست تلتمس دليلا على أن الأدب العربي إنما كان كذلك في حياته القوية بخير من أن تستعرض شأنه في الجاهلية وتقلبه في جميع الدول العربية في العصور الإسلامية، فلن تخرج من هذا إلا بأنه قد تأثر في كل عصر وفي كل بيئة بقدر ما تغير على القوم من مظاهر الحياة.
ومعنى هذا الكلام أن الأدب العربي، في أي عصر من عصوره الخالية، مهما يجل قدره، وتعظم ثروته، لا يمكن أن يغنينا الآن في كثير من مطالب الحياة إذا اتخذناه على حاله، ولم نعد ما كان من صوره وأشكاله، وإلا فقد سألنا الطبيعة شططا، فهيهات للساكن الجاثم أن يلحق المتحرك السائر.
وهناك أدب غربي دارج الحضارة الحديثة وسايرها خطوة خطوة، واتسع لكل مطالبها، وواتاها بجميع حاجاتها في غير مشقة ولا عناء، ولا يذهب عنك أننا إنما نتأثر الغرب في ثقافته وعلومه وفنونه وسائر وسائله، وهذه سبيلنا إلى ما نستشرف له من التقدم ومشاكلة الأقوياء، ولكن هذا الأدب الغربي الذي نقبل على محاكاته فيما نقبل عليه من آثار القوم، لا يتسق في بعض صوره لشأننا، ولا تستريح إليه أذواقنا، بل إنه قد لا يستوي في تصوراتنا، ولا يجدي علينا في كثير، أضف إلى هذا عجز بعض نقلته سواء في شعره أو في نثره، وقلة محصولهم من العربية، واضطرارهم بحكم ذلك إلى إخراجه، مترجمين كانوا أو محاكين ومقلدين، في صور بيانية شائهة الخلق، ناشزة على الطبع، لا تحس إلا مليخة باردة في مذاق الكلام!
وبعد، فإن مما لا يتقبل النزاع أنه لا بد لنا من أدب قوي سري يواتي جميع حاجاتنا، ويساير ثقافتنا القائمة، ويتوافى لهذه الحضارة التي نعيش فيها، بحيث تطمئن به طباعنا، وتستريح إليه أذواقنا، شأن كل أدب حي في هذا العالم، ولعل من أشد الفضول أن نقول إن هذا الأدب لا يمكن إلا أن يكون عربيا، ولكن كيف الحيلة في ذلك؟
ذلك ما نعالجه في مقال آخر، إن شاء الله تعالى، فلقد طال هذا الحديث.
أين أدبنا الصريح؟
لقد تعرف أن الأدب الحق لكل أمة هو الذي يشاكل حضارتها، ويكافئ ثقافتها، ويواتيها في جميع أسبابها، ويترجم في صدق ويسر عن عواطفها، وينفض ما يعتلج في الصدور من ألوان الشعر والأحساس، ولقد تعرف أن الأمم كما تختلف في ألوانها وفي ألسنتها وفي أخلاقها وعاداتها وغير أولئك، فإنها تختلف كذلك في شعورها وفي أذواقها ومنازع عواطفها، ومهما تختلف في أفراد الأمة الواحدة هذه العواطف بالقوة والضعف، والرقة والجفاء، وغير ذلك من وجوه الاختلاف، فإنها ترجع إلى أصل واحد، وتندرج تحت جنس واحد، على تعبير أصحاب المنطق، وذلك لأنها أثر من آثار الإرث، والبيئة، والعادة، والتاريخ، وما يتردد عليه النظر من صور الطبيعة، وغير ذلك، كما أن لنوع الثقافة ومبلغ حظ الأمة منها أثره البعيد أو القريب في هذا الباب.
وكيفما كان الأمر، فإن لون العواطف الشائع في كل أمة ليس بالشيء الذي يستعار استعارة، ولا بالذي تتناقله الأمم كما تتناقل العلوم وفنون الصناعات مثلا، وكيف له بهذا وقد رأيت أن أبلغ عناصره مما لا يدرك بالكسب ولا بالاختيار، إن هو إلا حكم الطبيعة وما من حكم الطبيعة مناص!
وأحسب أننا - بعد التسليم بهذا - في غير حاجة إلى أن نبعث الأدلة على أن ما يترجم عن عواطف قوم ويصور من حسهم الباطن قد لا يؤدي هذا لغيرهم، وأن ما يستقيم من البيان لأذواق خلق من الناس قد ينشز على أذواق معشر آخرين، على أنه قد تشترك العاطفة والذوق كلاهما في معنى من المعاني، وحينئذ يصدق البيان.
وعلى هذا فإنه مهما نسرف في مطالعة أدب الغرب والتروي منه، ومهما نجهد في محاكاته وتقليده، فإنه لن يكون لنا أدبا في يوم من الأيام، اللهم إلا أن تنقلب أوضاع الطبيعة، فإن الأمم لا تطبع على غرار الآداب، بل إن الآداب لهي التي تطبع على غرار الأمم!
لقد نكون في حاجة، ولقد تكون هذه الحاجة شديدة جدا إلى مطالعة آداب الغرب وإطالة النظر فيها، واستظهار الكثير من روائعها، ونقل ما يتهيأ نقله إلينا منها في لسان العرب، ولكن ليس معنى هذا أن نتخذها آدابا لنا، فذلك - كما علمت - عبث لا يغني ولا يفيد! •••
والآن نلتمس أدبنا باعتبارنا عربا أو مستعربين نعيش في مصر، مأخوذين بثقافتها القائمة، موصولين بتاريخها القديم، إننا نلتمس هذا الأدب الذي يوحي به إلينا تاريخنا العربي من ناحية، وتاريخنا المصري من الناحية الأخرى، هذا الأدب الذي تلهمنا إياه أخلاقنا وعاداتنا وثقافتنا، ويسويه لنفوسنا العيش في وادي النيل، إننا نلتمس هذا الأدب الذي يفيض بما تجيش به عواطفنا، ويصدق في الترجمة عما يعتلج في نفوسنا، ويصور دخائل حسنا أكمل تصوير، ويعبر عنها أدق تعبير، وإن شئنا الكلمة الجامعة قلنا إننا نلتمس الأدب القومي فلا نصيب أثره إلا قليلا فيما يخرج لنا من آثار الأدباء والمتأدبين!
اللهم إن فينا أدباء جروا من العربية على عرق، وأحرزوا صدرا من بديع صيغها، وتفتحت نفوسهم لمنازع بلاغاتها، واستظهروا الكثير من روائعها فيما نظم متقدمو شعرائها، وما أرسل المجلون من كتابها، على أن أكثر هؤلاء، والشعراء منهم على وجه خاص، إذا اجتمع أحدهم لحديث العاطفة لم ينفض ما يحس هو وما يشعر، وإنما تراه يترجم عما كان يجده السلف الأقدمون من مئات السنين، لأنه جعل كل همه إلى المحاكاة والتقليد ليخرج شعره عربيا لا شك فيه، وهؤلاء يتناقص عديدهم على الزمان حتى أشفى فنهم على الزوال.
وهناك شباب لم يبلغوا حظا مذكورا من العربية، ولعل من بلغ منهم حظا منها لم يعن بها ولم يكترث لها، وهؤلاء أقبلوا على أدب الغرب فجعلوا يحاكونه ويترسمون آثاره، فيستحدثون أخيلة لم تتراء لأحلامهم، ويسوون صورا لم تتمثل لخواطرهم، ويريقون عواطف لم تترقرق في نفوسهم، ويفصدون أحاسيس لم تجش قط في صدورهم، وتراهم يستكرهون هذه الأمشاج من المعاني على نظام ليس فيه من العربية إلا مفردات الألفاظ، يشد بعضها إلى بعض بمثل قيود الحديد، برغم تنافرها وتناكرها، بحيث لو أطلقت من إسارها لتطايرت إلى الشرق والغرب ما يلوي شيء منها على شيء! فيخرج من هذا ومن هذا كلام لا يستوي للطبع، ولا يستريح إليه الذوق، ولا يخف للتعلق به الخيال! وكيف له بشيء من هذا ولم ينتضح به طبع، ولا رهف له حس، ولا تحركت به عاطفة ولا انبعث إليه من نفسه خيال! فهو أدب مصنوع مكذوب على كل حال!
بل إن هناك شبابا لم يحذقوا شيئا من لغات الغرب، ولم يظهروا فيها على شيء من آداب القوم، ولكن تعاظمتهم صنعة أولئك فراحوا هم الآخرون يشاكلونها ويحذون جاهدين حذوها، ليضافوا هم كذلك إلى جمهرة المجددين، وما التجديد في شرعة أكثر هؤلاء إلا الإتيان بالغريب الشامس في نظمه وفي صوره وأخيلته ومعانيه! وإذا كان هذا اللون من البيان مما يصح أن ينتسب إلى أي أدب من الآداب، فإنه مما لا يصلح لنا على أي حال!
وإن مما يضاعف الإساءة ويزيد في الألم أن يقبل الناشئون من طلبة المدارس على هذا اللغو، فيتخذوا منه نماذج يحتذونها إذا شمروا للبيان، ولن يجشمهم التجويد والبراعة فيه جليلا من جهد ولا مشقة، لأن قسر أي معنى على أي لفظ، وتسوية الخيال في أية صورة، ليس مما يعيي جهد المرء ولا مما يعتريه بالمشاق، ومن هنا يشيع أرخص الآداب، أو أنه ينذر بالشيوع في هذه البلاد! ولو قد ترك في مذهبه هذا لطغى أشد الطغيان ما تغني في صده جهود الأعلام من الأدباء، وحينئذ يكتب على مصر أن تعيش من غير أدب أو تعيش بهذا الأدب المنكر الشائه الذي لا نسب له مدة طويلة من الزمان!
الأدب القومي
إذن لا مفر لنا من أن نلتمس أدبنا القومي، ولا يكون هذا الأدب إلا عربي الشكل والصورة، مصري الجوهر والموضوع، وإذن فقد حق علينا أن نبعث الأدب العربي القديم، وننثل دواوينه، ونستظهر روائعه، ونتروى منها بالقدر الذي يفسح في ملكاتنا، ويقوم ألسنتنا، ويطبعنا على صحيح البيان، فإذا أرسلنا الأقلام في موضوع يتصل بالآداب، بوجه خاص، أطلقنا القول في صيغة عربية لا شك فيها، على ألا نطلب بها إلا الترجمة عما يختلج في نفوسنا، ويتصل بإحساسنا، ونصور بها ما نجد مما يلهمه كل ما يحيط بنا، وما يعترينا في مختلف أسبابنا من فكر ومن شعور ومن خيال!
ولقد قدمت لك أننا قد نكون في حاجة شديدة جدا إلى مطالعة آداب الغرب وإطالة النظر فيها، واستظهار الكثير من روائعها، ونقل ما يتهيأ نقله إلينا منها في لسان العرب، وهذا أمر لا شك فيه، ولا غناء لنا عنه، فإن ذلك مما يهذب من ثقافتنا، ويفسح في ملكاتنا، ويرهف من حسنا، ويهدينا إلى كثير من الأغراض التي تشتعبها آداب الغرب في هذا العصر، والواقع أننا تهدينا من آداب الغرب إلى فنون لم يكن لنا بها عهد من قبل، أو أنها مما عالجه سلفنا ولكن لم يكن حظهم منه جليلا، ومن أظهر هذه الفنون القصص بالمعنى القائم، ومذاهب النقد الحديث!
على أن شيئا من ذلك الأدب الأجنبي لا يجدي علينا، ولا يؤدي الغرض المقسوم بمطالعته والإصابة منه، إلا إذا هذبناه وسوينا من خلقه ولونا من صورته حتى يتسق لطباعنا، ويوائم مألوف عاداتنا، ويستقيم لأذواقنا، كما ينبغي أن نجهد الجهد كله في تجليته في نظام من البلاغة العربية محكم التنضيد، فلا نحس فيه شيئا من نبو ولا نشوز، وبهذا نزيد في ثروة الأدب العربي، ونرفع من شأنه درجات على درجات.
وليس هذا الذي نرجوه لأدبنا بدعا في شريعة الآداب سواء في جديد الزمن أو في قديمه، فلقد كان الأدباء وما برحوا إلى اليوم يعتمدون الفكرة البديعة، والمعنى السامي، والخيال الطريف المنسجم، يصيبونه في لغى أجنبية ، فلا يزالون به يطامنون منه لأذواقهم، ويروضونه لأساليب لغاهم، حتى يجلوه فيها من غير عسر ولا استكراه، وإن تصرف المتقدمين من أقطاب البيان العربي فيما شكوا من ألوان المعاني في اللغات الأجنبية لمن أصدق الدليل على صحة هذا الكلام، وهل رأيت إلى ابن المقفع لو لم يجئك أنه ترجم كتابه «كليلة ودمنة» عن إحدى اللغات الهندية، أفكان يتسرح بك الشك في أنه عربي الأصل والمنجم، عربي الحلية والنسب؟ اللهم إن تسوية المترجم لما ينقل إلى لغته، وطبعه على ما يواتي أحلام معشره، ويسوغ في أذواقهم، وينزع منازع بلاغاتهم، ليس مما يقدح في كفايته، بل إنه لمما يرفع من قدره ويغلي من تصرفه، وكيف لا وهذا القرآن الحكيم، لقد حدثنا عن عشرات من الأمم، كانوا ينطقون في الأعجمية لغات متفرقة، ونقل إلينا كثيرا من أحاديثهم ومقاولاتهم ومحاوراتهم ومجادلاتهم، فما أداها إلا في أعلى العربية الخالصة، بل في العربية البالغة حد الإعجاز، وهل بعد بلاغة القرآن بلاغة، وهل وراء بيان الكتاب العزيز بيان؟!
وصفوة القول أنه لا يعيب اللغة أو يغض من شأنها أن تصيب من بلاغات غيرها على أن تسيغه وتهضمه وتسويه حتى ينتظم في سلكها، ويتصل بخلقها، ويوسع في مادتها، ويضاعف ثروتها، لا أن يقسر عليها قسرا، ويستكره لها استكراها، فينكر صورتها ويشوه من خلقها على ما نرى من صنع كثير يعربدون في الأدب العربي باسم «التجديد» في هذه السنين!
كيف نعلم الأدب
ولا شك في أن الينبوع الأول الذي يرده النشء لينهلوا من فتون العربية ويترووا آدابها ويستشعروا بلاغاتها، وينبعثوا لترسمها إذا هم أقبلوا على البيان، هو معاهد التعليم على وجه عام، فإذا هي جدت في مهمها وأخذت من بين يديها من التلاميذ بما ينبغي أن يؤخذوا به من أساليب التعليم والتمرين، كان لنا في هذا الباب كل ما نريد.
وإذا كان الأدب كسائر الفنون إنما يبرع المرء فيه بالاستعداد الفطري مع الكلف به وشدة الإقبال عليه وطول التمرين فيه، بأكثر مما يحرز بالتعليم والتلقين، فإن مما لا يعتريه الريب أن للأستاذ، وخاصة في ابتداء العهد بالطلب، أثرا بعيدا في تعليم أصول الفن وبيان حدوده، وإعلام طريقه بين يدي الطالب، وتهذيبه بطول التعهد، وتوسيع ملكاته بألوان الملاحظة، وإسلاس الإجادة له بفنون التدريب والتمرين، ولعمري لو قد أخذ الأساتيذ تلاميذهم بهذا الأسلوب في تعليم الأدب العربي لأحبوه وكلفوا به، وانبعثوا من تلقاء أنفسهم لمراجعته في أوقات فراغهم، وإمتاع النفس بتسريح النظر في بدائعه، وكذلك تصبح مطالعة الأدب رياضة يطلب بها الترفيه والاستجمام إذا لحق الكد، وأجهدت المطاولة في طلب العلم، وسرعان ما تستقيم الطباع، وتدرك الملكات، ويجري صادق البيان في الأعراق مجرى الدماء!
أما إذا حصب التلاميذ بالقواعد جافة لا يترقرق فيها ماء البيان صافيا، وقنع الأساتذة بأن يلقوا إليهم قطعا من الشعر أو النثر ليحفظوها دون أن يوصل بين نفوسهم وبين ما تحوي من ناصح البلاغة، فقد استثقلوا الدرس وكرهوه وبرموا به، وتجرعوه تجرعا، إشفاقا من العقوبة أو من التخلف إذا كان الامتحان!
وإني لأكره أن أقول إن إقبال كثرة التلاميذ على هذا الأدب الرخيص الذي يخرج في العامية حينا، وفي تلك العربية المنكرة الشائهة أحيانا، وتهافتهم عليه، وافتتانهم به، وأخذ الأقلام بمحاكاته وترسمه، إنما هو أثر من آثار ذلك البرم والاستثقال لدروس العربية وآدابها في معاهدنا المصرية!
والآن، فالرأي في قيام أدبنا القومي، وفي بعث لغة الكتاب العزيز، إلى أساتيذ المدارس، وإلى وزارة المعارف، فلننظر ما هم فاعلون!
عثرة ورجاء
بقيت هنالك مسألة لا يجمل بنا أن نختم هذا المقال دون أن نعرض لها بشيء من البيان: يقولون إن اللغة العربية فقيرة، أو إنها أصبحت فقيرة بحيث لا تستطيع أن تؤدي بعض مطالب الحياة في هذا العصر إلا في شدة عسر وحرج، ولا تستطيع أن تؤدي بعضها أبدا، وهذا كلام - على أنه لا يخلو من الحق - فإنه لا يخلو من الإسراف إلى حد بعيد، إذ الواقع أن اللغة العربية غنية سخية بالكثير مما يواتي مطالب العاطفة، ويصور نوازع الشعور أحسن تصوير، فلقد بلغ المتقدمون من شعراء العربية في هذا الباب ما لا أحسب أن قد برعهم فيه كثير من أصحاب البيان في اللغات الأخرى، ولو قد نفض متكلفو الأدب دواوين أولئك الشعراء وفروا ما أجنت من قصائد ومقطوعات، لخرج لهم من ذلك ما يبلغهم جليلا من تصوير مختلف العواطف، والتعبير عن خفيات الحس والشعور، وهذا - لو علمت - أجل مطالب الأدب في جميع اللغات، وحبذا لو أكثر الأساتيذ من عرض هذه الأشعار على تلاميذهم، وتقدموا إليهم الفينة بعد الفينة بالحديث، في الموضوعات الإنشائية، عن الحس والعاطفة في مختلف الأسباب، واستدركوا عليهم ما عسى أن يكون أخطأهم في ذلك من ناصح البيان.
على أن هناك عقبة أخرى تحتاج إلى جهد في التذليل، وهي أنه في ركود لغة العرب بانقباض حضارتهم، عقد ما لا يكاد يحصره العدد من الاصطلاحات العلمية والفنية، واستحدثت أشياء كثيرة جدا في جميع وسائل الحياة، سواء منها الضروريات والكماليات، ولا شك في أن إصابة هذه الأشياء في لغاتها إفساد للعربية واستهلاك لها، كما أنه لا معنى للالتفات عنها إلا الإعراض عن هذه الحضارة العريضة، بل الإعراض عن أكثر ما نجده وما نعالجه في هذه الحياة، وهذه العقبة تقوم الآن على تذليلها جهود أفاضل الأدباء من جهة، والمجمع اللغوي من جهة أخرى، بالغوص عما يدل على ذلك في مجفو العربية، سواء بأصل الوضع أو بالطرق الفنية الأخرى.
ولقد يكون من المفيد في هذا المقام أن ننبه حضرات رجال هذا المجمع إلى أن الاكتفاء بإثبات ما يتسق لهم من هذه المصطلحات والألفاظ في معجم جامع أو نشرها في كراسات دورية ليس مما يجدي كثيرا في إصابة الغرض المقسوم، فقد ثبت - بحكم التجربة - أن أبلغ الوسائل في شيوع الألفاظ والصيغ المستحدثة أو المبعوثة من جاثم اللغة، وكثرة دورانها على الألسن والأقلام، هي استعمال كبار الشعراء والكتاب لها، وترديدها فيما تجليه الصحف السائرة لهم من الآثار، فحبذا لو سعى إلى هذا أولياء اللغة، وخاصة فيما يتصل، مما يستظهرون، بالفنون والآداب.
نسأل الله تعالى أن يهدي الجميع سواء السبيل.
في النقد الأدبي
لا أزعم أنني استويت اليوم إلى مكتبي وهذا الموضوع الذي أتقدم للحديث فيه واضح المعارف في رأسي، مجتمع الأقطار، بين الحدود؛ إنما هي خواطر تتطاير من هنا ومن هناك في هذا الباب، وسأحاول بجهدي نظمها، فإذا اتسق منها موضوع واضح الشخص، مستوي المعارف، وإلا فليأخذها القارئ على أنها خواطر نثار.
على أنه لم يبعثني على إرسال القلم فيما لم يدرك
1
بعد في نفسي، ولم يتسق لي من أجزائه خلق سوي، إلا ما هالني من حال النقد الأدبي في هذه الأيام؛ فهذا النقد، مع الأسف العظيم، لا يجري أكثره الآن على حكم الغرض المقسوم له من استعراض الكلام، وطول تصفحه، وامتحان الرأي والذوق له، لإمازة جيده من رديئه، والدلالة على هذا والإشارة إلى هذا، مع الإبانة عن وجوه التعليل، ولا أقول مع سوق البرهان وإقامة الدليل، فإن مرد هذا في الأكثر إلى تقدير الذوق، شأن جميع الفنون الجميلة، وقضايا هذه الفنون ليس مما يثبت في الغالب على القياس المنطقي في أي شكل من الأشكال.
وأنت خبير بما يكون للنقد إذا وقع على جهته من الأثر البعيد في تصفية الآداب، والاطراد بها في سبل التقدم إلى ما شاء الله، وهذا يكون بتبصير المنشئين بمواطن الإجادة ومواطن الضعف فيما يخرجون من الآثار، ليأخذوا أنفسهم بتحري ما ذهب النقد السليم إلى أنه الخير، كما يكون بتفتيح أذواق القارئين وإرهاف حسهم حتى يفطنوا إلى دقائق الصنعة، ويستجلوا مواضع الحسن في الكلام فتجتمع لهم بهذا خلال: منها العلم بفن نقد الكلام، والقدرة على تمييز جيده من رديئه، وطيبه من خبيثه، ومنها جلاء الذوق وإرهاف الحس، ولا شك أن استمتاع من يتهيأ له هذا والتذاذه بروائع الفن لا يمكن أن يدرك بعضه من لا حظ له في شيء من ذلك، إذا صح أن يكون لمثل هذا بالفن الجميل متاع!
وللنقد فوق هذا مزية أخرى لا ينبغي أن تسقط من الحساب: ذلك بأن قيام النقدة وارتصادهم لما تنتضح به قرائح المتأدبين، من شأنه أن يدخل الحذر على هؤلاء ، فلا يتكئوا في شأنهم على البهرج يزيفونه للجمهرة تزييفا، بل إنهم ليجتمعون للتجويد، ويشمرون في تحري الإصابة والإحسان ما واتى جهدهم الإحسان، إن لم يكن للظفر بالثناء الرفيع يذهب به الصيت والذكر، فللسلامة على التهجين وسوء المقال.
ولقد شهدنا في عصرنا هذا من كبار الأدباء من لا يجلو على الجمهور شيئا من أدبه إلا بعد أن يعرضه على عنق من النقدة، فما أجازوه منه أمضاه، وما استدركوه عليه استدركه بالتسوية والتغيير والإصلاح، وما يفعل أحدهم ذلك لأنه ضعيف الرأي في نفسه، ولا لأنه لم يذهب بأثره إلى غاية الإعجاب، وإنما هو الخوف من النقد، والشهوة إلى استخراج الثناء ممن لهم في إذكاء شهرة الأديب ورفع صيته أثر كبير أو صغير!
ولا شك أن هذه الخلة في بعض أصحاب الأدب معيبة بمقدار ما هي ضارة، أما وجه العيب فيها فيما تدل على تخاذل الطبع، وإظهار الناس على عدم الثقة بالنفس، وأما وجه الضرر فلأن خير أدب الأديب ما يصدر عن نفسه ويترجم عن حسه، بحيث يكون صورة صادقة له هو، لا لمزج منه ومن سواه من الأدباء! ولا أحب أن أغفل في هذا المقام شيئا له خطره الشديد: ذلك أن الناقد مهما تبلغ دقته ونفوذ نظره ونزاهته عن كل هوى، لا يكفل له التوفيق على الدوام، فلقد يكون الرأي في كثير من الأحوال في جنب المنشئ الأديب لا في جانبه، هذا إلى أن موهبة الشاعر أو الكاتب أو المفتن على العموم، قد تنزع نزعة مستحدثة طريفة تنشز على مستوى العرف الفني القائم، فلا تلقى أول الأمر من الأذواق إلا إنكارا؛ فرد المفتن على هذا إلى ما شاع به العرف وانعقد عليه الذوق العام، صد للعبقرية عن سبيلها الذي لو قد تهيأ لها أن تطرد فيه لجاز أن تستحدث في الفن أعظم الأحداث، شأن جميع الفورات التي هي في الواقع شرع جديد لنظام جديد في أي سبب من أسباب الحياة، على أن ذلك العيب وهذا الضر لا يرجعان إلى النقد ولا إلى النقدة، وإنما يرجعان إلى طبائع هؤلاء المفتنين.
وكيفما كان الأمر، فإنني إنما أردت أن أبين خطر النقد على كل حال. •••
والنقد، ولا شك، قديم يقوم بقيام الفنون في كل زمان وفي كل مكان، فإن المفتن مهما يبلغ من صغوه لفنه، وصدق هواه إليه، ومهما يجد في ذلك من اللذة والاستمتاع، فإن لذته واستمتاعه إنما يكونان أتم وأوفى إذا ظفر من الناس، وخاصة من أصحاب البصائر، بحسن الرأي وجلالة التقدير، وأحسب أن المفتن الذي لا يدخل في حسابه هذا وما زال معه عقله لم يخلق بعد في الزمان، وما دام الحديث في النقد الأدبي فلنقصر الكلام على أهل الأدب، وإن كان المفتنون جميعا في ذلك أشباها.
وإذا قلت لك إن النقد قديم، فاعلم أن احتفال الشعراء والكتاب للنقد، وجهدهم في استخراج رضا النقدة، واستدراج ألسنتهم بالثناء عليهم والهتاف بآثارهم كذلك قديم، وإن من يتصفح تاريخ الشعر والشعراء من مطلع الدولة الأموية، وتاريخ النثر والنثار من يوم احتفل أهل البيان للنثر الفني في عصر الدولة العباسية، لا يتداخله أي ريب في هذا الكلام.
نعم لقد كان الأدباء، والشعراء منهم خاصة، يصانعون النقاد، ويعملون جاهدين على الزلفى إليهم ابتغاء المنزلة عندهم، وإيثارهم بألوان التبجيل والتكريم، وكثير منهم من كان يعرض شعره عليهم لامتحانه واختباره قبل طرحه على سائر الناس، إن لم يكن لحسن الظن بإدراك ملكاتهم، وحدة إحساسهم ورهافة أذواقهم، فلإطلاق ألسنتهم فيهم بحسن المقال، وإلا فكيف للمفتن بانطلاق الذكر وذهاب الصيت عند الجمهور، وليس له - في العادة - وسيلة إلى هذا إلا تقدير هؤلاء؟
وإني لأذهب في تقدير النقد، والإبانة عن خطر النقدة إلى ما هو أبعد من هذا من جليل الآثار، فإن أثر هذا إذا اتصل بشهرة الشاعر أو الكاتب والذهاب بصيته، فإن هذا الذي أرمي إليه هو جدوى النقد على الفن، وإن شئت تعبيرا أدق وأدل على بعد الأثر، قلت في بناء الفن نفسه وتأصيل أصوله، وتقعيد قواعده، وتفصيل فصوله، وحسبك في هذا الباب أن تعرف أن علوم البلاغة ما كانت لتكون لولا نقدة الكلام، إذ الواقع أن قواعد هذه العلوم، في الجملة، وأعني علوم البلاغة، إنما انعقدت بتقصي ما أثر عن نقدة الكلام في الأجيال المتعاقبة من الكشف عما يضمر هذا البيت أو هذه الجملة من معنى كريم، والدلالة على ما جلي فيه من نسج متلاحم ومن لفظ نير شريف، ومن التفطين كذلك إلى ما يقع من فسولة معنى، واستكراه لفظ، وتزايل تركيب، ونحو ذلك، فعلى هذا التقصي قامت علوم البلاغة على الجملة، بل لا حرج علينا إذا زعمنا أنها مدينة في قيامها لنقد الناقدين، ولعل بلوغنا هذا المعنى الذي استدرج إليه تداعي الكلام من غير سابق نية من أسعد الفرص التي تهيئ لنا أن نصارح بأن هذه، علوم البلاغة، على شأنها الذي انعقدت عليه منذ الأجيال الطوال، لم يصبح لها من الأثر، سواء في تحري ألوان البلاغات أو في إجراء مقاييس النقد، كثير من الغناء، فالبلاغة لم تكن قط في إصابة معنى مأثور، ولا في نظام لفظ موروث، ولا في استنان أسلوب معين من أساليب البيان، وإنها لم تكن كذلك في يوم من الأيام، وإنها لن تكون كذلك في يوم من الأيام، على أن هذا شيء قد وقع على سبيل الاستطراد، فلندعه إلى حديث خاص، فإنه قد يحتاج إلى كلام طويل. •••
وبعد، فهذا موضع النقد من الأدب، وهذا أثره فيه من قديم الزمان، ولا يذهب عنك أن هذا النقد، إذا استثنيت ما يتصل منه باللغة أو بقوانين النحو والصرف، إنما مرجعه في الكثير الغالب إلى سعة الخبرة بالأمور على وجه عام، وإلى شدة الفطنة، وصفاء الذهن، ورهافة الحس، وكمال الذوق، بحيث يتهيأ للناقد من النفوذ في باطن الكلام، والتفطن إلى دقائقه واستظهار ما فيه من حسن أو من مكنون عيب، ما يعيا عنه أكثر الناس، ذلك كان متكأ النقد ومصدر وحيه، لا ضابط له وراء ذلك من قانون، ولا من نظام مسنون.
بل إنه لكثيرا ما كان النقد يجري مجرى النكتة ويأخذ مأخذها في الكلام، أعني أنه قد يكون أثرا للمحة الخاطفة من الذهن، ما تعتمد على أصل ثابت من التعليل والتوجيه، وكثيرا ما كان يتعسف في هذه النكتة أيضا رغبة في التشهير واحتيالا على إسقاط الكلام، وإن من يتتبع كتب الأدب العربي ليقع له من هذا الشيء الكثير.
ولعل مما بعث على هذا وحمل النقدة عليه أن النقد إنما كان يوجه على كل بيت في القصيدة استقلالا، قل أن يسلك في عبارة نقدية بيتان أو أبيات، وذلك راجع إلى طبيعة الشعر العربي من عدم اعتبار القصيدة - في الغالب - وحدة ماثلة الشخص، واضحة الصورة، مستوية الخلق، ينزل البيت فيها منزلة الجزء من الكل، والعضو من الكائن الحي، لا يتشخص إلا بمجموعة الأعضاء.
بعد هذا الاستطراد اليسير نرجع إلى الحديث في أثر النقد في توجيه الآداب: وإذا كان للنقد مع هذا، ومع هذا كله، هذا الأثر البعيد في حياة الأدب العربي، فكيف كان يكون شأنه اليوم في ذلك، وقد أصبح للنقد مناهج واضحة، وطرق معبدة، وحدود مرسومة، وأصبح يتكافأ كثير من وسائله على قضايا العلم، وإن لم يزل للذوق فيه أثره البعيد؟ وعلى الجملة لقد أصبح النقد الأدبي فنا من أرفع الفنون في هذا العصر الحديث.
أقول كيف يكون شأن الأدب العربي اليوم لو جرت الطرق على أزلالها، وأخذ جمهرة نقادنا أنفسهم جاهدين بمذاهب النقد الحديث، على أن يكونوا في نقدهم نزهاء مخلصين، وعلى ألا يجروا أساليب النقد الغربية كما هي على كل ما يخرج لهم من آثار أدبنا العربي، فذلك إلى ما فيه من عسف وعنت، فيه أذى للأدب كبير، فإن مما لا شك فيه أننا نفارق القوم في كثير: نفارقهم في العقليات، وفي الأخلاق والعادات، وفي التاريخ والبيئة، وفي النظام الأدبي، كما نفارقهم في الأذواق، ولا يذهب عنا أن الأذواق هي مستمد الفنون على وجه عام.
لقد لاح لك ما يكون للنقد، إذا سار على هذا النهج، من عظيم الجدوى على أدبنا العربي، بانتخاله وتصفيته، ودفعه في طريق الكمال حتى يوفى بجهد الناقدين على الغاية لو كان للكمال حد مقسوم؛ فهل نحن الآن فاعلون؟
فوضى النقد الأدبي
الواقع أن الأمر ليس كذلك مع الأسف الشديد؛ هذا هو الواقع الذي يشركني في تقريره كثير، ويشركني في الإيمان به الجميع، وإن جحده من تميل بهم الأهواء عن قصد السبيل!
الواقع أن النقد عندنا أصبح فوضى ما تفتأ تستفحل وتستحصد، حتى بات يخشى أن يضل الناشئين عن كل أدب صحيح، إذا لم يأت بالفعل على كل أدب صحيح.
وإنني لأتقدم إلى تقرير هذا الواقع المر وتبيينه، لأنني امرؤ لا أنتمي - والحمد لله - لشيعة، ولا أتصل بحزب من هذه الأحزاب الأدبية القائمة في البلاد الآن، ولا يستطيع زاعم أن يزعم أني دعوت لنفسي أو دعوت لأحد من الأدباء في يوم من الأيام.
وعلة هذا، في تقديري، تعود إلى السعار الذي لحق كثيرا من متأدبي هذا العصر إلى طلب الشهرة ونباهة الذكر من أخصر طريق، وليس في هذه الطرق أخصر ولا أيسر من التهويش وصب المديح جزافا، وهيل الثناء وإضفاء النعوت وإفراغ الألقاب بغير حساب!
والأديب لا يستطيع أن يضطلع لنفسه بهذا وحده، مها يجد ويسرف في انتحال الأسماء والألقاب، يضيف إليها ما تفضل به في نعت نفسه من سابغ المقال، بل لا بد له في بلوغ الشأو وإدراك الغاية من الاستعانة بغيره على مهمه، وكلما كثر هؤلاء الأنصار والأعوان هان بالضرورة إحراز الشهرة في أقرب آن، وهؤلاء الأعوان لا ينهضون لهذه الخدمة بغير ثمن عيني، أي بدون أن يبادلهم صاحبنا المديح ويقارضهم الثناء، ومن هنا كان للأدب عندنا في هذه الأيام أحزاب وشيع هي أشبه ما تكون بالشركات المالية يساهم فيها الجميع، فتعود جدواها على الجميع!
ولقد دعا هذا بالضرورة إلى التنافس والتباري بين هذه الأحزاب والشيع الأدبية، وهذه الهيئات أو الشركات رأس مالها قائم على الكلام، فهي إنما تتنافس وتتبارى بالكلام، وهذا الكلام عبارة عما شئت من غلو وإسراف في إراقة الثناء من كل منها على كل أثر يصدر عن أي كان من المنتمين إليها، والارتصاد بلاذع النقد لما يظهر من أثر كل خارج عليها، وهكذا ديست حرمة الأدب، وعفر وجه النقد الكريم بالتراب!
ليس يعني الأدب كثيرا أن يغمط أديب بعض حقه، أو أن يغمط حقه كله، ولا يعنيه كثيرا أن يفرغ على متأدب من النعوت والألقاب ما لا يرتفع إلى بعضه كل قدره، ليس هذا مما يعني الأدب في ذاته كثيرا، وإنما الذي يعنيه ويجهده ويعنيه هو فقدان المقاييس الأدبية التي هي المرجع الصحيح أو القريب من الصحيح في تقويم حظوظ الآداب.
هذا شعر خالد! وهذه شاعرية جبارة! وهذا المعنى من وحي السماء! وهذا فلان يؤدي رسالة الأدب إلى العالم ... إلخ، يا لطيف! يا لطيف!
مهلا رويدا أيها الناس، فلقد والله ابتذلتم النعوت وأرخصتم الألقاب، وما لها لا ترخص ولا يلحقها أشد الوكس، وقد أصبحت لا تدل في أكثر الأحيان إلا على كل تافه وكل هزيل!
نعم، لقد خرجت هذه الألفاظ عن معانيها الموضوعة لها، فالألفاظ تخرج عن معانيها بالاستعمال حتى تصبح حقائق عرفية، بل حقائق لغوية بطول صرفها إلى معان جدد، كذلك سنة اللغة من قديم الزمان! ولقد تبحثون غدا عن ألفاظ تؤدي هذه المعاني على حقائقها وتجلو صورها المتمثلة في صدور الناس فلا تخرجون من هذا بكثير ولا قليل! •••
وبعد فلقد تجود بعض القرائح بالشعر الخالد، ولقد تصل الشاعرية إلى مرتبة الجبروت، ولقد يكون فينا اليوم، ولقد ينجم فينا غدا من يستحق بنبوغه وارتفاع مواهبه شيئا من هذه النعوت والألقاب، فكيف ندعوه؟ وبماذا ندل على موضعه؟ وما الذي نميزه به من سائر المشتغلين بالآداب؟
ثم إذا كانت هذه الألقاب والنعوت الضخمة التي لا ينضحها الزمان على الأفراد في الأمم الأخرى إلا في الحقب الطوال، إذا كانت هذه النعوت والألقاب مما لا ينقطع عندنا وبله المدرار، لا في الليل ولا في النهار، فترى ما الذي يبعث الهمم ويشحذ العزائم في إنضاج الملكات، وتربية ما عسى أن يكون مطويا من الموهبات في بعض النفوس، والمطلب يسير، وأضخم الألقاب معروضة بأبخس الأثمان في أكسد الأسواق؟
لقد يحتج علي بأن في مصر عنقا من مشيخة الآداب، وأن فيها كذلك فريقا من شباب الأدباء، وهؤلاء وأولئك يأخذون أنفسهم في باب النقد الأدبي بما شئت من دقة ومن نفوذ ومن إنصاف، وهذا حق لا ريب فيه، ولكن لا تنس أن هؤلاء قد غمرت آثارهم الكثرة الكثيرة بما تتهافت به كل يوم من النقد الفسل المغرض الشهوان، وبهذا يفوت الأدب نقد الفاضلين الأكفاء النزهاء.
وإذا اجتمع علينا إلى فقدان موازين النقد الأدبي إهدار رأي كل ذي رأي، وتهاون قدر كل ذي قدر، وإضلال الناشئين في بيداء مجهل، فذلك الخذلان من الله، والعياذ بالله!
أسأل الله تعالى أن يتولانا بهدايته، إنه على كل شيء قدير.
في رثاء صبري1
مضى المغفور له إسماعيل باشا صبري إلى جوار ربه كما مضى قبله وكما يمضي بعده كل من يتكلف شعرا أو يعالج فنا أو يشارك في علم، وعقدوا له يوما للرثاء كما عقدوا وكما يعقدون لأولئك كلهم، ودعوا للقريض شوقي وحافظا ومطران والهراوي وعبد المطلب كما يدعونهم للقريض في كل ذاهب، وشمر شوقي وحافظ ومطران وعبد المطلب والهراوي للشعر كما شمروا لغير إسماعيل صبري، ولقد قالوا في صبري كما قالوا في الناس كلهم: إن وجهه آلق من البدر، وإن راحته أندى من البحر، وإن شمائله أزكى من الزهر، وإن عبقريته أبقى على الدهر من الدهر!
ولقد قالوا مثل هذا كله فيمن خفوا لرثائهم ممن لا نحب أن نزدري أقدارهم، أو نتهاون أخطارهم ، أو نذم أشعارهم، ولكنهم على كل حال لم يبلغوا كثيرا ولا قليلا مما بلغ إسماعيل باشا صبري جلالة نفس، ولا عظمة خلق ولا فصاحة شعر، ولا فتحا في الأدب هذا الفتح!
لقد أخرج الأولون «الموازين» ليقدروا خفيف الأجرام وثقيلها، وصنعوا «المكاييل» ليعرفوا كثير الحبوب وقليلها، وضبطوا «المقاييس» ليحددوا قصير الأمدية وطويلها، ونحن إلى الآن لم نوفق إلى ذلك «الميزان» الذي يضبط لنا المقال، إذا تصدينا يوما لقدر أقدار الرجال!
سنطوى نحن وسيطوى من بعدنا، وسيخلف من بعد أولئك خلف لم يتصلوا بمجالسنا، ولم يترووا شيئا مما يجري على ألسنتنا، فإذا أحب هؤلاء أن يعرفوا مقدار حكمنا على كل رجل من رجالنا، صاروا ولا محالة إلى ما نحن مثبتوه في صحائفنا، ولكأني أنظر إلى هؤلاء الخلف وقد شاع فيهم العجب، وملك الدهش عليهم كل مذهب، لأن وصفنا لكل علمائنا واحد، ونعتنا لكل أدبائنا واحد، وقدرنا لكل شعرائنا واحد؛ حتى لأحسبهم يحسبون أنه كانت لدينا مطبعة لكبار الرجال، فمهما تتكرر نسخها فإن صورتها كلها واحدة!
لقد يطمع الرجل الحسان في ثواب التاريخ أكثر مما يطمع في ثواب دنياه، فيا ويح «العبقرية» ويا ويح الإحسان من حكم التاريخ، إذا كان الناس جميعا سيجلون غدا في صورة سواء!
الأدب الحاد
من الواقع الذي لا يتطاول إليه الشك أن مصر تنبعث الآن في نهضة قوية في كثير من أسباب الحياة، وفي صدرها الثقافة بوجه عام، والأدب على وجه خاص.
لم يصبح الأدب مجرد فضل من الكلام لا يكاد يطلب به شيء، ولم يبق للأدب مضطرب في تلك الأغراض الهزيلة التي كان يضطرب فيها الأجيال التي تقدمتنا من العصر التركي إلى خمسين سنة خلت، ولم يمس جهد الأديب متجردا في طلب المحسنات البديعية واستكراهها على الكلام، بله تسوية الكلام لمجرد إصابة تلك المحسنات فحسب، لا! لا! لقد عز الأدب في هذا العصر، واستحصد ملكه، وعظم شأنه، بما ارتصد لتجلية الفكر، وأداء مطالب العقل، والتسلية عن النفس وتلذيذها بكل جميل وبكل بديع.
وفي الغاية، لقد جعل الأدب يتبسط من يمينه ومن شماله حتى كاد يستغرق، بجهد أعلام البيان، جميع الأسباب الدائرة بين الناس، فإذا تقاصر الأدب العربي اليوم عن توفي شيء من الأشياء، فإنه لبالغه في القريب بعون من الله وبتظاهر جهود الأدباء.
على أن ما من حقه أن يلفت النظر في هذه النهضة البيانية - ولا أحسب ذلك مما دق على أفهام الكثير من جمهرة المتأدبين في مصر - أن الأدب العربي في جميع ألوانه وصوره، قد أصيب في هذه السنين بنوبة عصبية قبل أن تفارقه أو ترق عليه، وإن كانت هذه النوبة أثقل على أقلام الكتاب منها على أقلام الشعراء.
وبعد، فأنت خبير بأن لكل مقام من مقامات الكلام بيانا يحسن به ولا يحسن بغيره ولا يحسن هو في غيره، فهذا الباب لا يصلح إلا بسطوة القول وحدة القلم، وهذا الباب لا يجوز أداؤه إلا في لين لفظ ورفق تعبير، وهذا الباب لا يحمد الكلام فيه إلا بالاجتماع لتجويد الصياغة وإحكام النسج، والإصابة من فنون البديع بما لا يستهلك الغرض أو يسيء إلى المعاني، وهذا الباب لقد يرذل فيه مثل هذا ويعاب كل العيب، فإن من يستنفر قومه للجهاد ذيادا عن شرفهم ودفاعا عن حريمهم، لا كمن يصف مجلس لهو في روضة معطار، قد لعب النسيم بأغصانها، وغرد الهزار على أفنانها، وإن مثل ذلك اللعب باللفظ واعتماد نكات البديع لسمج كل السمج بالمرء يرثي ولده ويصف ما أجد له الأسى من ألوان البرح، وما أحدث الثكل في كبده من صدوع ومن قرح.
هذا إلى أنك في الباب الواحد قد تقول في هذا الموضع كلاما لا يجمل بك أن تقوله في موضع آخر منه، فإن من يزل لسانه بالكلمة العوراء في صديقه، ليس كمن يسعى في إردائه أو الإصابة من شرفه مثلا، فهذا يقال في عتابه أو هجائه كلام، وهذا يوجه عليه كلام آخر.
وبعد، فليست بنا حاجة إلى التقصي وطلب الصور المختلفة لمقامات الكلام؛ فذلك من القضايا المفروغ منها، ولقد أجمل الأقدمون هذا المعنى فقالوا: «لكل مقام مقال.»
ونرجع الحديث، بعد هذا، إلى ما سقنا له الكلام: أسلفنا أن الأدب العربي، في جميع ألوانه وصوره، قد أصيب في هذه السنين بنوبة عصبية قل أن تفارقه أو ترق عليه، وحسبك أن تقلب النظر في الصحف السياسية مثلا، فلا ترى إلا عنفا ولا ترى إلا حدا، وخاصة في مقام الجدل الحزبي، وإذا لم يكن في كل هذا الباب ما يجوز أن يجرى القلم فيه هينا رفيقا لأن موضع النزاع هين رفيق، أفكل مواضع الخلاف - على كثرتها وتفرق مذاهبها - حقيق بأن يصل العنف فيه إلى أقصى مداه ، وينتهي إلى غاية منتهاه.
اللهم إن من البديه أن التهمة - إذا كانت هنالك تهم - من المقولات بالتشكيك، على تعبير أصحاب المنطق، وهي في باب السياسة تنتهي بخيانة الوطن - والعياذ بالله - وتبدأ بالتفريط اليسير في اليسير من الحقوق العامة، وبين هذين الحدين مراتب كثيرة، ولكننا تعودنا أن نسم كل هذا بميسم واحد، ونطبعه بطابع واحد، ونجري القول فيه بدرجة سواء!
وما لي وللسياسة وكتابها، فذلك شيء قد نترت منه يدي من زمان بعيد، ولا والله ما قصدت - وأنا أصيب من هذا المعنى - صحفا بأعيانها، ولا تمثل لي كاتب بشخصه، فلقد أضحت هذه الخلة من عموم البلوى، على تعبير جماعة الفقهاء.
ولقد تزعم أننا في كفاح سياسي عنيف، ومن شأن هذا الكفاح أن يرهف الأعصاب، ويحد الأقلام، ويثير في النفس أعنف الشهوة إلى الخصم والفلج، لقد تزعم هذا، ولقد أستريح إلى هذا الزعم معك؛ فلنترك السياسة ولنترك الساسة يمضون لطياتهم راشدين، ولنتحول إلى غير هذا من مقامات البيان التي لا شأن لها بالسياسية ولا شأن للسياسة بها: سرح نظرك في أي جدل ديني أو علمي أو فني، فإنك لا تصيب إلا عنفا وإلا حدة في منازع الجدل والحوار!
ثم تعال نطالع المسرح المصري، فإننا لا نكاد نسمع منه إلا هدة الهدم، ولا نشاهد فيه إلا مسيل الدماء وتسعر النيران، هكذا يؤلف الكاتب المسرحي غالبا، وهكذا يختار المترجم للمسرح المصري من فنون «الروايات»!
وهنالك شبان ناشئون يعالجون وضع «الروايات» القصصية، أفرأيت فيها في الكثرة الكثيرة إلا المآسي، وإلا أعنف المآسي وأحدها، من ثكل الولد، وموت الخطيب، وفرار العروس، وخراب الدور العامرة؟ فإذا كان هناك هوى وصبابة، فخذ ما شئت من أقسى المعاني وأشدها، ومن أعنف الصور وأحدها، وعلى الجملة فأنت لا تكاد ترى في صور أدبنا المختلفة إلا مظاهر تلك العصبية التي غشيتنا جميعا في هذه السنين!
وإني لأذكر أنني دعيت لتقدير الدرجات في بعض الامتحانات الخاصة في مادة الإنشاء، وكان الموضوع المطروح على الممتحنين لا تستدعي طبيعته جدلا ولا تشميرا للقهر والفلج ، فإذا كان ولا بد ففي لين القول ورفيقه كفاية وغناء، ولكن لم يرعني إلا أن أرى الكاتبين جميعا قد أشبوا حربا وتمثلوا وجاههم عدوا، وسرعان ما ضريت نفوسهم وثارت حفائظهم، فاستحالت الأقلام في أيديهم قنا خطية راحوا يشقون الصفوف بها شقا، ويدقون بها أصلاب الأقران دقا، وما برحوا في كر وفر، ومد وجزر، وهل جاءك حديث الطرف الأغر؟ ثم تم لهم النصر والغلب، ومضى هذا في تعقب من فر وطلب من هرب، وتجرد هذا في استخلاص السبي واستصفاء السلب!
ولقد نبهت إلى هذا تنبيها قويا في تقريري الذي رفعته إلى وزارة المعارف يومئذ، وعلمت بعد من كبير في الوزارة أن الرأي قد اجتمع على لفت أساتيذ الإنشاء في المدارس إلى ذلك. •••
ولست أكتم القارئ أن هذه الحال لا بد عائدة على الأدب العربي بأبلغ الأخطار، ومن هذه الأخطار حرمان المتعلقين بالأدب الاستمتاع بكثير من الفنون التي لا تستريح إلا إلى الدعة والرفق واللين، كالوصف، والتحليل، والكشف، والتفكيه، وألوان المداعبات، ولا تنس وراء ذلك تلك المغازي البعيدة الرائعة التي يشكلها الكاتب اللبق النافذ القلم، في سراح ورواح،
1
حتى ليخيل للقارئ أنه لم يطلبها ولم يتعمدها، وإنما هي التي سقطت إلى الطرس من عفو القدر!
ومن هذه الأخطار الذهاب بملكة الوزن والتقدير، ووضع كل شيء في نصابه، ومكافأته على قدر ما يخرج من حسابه، فإن الثائر المهتاج لا يصلح لتقدير شيء، ولا يصح حكمه على شيء، ومن هنا يتبين كيف تسيء هذه الحال إلى كثير من قضايا العلوم والآداب والفنون، كما تسيء إلى غيرها من الأسباب الدائرة بين الناس!
ومن هذه الأخطار أننا أصبحنا لا نشرع القلم إلا إذا كنا غضابا، فإذا أعوزنا الغضب زررنا على أعصابنا، وتكلفنا إرهافها وإذكاءها لنعتصر آخر ما فيها من جهد، وتصول بكل ما تملك من سطوة، وهذا إلى أنه مما يخبث من نفس الكاتب والقارئ بطول التكرار والمعاودة، فإنه مما يهد منهما، ويسرع بالاختلال إلى أعصابهما جميعا!
وبعد، فإنه إذا كانت الغاية من ذلك الإرهاف والإعناف شدة التأثير في نفس القارئ والسطوة بكل مشاعره، فإن ذلك قد يأخذ فيه أول الأمر هذا المأخذ ويبلغ منه غاية المدى، على أنه بعد ذلك لا يزال - بحكم التكرار وطول المراجعة - يعتاده ويتألفه، حتى إذا تطاول الزمن تبلد على ذلك العنف حسه، فلا يثير فيه كامنا، ولا يحرك منه ساكنا، فيصبح مثله مثل من تصفى بعض المخدرات في مبتدأ الأمر نفسه، وتذكى حسه، وتحضر ذهنه، وتطير فكره وخياله كل مطير، ثم ما يزال يتخاذل هذا الأثر عنه ويتزايل فيه حتى يتفقد حاله المعتادة وطبيعته المفطورة، فلا يجد بعضها إلا في هذا الذي تعود، ولقد يدركه العجز كله مع هذا فلا يعود يجد من أصل طبيعته ومفطور قوته شيئا ألبتة!
أفرأيت كيف تجني الحدة حتى على نفسها وعلى الغاية التي تحمد هي فيها؟
ثم إنك لقد تظفر بإسالة الشئون، وتقريح الجفون، وتكريش الجلود، وتصديع الكبود، حين تشهد الناس طفلا فرق الترام أجزاءه، أو شابا هوى في النيل بعروسه، أو عجوزا فقدت ولدها وحيدها بعد مصرع زوجها، أو بنية حافلة بالسكان تستعر فيها النار ولا يجد من فيها من الشيخة والطفل الصغار مهربا، وغير ذلك مما يقع كل يوم من ويلات الدنيا وأرزائها.
تستطيع أنت وأستطيع أنا ويستطيع كل إنسان أن يبلغ هذا بهذا، ولكن أي فن فيه؟ وأية كفاية لا يبلغ إلا بها؟ اللهم إن كان مثل هذا الضرب مما يحتاج إلى الموهبة والإصابة ، فكل الناس فيهما بمنزلة سواء! وهيهات بعد ذلك التفريق بين الكاتبين في المقدار، ولا يذهب عنك في هذا الباب أن أجود الطعام وأردأه يستويان ما أهلت الملح أو غمرت في الخردل ونحوه من الحريفات! •••
فإلى شباب المتأدبين أوجه هذه الكلمة «العصبية»، وأرجو أن ينعموا النظر فيها، فإذا صحت عندهم راضوا النفوس على الوداعة والتطامن، والرجوع إلى الطبع، ومن البلية أن يرتاض المرء ليعود إلى طبعه ويرجع إلى أصل فطرته، فقد قالوا: إن العادة طبيعة ثانية، وإنما توجهت بهذا الخطاب إلى الشباب لأنهم عتاد الحاضر وهم ذخيرة المستقبل ، وهم الأقدرون على منازعة العادة، والله يهدينا ويهديهم إلى سواء السبيل.
رسالة الأدب!
من الصيغ التي يكثر دورانها هذه الأيام على أقلام المتحدثين في الفنون «رسالة الأدب أو الفن» و«رسالة الأديب أو الفنان»، تشيع هذه الصيغة في حديث المتحدثين في أسباب الفنون، ويكثر دورانها على أقلام المتعلقين بالآداب منهم خاصة، شأن كثير من الصيغ والكلمات التي يعتمدها بعض الظاهرين من الكتاب لأداء بعض المعاني الطريفة يستحدثونها في العربية استحداثا، وهذا في القليل النادر، أو يترجمون بها عن تعبيرات إفرنجية، وهذا في الكثير الغالب، وسرعان ما تنتضح بها الأقلام، حتى لقد تنتظمها أقلام نشء المتأدبين من غير حساب، إلى أن تمل بكثرة الابتذال، وإلى أن تفقد معناها بطول تذريتها ذات اليمين وذات الشمال! وإنك ما تكاد اليوم تشق صحيفة من الصحف حتى تأخذ عينيك من جميع أقطارهما كلمة من هذه الكلمات الدائرة من نحو «القدر الساخر»، أو «يا لسخرية الأقدار»، و«رسالة الأدب» أو «رسالة الأديب» وغير ذلك مما تراه فاشيا في رسائل بعض المتأدبين في هذه الأيام، حتى يكاد يشيع فيك الاعتقاد بأن هذه الكلمات أو تلك الصيغ المستطرفة هي مادة المقال وملاكه، والغرض المقسوم بنظمه والتشمير في وضعه وإنشائه، وإن طلبت تعبيرا أبلغ دقة وصراحة، قلت إنك لا تخرج من النظر في بعض هذا إلا بالشعور بأن الكاتب لا يعني من حديثه شيئا، وأنه لم يجتمع لتأليف مقاله ليؤدي غرضا، لأنه لا يتراءى له غرض، وأن كل ما يريد من الأمور وما يملك، أن يزجي طائفة من الصيغ والكلمات الطريفة التي أثرها عن بعض مشهوري الكتاب!
هذا غرض يدلك بنفسه على منجمه، ويهديك - في غير عسر - إلى جوهر علته، وهي لا تعدو في الغاية إرخاص الأدب وتيسير انتحاله لمن شاء من أهون سبيل، وليس أدل على هذا ولا أبلغ في الاحتجاج له من شيوع هذه الكلمة التي اتخذناها موضوعا لهذا المقال، أعني «رسالة الأدب»، وكثرة دورانها على الأقلام! •••
وبعد، فهل للأدب، أو للفن على جهة العموم، رسالة؟ وما رسالته التي يحملها الأدباء أو المفتنين؟
هذه كلمة فيما أعلم جديدة، أعني أنها لم تقع لي في كل ما قرأت للمتقدمين، فإذا كانت مما سبقت به الأقلام ولكنها لم توافقني في كل ما أرسلت فيه النظر، فإن علمي بها على ذلك هو الجديد.
وكيفما كانت الحال، فإنه ما خفق معنى هذه الكلمة في ذهني إلا راعني وتعاظمني، فأسرعت إلى رده عنه وتوجيه القول فيه على لغو الحديث، وأحلته إلى ذلك الضرب الشائع من الألفاظ في هذه الأيام، لا يضبط معنى من المعاني، ولكنه يبذر فيه على الطرس بذرا، قصدا إلى محض التزيد والإطراف.
وقبل أن يهولك مني هذا الكلام ويروعك، أرجو أن تطيل النظر والتدبير في معنى «رسالة العلم أو الفن»، وقولهم: «إن فلانا أدى رسالة الأدب أو الفن»، فإنك إذا نزلت من فورك على الحقائق اللغوية، استحال عندك أن يكون لشيء من الأدب أو الفن أو ما يجري مجراهما رسالة يحملها الناس أو غير الناس، إنما يبرد البرد ويبعث الرسل من له عقل وإرادة ورأي في تصريف الأمور، وليس للأدب ولا لسائر الفنون حظ من هذا بالضرورة، كثير ولا قليل!
لم يبق إلا أن تعود بالتجوز باللفظ والانحراف به عن أصل موضوعه، وتصير به إلى المعنى الأشكل بمراد البلغاء، ما دامت علائق المعاني تأذن لك بهذا التجوز والانحراف، وهنا يتمثل لك الفن في صورة العاقل المريد القادر على التدبير والتصريف، وتتمثل له رسالة يتقدم إلى المفتن بتبليغها إلى من يشاء أو إلى ما يشاء من العالمين، وأنت خبير بأنه ليس للفن لسان يترجم به عما يريغ من فنون الأغراض، فكيف الحيلة في أن يتقدم إلى الرسل بتبليغ ما شاء من الرسالات؟ اللهم إن له من أسباب البيان، ما هو أفصح وأبين من تعبير اللسان، بل إن له على رسله من السلطان ما لا يقاس به سلطان، إن له تلك السطوة الساطية التي تكره المفتن إكراها وترغمه إرغاما على أن يؤدي رسالته، لا يستطيع لأمره معصية ولا يجد منه سبيلا إلى الفرار!
لقد تعتلج الصور الرائعة في نفس الفنان، ولقد تزدحم في صدره وتقوى وتشتد في طلب المفيض والمتنفس، ولا تزال كذلك حتى تتفصد عنه، ما يكاد يجد في حقنها حيلة أو يكون له في تفصدها خيار، فهو في شأنها منفعل أشبه منه بفاعل، إذا صح تعبير أصحاب الفلسفة في مثل هذا المقام.
هذه رسالة الفن، وكذلك يؤديها الفنان!
ليست رسالة الفنون إذن شيئا من تلك الأشياء التي تتعلق بها إرادة المرء حرا تام الاختيار، يوردها إذا أراد، ويصدرها حيثما شاء، ولكنها - كما زعمت لك - قوة قاهرة لا يكاد يكون له بموردها ولا بمصدرها يدان، بل إنه بمجرد أداة لتصرفها لأشبه منه بفاعل متأنق مختار، ولولا أنه إنسان يمشي ويريد ويتصرف فيما يتصرف فيه الأناسي لحق أن يضاف في هذا الباب إلى خلق من ذلك الخلق الذي يصدر عنه كثير من أسباب اللذة والمتاع، لا إرادة له في شيء منها ولا تدبير! بل لقد يصدر عنه من ذلك ما يصدر، ما له فطنة إليه ولا شعور به ولا إحساس! وليت شعري هل يدري الهزار بما يصنع، ساعة يشدو ويسجع، وليت شعري هل تجتمع له نية وأرب، في أن يشيع ترجيعه في نفوس الخالين اللذة والطرب، أم أراد بتغريده وشدوه ما يذكي من لوعة الصب ويهيج من وجده وشجوه؟ وهذه الزهرة أتحسبها قد أشرقت لتتبهج لعين الناظر، وتنفست بالشذا لتنفث السحر في أنف العاطر
1
وقل مثل هذا في البدر إذا تألق، وفي الغدير إذا ترقرق، فإذا صدرت عنها روائع الآثار، فما كان المشي منها هوى فيه ولا خيار.
ومما يتصل بهذا المعنى ما زعمته في بعض مقامات الكلام
2
من أن من الشعراء، وأعني بهم بالضرورة من يستحقون هذا الاسم، من تتخطى شاعريتهم أفق مداركهم؛ فنراهم يصيبون من المعاني ما لا تتعلق به، في العادة، أذهانهم حتى لو راجعتهم في بعضها، وقد آبوا إلى أنفسهم، لاحتاجوا في تفهمها إلى مطاولة وجهد في الاستخبار!
ذلك بأنهم لم يصنعوا مثل ذلك الشعر صنعا، ولا جاءت روعته من التشمير في التجويد والافتنان، ولكنه فيض يفاض على الشاعر من عالم الغيب فيتحرك به لسانه، أو تجري به على الطرس بنانه، لا أقول نزل به جبريله ولكن وسوس به شيطانه!
ولعل هذا المعنى يفسر لنا ما كان يزعم العرب من أن لكل شاعر شيطانا يلهمه الشعر ويفيض به عليه، كأنه حين تعاظمهم أن يقع للشاعر من فنون المعاني ما لا يتسق في العادة لفكره، ولا يتعلق به ذهنه، راحوا يلتمسون المصدر من عالم الغيب، ويصلونه بما وراء آفاق الحس، ففرضوا لكل شاعر شيطانا يسدي بدائع الكلم إليه، ويفيض بروائع الحكم عليه! والله أعلم. •••
وبعد، فليس هناك شك في أن زعم العرب ذاك خرافة من الخرافة، ثم لقد ترانا من ناحية أخرى قد غلونا في توجيه كلمة «رسالة الفن» على المعنى الذي وجهنا، وأن أمرها أرفق من ذلك وأهون، وليكن لك في هذا من التقدير ما تحب، على ألا تبالغ في إرهاق الأفهام، ولا تغلو في النشوز على ذوق الكلام، فإنك مهما تجهد في الأمر وتتطلف في الاحتيال له لواجد للفن رسالة يريد، على أية صورة من الصور، وبأية كيفية من الكيفيات، تبليغها للناس، أو على الأقل لمن يجري منهم على عرق في ذلك الفن، وأن هذا الفن قد اصطفى من بين أهله فلانا ليبلغ رسالته ففعل.
ليكن لك ما تريد من تصوير الكيفية التي يحمل بها الفن أولئك المصطفين رسالته ، ويقتضيهم أداءها إلى من بعثوا فيهم من العالمين، فإنك على ألين تقدير لتجد الخطب جليلا كل جليل! •••
رسالة الفن! هذه لعمري كلمة إذا كان لها مدلول يتصل بالواقع، فمدلولها على كل حال غال ثمين، تالله ما كانت رسالة الفن - إذا حق أن يكون الفن رسالة - بالشيء المرتخص المبتذل في الأسواق يشتريه من شاء بأوكس الأثمان، ولا هو باللقى
3
على عذارى الطريق يتناوله من شاء ويطرحه في حيثما أراد!
رسالة الفن! كلمة كبيرة سواء أجرت على معنى استحداث الأحداث فيه، أم على معنى إيتائه بجليل مطالبه، أم تجليته في أبرع صورة وأروعها، ليس مدلولها الجد على أي معنى من هذه المعاني وجهته، بالذي في يد المتناول ولا بالذي على طرف الثمام
4
كما يقولون، إنما هو شيء شامس
5
عصي لا يذل ولا يسلس إلا لمن آثره الله تعالى بالمواهب العظام!
هنا يخيل إلى القارئ الجاد الذي لا يعرف أن الألفاظ قد تعبث وأن الصيغ قد تعربد أن مصر قد استوى لها في هذا العصر آلاف من العبقريين الذين اصطفتهم الفنون لأداء رسالتها فأدوها على خير الوجوه، وما للقارئ الجاد، أو على الصحيح القارئ الذي يقدر الجد في جمهرة الكاتبين، لا يرى على هذا أن مصر كما تخرج الحب وتجود بالقطن، أصبحت كذلك تخرج، ولكن عفوا بلا بذر ولا سقي ولا تعهد، آلاف العبقريين الذين يحملون إلى العالم رسالات الفنون؟ وكيف لا يرى هذا وهو لا يبسط بين يديه صحيفة إلا زحم نظره أسماء الحشد الحاشد من هؤلاء الموهوبين الذين يشتعبون أقطار البلاد حاملين بريد الفنون إلى أصحاب الفنون؛ على أنك لو اطلعت على كثير من هذه الصحف المنزلة على أولئك الرسل؛ بل لو قد اطلعت على أكثرها الكثير لما شككت في أن الألفاظ قد انحرفت عن معانيها بقدر كبير، حتى إننا لو اطردنا في إجالة مثل هذه الصيغ سنصبح بعد قليل من الزمن في أشد الحاجة إلى نقض معجماتنا اللغوية لنقيم من جديد كل لفظ بإزاء معناه الطريف، وإلا اضطربت الأفهام، واختل ميزان الكلام.
لقد قلت في بعض هذا المقال إن العلة في هذا لا تعدو في الغاية إرخاص الأدب، ولقد تعلم أن هذا الأدب قد تيسر انتحاله لمن شاء، وحسب المرء في تقلده أن يتكثر في المقال بطائفة من تلك الألفاظ والصيغ الطريفة الدائرة، وما دام هذا سبيل المرء إلى ادعاء الأدب وانتحاله، فلا شك على هذا القياس في أن الترقي إلى مقام العبقرية وحمل رسالة الأدب يغني فيه أن يطبع كلاما منثورا أو منظوما يذهب به إلى أي غرض أو لا يذهب به إلى غرض ألبتة، وله بعد هذا أن يضفي عليه ما شاء من النعوت والألقاب، وأن يستحيل في طرفة عين من حملة رسالات الفنون والآداب!
فاللهم إذا كان هذا هكذا، وهو كذلك مع الأسف العظيم، فويل للآداب وويل للفنون في هذه البلاد.
6
خيال الشاعر بين الطبع والصنعة1
لعل من الفضول أن يقول قائل: إن الشاعر يتكئ أكثر ما يتكئ في فنه على الخيال، أما العالم فوجهه كله إلى الحقائق مادية كانت أو معنوية، ذاتية كانت أو نسبية، نعم لقد يكون هذا من فضول الكلام إذا قرر لذاته، ولكنه يرتفع عن هذا الموضع إذا سيق لتوجيه بعض القضايا التي قد تدق على كثير أو على قليل من الأفهام، ولعل الموضوع الذي نعالجه اليوم من هذا الطراز.
وبعد، فإذا كان شعر الشاعر إنما يتكئ أكثر ما يتكئ على الخيال، فاعلم أن هذا الخيال مهما يغل، ومهما يحلق ويرتفع، ومهما يستحدث ويخترع، ومهما يلون من الألوان، ويشكل من الأشكال، فإنه مستمد في تصرفه جميعه من الحقائق الواقعة، مبتدئ لا بد منها، منته لا مفر في الغاية إليها، فمن الحقائق الواقعة مادته، وهي مستعاره في كل ما سوى وفي كل ما صور وشكل ولون.
وذلك بأن الإنسان مهما يرزق من شدة العقل ويؤت من قوة الخيال، لا يستطيع أن يتصور شيئا لم يقع عليه حسه، وكيف له بهذا والحس وحده هو السبيل لا سبيل غيره إلى إدراك الإنسان، وإلى إدراك الحيوان، فدنيا الحيوان هي ما يحيط به ويشهده في مضطربه لا أكثر؛ ودنيا الإنسان في الواقع، هي ما يرى وما يسمع، وما يدرك من الحقائق بسائر الحواس الأخرى، وليس يعدو العلم من طريق القراءة حاستي السمع والبصر، بل إن هذا الإنسان نفسه لو قد كف من أول مولده في محبس لما قدر أن دنياه شيء غير ما هو فيه، وما يتصل من الأسباب بما هو فيه، ولقد يعمد ذهنه إلى التقصي، ولقد يتبسط في القياس، ولقد يذهب في إدراك ما لم يشهد إلى قريب أو إلى بعيد، ولكنه في النهاية لن يقع على جديد لا يتصل بمحيطه، ولا يرتبط بأسبابه.
2
لك الحق بعد هذا الكلام في أن توجه هذا السؤال: إذا كان الخيال لا يمكن أن يعدو الواقع الذي يدركه الحس فما الفرق بينه وبين الحقيقة؟ أو ما الفرق بين أخيلة الشعراء وبين حقائق العلماء؟
لقد توجه بادئ الرأي هذا السؤال، على أنك لو فكرت وتدبرت لبان لك الفرق بينهما دون جهد في التفكير والتدبير: فالعالم إنما يطلب الحقيقة كما هي، سواء أكان ذلك بأخذها كما قررها مقرروها، أم باستظهارها أم باستكشافها، أم بنحو ذلك من وسائل إصابتها والتهدي إليها، أما الخيال فإنه يعمد إلى الحقائق الواقعة فيتناولها بالتأليف والتلفيق، ويأخذها بالتشكيل والتلوين، حتى تستوي له منها صورة توائم في قوتها وروعتها وتناسقها حظ مسويها من قوة التخييل، وجودة الصنعة، ودقة الذوق، والعكس في العكس.
فقد بان لك أن الصورة المتخيلة مهما يغل فيها صاحبها ويطرف، ومهما يبعد بها عما طالعه الفكر، فإنها مشكلة من حقيقة واقعة، أو ملفقة من حقائق واقعة، ولست أصيب مثلا لتوضيح هذا الكلام أحسن مما أجراه أصحاب المنطق من التمثيل للممكن العقلي - المستحيل الوقوعي - بقيام جبل من الذهب، وتموج بحر من الزئبق، فذلك وإن كان غير واقع بالفعل، مما يمكن إيقاعه في الذهن بالتلفيق والتشكيل: فالجبل موجود والذهب موجود، والبحر كائن والزئبق كائن، وكل سعي الخيال في تجلية مثل هذه الصورة هو استعارة هذا المعدن لذلك الجرم ، فيكون جبل الذهب، ويكون بحر الزئبق.
كذلك تستطيع أن تفرق بين الشاعر والعالم، بأن الشاعر في الجملة معط، أما العالم في الجملة فآخذ، الشاعر يبتكر ويستحدث بقلب الحقائق والتلفيق بينها وإفراغها في غير صورها وتلوينها بغير ألوانها، أما العالم فأبلغ جهده في تلقي الحقائق، فإذا كان له فيها استحداث أو ابتكار فبمجرد الانتفاع بما انكشف له فيها من الآثار، وما جلي عليه من مكنون الأسرار.
ولقد علمت أن الشاعر إنما يتكئ في فنه أكثر ما يتكئ على الخيال، حتى لقد ذهب أكثر النقدة إلى أنه ليس شعرا ذلك الكلام الذي يجري في الحقائق المجردة وإن كان مقفى موزونا، ولقد عرفت أثر الخيال في تلفيق الحقائق وتزييفها وطبعها على غير صورها الواقعة، لهذا نفى الله تعالى أن يكون كتابه الحكيم شعرا ونفى أن يكون رسوله الكريم شاعرا:
وما هو بقول شاعر ،
وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين
يرد جل مجده بهذا وبغيره دعوى الكفار أن القرآن شعر، على معنى أنه من تلفيق الخيال وتزييفه، كما رد دعواهم أنه سحر، والسحر ما يواري حقائق الأشياء، ويجلوها على صور تتمثل للأوهام بخداع الأسماع والأبصار:
سحروا أعين الناس ،
يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى
إنما الكتاب كله حق وصدق ومنطق صحيح
لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ،
إن هو إلا ذكر وقرآن مبين ، وهذا هو الأليق بحجة الرسالة، وآيات الله المعلمة على طريق الهدى وعلى طريق الضلالة.
ومن البديه أن الشعراء لا يطلقون أخيلتهم في فنون المعاني لمجرد العبث بقلب الأوضاع، ومسخ الأشكال، والتلفيق بين الحقائق، إنما الغاية كل الغاية أن تجلو عليك هذه الأخيلة صورا طريفة بديعة لهذا الذي أدركته من الواقع، أو تترجم لك عما يدق عن فهمك من معانيه ومغازيه، أو تكمل لك وتبسط بين يديك ما ترى أن الطبيعة قد قصرت فيه وانقبضت دون حبكه وتسويته، ونحو هذا مما يرهف الحس، ويمتع النفس بمطالعة صورة من صور الجمال الفني في أي وضع من أوضاعه، وعلى أي شكل من أشكاله.
ولا شك في أن أبدع هذه الصور وأروعها، وأذكاها للحس، وأجملها موقعا من النفس، هي أدقها حبكا، وأحكمها سبكا، حتى إذا طالعتها التبست عليك بالحقيقة أو إنها لتكاد، وهنا تتفاوت منازل الشعر بتفاوت الشعراء في قوة التخيل، ورهافة الحس، ودقة الصياغة، وبراعة الأداء.
وفي هذا المقام يجمل أن نوضح معنى لعله يحتاج عند الكثير إلى التوضيح، قال المتقدمون: إن أعذب الشعر أكذبه، وهذا كلام صحيح إذا اتجه على أن أعذب الشعر ما كان من نسج الأخيلة لا ما وقع على مجرد تقرير الحقائق الثابتة، ولكننا إذا تحولنا بالنظر إلى ناحية أخرى من نواحي هذا الموضوع رأينا كذلك أن أعذب الشعر أصدقه: ولسنا نعني بالصدق هنا المطابقة للواقع، على تعريف أصحاب المنطق، وإنما نريد به الصدق في الترجمة عن شعور الشاعر، فأعذب الشعر في الواقع هو الذي ينفض عليك ما يعتلج في نفس الشاعر، وما يتمثل لحسه في إدراكه للأشياء.
ولا يذهب عنك أننا نحن سواد الناس تعرض لنا الأشياء فندركها، في الغالب، كما هي ماثلة لأعياننا أو لأذهاننا، وهذا الإدراك لا يتعدى ظاهر الصور، أما الشاعر، وأعني به من يستحق هذا الاسم، فله نظرة نافذة في مطاوي كثير من الأشياء تسلكها دقة حسه، وهنا يتقدم خياله السري فيسوي منها صورة جميلة بارعة، فإذا واتته قدرة النظم، فأداها كما أدركها، وجلاها كما تمثلت له، خرجت على حظ من الإحسان والإجمال يوائم حظه من قوة الخيال ودقة الذوق، وحسن الأداء.
والشعر الذي تتوافر له هذه الخلال هو الشعر الذي يروعك، ويصقل حسك وقد يغمز على كبدك، لأن الشاعر قد رفعك به إلى نفسه، فأشهدك ما لم تكن تشهد، وكشف لك من دقائق الأشياء عما لم تكن ترى، وبعث عاطفتك فحلقت في عالم الروح كل محلق، وترقرقت في سرحات الجمال كل مترقرق.
وأعود فأقول لك: إن الصورة الشعرية، في هذه الحالة، وإن كانت خيالا في خيال، إلا أنها لقوة موقعها، ودقة صنعها تشبه عندك الصور الواقعة؛ بل لقد تلتبس عليك بالحقائق الثابتة، وكيف لا يكون لك في نفسك هذا الأثر، وهي نفسها قد تمثلت لإدراك الشاعر واضحة سوية، في غير تعسر ولا تعمل، فنفضها في الشعر عليك كما تراءت لذهنه، وتمثلت لحسه.
أرجو أن يكون قد صح عندك الآن أن أعذب الشعر، من هذه الناحية، أصدقه لا أكذبه.
الصناعة الشعرية
ولست أعني بالصناعة هنا إلا صناعة الخيال، فإنه إذا كانت الصناعات البديعية، لفظية وغير لفظية، قد أساءت إلى الشعر العربي إساءة بالغة، فإن الصنعة الخيالية لقد كانت في الإساءة أشد وأبلغ، وتلك أن الشاعر أو من يتصدى لقرض الشعر على العموم، لا يشعر شيئا ولا ينفذ حسه إلى شيء، فيبعث خياله من مجثمه، ويستكرهه استكراها على أن يصنع له صورة شعرية، فيمشي متعثرا ها هنا وها هنا في الارتصاد لما عسى أن يسنح له من المعاني واقعة حيث وقعت، حتى إذا لاح له شبحها، شكها ولو لم يتبين شخصها، ثم جعل يعالجها بالترويض والتذليل، ويضيف إليها ما ظنه من جنسها، أو ما حسبه مما يلابسها، ويطبع من هذه الأمشاج صورة شعرية «والسلام»، صورة لا الشاعر أحسها من أول الأمر أو تذوقها، ولا من يقرؤه شعر بالإلف لها، أو ذكا حسه بها!
وهذا الخيال المصنوع المتعمل المجهود به ليس من الشعر في كثير، وهذا على أرفق تعبير، بل إنه لأشبه بصنعة النجار أو الحداد في بسائط المصنوعات، بل إنه كثيرا ما تخرج الصورة الشعرية ملتوية شائهة، تخفى معارف وجهها على ناظمها، فكيف بقارئيه؟ وعلى عيني أن أقول إن شيئا من هذا يقع في بعض ما نقرؤه من شعر هذه الأيام.
ودعنا من الحديث الآن حتى نفرغ من شأن القديم، وخبرني بعيشك: أي شيء هذا الذي ساقه علماء البلاغة شاهدا على حسن التعليل؟
لو لم تكن نية الجوزاء خدمته
لما رأيت عليها عقد منتطق
وقول الآخر في هذا الباب أيضا:
لم تحك نائلك السحاب وإنما
حمت به فصبيبها الرحضاء
3
اللهم أفكان من السائغ في العقل أو في الذوق أو في الخيال أن نظرة الشاعر للجوزاء تحيط بها دقاق النجوم لم تلهمه إلا أنها إنما تمنطقت لتقوم على خدمة ممدوحه؟
وهل كان من السائغ أن نظرة ثاني الشاعرين في السحاب وهي تهمي، لم تشعره إلا أنها غارت من كرم ممدوحه لقصورها عن مجاراته، فأخذتها الحمى، فلم يكن ما تسح به إلا من عرقها!
اللهم اشهد أن هذا وهذا كلام بارد مليخ،
4
وهذا وهذا من الخيال الفسل
5
السخيف!
وبعد، فهذه فسولة الكلام وسخفه إنما ترجع في قرض الشعر، في الجملة، إلى أحد شيئين : إما لأن الناظم لا طبع له ولا شاعرية فيه، فهو يتصيد الخيال تصيدا ويصنعه صنعا، ليجيء بنحو ما يجيء به الشعراء، وإما للرغبة في شدة المبالغة، والإيفاء على الغاية من المديح ونحوه، فيسف الشاعر ويستخف، ويأتي بمثل هذا الهذيان الذي أتى به ذانك الشاعران، إلى أن طبيعة هذه الموضوعات ليس فيها مجال عريض لشعور صحيح، ولا لخيال واضح صريح، والحمد لله الذي عفى على كثير من هذا الأدب في العصر الذي نعيش فيه.
وانظر، بعد هذا، كيف يقول زهير بن أبي سلمى في مدح هرم بن سنان ووصف كرمه، وكيف، على أنه غلا في ذلك أشد الغلو، أتى لهذا الكرم بصورة قوية مسبوكة سائغة:
قد أحدث المبتغون الخير من هرم
والسالكون إلى أبوابه طرقا
من يلق يوما على علاته هرما
يلق السماحة منه والندى خلقا
وذلك لأن ممدوحه كان جوادا حقا، وأنه هو تأثر بشدة جوده حقا، وهو إلى هذا شاعر فحل، خصب الذهن سري الخيال، فلم يتعمل ولم يتعسف، بل لقد انتضح شعره بالصورة التي جادت بها شاعريته؛ فجاءت - على إمعانها في الغلو - سائغة مسبوكة لا نشوز فيها على الأذواق، وهذا هو الفرق بين الخيال المطبوع، وبين الخيال المصنوع. •••
ولقد عرض ذكر الذوق في بعض هذا الحديث، وللذوق محله غير المنكور في الشعر وفي غير الشعر، ولقد كان ينبغي أن نفصل القول فيه بعض التفصيل لولا أن طال بنا الكلام، فلنرجئ هذا إلى مقال آخر.
شوقي ...!1
بمناسبة ذكراه الثانية
لقد خرج في هذه الدنيا شعراء ما أحسب أحدا منهم كان يستطيع ألا يكون شاعرا، لقد تتصل الشاعرية بالطبع والجبلة، وليس بملك المرء أن يخرج عن جبلته وطبعه، ولست أجد مثلا أضربه لهذا الطراز من الشعراء أبلغ من أبي نواس في الغابرين، وأحمد شوقي في المحدثين، وأغلب اعتقادي أن الشاعر من هؤلاء حين ينزل عليه الشعر لا يقدر على صرفه عنه، أو حبس لسانه أو قلمه عن الجريان به، إلا برياضة ومطاولة وجهد.
هؤلاء يطلبهم الشعر أكثر مما يطلبونه، ويتغشاهم البيان أكثر مما يرتصدون له ويتجردون في إصابته.
وبحسبك أن تطالع دواوين شوقي - والحديث فيه اليوم - لتعلم أنه لو كان رزق أعظم حظ من العزم والقوة والجبروت، ما كان ليقوى على كتم شاعريته الفائضة الجياشة، وهيهات للسد بالغا ما بلغ من المتانة والمناعة أن يكف النيل عن جريانه، وأن يكبح إذا طغى من طغيانه!
تقرأ شعر شوقي، فتتعاظمك هذه الكثرة الكثيرة من فاخر الشعر وبارع الصنعة ورائع البيان، ويذهب العجب بك كل مذهب، وتروح تتساءل: أية قوة بدنية هذه التي احتملت كل هذا المجهود الفكري؟ وكيف تهيأ لهذا الرجل أن يعيش ما عاش؟!
والواقع الذي لا يتداخله الشك أن شوقي لم يكن على حظ كبير من صحة البدن، بل لقد تستطيع أن تقول إنه كان رجلا مضعوفا مختل الأعصاب من أول نشأته، فإذا طلبت السر في شأنه، فالسر كله في أنه لم يكن يجهد في قرض الشعر؛ لأنه لا يكلفه
2
ولا يتعمل كما قلت لك في طلبه، ولا يرهف في ذاك حسا ولا يحد عصبا، إنما هو الينبوع ينبثق فيجري الماء دفقا ما يحتاج إلى متح ماتح.
نعم، لقد كانت تكاليف الحياة تقتضي شوقي كما تقتضي غيره أن يستفتح الشعر ويبعثه في مديح، أو رثاء، أو تهنئة، أو في غير ذلك من الأسباب الخاصة أو العامة التي لا يرى بدا من القول فيها، على أنه لا يكاد يقبل على صناعة الشعر فيما طلبه، حتى تتحرك شاعريته، فتجره عما هو بسبيله جرا، وتملي عليه هي ما تشاء أكثر مما يملي عليها هو ما يريد، ولست أطلب في هذا دليلا أبلغ من أن شوقي لم يمدح أحدا قدر ما مدح الخديو السابق، على أنه حين جرد تلك القصائد من ذلك المديح ليدخلها في ديوانه، ظلت سوية قوية رائعة بما فيها من رقيق غزل، ومن بارع وصف، ومن بالغ حكمة وجليل مثل، كأن لم تفقد شيئا، ولم يعوزها شيء! ...
إذن كان شوقي شاعرا مطبوعا أتم طبع، سريا أجزل السراء، موفقا إلى أبعد غايات التوفيق.
تصرف في فنون الشعر كلها فما ضعف قط في واحد منها، بل قل أن يتعلق بغباره في أي باب من أبواب القصيد شاعر، اللهم خلا الهجاء، فلم يؤثر عنه فيه بيت واحد، ولعل ذلك يعود كما قلت في «مرآته»، إلى لطف نفسه، وأنفته من أن يشهر الناس ويطلب معايبهم، أو لعله يعود إلى الخوف والورع من أن يزيد في ثورة خصومه به، أو لعله فطن إلى أن الزمان سيعفي على هذا الضرب الحقير من الشعر، وما أحسبه - لو عالجه - إلا موفيا فيه على الغاية والإحسان، على أن الله تعالى كان ألطف به من أن يدليه في هذا الهوان.
وإذا كان عجبا من كثير من الشعراء أن يكون حظهم من البراعة في فنون الشعر بدرجة سواء، فإن هذا من شوقي وأمثال شوقي غير عجيب، فالرجل - كما زعمت لك - لا يملك من شاعريته أكثر مما تملكه شاعريته، وما إن اجتمع لقول الشعر، ومضى يجيل الفكر ويطير الخيال، إلا ملكته تلك الشاعرية عن نفسه، وراحت تجوده بالهاتن الحنان من وحي القريض، فإن أصابت ما احتفل له، وإلا ففي فنون المعاني الآفاق العراض، وأرجو منك أن تراجع شعر شوقي في كل ما يتورط فيه الشاعر، ولا ينبعث له من نفسه لو كان أمره كله إليه، لتزداد إيمانا بما أقول.
وأرجو منك ألا تحسبني غاليا ولا متزايدا إذا زعمت لك أن شعر شوقي كان في بعض الأحيان، بل في كثير من الأحيان، يتخطى إدراكه العادي، أعني أنه كان يصيب ألوانا من المعاني لو أنك راجعته فيها غداة نظمها لاحتاج في فهمها إلى فكر وتدبير! ولقد وقع لي أكثر من مرة أن راجعته في بعض شعره أرى أنه قد مس فيه معنى رفيعا جدا، ولكن اللفظ أقصر من أن يطوله بواضح البيان، وإني لأضمر ما ألمح، وأحيانا ما كان يلمح غيري، فإذا هو بادئ الرأي كقارئه متحير متردد، وإذا هو في فهم مرامي الكلام في حاجة إلى جس وإلى استخبار!
3
وأريد أن أقول لك إن هذا الرجل قد كان يفاض عليه ساعة وحي الشعر ما لم يكن لفكره في الحساب، ولقد ذكرت هذا من بضعة أيام لنفر من الأدباء ممن كانت لهم صلة بشوقي، فأكد لي بعضهم أنه وقع له مثل هذا مع أمير الشعراء.
صنعة شوقي
وإذا كان لهذا الشاعر صنعة، أو كان له في شعره ما يعد من عمله، فهو احتفاله للمعنى أولا، فإن واتى اللفظ ولان ونصع وأشرق، وإلا فلأم هذا اللفظ الهبل!
4
لم يكن شوقي إذن يكلف بالديباجة، ولا يجهد في تسوية اللفظ وصقله، ولكنه مع هذا قد يجيء بالعجب العاجب! بل لقد استحدث شوقي في العربية صيغا أوفت على الغاية من حلاوة اللفظ، ومتانة النسج، وقوة الإشراق، وأحسب أن قوة المعاني هي التي أرادته على هذا ودفعته إليه دفعا.
ولقد كان مما يعد على شوقي أنه يكثر من الغريب في شعره، حتى لقد كان يضطر هو إلى تذييل ما يفشي من قصائده في الصحف بالشرح والتفسير، ولا أحسب هذا سائغا في العصر الذي نعيش فيه، بل إني لأزعم أن محصول شوقي من متن اللغة لم يكن يواتي هذا القدر الذي يشعره استكثاره من الغريب في قصيده، فلقد كنت تسأله معنى الكلمة المفردة تكون قد خلت في بعض شعره، فإذا هو لا يدريه في بعض الأحايين، وإنني لأرجح أن الرجل لم يكن يعمد بهذا إلى التكثر بسعة العلم، ووفرة المحصول من اللغة، ولكن لأنه كان يصيب من دقائق المعاني ما لا يتيسر له أداؤه باللفظ الشائع، كما كان يطيل أحيانا كثيرة في القصائد إطالة يحتاج معها إلى الكد في التماس القوافي، فكان يضطر في هذا وفي هذا إلى التماس الألفاظ من المعجمات ينتزعها انتزاعا.
التجديد والمجددون
وهنا أحب أن أقول شيئا يسيرا في التجديد والمجددين، وإنني أوجه هذا الكلام بنوع خاص إلى الناشئين من المتأدبين.
إذا كان من آيات الحياة في الكائنات تطورها ونموها وتجددها، فالأدب ولا شك من هذه الكائنات التي لا تكتب لها الحياة إلا على التطور والنمو والتجديد ، وإلا كان ميتا أو أشل على أيسر الحالين.
ولكنني أحب أن ألفت في هذا المقام إلى مسألة قد تدق على أفهام الكثير أو القليل، وتلك أن هناك فرقا بين التربية والتجديد، وبين المسخ والتغيير، ولست أجد مثلا أسوقه في هذا الباب خيرا من حياة الطفل وحياة النبات، كلاهما ينمو ويربو، وكلاهما يطول ويزكو، حتى يبلغ الحد المقسوم لكماله، وقد تتغير بعض معارفه، وقد تحول بعض أعراضه، ولكنه في الغاية هو هو لا شيء آخر، فحسن الوليد، هو حسن الطفل، هو حسن الفتى، هو حسن الشاب، هو حسن الكهل، وهو حسن الشيخ، وتلك الفسيلة
5
الصغيرة، هي هذه النخلة الباسقة؛
6
كل نما وربا بما دخل عليه من الغذاء، وما اختلف عليه من الشمس والهواء.
لقد أصاب كل منهما ما أصاب من أسباب التربية والإزكاء، فاحتجز منها ما واءمه وما تعلقت به حاجته، ونفى عنه ما لا خير له فيه وما لا حاجة به إليه، ثم أساغ ما أمسك وهضمه، فاستحال دما يجري في عرقه، ويزيد في خلقه.
ولا شك في أن لأدبنا العربي عناصر، وله مقومات، وله شخصية بارزة معينة، فمن شاء فيه تجديدا - ومن الواجب الحتم على القادرين أن يجددوا - فليتقدم، ولكن من هذه السبيل.
ولا تنسوا أن من هذه المقومات، إن لم يكن أهمها جميعا، هو صحة العربية وتحري فصحها، فمن تهاون هذا وتجاوزه، فليس ما يصنع من الأدب في شيء أبدا ، ومما يتصل بهذا المعنى ما لعلي لا أخطئ إذا دعوته تقاليد العربية؛ فللعربية كسائر اللغات القوية تقاليدها المأثورة على الزمان.
وهناك مقومان آخران لهما خطرهما العظيم، ألا وهما التخييل والذوق العام، ولا أحسبك تنكر أن لكل أمة ذوقها الخاص بها في كثير من أسباب الحياة، ولقد تشارك غيرها من الأمم في بعض هذا، ولقد تفارقها في بعض فراقا شديدا أو يسيرا.
أما التخييل فقد قلت لك في مقال مضى إن خيال المرء مهما حلق وعلا، ومهما أسرف وغلا، فهو لا يمكن أن يخرج عن كونه مجرد تلفيق من الحقائق المحسة الواقعة، وأنت بعد خبير بأن أصدق خيال وأروعه، وأن أحكم تشبيه وأطبعه، هو ما اشتقه الشاعر مما يحيط به وبقارئه، ويقع لأسماعهما ولأبصارهما جميعا، وإلا نبا عن السمع، ونشز على الطبع، ولو كان بالغا غاية الغاية في بيئة أخرى.
نعم، لقد يشهد الشاعر من مجالي الطبيعة ما لم يشهد عامة قومه، ولقد يظهر على كثير مما انتضحت به بلاغات أئمة البيان في الأمم الأخرى، ولقد يتذوق هذا في لغاهم، ويتأثر به إلى حد بعيد، ولقد يرى أن ينقل ما يطول من ذلك إلى معشره بإخراجه في لغتهم لينعمهم ويلذذهم ويرهف حسهم، ويفتق في أذهانهم، ويفسح في أدبهم، بإدخال جديد عليه، وإضافة بديع من الآداب الأخرى إليه، فإن له من ذلك ما يحب، على أن يصوغه في صحيح لغته، ويطبعه على غرار أدبه، ويحتال على تسوية خلقه، حتى يصبح تام المشابه بما ألف قومه، حتى لا يحسوا فيه غربة، ولا يشعروا منه بوحشة، فإذا وفق الأديب إلى هذا وأجاده وأحكمه فهو المجدد التام.
شوقي إمام المجددين
ولقد ضرب شوقي في الأرض كثيرا، ورأى من صور الطبيعة ومن بدائعها ما لم تتهيأ رؤيته لكثير، وقرأ في الفرنسية لأئمة البيان في الغرب ما لا يكاد يملكه الإحصاء، ولقد أساغ ما استعار، وجرى في أعراقه طلقا، واستطاعت شاعريته الفخمة أن تجلو منه ما شاء أن يجلو عربيا خالصا لا شك فيه؛ وهذه دواوينه تزخر بهذا البدع زخرا.
فاللهم إن كان التجديد ما ذكرنا، فشوقي إمام المجددين في هذا العصر غير مدافع، أما إن كان التجديد هو المسخ، واستحداث صورة شائهة، واستكراه ألوان من المعاني لا تمت إلينا بسبب، على صيغ لا هي بالعربية ولا هي بالأعجمية، فاللهم اشهد أن شوقي ليس مجددا بل ليس شاعرا أبدا. •••
ولقد جال شوقي بشعره في كل غرض، وقصد كل قصد، وأصاب من كل معنى، وطال نفسه في أكثر قصيده إلى ما لم يطله كثير من أنفاس الشعراء، فما ضعف ولا تخلخل ولا أسف، ولا فسلت أخيلته ، ولا شاهت معانيه، بل لقد يأتي أكثر ما يأتي بالجوهري الرائع من حر الكلام.
وليس شوقي بالذي يستدل على مكانه بالبيت أو البيتين في القصيدة، أو بالقصيدة والقصيدتين في الديوان، بل إذا طلبت عليه دليلا فهذه دواوينه شق منها ما تشاء، وقع منها على ما تريد لك المصادفة، فلن تصيب إلا أرفع الشعر وأفخر الكلام. •••
وبعد، فلقد مات شوقي، وانحسمت جميع أسبابه من الدنيا، وفرغ من مودات الناس ومن عداواتهم، وأصبح شعره حبسا على التاريخ؛ فمن كان يرى حقا أن شوقي لم يبلغ هذه المنزلة، أو أنه لم يبلغ بعضها، أو أنه لم يكن شاعرا ألبتة، فهذا له رأيه، وعليه تبعته، ولا حيلة لنا ولا لغيرنا فيه، وأما من يقدر شوقي حق قدره، فينزله هذه المنزلة أو ما هو أقرب إليها، فمن واجب الذمة أن يشيد بقدره، ويدل على جلالة محله، لا قضاء لحق الإنصاف وحده، ولا أداء لشكر النعمة فحسب، فلقد كان شوقي نعمة عظمى أسبغها الله على أبناء العربية جميعا؛ بل لاستدراج نشء المتأدبين إلى استظهار شعره، وإنهالهم من أدبه، واتخاذه النموذج المحتذى إذا اجتمع أحدهم للبيان.
هذا واجب الذمة للحق وللبيان جميعا، وخاصة بعد هذا التبلبل الذي لا أحسب أن البيان العربي شهد مثله في أي عصر من عصور التاريخ، وحسبي هذا، فما أحب أن أقذف بنفسي في هذه الحرب الناشبة من أنصار قديم وأصحاب جديد!
الباب الثاني
فى الوصف
هو ...1
لا يشغل من هذا الفضاء حيزا كبيرا، فإنه دقيق الجرم، لطيف الحجم، يخيل إليك أنه لا يثبته لمهب الهواء إلا رجحان عقله ورسوخ عزمه، وإلا فلو قد خلي على هذا بينه وبين خفة روحه ورقة شمائله لاستحال معه نسمة من النسيم!
مهما يكرثه
2
من الأمر وتشط به صائلات الفكر، فإنه لا يطالعك إلا بوجه مبسوط لا أثر لعقدة فيه، بل لقد يقبل عليك فوق ذلك بالحديث الفكه ليؤنسك ويذهب وحشتك، ويفرخ روعك إذا كنت غير كفء لمجلسه، بل لقد يستدرجك إلى الحديث ويملي لك فيه،
3
ويحسن الإصغاء إليه، ويظهر الاحتفال له، مهما يكن سخيفا يجري في تافه الموضوعات، بحيث يشعرك أنك تنضح على سمعه جديدا عليه، يفيده علمه به؛ حتى لتغلون في هذا الشعور، فما تفارق مجلسه إلا وقد خلت أنك أسلفت إليه بحديثك يدا!
متواضع شديد التواضع لا يضيف فضلا لنفسه، ولا يدل على أثر لفضل، بل إنه لشديد الاجتهاد في أن يتمثل لك في صورة آحاد الناس، ولقد يجيد سبك هذا حتى يجوز أمره عليك، فتحسب حقا أنه مثل سائر الناس، فإذا كان الحديث في علم أو في أدب أو في فن، أو في استجلاء وجه الرأي في العظيمات، فهنا لا يستطيع أن يكتمك نفسه، فهيهات لامرئ أن يكف ما تجري به الأقدار، على أن عبقريته إذا فضحته برغمه وكشفت عن حقيقة شأنه، فإنه لا يبرح يواريها بشدة التواضع والرفق في مضارب الحجة لكيلا يروعك عظم خطئك، ولا يهولنك مدى ما بينك وبين الصواب، وما إن تراه يقول لمحدثه أخطأت أو عدوت الرأي، بل لقد يدارجه في بعض القضية، ثم يلوح له بالرأي في حواشي القول تلويحا، حتى إذا شامه عدل إلى طريقه وكأنه تهدى إليه من تلقاء نفسه، ما قاده إليه أحد، ووالله لكأن أبا تمام كان يعنيه هو بظهر الغيب حين قال:
جم التواضع والدنيا بسؤدده
تكاد تهتز من أطرافها صلفا
أخذ نفسه بأعلى قواعد الأخلاق، فلا يصدر إلا عنها في كل سعيه، يستوي في ذلك الدقيق والجليل من عامة شأنه، وإنك لتراه إلى هذا شديد التجمل للناس، عظيم التصبر على مكروههم، فلا يجبه إنسانا بكلمة السوء، ولا يعيره عيبه، ولا يعنف في العتاب - إن هو عاتب - على مساءة لحقته؛ بل لقد يصوغ هذا في الكلمات الخفاف اللطاف تمضي هينة رفيقة ما تثير أذى ولا تسيل جرحا، وإنه حتى ليفعل هذا وهو مستحي غاض البصر، كأنه هو الذي أساء، وأنه هو الذي يعتذر!
رزقه الله عفة النفس وعفة اللسان وعفة الرأي معا، فلا يحدر طرفه إلى ما ليس له، ولا يستكثر نعمة دخلت على إنسان مهما يجل قدرها ويدق قدره، ولم تحص عليه قط كلمة سوء رمى بها غائبا، ولقد يجيئه أن فلانا هتف به بما لا يحب، فلا يزيد على أن يتقبض وجهه، وتتقلص شفته، ويومئ بالأسف إيماءة خفيفة دقيقة، ويعود سريعا إلى طمأنينة نفسه واستراحة عصبه؛ وهذا إذا كان من يلمزه ممن يعنى شأنهم، وإلا فلا يكون منه شيء أبدا!
وأما عفة رأيه وتفكيره، فإن هوى أو شهوة، أو طمعا في نفع، أو مصانعة لذي سلطان، أو تعلقا بالفلج،
4
وقهر الخصم إذا استكره على الجدل ولم يكن له منه بد، اللهم إنه لا يمكن لشيء من هذا ولا لغيره أن يغض من عفة تفكيره ونزاهة رأيه، كأنما يتعاظمه أن يسطو بهذه الحجة القارحة، التي آثره الله بها، على الحق، على حين أن الأكرم لها والأجدر بها أن يسلطها على الباطل فتكسره تكسيرا، وكأني به يأبى إلا أن يحصن هذه النعمة الجليلة على الزوال إذا هو بطرها فأنفق منها في غير إظهار الحق، وفي غير ما يرضي الله! •••
ضخم العقل والذكاء، ضخم العلم والتفكير، ينال بالنظرة الأولى ما لا ينال غيره إلا بشدة الجهد والمطاولة، وطول التفكر والتدبير، بل لقد يدرك بهذه النظرة ما لا يدركه غيره إلا بقائد ودليل، فهو رجل كأنه قد سفرت له وجوه الحقائق، وبذلت لعينيه ذات السرائر، ونفضت بين يديه ما أجنت في أطواء الضمائر، فما يغيب عن لحظه خافيها، بل لقد أضحى أدق نظريها
5
لعلمه بديها، وكأن المتنبي قد عناه بلحظ الغيب حين قال:
ومن خلقت عيناك بين جفونه
أصاب الحدور السهل في المرتقى الصعب
فإذا جاءك، بعد هذا، أنه أدق الناس تفكيرا، وأعمقهم بحثا، وأكثرهم إصابة، فلا يروعنك مع هذا أنه أكثرهم إنتاجا، وأوفرهم آثارا، فقد رأيت أن عبقريته لا تعيا بشيء، ولا تجهد في الطلب بطول الاستقراء والاستخبار، وما حاجته إلى هذا وقد راض الله تعالى لذهنه الحقائق ويسرها له، حتى لكأنها هي التي تتزاحم لديه، وتتهافت عليه؟ •••
كريم الطبع، سمح النفس، عالي الهمة، ما عاذ إنسان بجاهه إلا أعاذه ما دام أهلا للبر والعطف، وإنه ليسأل المعروف فيعد وعدا فاترا متحيرا بين الأسباب والعلل، فتنصرف عنه وقد يئست اليأس كله من بره بك وسعيه لك، ثم لا يروعك إلا أن تعلم من غيره أنه لم يبق في قوس الهمة والجد في السعي منزعا، حتى يصل شأنك أو يقطع برده القدر، يفعل هذا وهو حريص أشد الحرص على كتمانه عنك، حتى لا يثقل عليك بالشعور بالمنة لطول ما جهد لك وأبلى في شأنك، ولقد تتقدم إليه لتشكره، وقد تعتب عليه إسرافه في بذل جهده، فيعاجلك بصرف الحديث إلى شيء آخر، فإذا ألححت فيما كنت فيه وأبيت إلا ترديدا له، هون الخطب عليك وأكد لك أن أمرك لم يجشمه من الجهد كثيرا ولا قليلا! يقول هذا مقال الواثق المطمئن الذي لا يتكلف شيئا في إخفاء يده وإنكار فضله! •••
هذا «هو» وتالله ما يمنعني من التصريح عن اسمه إلا اتقاء غضبه؛ فتلك لعمري التي لا هوادة لغضبته فيها ولا إسجاح،
6
على أنني غني عن أن أسمي الشمس ليعرف الناس أنها الشمس!
ألا ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
إسماعيل صبري1
رحم الله إسماعيل، وعوضنا في أدبه الحلو حسن العوض.
لقد كان مودع الأمس قطعة شعرية نظمتها الطبيعة، فأجادت فيها أيما إجادة، وأبدعت أيما إبداع!
جادت به الطبيعة كما تجود بالزهرة المونقة، والنسمة اللينة ، والجدول العذب النمير!
ما حسبت قط أن صبري تكلف الشعر يوما أو شمر له، أو جلس يتصيد للقريض فنون المعاني، ويتخير لها مشرقات الألفاظ.
هذه الوردة تنفث العطر، وهذا الغمام يجود بالقطر، وهذا صبري ينطق بالشعر!
هذه القماري يطربك تنغيمها وتغريدها، وهذه بنات الهديل
2
يشجيك سجعها وترديدها، أفرأيت واحدة منها تكلفت الغناء، أو أراغت
3
به التطريب والإشجاء، أو عمدت إلى تقليب حلقها في ضروب اللحن وأشكاله من خفيف أهزاجه وثقيل أرماله؟ •••
كنت أصحبه، رحمة الله عليه، نتمشى في أقطار الجزيرة، ننعم برياضها وجداولها، ونتفرج بين أدواحها وخمائلها، حتى إذا امتلأت عينه من نضير أنوارها، وأنفه من عبير أزهارها، وأذنه من هدير أطيارها، انطلق هو الآخر يتغنى بالبيتين أو الثلاثة من الشعر، وهنالك تتشابه علي صنعة الطبيعة وصنعة الشاعر، فما أدري أأرى زهرا من الشعر، أم أسمع شعرا من الزهر؟ وكذلك كان ينظم الشعر إسماعيل!
ينفض عليك إسماعيل هذا الشعر فلا ترى أنه جاءك بجديد عليك، وإنما جاءك بشيء متصل بحسك، قائم في قرارة نفسك، وهو لا يعتريك به من مخارج سمعك، وإنما يعتريك به من مداخل طبعك، حتى ليخيل إليك أنك أنت صاحب هذا القول دونه، فإذا كان له في الأمر فضل ففي أنه عرف كيف يتدسس إلى أطواء قلبك، فيجلو عليك ما أعيا تصويره على بيانك.
اللهم إن جهد شعر الشاعر أن يحرك في الناس ألوان العواطف، أما شعر هذا الرجل فإنه في ذاته عواطف تعتلج في السطور، كما تعتلج العواطف في الصدور، وإنه ليشعرك بما يجول فيه من رقة ورحمة، وبرحة هوى، وحرقة جوى حتى ليكاد يريك دمعة الثاكل، ويسمعك أنة المجروح!
فيا لله! ما أروع هذا الذي يقبض بيده على العواطف المترقرقة في الصدور، ثم يصوغها شعرا يقرؤه الناس! •••
وبعد، فإذا تسلل شعر صبري إلى حبة قلبك، وملك عليك منازع نفسك، وأشعرك من صور الجمال ما لا يشعرك كلام الناس، فلا تقل: أجاد صبري، ولكن قل: تبارك الله أحسن الخالقين!
شوقي1
سيداتي سادتي
في مثل هذا اليوم من عامين مضيا أذن مؤذن أن البلبل قد سكت بعد طول سجعه وتغريده، وأن الزهر قد ذبل بعد إشراقه وتوريده، وأن النجم قد هوى فلم يعد يتألق، وأن الغدير قد غاض وهيهات له بعد الآن أن يترقرق!
مات شوقي، ولو كان شوقي كسائر الناس ما كان لموته جليل خطر، ولرب رجل يموت فلا يفرق المجموع بين موته وحياته، ولكن موت شوقي شيء آخر: أرأيت إلى النهر إذا يبس، وإلى المطر حين يحتبس، ووا رحمتاه إذا للسارين لحق النجم الغروب، وقد تشعبت الطرق واختلفت رءوس الدروب!
لقد كان شوقي نعمة من النعم العامة التي تفضل الله بها على هذه البلاد، بل التي تفضل بها على أبناء العربية جمعاء، فموته من المصائب العامة التي يحس خطرها كل امرئ يقدر روعة الفكر، ويحتفل لأبهى صور الجمال.
ولو أن الله تعالى بعث الشعور في مظاهر هذه الطبيعة، وأقدرها على النطق، لشارك في إحياء ذكرى شوقي: البحر الخضم، والجبل الأشم؛ والفلك الدائر، والنجم المختلج الحائر؛ والعود إذا أورق، والزهر إذا نور وأشرق؛ ولاجتمعت لمأتمه كل سجوع من بنات الهديل، يقمن عليه المناحات بأحد البكاء وأحر العويل، فلقد طالما أضحك وسرى، ولقد طالما أطرب وأشجى، ولكم جلا من صور الطبيعة فأجاد وأحكم، وأنطق الصخر في مرسخه لو كان الصخر يتكلم، ولكم لاغى الطير غادية ورائحة، ولكم لاعب الغزلان شاردة وسانحة، ولكم داعب الغصن حتى تثنى خصره، وغازل الزهر حتى تنفس أرجه وعطره.
شوقي لم يمت، ومثل شوقي لا يموت أبدا، بل إنه ليزداد حياة على تطاول الأجيال، هذا شوقي حي أقوى الحياة في بيانه القوي، وسيظل هذا البيان المشرع العذب النمير ينهل منه بنو العروبة ما قدرت للعربية في هذه الدنيا حياة.
عدو صميم، أم ولي حميم؟ ...1
تلقيت هذا الكتاب من حضرة الكاتب الأديب صاحب الإمضاء، وإني مثبته بنصه في «المصور» من غير تغيير ولا اختصار:
حضرة ... «فلان» لقد حيرني وأقلق فيه منطقي وأزعج تفكيري، وأفسد علي حسي، فما عدت أدري أأحبه أعظم الحب، أم أبغضه أشد البغض، ولا أعلم أأكبره غاية الإكبار، أم أنني لا أجن له إلا أبلغ الازدراء والاحتقار، فإني والله لا أعرف أكان هو أصدق أصدقائي، أما كان هو أعدى أعدائي، إنه لأحد هذين على أي حال، أما أنه ليس هذا ولا هذا فذلك المحال كل المحال!
إنه يحفظ غيبي، ولا يأذن لأي كان بأن يبسط في لسانه بمقال سوء، ولو جشمه ذياده عني في غيبتي ما جشمه، ما في ذلك شك ولا إلى جحوده سبيل!
وإني لقد يعتريني المرض، ولقد يحزبني من أمر الدنيا حازب، وتعتريني الأيام ببعض المكروه، فيكون هو أول من يطلع علي، ويستطب لدائي، ويتفقد علاجي، ويستوثق من مواظبتي على دوائي، ويكون هو أشد الناس اهتماما بمواساتي، وأعظمهم اجتهادا في تسليتي والتسرية عني، ولا يزال هذا شأنه حتى أصح وأبرأ، وتعود إلي طمأنينتي، ويذهب الله عني ما أجد من وجد وأسى، ما في ذلك شك، ولا إلى جحوده سبيل!
ولقد ترق حالي، ويلح العسر علي، فما إن يكاد يعرف هذا ولو من طريق التفرس، فليس من خلقي التشكي، حتى يجمع همه ويركب رأسه، لا يسكن ولا يفتر ولا يهمد له سعي، أو يصيب لي عملا كريما يجرى علي ما أعود به على شملي، ولقد يفعل هذا على غير علمي وفي سر مني، ولقد يغلو في أن يكتمني سعيه لكيلا يجرح شعوري، أو يحرج نفسي بما يجهد في شأني، ما في ذلك شك ولا إلى جحوده سبيل!
ولقد ينتهي إليه أن خلقا من الناس يأتمرون بي، فإذا لم يستطع أن يكف بادئ الرأي كيدهم، ويدفع عني أذاهم من حيث لا أعلم، باداني بأمرهم، وحذرني مكرهم، وقد كنت على شرف الوقوع في حبالهم، فينجني الله تعالى به من كيد عظيم، ما في ذلك شك ولا إلى جحوده سبيل!
وإني لقد أخطئ الرأي، ولقد يضلني الهوى عن سبيل الحكمة في بعض الأمر، حتى يكاد هذا يزلقني إلى ما تكره عواقبه، فيزعجني بكل الوسائل عنه، ويردني برغمي معافى منه، ما في ذلك شك ولا إلى جحوده سبيل!
وإني لا أذكر أنني غبت عنه قط إلا تفقدني، وجعل يتعاهدني في جميع مظاني، ويقصني جاهدا حتى يصيبني، ولو كنت في قواصي الأرض، ليجالسني ويقضي أجل الوقت معي، ما في ذلك شك ولا إلى جحوده سبيل!
ولا أذكر أنه تهيأت له قط نزهة جميلة، أو مجلس غناء وتطريب، أو نحو هذا مما ينعم النفس ويلذذها إلا أسرع فدعاني إليه وآثرني به، وألح علي في حضوره، وقد يستكرهني إذا تعذرت عليه في ذلك استكراها، ما في ذلك شك ولا إلى جحوده سبيل!
ومهما يكن من شيء فإنه في كل هذا الذي ذكرت لك يؤثرني - فيما أعلم - أشد الإيثار، ويعقد في عنقي من المنن ما لا تسخو به إلا أنفس أصدق الأصدقاء وأصفى الأولياء، حتى إنني لأتمثل في شأنه هذا معي بقول الشاعر:
فأصبحت يلقاني الزمان لأجله
بإكرام مولود وإعظام والد
على أنه قد ذهب عني أن أذكر لك في صدر هذا الكلام الصفات البارزة لصديقي أو عدوي هذا «فلان»، ولكن الفرصة لما تزل حاضرة، والحمد لله، إلى الآن: هو رجل في أعقاب الشباب، انحدر من أسرة إن لم يمد لها في غنى عريض، فإنها تجري على عرق من الفضل والكرم، ومن النبل والشمم، وهو بعد على حظ غير قليل من العقل والذكاء والعلم والثقافة جميعا، حاضر البديهة، حسن الرأي في الجملة، يجيد الحديث ويحذق النكتة، وقد يبرع في إدارة مجلس السمر، وهو وإن لم يكن أديبا فإنه يتذوق الأدب، مرهف الأعصاب، لقد يثيره التافه من الأمر، وتارة يسرف في الحمل على النفس ليصبرها على مكروه عظيم، لرأي يراه هو ولكن يكتمه الناس، ولقد نجد فيه أحيانا أدبا جما وظرفا عظيما، ولقد ترى فيه حينا عنجهية شديدة وسلاطة لا تطمئن إلى الصبر عليها رواسخ الجبال!
ثم إنه لرجل مرح في غالب شأنه يطرب على الغناء، ويتبسط في مجلس الأنس واللهو، ولا يعلق يده عن الإنفاق على أسباب التنعيم والتسلية والترفيه. •••
بعد هذا أرجو منك يا سيدي أن تسمع كيف يصنع لي هذا الولي الحميم، أو هذا العدو الصميم: إنني ما غشيت قط مجلسا هو فيه إلا تغير وجهه، وحال لونه، وتقلصت شفته، وبان الغيظ والحنق عليه، فإذا حييت تثاقل في رد التحية، وجعل يتكلف مصافحتي تكلفا حتى كأنما يضطلع بعبء ثقيل، بل لقد يبتدرني من القول بما أكره، فأنطلق من فوري مغضبا مغيظا، وأنا أستشعر اغتباطه بهذا واستراحته له!
ولقد يضمني به المجلس ومعنا من الصحب من يعرف أنني أحبهم وأوثرهم وأتقي غضبهم، فلا يزال يغريهم بي، ويغرس الحفظية علي في صدورهم بما يدعي علي من قول منكر قلته فيهم، أو سعي خبيث سعيته لكيدهم وإيصال الأذى إليهم، فإذا حاولت البراءة إليهم مما اتهمني، زاد في لجاجه، وألح في احتجاجه، وربما عزز قوله باليمين يرسلها غموسا غير متحرج ولا متأثم، ولقد يجيئني بمن يشهد الزور بين أيديهم علي ليبطل حجتي، ويحق التهمة علي؛ فيفسد بيني وبين صحبي.
ولقد يراني أنقد بعض السلع، فيأبى هو إلا أن يختار لي، لأنه أعرف بجيدها ورديئها، فلا يسعني إلا أن أنزل على رأيه راضيا أو كارها، فإذا تقدمت لمساومة البائع في الثمن، أسرع فدفعني وتولى هذا عني، فإذا خلصت بالسلعة، وعرضتها على أصحاب الخبرة، بان أنني قد اشتريت أردأ الأشياء بأغلى الأثمان!
ولقد يزين لي المخاطرة على سباق الخيل، ويؤكد لي في قوة وشدة ثقة، أنه يعلم علم اليقين أن الرابح في الشوط الأول هو الجواد الفلاني، وأن الرابح في الثاني هو الجواد الفلاني وهكذا، ولا يزال بي حتى يستخرج مني طوعا أو كرها من المال ما يثقل علي ويبهظني ليعقد لي رهانا على بضعة جياد معا (بارولي)، ممنيا نفسي بربح المئات من الدنانير، فإذا كان آخر النهار، لم يظهر جواد منها ولو تفقدته بألف منظار، وأعلم أنه خالفني في خطره هو إلى غيرها من الجياد، وإنما آثرني أنا بما خسرانه مكفول، والربح فيه ألبتة غير مأمول!
ولقد يعلم أنني هيأت لنفسي بعض المتاع أتفرج به وأسلي عن نفسي، فلا يفتأ يتنسم الأخبار، ويترسم الآثار، حتى إذا تم له الوقوف على كل شيء، جعل يعمل الحيلة، ويتوسل إلى إفساد الأمر بكل وسيلة، فيدس علي من يزعم أنه من قبل الصحب، وأنهم قد أجلوا جلستهم لطارئ طرأ، وحادث فجأ، ولقد يدسه عليهم على أنه رسولي إليهم ليبلغهم عني مثل ذلك، فإذا تعذر ذلك عليه، وكشفت لي ولصحبي حيلته، وظهرت دسيسته، استحدث لي من الأسباب ما ينغص عيشي، ويكدر صفوي، ويبدل سروري قلقا وغما!
وإنه ليعلم أنني أخاف ركوب السيارة فلا أتخذها إلا مضطرا، فإذا ركبتها تفرقت نفسي بين يديها لعلها تصدم أو لعلها تصدم، فتهشم أو تتهشم، وأن لساني لا يفتر عن سؤال السواق الهون والرفق في المسير طوال الطريق، وإنه كذلك ليعلم أنه ما من حدث من أحداث الدنيا يزعجني عن نومة الظهيرة، وخاصة في أيام الصيف، ومع هذا فلقد يقتحم علي غرفة نومي، وقد تعودت أن أنام وحدي، ويكون ذلك منه في بعض الساعة الثالثة بعد الظهر في يوم من أيام شهر يوليو مثلا، وإنه ليبعثني من نومي وما عللت منه ولا نهلت، فأهب منزعجا مبهوتا مكدودا لقس النفس موزع الفكر، فإذا بي أراه واقفا بسريري، فأسأله الخبر في روعة وفزع؛ فيسألني أن أسرع في وضع ثيابي لأننا مسافران من فورنا في السيارة إلى بورسعيد في أمر جلل لا يخبرني خبره إلا إذا بلغنا سالمين!
بورسعيد! بورسعيد! وفي هذه الساعة! وفي السيارة!
وإنه ليسرف في الإلحاح علي بدعوى شدة حاجته إلى أن أكون معه في هذه الطلبة، وإلا تأخرت حاجته العاجلة إذا لم يفسد الأمر كله، فإذا اعتللت عليه، وأظهرت شيئا من البرم بهذه الرحلة الشاقة الخطرة، أقبل علي في مثل صورة المتوسل يذكرني الود القديم والصحبة الطويلة، وهو وإن كان يتعفف عن أن يذكر سوابق يده عندي، ويتعالى عن أن يمتن بها ويتطول، فإنني في هذا المقام لأذكرها وحدي من غير حاجة إلى من يذكرني، ولا شك أن هذا أوقع في النفس وأبعث لداعية المروءة، وعلى هذا لا يسعني إلا مطاوعته، ولقد أتكلف الاغتباط بهذه الرحلة الجميلة!
ولقد يتفضل المولى جل وعلا فيصل في الأعمار حتى نبلغ مدينة الإسماعيلية ولم نكلم كلما، فاسترحنا فيها ساعة، ثم واصلنا المسير فصرنا على ذلك الصراط المتلوي المتأود الذي لا يطرد في استقامته عشرة أمتار سويا وقناة السويس عن أيماننا، والترعة الإسماعيلية عن شمائلنا، والسيارة تسلك ما بينهما مسلك الخيط من سم الإبرة، فإذا كنا على هذا أومأ إلى سائقه الجبار فأطلق للسيارة العنان ووخزها وخزا عنيفا، فطارت كل مطار، ما تخشى بأس الأرض ولا ترهب سطوة البحار، وليس على يميننا إلا غرق ، ولا على يسارنا إلا غرق، أما من قدام، فليس إلا الصدام والموت الزؤام، وللسيارة زفير وشهيق، وصهيل كصهيل الجواد العتيق، وإن بصري ليزيغ، وإن قلبي ليرقص في جوفي فأراه يغمز جنبي مرة، ويصك حنجرتي مرة، وإذا استطعت أن أجمع نفسي فسألته الرفق، أومأ إلى السائق ليزيد، إذا كان في قوة السيارة فضل لمزيد!
وأقول له ذات يوم، ونحن على هذه الحال: إذا كان بك أن تهلكني، وتعجل اليتم لبني، فما حاجتك إلى أن تهلك أنت وتعجل اليتم لبنيك؟ فأجابني من فوره بقول الشاعر، وقد أخذ التنمر والشهوة إلى افتراس العدو من خلفه كل مأخذ:
فاقتلوني ومالكا
واقتلوا مالكا معي
هذا يا سيدي بعض ما يلحقني من كيده وشره، وذلك بعض ما ينالني من عطفه وبره، أفلا خبرتني: أيكون هذا الرجل لي أعدى الأعداء، أم أصدق الأصدقاء؟
إنني في انتظار جوابك على مثل جمر الغضى، والسلام عليك ورحمة الله.
المخلص م ... «تحرير المصور» يظهر لي يا سيدي أنك رجل طيب بلغت من الطيبة غاية لا يستحب لك منها المزيد، أما صاحبك فيخيل إلي أنه ليس بالرجل المفطور على الشر، ولا بالذي يبتغي لك الأذى والكيد لاضطغان عليك، وعداوة يحملها لك، بل إنه لقد تشتد شهوته إلى مداعبتك، حتى بما قد يكون مظنة الخطر عليك وعليه معا، والشهوات - لو علمت - فنون، وإني لأكاد أقطع بأنه يحبك ويؤثرك، ولا تنس في النهاية أن الحب بلاء كما يقولون، أسأل الله لي ولك العافية.
عبد العزيز البشري
عبرة1
جلست ليلة أمس إلى بعض أصدقائي وجعلنا نسمر، فقص واحد منهم علينا القصة الآتية، قال:
كان لي صديق، وكان رحمه الله عذب الروح، سلس النفس، قوي العاطفة، متسعر الذكاء، حلو الحديث، حاضر الفكاهة، وكأنه قطعة ناضرة من الغبطة وحلاوة الأمل.
ولقد أحب الحياة وغلا في حبها، وأبغض الموت وأسرف في بغضه، وسبيل الموت في العادة هو المرض، فكان إذا ذكر المرض طار قلبه فرقا من ذكر الموت!
وكيف يتقي المرض ويتحامى أسبابه؟ لقد جاء بطبيب والتزمه بياض نهاره وسواد ليله، فلا يهب من فراشه إلا إذا أمره بالهبوب، ولا يطمئن إلى مضجعه إلا إذا أذنه بالاطمئنان، ولا يخرج من داره لطلبة أو لفرجة إلا إذا أشار عليه بالخروج، ولا يبدل ثوبه أو يحف لحيته أو يتروى بجرعة الماء إلا إذا أوحى إليه الطبيب، فإذا استويا إلى المائدة وقربت ألوان الطعام تحرم أو يقول له الطبيب أصب من هذا اللون وأقلل، ونل من هذا وأكثر، وبقي عليك لتسيغ هذه اللقمة ست مضغات، وبقي عليك لتزلق هذه المزعة
2
إحدى عشرة!
وجاء بكتب الحكمة، وطلب المجلات الطبية ما يخرج منها في العربية وما يخرج في الفرنسية، وجعل يديم النظر فيها والإكباب على تفهم مباحثها، وما قاله العلماء في اتقاء الأمراض وعلاجها، وما لوح به المستكشفون من إمكان التوصل إلى مدافعة الموت وإطالة الحياة، ولكنه لقد يصافح إنسانا وقد يمس آنية أو يلمس ثوبا، فسرعان ما يفزع إلى ألوان المطهرات: هذا يغسل به يديه، وهذا يضمخ
3
به ثوبه، وهذا للمضمضة، وهذا للاستنشاق!
ولكنه يتنفس ولا غناء له عن أن يتنفس، وقد يجر نفسه نسمة مؤذية بما تحمل من «المكروبات»، فهو دائب على تجرع الأدوية: هذا لتطهير الحلق، وهذا لتنقية الرئتين، وهذا لتنظيف المصران
4
الدقاق، وهذا لترويق الكبد والكليتين!
ولكن قلبه يضرب، ومن آية الحياة أن يضرب القلب، أفأمن بين ساعة وأختها أن تختل ضربات قلبه فتكون نفسه
5
في إحدى جمحاته؟ فتراه طوال يومه مكبا على كرسوع يسراه ببنان يمناه، و«ساعته» في حجره ليعد ما تدور عليه كل «دقيقة» من ضربات قلبه: لقد استوت سبعين فالحمد لله! لقد ازدادت إلى تسعين فوا حر قلباه! لقد تدلت إلى ستين، وذلك فتور وانخذال، لقد هبطت إلى سبع وخمسين، وذلك من نذر التلاشي والانحلال! الأطباء! الأطباء! علي «بكنصلتو» ينتظم فلانا وفلانا وفلانا من كبار الأطباء! ...
ويدور البحث والفحص والتقليب، والتسمع والجس والتحليل، فيخرج من هذا كله أن الأمر لا يعدو فتورا في أعضاء الجسم يذهب بفنجان قهوة أو بجرعة شاي!
وسرعان ما ينبعث في صاحبي نشاطه، وتعود إليه نضارته وفتاء قوته، وقد يستقبل حديث المرض هنيهة فيأخذ في حديث الناس، ويتبسط إلى الصحاب بالنادرة اللطيفة، ويحاضرهم بالملحة الطريفة، وما يزال هذا شأنه حتى يرميه بابه بزائر، فإذا سقط لسانه بأن فلانا قد مات، تربد وجهه، وتتعتع لسانه، وتزايل هيكله في مجلسه، وتاهت حدقتاه في محاجرهما، وشد نفسه شدا ثم تهافت بها على الزائر يسأله: وهل مرض فلان هذا وهل شكا؟ وماذا كانت علته؟ ومتى ابتدأت شكاته؟ وما الذي كان يظهر عليه من أعراض الداء؟ وهل كان يحس وجعا؟ وفي أي موضع كان يستشعر الألم؟ وما صفة الدواء الذي كان يتناوله؟ ومن الطبيب الذي كان يعالجه؟ وهل فحص عن قلبه؟ وهل كان يعد ضرباته؟ إلخ! ...
ثم إنك لتشعر أن قد نشبت في نفس المسكين معركة هائلة بين الرجاء في الحياة وتوقع الموت كما مات فلان هذا فيكون الفوز في صدر هذه المعركة للأول، إذ تراه قد شد متنه، وأقبل يحدثك في قوة وحماسة عن صحة قلبه وسلامة سائر جوارحه، وأن جمهرة الأطباء قد أكدوا له ذلك وأقاموا عليه أبلغ البراهين وأدمغ الحجج؛ حتى لقد صح لهم أن قلبه من السلامة بحيث لا يقع مثله إلا في كل ثلاثة آلاف قلب لا يسلم واحد على علة.
ثم تكون له فترة يقبل فيها على جس نبضه، ثم تراه قد دخل في الغشية ولحقه الذهول، فزاغت عيناه، وتقلصت شفتاه، وأرعشت يداه، وجعل يطفو ويرسب في كرسيه؛ وأومأ فتطاير الخدم يطلبون الأطباء من كل مكان!
وكذلك قضى العمر إلى غايته مشغولا عن متع الحياة ومطالب الحياة بشدة الحرص على الحياة!
وقد مرض حقا وألحت عليه العلة وأيس منه أساته، وجاءني أنه لا يعد يومين، فأسرعت إلى عيادته وأنا أرجو ألا يكون قد اطلع على حقيقة علته، فيموت قبل أن يموت!
وجلست إليه فإذا هو يفطن إلى خطبه، وهو يشعر بأنه لن يطوي على ظهر الأرض يوما حتى يطويه بطنها طيا، أفرأيته من الموت كان مذعورا منخلع القلب مستطار اللب؟
كلا والله! فإني لقد رأيته وهو يستقبل الموت هادئ السعي، وادع النفس، يتجمع ليتحدث في هذه الأسباب الدائرة بين الناس، حتى يخذله لسانه، وتتخلف عنه قواه، فيرخي جفنيه ويدخل في مثل السنة؛ ثم ينتبه وعلى شفته ابتسامة عذبة أعرفها له وهو في صدر الشباب، وقد يحاول أن يدور بلسانه في ملحة أو نادرة مستطرفة فيعيى عليه الكلام، فيحاول أن يتعلق إلى شأنه بشيء بين الضحك والابتسام، ثم يعود إلى إغفاءته في غبطة ودعة وارتياح.
وظل هذا شأنه حتى دخل في الحشرجة، وفارق هذه الدنيا ورحمه الله!
قال محدثنا: أفرأيتم كيف كان رفق الطبيعة بالإنسان؟
ليس من سبيل إلى توقي غير الدهر والعصمة من كوارثه؛ والناس - ما عاشوا في هذه الدنيا - أهداف للمصائب، وأعراض للنوائب، وهم أبدا مهتمون بها دائمو الجزع منها، وإنما يكون إشفاقهم من رزايا الدهر، وجزعهم على قدر قربهم منها أو بعدهم عنها، كذلك يتفاوت ما يتداخل نفوسهم من الوجد والفرق بتفاوتهم في قوة القلب، ومتانة الأعصاب، وثبات الإيمان.
وعلى كل حال، فإنه ما من مصيبة في الأرض إلا كان موقعها أهون وأخف من توقعها، وهذا - كما قلت - من رفق الطبيعة بالإنسان، وإن في حديث صاحبي الذي قصصته عليكم لعبرة.
فقال بعض الحضور: وعلى هذا صح المثل العامي القائل: «الوقع في البلاء ولا انتظاره!»
فبادره آخر بالمثل العربي: «الناس من خوف الذل في الذل».
وتمثل ثالث بقول كثير :
فقلت لها يا عز كل مصيبة
إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
وجعل رابع يردد قول الشاعر:
لا أستقيل زماني عثرة أبدا
ما شاء فليأت إن الشهد كالصاب
6
وتفرق عند هذا مجلس الإخوان، فعزمت لأسامرن به قراء «ليالي رمضان».
قصة1
حياء!
وفتى يشرب المدامة بالما
ل ويمشي يروم ما لا يرام
تركته الصهباء يرنو بعين
نام إنسانها وليست تنام
جن من شربة تعل بأخرى
وبكى حين ثار فيه المدام
كان لي صاحبا فأودى به الده
ر وفارقته عليه السلام
وحين أترجم لموضوع اليوم بكلمة «قصة» لا أعني الرواية ولا ما يشبه الرواية ؛ فإنني لا أشيع فيها خيالا، ولا أخترع لها أبطالا، ولا أخلق مفاجآت، ولا أبتكر مواقف، ولا أمد لها مغزى يصيب غرضا، ولا أعالج تحليل نفس أو فكرة، لأنني لا أجيد هذا الضرب من البيان ولا أحذقه، بل إنني لم أحاوله قط طول حياتي الكتابية، وإنما أقص حادثة وقعت بسمعي وبصري، فإن هي أصابت غرضا أو اتصل بها مغزى، فذلك من صنعها نفسها، لا فضل لي من ذلك في كثير ولا قليل.
كان لي صاحب شاب نشأ في الحسب، وتقلب في شيء من النعمة، وأصاب حظا من العلم، وكان يكلف كلفا شديدا بالأدب، فلا يخلو بنفسه إلا أكب على ديوان شعر لواحد من متقدمي الشعراء، فإذا سقط على كلام جيد رائع جعل يترنم به، وإذا وقع له في نثر النثار أو في خطب الخطباء كلام بليغ راح يشيع فيه نفسه ويقلب به لسانه، وكان رحمه الله إلى هذا عذب الروح، جم التواضع حاضر البديهة، حلو الحديث، ولكنه مع هذا كله كان شديد الحياء حتى لترى فيه خفر الفتاة الكعاب، يتحامى مجالس الناس ولا يتهافت عليها، فإذا قضت عليه الأسباب بأن يدخل في غمرهم عقد الحياء لسانه، وملك عليه بيانه.
وكان عصبي المزاج يثيره التافه من الأمر فيغضب، ولكن الغضب لا يصل من نفسه إلى أبعد من السطح، فهو كالغدير تثير صفحته العاصفة، ولكن باطنه كله سهل وادع رفيق.
ولقد جرى عليه القدر، فعلق فتاة يصل أهلها بأهله بعض السبب، وكانت حلوة نجلاء العينين، لها فم دقيق بديع، إذا افتر افتر عن مثل حب الغمام، أو عن عقد من الدر بديع النظام، مدملجة الجسم، ممشوقة القد، مشرقة الوجه، حتى لتحسب أن وجنتيها تجول فيهما الشمس، وكانت إلى هذا مرحة لعوبا تكاد من خفة الروح ومن شدة المراح تطير.
وهو يرتصد لها في مغداها ومراحها، ولربما استهلك في ذلك يومه الأطول، حتى إذا جازت به أسبل عينيه، أو لفت النظر إلى شيء آخر من الخجل والاستيحاء!
ولقد حدثني أنه جاز في رفقة من صحبه ببيتها صباح يوم، فإذا هي في ثياب التفضل تقطف من الحديقة أزهارا، فلما رأتهم توارت منهم في بعض الشجر، قال: فتشجعت وأرسلت نظري، فإذا غصن تتدلى منه وردة لم ير الراءون شبها لها في الزمان! •••
وأخذ فيه الهوى، وألحت عليه الصبابة، ولحقه من الوله عليها ما نقرأ مثله في الكتب فلا نصدقه.
ويشاء الله أن تدعو أهلها بعض أسبابهم إلى التحول عن القاهرة، فتحولوا وامتلخوا معهم قلب صاحبي المسكين، فكيف حيلته؟ وكيف له بتعليل ما يغمز على كبده من هوى وصبابة؟ لم يجد المسكين حيلة إلا أن يفزع إلى الشراب، فكان يصطبح
2
ويغتبق،
3
ويسكر ما تهيأ له السكر في الليل أو في النهار، فإذا زجره عن هذا زاجر، أو وعظه واعظ، تمثل بقول الشاعر:
فأصبحت ألحى السكر والسكر محسن
ألا رب إحسان علي ثقيل
وكان إذا جمعه المجلس، حتى المجلس الطلي الظريف، استوحش واستشعر الوحدة، فتسلل وانتبذ بنفسه ناحية ليأنس باستحضار هواه، فكان في هذا يذكرني قول الشاعر العربي يصف لبنته ما يجد من فراق أهله:
إذا عن ذكرهمو لم ينم
أبوك وأوحش في المجلس
ويذكرني قول الآخر (ولعله مجنون ليلى):
وأخرج من بين الجلوس لعلني
أحدث عنك النفس في السر خاليا
وإني لأستغشي وما بي نعسة
لعل خيالا منك يلقى خياليا
وقلت له مرة في ذلك، فقال: اسمع يا فلان! لقد خلصت حياتي كلها لها وتجردت نفسي فيها، وانقطعت حواسي إليها، وأصبحت هي جميع مادتي وعناصر وجودي؛ فكيف تريدني على ألا أشتغل بها أو أحتبس على التفكير فيها؟ والله يا فلان! إني لأراها طول يقظتي كما أراها طول نومي، فإنني ما رأيت درة قط إلا حسبت أنها انتزعت من ثغرها، ولا أبصرت مرآة قط إلا ظننت أنها استعيرت من صدرها، ولا طالعت وردة ناضرة إلا خلت أنها قطفت من خدها، ولا تمثل إلي غصن من البان إلا أحضرني صورة قدها، ولا سطع لي عبير إلا شعرت أنه من شذاها، ولا فصحني نور إلا قدرت أنه من إشراق محياها ، ولا سمعت شدو القمري إلا سمعتها تتكلم وتلغو، ولا طاف بي النسيم إلا تمثلتها تلعب وتلهو، ولا طلعت الشمس إلا رأيتها فيها، ولا استتم البدر إلا خلتها تعلو على الدنيا كبرا وتيها، وإني لأرفع بصري إلى السماء فأرى لها هودجا في موكب السحاب، وأخرج إلى الفلاة فإذا هي التي يترقرق بها السراب، فهي سعدي وهي نحسي، وهي نعيمي وهي بؤسي، وهي لذتي وألمي، وهي صحتي وسقمي، وهي نعمتي وبلائي، وهي حياتي وفنائي، ثم أقبل علي وقال لي في خوف وورع: فما حاجتكم إلى أن تقطعوا ما بيني وبين نفسي؟! •••
ولقد ظل صاحبي على شأنه قرابة عشر السنين، وانتهى إليه في بعضها أن الفتاة زفت إلى بعل، وكانت هنالك في ظنه عواثير تحول دون خطبتها له وتزويجها منه، فاجتمع عليه ألم الصبابة وألم الغيرة معا، واستوحش المسكين وآثر الوحدة، وألح على الشراب وأكثر من الخروج إلى الفلوات، ولعله لم يكن يطالع بكل مداخله إنسانا قدر ما كان يطالعني، ثقة منه بإيثاري له وفرط محبته، وكتمان مستوره، وكان رحمه الله إذا عرض الخاطر في هذا يتمثل بقول جميل:
أموت وألقى الله يا بثن لم أبح
بحبك والمستخبرون كثير
عشر سنين! وعشر سنين على مثل هذا كثير: رقة نفس، ودقة حس، وتسعر ذكاء، وغرام بالغ، وشدة وله، وانقطاع وطول مهاجرة، و«أرق دائم وحزن طويل»، ويأس فاره وأمل هزيل، والخمر! الخمر فوق ذلك، تهيج في نفسه وتعربد، وتسرف في عمره وتبدد، ورسل الموت تتوالى، ونذر الطب تتدارك وتتتالى، وماذا يعني صاحبنا من كل أولئك؟ أليس يعيش لها؟ فخير له أن يموت فيها!
ولقد ضربه المرض بذات الجنب، فما برح يرق وينحف، ويهزل ويضعف، ولكنه إذا تحدث عنها خلت أن أرماق نفسه قد تجمعت كلها في لسانه، فترى منه في ذاك أقوى القوة، وتشهد منه أفتى الفتوة؟
ويدعوني إليه ذات يوم، فوافقته، فإذا هو مشرق الوجه، مرح النفس، لولا المرض يثقله لما وسعته الدنيا طربا ومراحا، فأقبلت عليه بالهناء على مدخل العافية، وسألته الخبر ، فضحك ضحكة طويلة مزقها عليه السعال، فلما سكن وتطامن، قال: احزر؟ فقلت: لا أحزر إلا أن يكون جاءك خبر من عند صاحبتك فقال: إي والله، فلقد جاءتني جارية لها تقول لي: إن فلانة قد عادت إلى القاهرة واستقرت فيها، وهي تدعوك إلى زيارتها لتسألك في بعض شأنها، وإنها لفي انتظارك الآن لو تهيأ ذلك لك، وإلا ففي غد أو بعد غد، فخففت من فوري مع الجارية، ولقد والله وددت لو أستحيل في طريقي إليها حمامة، أو أنتفض نعامة، حتى أستمتع برؤيتها الوقت كله، فلا تزاحمني على هذا المتاع مسافة الطريق.
وتلقتني مرحة في جد وتوقر، وسلمت عليها في أدب وتحشم، واتخذت لها مقعدا لا هو بالقريب مني، ولا هو بالبعيد عني، وتحدثنا ساعة في مثل أحاديث الناس، وجعلت تقص علي بعض ما لقيت في تلك السنين، وهي لا تفتأ الفينة بعد الفينة تسألني عن شأني وما تغير بعدها من أسبابي، فأجر لها الجواب جرا، لأنني إنما كنت مشغولا عنها بها! ثم أفضت إلي بمسألتها، وزعمت لي أنها فكرت فلم تر لها مسعدا فيها غيري لما بين أهلينا من وثيق الصلة، إلا أن يكون علي في الأمر غضاضة أو أن تلحقني فيه مشقة، وأنا أحلف لها بكل مؤثمة من الأيمان أنه ليس هناك أية غضاضة ولا أية مشقة، وأنها في تحرجها جد مبالغة، ثم استأذنتها وانصرفت.
فقلت له: وهل منعك الحياء أيضا من أن تباديها بحبك؟ فقال: كلا! فلم يعد للحياء علي من سبيل؛ ولكنني كرهت أن أفعل لكيلا أتهم عندها وعند نفسي بأنني أقتضيها على مسعاتي لها أجرا، قلت: فماذا صنعت؟ قال: سعيت لها مسعى صغيرا رد الله به حقها عليها، ولقد تعاظمها الأمر فأرسلت إلي جاريتها تشكرني وتستزيرني، قلت: فماذا أنت صانع؟ قال: سأظل أياما أخر أتقلب على مثل جمر الغضى، وأعاني من الشوق واللوعة ما أعاني، حتى تتراخى الأيام بتلك المسألة؛ وحينئذ أزورها وأسكب بين يديها كل غرامي وولهي، فلم يبق في فضل لصبر ولا لكتمان، وودعته على أن يطالعني بما سيكون من أمره معها. •••
وفي أصيل يوم صافي الأديم، عليل النسيم، أرسل من يدعو بي إليه، فوافيته فإذا هو أنحل من الطيف، وأرق من سحابة الصيف، فما إن رأيته قط، وا حسرتاه، متداعيا متهدما كما رأيته في ذلك اليوم؛ على أنني رأيت في عينيه بريقا حديدا، وعلى شفتيه الذابلتين ابتسامة تشف عما وراءها من حرقة ألم، وشدة أسى وندم، فقلت له: ما لك؟ فقال: لقد زرتها اليوم ولم ألبثها، بل اقتحمت عليها، وجثوت بين يديها، وبثثتها ما أعاني فيها من الهوى، وما أجد من حرق اللوعة ومن برح الجوى، فعراها أول الأمر شيء من الذهول، وجعلت تدير في نظرا حائرا، وظلت على هذا برهة، فلما عادت إليها نفسها سألتني عن مبدأ هذا الحب وكيف نجم، فرحت أقص عليها حديثي من أوله إلى آخره، فجعلت تعجب لأمري في ذعر وندم، وتسألني: لماذا لم أصارحها بهواي كل هذا الزمان الطويل؟ ولماذا سمت نفسي كل هذا العذاب الأليم، والخطب لو قد باديتها بحبي، وعزمي على التقدم لخطبتها كان أيسر وأهون، لأنها لم يكن يعجزها أن تروض الصعاب، وتذلل العقاب،
4
واندفعت تبكي وتنشج، واندفعت أنا أبكي وأستعبر، حتى بلغنا من البكاء غايتنا، ولكل سائلة قرار، وأخذت بيدي وأجلستني إلى جانبها، وأنشأت تمسح ما انهل من الدموع على خدي، وتمر يدها لينة رفيقة على كتفي كأنها تدلل طفلا.
ثم أقبلت علي تعاتبني على أن أخرت مكاشفتها بهواي حتى تولى الصبا، وجفت أنوار الربى، وآذن البدر بالأفول، وأشرفت الوردة على الذبول، وأوشك أن يحزن
5
أملود
6
الإهاب، وأن يسكن ما كان يتحير في الخدود من ماء الشباب، أفكل هذا يصنع الحياء؟ ألا بعدا لهذا الحياء!
فقلت لها: دعيني من هذا، فوالله ما أراك الآن إلا كما كنت أراك فتاة مرحة لعوبا تثبين في حديقة بيتك، تجمعين الأزهار، وتارة تلاغين الأطيار، وهل تحسبين أن الأيام أبقت مني على عين تنظر جديدا، أو عاطفة يشبها حديث؟ إنما أنظر إليك بتلك العين، وأشب لك تلك العاطفة، وهما اللتان ادخرتهما للحياة من ذلك العهد البعيد، ولو كانت لي عين تنظر كما تنظر عيون الناس، وعاطفة تهب كما تهب عواطف الناس، ورأيتك اليوم أحلى وأنضر مما كنت، لانصرف حبي عنك، لأن هواي إنما يكون إلى غيرك، فهلم بنا نسافر معا إلى الماضي، تبعثين له حسنك، وأبعث له قلبي، فعلى هذا الماضي نعيش ما قدرت لنا الحياة.
ثم كانت زفرات تنفس بها الحشى، وترجم بها القلب عن كل ما أعيا على اللسان!
ولا أدري أأحبته من تلك الساعة كما أحبها دهره الأطول؟ أم أنها أسعدته بالبكاء رحمة به، وشفقة عليه؟! •••
وألحت العلة على صاحبي، وأثقلته في فراشه، فلم ير صاحبته بعدها أبدا، وكنت أعوده في كل يوم، فلما تراءت له المنية قال لي ذات يوم؛ أنت أصدق أصدقائي وأحفظهم لعهدي، وأكتمهم لسري، فهل لك في يد تسديها إلي؟ فقلت له: فدتك نفسي فمر، وأنا لك فيما دون الدين والعرض طائع، قال: فإني حين علقت فلانة وصدني الحياء عن مكاشفتها بهواي كنت أفيض بمذكرات أصف فيها بعض ما أجد لها من الصبابة، فهل لك أن تحفظها عندك ولا تنشرها للناس - إن نشرتها - إلا بعد أن ينطوي خبري وخبرها، ويمحى أثري وأثرها؛ فما أحب أن يعرف على الزمان غيرك من أنا ومن هي، فلنا من حكم العادة ومن حكم بيوتنا ما يكفنا عن هذا، فعاهدته على ذلك، فمد المسكين يده الريقية الناحلة، واستخرج من تحت الوسادة رزمة دفع بها إلي، بعد أن كرر الوصية تكرير الواثق لا المستريب.
وقضى بعد أيام، ولكم سالت لمصرعه كبود، ولكم لطمت في رزئه خدود، ولكم شقت عليه جيوب، ولكم تفطرت له قلوب! •••
وشخصت في ضحى يوم من الأيام إلى قبر صديقي لأزوره، فإذا عليه ورد ناضر وريحان جنى، فسألت سادن القبور عمن جاء بهذا؟ فقال لي: إن سيدة تنتاب هذا القبر حينا بعد حين، فتنثر عليه الرياحين والزهور، وتظل ساعة تبكي حتى تستعير ثم تنصرف، فسألته أن يصفها لي، فعرفت أنها صاحبته؛ رحمة الله عليهما جميعا .
أولادنا!1
تسألني يا سيدي في كتابك أن أصف لك حب الولد، وما مبلغه، ومن أي نحو هو، وهل يستوي فيه صغارهم صغارهم وكبارهم، وذكورهم وإناثهم؟ وهل صدق ذلك الذي قيل له: أي بنيك أحب إليك؟ فقال: صغيرهم حتى يكبر، وغائبهم حتى يحضر، ومريضهم حتى يبرأ؟
وترى هل تختلف محبة الولد باختلافهم في الصفات من الجمال والقبح، والنجابة والغباء، وحسن الخلق وسوء الطبع، والنشاط والكسل، والنجاح والخيبة؛ ونحو ذلك مما تختلف فيه الصفات وتتغاير الطباع؟
وتسألني يا سيدي أن أوضح لك شيئا تبهم عليك في أمر الولد: ذلك بأن حبهم لا شك فيه؛ بل إن هذا الحب من الأشياء الموصولة بالطبع والغريزة، ومع هذا فإنك لترى أكثر الآباء إن لم ترهم جميعا يتمنون لو أنهم لم يكونوا قد رزقوا أولادا! فكيف يستقيم الجمع بين هذا الحب كله للولد، وبين هذا الضيق كله بالولد؟ أليس من أعجب العجب أن يضيق الإنسان بأحب الأشياء إليه، ويبرم بأشد ما يكلف به في الدنيا، ويتمنى أن لو لم يكن بعد ما قد كان؟
ثم تعود فتلح علي في أن أصور لك هذا اللون من الحب تصويرا صادقا واضحا حتى تشعر بأن لك أولادا تحس حبهم وتتذوقه كما يحسه ويتذوقه الآباء! •••
أما بعد، فلقد سألتني شططا وجشمتني عسيرا، بل ما أراك تجشمني من الأمر إلا محالا! فكيف لي بأن أصف لك ما لم يقع قط عليه حسك، وأن أجلو على نفسك من ألوان العواطف ما لا صلة لها به ولا سبب، وإن مثلك في هذا لكمثل من يستوصف طعم الكمثرى، أو لون البنفسج، أو نغمة العراق، أو رائحة الياسمين؛ ليدركها إدراك من قد طعم أو رأي أو شم أو سمع! اللهم إن هذا الذي تجشمني يا سيدي ليس في طوقي ولا في طوق اللغة؛ فإن هذه المعاني التي لا تدرك إلا بالحس، لا يمكن أن يغني في تذوقها الوصف!
بل إنني وإياك لقد نشترك في الشعور بمعنى من هذه المعاني، ولقد تترقرق في نفوسنا بإزائه عاطفة واحدة، ومع ذلك يعيي علينا كلينا البيان في جلوها والترجمة عنها، فإذا بدا لأحدنا في أي وقت أن يذكرها لصاحبه لم يزد على أن يشير إليه بأن يبعثها في نفسه ويستحضرها استحضارا، وتلك لغة الإحساس.
اللهم إن جهد اللغة في هذا الباب أن تقرب هذه المعاني، لمن لم يسبق له أن يحسها ويلابسها، بفنون التشبيه والتمثيل: كأنه يقال: إن طعم كذا شبيه بطعم كذا، أو إنه بين الحلو والحامض مثلا، وإن عبير هذه الزهرة شبيه بعبير ذلك النوع من الزهر لولا أنه أشد أو ألطف مثلا، وكل ما يمكن أن يعطي هذا - مهما يعل بيان الواصف ومهما يدق وينفذ - إنما هو صورة تقريبية، أما أن ينفضه بالبيان على الحس حتى كأنما يذاق حقا فذلك مما يوصل بالمحال!
وأنت ترى أنه لا سبيل حتى إلى جلو هذه الصورة التقريبية الناقصة لشيء من هذه المعاني إلا بردها إلى شيء سبق أن وقع عليه الحس ولابسه الشعور. •••
على هذا سأتحدث إليك يا سيدي، عن حب الولد، سأتحدث إليك وأنا واثق أتم الثقة بأنني عاجز أشد العجز عن أن أنفض عليك كثيرا من هذا الشعور الذي تنطف به كبدي، فيشيع في جميع نفسي، ولقد تعلم أن كلمة الحب تنطوي على ألوان من الحس كثيرة قد تقترب اقترابا شديدا، وقد تفترق افتراقا شديدا، ومهما يكن من هذا الافتراق وذلك الاقتراب، فإن للحب في كل موضوع كيفا خاصا وشعورا مستقلا لا يشركه فيه سواه، فللحياة حب، وللجمال حب، وللذات حب، وهكذا، على أنك تحس لهذا الضرب من الجمال غير ما تحسه لذلك الضرب من الجمال، وتشعر لهذا اللون من اللذة غير ما تشعر لذلك اللون، إذن فاعلم أن حب الولد غير أولئك جميعا.
حب الولد غير حب الزوج، وغير حب الوالدين، وغير حب الإخوة وأبنائهم؛ هو حب له طعم لا تذوقه في شيء من كل أولئك، هو مزج من الرحمة والحنان، ومن السعادة والجمال، ومن الطرب والشجى، ومن الطمأنينة والقلق، ومن الأثرة والإيثار، ومن الخوف والرجاء ، هو مزج من هذا كله مختلط، يموج بعضه في بعض، فيخرج له ذلك الطعم الخاص الذي لا يكون إلا بمجموع هذه المعاني، وإن كان أظهر عناصره الرحمة والحنان.
لعلك يا سيدي قرأت قول الشاعر العربي:
وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
لعلك قرأت هذا البيت مرة ومرة، ولو قد قرأته ألف مرة ما خرج لنفسك منه شيء مما يحس له صاحب الأولاد!
نعم، هؤلاء هم أكبادنا، ما غابوا عنا إلا شعرنا بنقص في نفوسنا، بل بأحسن ما في نفوسنا، حتى يردوا علينا؛ بل إنه ما اجتمع بهم شملنا إلا شعرنا بأنهم قطع قد فصلت عن نفوسنا، ولو قد تهيأ لنا أن نحسوها حسوا لنملأ بها هذا الفراغ الذي نحسه فيها لفعلنا!
ابني معناه أنا، ولست أريد «بأنا» كلي، بل إنما أريد به عصارة ما في من عطف ورحمة، وأمل وشعور بأسعد السعادة وأجمل الجمال! ليس لحم ابني ولا دمه وعظمه إلا هيكلا لكل هذا، بلى ليس إلا رمزا بل ليس إلا هذه المعاني قد تجسدت فسويت على صورة الإنسان، بل إني أكاد لا أراه إلا تلك المعاني مترقرقة لم تمسكها صورة الإنسان! •••
هذا ولدي الصغير يلعب بين يدي، فسرعان ما أنسى سني وأطرح كل همي، بل سرعان ما أخرج عن نفسي، فلا أراني إلا قد رددت طفلا يتمثل في خلقه، فأنا الذي يلعب ويعبث، وأنا الذي يسر ويغتبط بهذا اللعب والعبث، حتى إذا تعرض لمكروه في بعض جريه ووثبه، ودفعه وجذبه، ثبت إلى نفسي فكففت المكروه عنه، ثم رددت من فوري إلى ما كنت فيه!
وإذا كان قد جاءك أن أعظم العظماء في هذا العالم قد خرجوا في ملاعبة أبنائهم عما ينبغي لهم من الجد والتوقر؛ بل لقد يبلغون في هذا أشد ما يبلغ الصبيان من ألوان العبث، فاعلم أنهم لا يتكلفون هذا تكلفا لمجرد إدخال السرور عليهم؛ بل إنهم لكثيرا ما يرون أنفسهم في بنيهم فيستشعرون هذه الحداثة، ولا يجدون حرجا من أن يصنعوا ما يصنع الأحداث؛ بل إنهم ليجدون في هذا لذة لا تعدلها لذة، ومراحا دونه كل مراح!
وإذا كان قد جاءك أن أعظم العظماء في هذا العالم قد اتخذوا من أنفسهم مطايا لصغارهم، فأركبوهم ظهورهم، لا يرون بهذا بأسا ولا يجدون فيه حرجا، فاعلم أنهم، وقد عجزوا عن أن يردوا كبودهم إلى مواضعها بين ضلوعهم، سواء عليهم أوضعوها على الصدور أم وضعوها على الظهور!
ولقد ترى الرجل يؤثر ولده على نفسه بالحلوى والفاكهة مثلا، فلا تظنن أنه إنما يفعل هذا لمجرد تفكيهه وتلذيذه؛ بل إن نفسه هو لتتذوقها بهذا أحلى متذوق، وتسيغها أحسن مساغ، بما لا يقاس به احتلابها بالشفاه، وتقليبها في الأفواه. •••
ها أنا ذا أقبل ولدي، وإني لأجد لقبلته من اللذة ما لا أجده لشيء من لذائذ الدنيا، هي لذة فيها شدة وفيها رفق، وفيها عنف وفيها لين، وفيها حر وفيها برد، وفيها وراء ذلك حلاوة لا يتعلق بها وصف الواصفين، أرأيت هذا الذي ألح عليه الظمأ في اليوم القائظ حتى استحال الظمأ في حلقه أوارا، ثم أقبل على الشبم الزلال فجعل يعب منه عبا حتى ينقع غلته نقعا؟ اللهم إني لأجد في تقبيل ولدي أشد من هذا وأحلى وأروح، لولا أن اللذة فيه لا تنقضي، والغلة إليه لا تنقع، على كثرة العب وعلى توالي الرشيف!
وإذا كان الماء يروي أوار الجسم، فإن هذه القبلة إنما تروي أوار النفس، وشتان بين هذا وهذا في مذهب الشعور!
هذه قبلة تتظاهر الحواس كلها على إصابتها وإدراكها، وتتجمع النفس من جميع أقطارها لتشهدها وتلتذ بها، فلا يبقى شيء منها غائبا عنها ولا مخطئا لها؛ حتى لتشعرن بأن هذه النفس تتقطر كلها على وجهه، ولا يبقى منها إلا رمق هو الذي يشعرك ما أنت فيه من اللذة ومن النعيم!
وإنني لأسمع صوت ولدي الصغير في لغوه أو في كلامه أو في ضحكه، فيشيع في من الطرب ما لا يشيع أندى الأصوات، ولا نغم عود في يد أحذق الضاربين! بل إني لأجد منه ما يجد الشجر إذا نزل عليه الماء فاهتز العود وضحك الزهر!
ولقد تخبث نفسي بما يشب فيها من الغيظ والاضطغان، حتى أحسها تكاد تتمزق تمزقا، فما إن أرى ولدي وأنا على هذه الحال إلا رأيتها قد تطامنت وسمحت حتى توشك أن تصير نارها إلى خمود!
وإن أشد الناس جبنا وفرقا ليرى ولده في خطر أو مستهدفا لخطر، فلا تراه إلا ينصب لاستنقاذه انصبابا ما يبالي ما يصيبه، بل ما يبالي أهلك معه أم هلك دونه! •••
وهذا ولدي يمرض، فهذه كبدي تسيل مسالا، وها أنا ذا أجن ولكنني لا أغفل عن المكروه غفلة المجانين، ولا أجد ما يجدون من رضى بحالهم وارتياح، وهذا حسي يضطرب اضطرابا شديدا بين الرحمة والألم، والحنان والخوف، والإشفاق والجزع، وإن وراء هذا كله لشيئا هائلا بشعا يتراءى لي شبحه من بعيد، فأغمض عيني دونه حتى لا أراه ولا أتبينه، بل إني إذا خلوت إلى نفسي لأطلبه وأتفقده، فإذا تمثل لي بكيت حتى استعبرت، فأجد لهذا البكاء راحة مما يغمز على كبدي ويحرق صدري تحريقا، بل إني لأتمنى على الله أن ينقل ما به إلي، فإذا كان ثمة حدث لا بد من أن يجري به القدر، وددت جاهدا مخلصا لو أنني أكون أسبق الاثنين.
وإني لأذكر في هذا المقام أنني احتسبت ولدا لي كان وحيدا، فجن جنوني، وفعل بي الأسى الأفاعيل، وقد انتهى إلى أبي رحمة الله عليه بعض ما أصنع أو بعض ما يصنع الوجد بي، فدعا بي وقال لي: بلغني أن الجزع قد بلغ منك إلى أنك تفعل كيت وكيت، أفلا آثرت الاحتمال وتجملت بالصبر على هذا كما احتملت أنا وكما صبرت؟ فسكت لأنني لم أصب قولا أقوله، فأقبل علي رحمه الله وأخذ يدي كلتيهما في يديه، وقال: اسمع يا ولدي، إذا كنت قد حزنت لموت فلان مرة فلقد حزنت لموته مرتين! فرفعت وجهي إليه وقلت له في شيء من الدعة والرفق يخالطهما كثير من الدهش: وكيف هذا؟ فقال في لوعة شعرت بما يعانى في مجاهدتها: لأنه إذا كان ابنك مرة فإنه ابني مرتين! ورأيت الدمع يترقرق في عينيه ولكنه لا يأذن له في أن يتجاوز المحجرين، ووالله لقد سرى هذا الكلام عني كثيرا إذ قد علمت أنني في هذه المصيبة صاحب أضعف السهمين!
وإن تعجب لشيء فاعجب لهذا الإنسان الأثر الشديد الأثرة، الحريص على الحياة أبلغ الحرص، والكلف بها أشد الكلف، والذي يود لو يمتد عمره إلى ما وراء أعمار الناس جميعا، هذا الإنسان يفرق أشد الفرق من أن يتقدمه إلى الفناء ولده، وإن اللذة كلها والسعادة جميعها لتتمثل له في تصوره أن ولده سيعلله إذا شكا، ويقلبه إذا مرض، ويغمض جفنيه إذا مات، ويسوي عليه التراب بعد أن يفضى به إلى لحده! •••
ثم إنك تسألني: أيكون حظ الأبناء من حب أبيهم واحدا، وأنهم كلهم فيه بمنزلة سواء أم أنه يختلف باختلافهم بالصغر والكبر، والذكورة والأنوثة، فاعلم يا سيدي، أنك على إغراقك في حب أبنائك جميعا، وشمولهم بلون من الحب لا يشركه في مذاقه سواه، فإنك واجد لحب كل منهم كذلك شعورا خاصا لا يشركه فيه غيره ولا يزاحمه عليه سواه، فحبهم أشبه بالجنس عند أصحاب المنطق تحته أنواع، وإنك لتصيب من التفاح ومن الكمثرى ومن العنب والتين وغيرها من ألوان الفاكهة فتلتذها كلها فكلها حلو لذيذ؛ على أن ما تجده لهذا من الطعم غير ما تجده لذاك، ولله شوقي بك رحمة الله عليه حين يقول في وصف الخمر:
حمراء أو صفراء، إن كريمها
كالغيد، كل مليحة بمذاق
والواقع أن الإنسان لو قد حد حسه، وأرهف شعوره، وراح يتدسس في أعماق ضميره ليتفقد حقيقة هذا الاختلاف، ويتعرف وجهه، لرأى أن مادة هذا الحب واحدة وجوهره غير مختلف، ولكن سن كل ولد، وظروفه وأسبابه وجنسه تتناول صورة حبه بالتشكيل والتلوين.
ولقد زعمت لك في بعض هذا الكلام أن حب الولد مزج من عواطف كثيرة أسطعها الرحمة والحنان، فإذا كان الوليد في المهد فإنك لا تكاد تجد له إلا هاتين العاطفتين، فإذا تقدمت به الأيام حتى درج وجعل ينطق ببعض اللفظ ، أضيف إلى هاتين شيء من الأنس به والطرب له، فإذا تقدمت به الأيام فجعل يثب ويلعب، ويقلد في بعض الأقوال، ازداد بك هذا الأنس وهذا الطرب، وأحسست إلى ذلك جديدا، هو أن هذا الغلام يشغل من لهوك صدرا عظيما ما لك منه بد ولا لك عنه غناء، فإذا تقدمت به السنون حتى استوى للتربية والتعليم، دخل على كل أولئك شيء من الإيثار له بإجماله بالطاعة والنجابة وحسن الأدب مع الناس، وشيء من التأميل الرفيق في أن يكون في مستقبل شأنه من الناجحين، وكلما اطردت به السن ربت هذه العاطفة له واشتدت حتى تكاد تغمر سائر ما تجد له من الأحاسيس، فإذا اغترب أو مرض أو أصابه مكروه من المكروه، عادت تانك الخلتان إلى سطوعهما حتى لا يكاد يشعر له إلا بالرحمة والحنان، لأن شأنه في ذلك أولى بالرحمة والحنان!
أرجو أن تكون قد فهمت الآن حق الفهم الوجه في قول ذلك الذي زعم أن أحب بنيه إليه صغيرهم حتى يكبر، وغائبهم حتى يحضر، ومريضهم حتى يبرأ، ولعلك كذلك تكون قد استخرجت من كلامي أن أسطع العناصر في حب البنات إنما هو الرحمة والعطف والإشفاق، لأنهن ضعيفات ما لهن بعراك الأيام يدان. •••
ثم إنك تسألني: أيختلف حب الولد باختلافهم في الصفات من الجمال والقبح، والنجابة والغباء، وحسن الأدب وسوء الخلق، والنشاط والكسل، والنجاح والخيبة، وغير ذلك من الصفات.
لعله قد وقع لك يا سيدي في بعض ما تقرأ جواب ذلك الأعرابي الذي قيل له: ما بلغ من حبك لفلانة؟ فقال: «والله إني لأرى القمر على جدارها أحسن منه على جدران الناس!»
لقد ترى أن هذا الأعرابي كذب أشد الكذب، لأن القمر على جدار صاحبته كالقمر على جدران سائر الناس، ولقد تراه صادقا أتم الصدق لأنه يرى القمر على جدار صاحبته أحسن منه على جدران سائر الناس، وكذلك الولد فإنك لا تكاد ترى فيهم إلا جميلا، أو على الأقل إنك لا تكاد تلمح عيوبهم سواء أكانت خلقية أم نفسية إلا بعد شيء من التأمل والتفكير، أما ما دمت ترسل النظر فيهم عفوا بلا تعمل، فإنهم عندك أحسن الأولاد، ذلك بأنك إنما تنظر إلى كبدك، أو على الصحيح إنما تنظر إلى نفسك، وأنت خبير بأن المرء قل أن يتفطن إلى عيوبه، ولو قد تفطن إلى شيء منها فإن أمره لا يتعاظمه كما يتعاظمه مثله في غيره من الناس، وكذلك ترى الرجل لا ينكر من بنيه بعض ما ينكر من غيرهم من الأبناء، إذ كان يقدر هؤلاء بالعقل والفكر، أما أولاده فإنما يقدرهم بالعاطفة والهوى، ما يكاد يلابسهما تفكير ولا تدبير.
نعم، لقد يكون في الولد عيب خلقي واضح، ولقد يصاب بالآفة من شأنها أن تثقله عن السعي في الحياة، ولقد يبلغ من انحراف الطبع وفساد الخلق وسوء الأدب أقصى الغايات والعياذ بالله، فإن موقع ذلك من نفس أبيه، وحظه من التقدير عنده، أضعف من قدره في الواقع ومن قدره عند الناس، وإن ذلك ليسوءه بالضرورة، وقد يكدر عليه عيشه، وقد يهيجه ويثير على الولد سخطه، قد يبلغ ذلك به كل هذا، ولكنه لا يحط من حبه لولده وإيثاره له على أي حال، بل إن ذلك منه لدليل على هذا الحب والإيثار، فما ساءه ولا كدر عيشه ولا أحنقه ولا أسخطه إلا الرحمة له، والشفقة به، والأسى على أنه لم يكن من أسعد الناس أو أنه لا يكون أسعد الناس.
بل إن الوالد لقد يتمنى الموت لولده في بعض الحين، لا بغضا له ولا اضطغانا عليه، ولكن رحمة به وشفقة مما يجني عليه سوء أخلاقه، حيث لا رجاء فيه لخير ولا لصلاح؛ فشأنه في هذا شأن من تضرب العلة أعز الناس عنده وأكرمهم عليه، العلة المعنية الشديدة الإلحاح بآلامها وبرحها، والتي لا يعرف الطب لها شفاء، ولا منها نجاء، وإنه ليتعجل له الموت رقة له وإيثارا له بالاستراحة مما يعاني من هذا العذاب الشديد، على حين أنه أشد الناس لموته جزعا، وأعظمهم منه ورعا وإشفاقا! •••
وأخيرا أراك تسألني: كيف يستقيم الجمع بين حب الولد إلى هذا الحد وتمني أكثر الناس لو لم يكن الولد بعد أن قد كان؟
ولست أشك يا سيدي، في أنك إذ كنت تصوغ هذا السؤال قد قدرت الفرق الواسع بين تمني أن لو لم يكن الولد، وتمني هلكه بعد أن قد كان، فاعلم إذن أنه ما يشبه لهذه المنية إلا غلوه في حبه، والرقة له، والشفقة به مما يلقى أو مما عسى أن يلقى في هذه الحياة من علل وأسقام، ومن برح ومن آلام، على أنه وقد خرج إلى الدنيا فلا يكون له من أبيه إلا ما جلوت عليك بعضه في هذا الحديث، فلقد تعاصى علي أجله. •••
وبعد، فما أراني بعد هذا كله بلغتك ما تحب ولا جليلا مما تحب، بل إني لأخشى ألا أكون قد بلغتك شيئا أبدا! على أنني أدلك على من يستطيع أن يصف لك ما استوصفت في أوضح صورة وأدق تعبير، حتى يتهيأ لك أن تتذوق حب الولد في جميع صوره وأشكاله، وليس يجشمك طلب هذا إلا أن تسرع فتبني
2
عسى أن ترزق أولادا، فهؤلاء الأولاد وحدهم هم الذين يستطيعون أن يجيبوك إلى ما سألت أبرع إجابة، ويصوروا لك هذا الحب أصدق تصوير!
الطفل ملك صغير
بل هو ملك كبير، بل هو أعظم الملوك شأنا، وأقواهم سلطانا، مملكته منيعة لا تقلقها جارة، ولا يزعجها عدو بغارة، وهو مطلق الأمر في حكمه لا يقيده قيد ، ولا يحد من سلطانه حد، ولا تشركه في تصريف الأمر يد، ولا يقوم بإزاء أيده قوة ولا أيد،
1
نافذ حكمه كيف حكم، متقبل قضاؤه مهما ظلم، لا معقب لمراده، ولا مراجع له في إصداره ولا إيراده، يأمر فلا يرى إلا مطيعا، ما يجشم في أمره قولا ولا توقيعا، ففي إشارته الكفاية، وبالإيماءة يبلغ الغاية، فإذا هو تكبر على الإشارة، وتعالى على الإيماءة، أسرعت الرعية
2
إلى تفقد مبتغاه، وتحسس معناه،
3
ثم بادرت بالتلبية طيبة النفس، فرحة القلب، قريرة العين! •••
كل شيء له، وكل ما وقعت عليه عينه فهو داخل في ملكه، ما يحوز أحد دونه شيئا، ولا يملك أمر عليه أمرا، وإذا أمر فقد وجبت الطاعة، في التو والساعة، مهما جل المرام، وتعذر حتى على الرؤى والأحلام، أين منه سليمان في مرامه، وقد تعاظمه انتظار عرش بلقيس قبل أن يقوم من مقامه؟!
ناعم في ملكه غير معنى بجهد في تدبير، ولا مكدود بعبء كبير ولا صغير. •••
هو كأهل الجنة، لا يخاف وناهيك بما يورث الخوف من الأسقام.
ولا يرجو وناهيك بما يعقب فوت الرجاء من الآلام، ولا يحزن ولا يأسى، ولا يجزع ولا يشقى، وما له يفعل وقد كفل الأمان، من صرف الزمان؟!
هو دائما في أمان أي أمان، أليست ترعاه العيون، وتحوطه القلوب، ويحرسه «اسم الله»؟ ومن يحرسه اسم الله لا يناله بالأذى إنس ولا جان. •••
يفعل ما يشاء، فلا يرقى إليه حساب، ولا يتأثم من شيء فهل يلحقه عاب؟ كلا فقد عز على الشك وعلا على الارتياب! •••
يسر فتسر الدنيا، ويمرح فتمرح، كل شيء رهن به، وكل شيء حبس عليه، ينام فتخفت الأصوات، وتتعلق الأنفاس، ويستيقظ فيهب النائم، وينبعث الجاثم، فكل إنسان له عبد وكل شيء له خادم! •••
وجهه ولو شاه أجمل وجه، وخلقه وإن تنكر أحسن خلق، طلعته أبهى من البدر، وريحه أزكى من العطر، وإقباله أسعد من إقبال الدهر، كأنما صور من نفس من ينظر إليه، وكأنما صب من قلب من يحنو عليه، وأي الناس لا يحنو عليه؟
أما صوته في لغوه، فأحلى من صوت الهزار في زجله وشدوه، إذا تبسم فكأنما أشرق من الروضة آسها، وإذا لغا فكأنما ترنم من الحلي وسواسها. •••
هو نفسه للرعية، أعظم متاع وأكبر أمنية، محبب أحسن أم أساء، وهو معقد الرجاء أنى ذهب وأنى جاء.
هو ملك كبير، أما عرشه فأحنى الصدور، وأما سريره فأوثر الحجور، وأما سماطه فممدود، على القلوب تارة وتارة على الكبود، وأما في مراحه ومغداه، فأعز المطايا مطاياه، وتلك لعمري كرامة خصه بها الله!
وأما غذاؤه فأصفى ما انتضحت به المهج،
4
ولو كانت النفوس مما يمكن أن يرضع أفاويق ، والأرواح مما يستطاع أن يجري فراتا في مساغ الريق، لآثرته بذاك الرعية، طيبة النفس صادقة الأريحية! •••
أسعدك الله أيها الطفل وأصحك ورشدك، حتى تضطلع بنصيبك من الأعباء، كما اضطلع بعبئك أنت الأمهات والآباء، ما سألوك فيه أجرا، ولا اقتضوك عليه شكرا، اللهم آمين.
الطفل الشريد1
وجه مغبر شائه كأنه معفور بتراب قبر، وصدغان غائران كأنهما من أثر خسف، ووجنتان ناتئتان حتى أمستا كركبتي بعير، وقد لصق جلده بعظمه، حتى لا يقوى قبره على قشره، إلى يوم نشره، وهاتان عينان دائمتا التحير والاضطراب، تتناهبان النظر من كل ناحية، ولو استطاعتا أن تنظرا إلى الأقطار الستة معا في آن، لفعلتا على طول الزمان!
هذه رجل حافية، وهذه أسمال
2
بالية، تفرقت فتوقا وخروقا، وتفصلت مزوقا وشقوقا، تكشف من البدن أكثر مما تداري، وتفضح من السوأة أعظم مما تواري، على أن القذر قد أضفى عليه رداء محكم النسج متلاحم الأجزاء، وناهيك برداء القذر من رداء!
ليت شعري، أهذا شبح من أشباح الظلام، أم هو طيف من أطياف الأحلام؛ تنكرها الأيدي وإن تراءت للعيون، وتريك ما لا تظن أن يكون كيف يكون!
ها هو ذا يثب من ها هنا، ويقفز من ها هنا، لا يقر له على الأرض قرار، كأنما هو كرة تتقاذفها الأقدار، سواد الليل وبياض النهار!
ها هو ذا دائم الاختلاج عن يمينك وعن شمالك، حتى يشتت شمل طرفك، ثم إذا هو قد امحى كيف تمحي الأشباح، إذا أشرقت شمس الصباح.
ها هو ذا يرتصد للكسرة بين يديك إن كنت آكلا، ولعقب «السيجارة» تلقيه إن كنت مدخنا، وقد يأخذ عينه لقى
3
من فضالة الطعام خسيس، قد يعافه الغراب، وتعف عنه الكلاب، فإذا هو قد ارتج ارتجاجا، وكان يسيل اضطرابا واختلاجا، وجعل بصره يدور في كل ناحية، مترقبا سطوة القدر بكل داهية، ثم انقض على فريسته انقضاض العقاب، وطار بها حتى اختفى في السحاب!
هو دائم الخوف، متصل الفزع، يخاف من كل شيء، ويفزع حتى من لا شيء، يتوقع الأذى من كل إنسان، ويترقب البطش به أنى كان، كل ما في هذه الدنيا ساهر على إيذائه، جاهد في كيده وبلائه، فكيف له في هذه الدنيا بالقرار، وهل أمسى له من الأذى معاذ إلا بطول الفرار؟ حقا لقد باتت حاله شرا من حال من عنى الشاعر:
وضاقت الأرض حتى إن هاربهم
إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
ولكن أين المفر، وهو لا يفلت من ترقب شر، إلا إلى توقع ضر؟!
ثم إن طول جهد النهار ليسأله المضجع في بعض الليل، وقد يكون الليلة زمهريرا، فيجري ثم يجري وهو خائف يترقب، حتى يلوح لعينه مرقد في كنف جدار على ضاحية
4
الطريق، فإذا أمن رقبة العيون المذكاة
5
عليه من كل جانب، تسلل فأوى، ويا بئس المأوى، وترى هل يواتيه بعد هذا الجهد نوم إذا لم يزعجه عنه العسس،
6
أزعجه خوف العسس؟ ثم انتفض في السحرة ما أحس قرارا، ولا نام إلا غرارا!
7
لا «يذوق» النوم إلا غرارا
مثل حسو الطير ماء الثماد
لقد حرم المسكين عطف الأب وحنان الأم، كما حرم رفد الخال وعون العم، ولم يجد ما يعوضه عن شيء من ذلك ولو بمزقة من رحمة الرحماء؛ بل ما أصاب من الناس إلا بلاء وتوقع بلاء، فهل تظن أن مثل هذا يجد لإنسان رحمة أو يحس لشيء رقة وحنانا؟ اللهم إنها لكبد قد تحجرت فما تطرقها رحمة، وإنه لقلب يغلي غليان القدر من حقد ومن اضطغان، ولو قد صانعه القدر فاستطاع أن ينفث ما في صدره، لاستحالت هذه الأرض فحمة سوداء!
ثم إنه لا يميز حلالا من حرام، ولا يفرق بين طريق الخير وطريق الإجرام، كل شيء مباح، لا يصد عنه إلا بطش الظلمة السلطاء!
ولقد يصكه على أم رأسه من لداته
8
أو من غيرهم من هو أشد منه قوة، وقد يركله في بطنه، وقد يناله من هذا أو من هذا أذى كبير لعله يبلغ في بعض الحين حد التلف، فلا يشكو ولا يستعدي، لأن هذا حق الأقوياء على الضعفاء! •••
ها هو ذا يسعل سعالا رفيقا مسمعه ، لينا موقعه، لو أرهفت له الأذن لخرج لك منه نغم حزين يخز الحشا، ويخد الكبد خدا.
الله أكبر! لقد أقبل وشيكا مقوض الرئات، وسفير الممات!
فيا معشر القادرين الأقوياء، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء!
إلى أين؟ إلى أين؟1 ألا من قرار؟! ...
لست أدري لعمري: فيم أنا الآن؟ تالله ما أراني في شيء أبدا لأنني لا أشعر بأنني مجتمع الشمل بهذا «الآن»! ولا أراني شعرت بهذا قط في طول الحياة!
ما اطلعت على ساعة من ساع الزمن إلا رأيتني مشغولا عنها بالانحدار إلى التي تليها، ولا صرت إلى يوم من الأيام إلا أحسست أن همي إلى ما وراءه، ولا أفضيت إلى سنة من السنين إلا كان بالي إلى ما بعدها وشغلي كان به، فأنا من يوم طالعت هذه الدنيا لا أجدني إلا على سفر دائم لا لبثة فيه ولا هوادة، ولا مناخ لراحة ولا لزاد، سير في النهار مغذ، وسرى في الليل حثيث!
اللهم إني لأبتغي القرار في هذه الدنيا ولو ساعة واحدة أستريح فيها إلى نفسي وأشعر بالسكون معها والاطمئنان!
اللهم إني لأبغي أن أجدني في مساحة من الزمن، ولو ضاق ما بين حديها، فأستشعر السكون، وأفرق بين ما كان وبين ما يكون، وأستطيع في كل أثناء هذا الزمان، أن أعرف: فيم أنا الآن!
ولكن كيف لي بهذا ومن ورائي ذلك السائق الخفي المرير ،
2
ما يلوح لي مجثم
3
إلا بعثني منه، ولا يتراءى لي مثوى إلا أزعجني بسوطه عنه، فأنا بين يديه دائم الجري لا أحط رحلا من سفار، ولا أطمئن على طول المدى إلى قرار.
وإني لأرى أنني أنا الذي يمر بالأيام وليست الأيام هي التي تمر بي، وأنني أنا الذي يطوي السنين وليست السنون هي التي تطويني، وإني لأجد أن شأني مع الزمن لكشأن المسافر في القطار، يخيل إليه أنه ثابت في موضعه وأن ما يجوز به من الأعلام والشخوص إنما هو الذي يجري على خلاف، وعلى هذا لو أذن لي في الوقوف ولو لحظة واحدة لاستشعرت القرار في الدنيا وأحسست هذا الذي يدعونه «الآن»، ولكني برغمي السائر المغذ لا ينيخ راحلة ولا يحط رحلا، فإذا لم أنعم بالاطمئنان إلى الزمان فلا ملامة على الزمان!
ترى ما حاجتي، أو ما حاجة هذا السائق الخفي الذي لا يني عن دفعي دائما إلى الأمام - ترى ما حاجته إلى أن أحسو العمر حسوا، فما كنت في ساعة من الدهر إلا استشرفت لما بعدها، ولا طلع علي يوم من أيام العمر إلا تشوفت إلى غده، ولا دخلت علي سنة إلا تعجلت السنة التي من ورائها، حتى لو تهيأ لي أن تجمع أيام عمري في سجل واحد، لأسرعت إلى تقليب صفحاته حتى آتي من فوري على آخرها، وفي آخرها - لو علمت - آخر العهد بالحياة!
ترى ما خيري أو ما خير هذا السائق المرير في ألا يدعني أطمئن في هذه الدنيا لشيء، أو أستريح فيها إلى حال، وما إن اشتقت إلى شيء فطالعتني منه البداية، إلا شغلني عنها الاستشراف إلى النهاية، وما إن هفت نفسي إلى أمر فهممت بالإصابة من بواكيره، إلا صرفني عنها التشوق إلى غاياته ومآخيره، وما حصل في يدي شيء ما تقدمت به المنى، وجد في طلبه المسعى، إلا أسرع إلى نفسي الزهد فيه، والتطاول بالمنى إلى سواه! فأنا من الدنيا ومن ساعاتها كالكرة بين مهرة اللعباء، تظل تتقاذفها الأيدي ولا تستقر في موضع أبدا !
ترى ما حاجتي إلى تعجل الساعات في الأيام، وإلى تعجل الأيام في السنين؟ وترى أية غاية أريد أن أبلغها بهذا السفر السريع؟
تالله إني لفي حاجة إلى من يهديني إلى ما أبغي بهذا وما أريد!
أتراني أطلب طي الحياة وأنا كسائر الناس حق حريص على هذه الحياة؟ والله إن «هذا محال في القياس بديع».
4
إذن فما هذه الشهوة الملحة إلى فناء الأيام، وهذه الشهوة الملحة إلى بقاء الأيام؟ •••
وبعد، فما أراني في هذه الحياة غير قصة خيالية أنا ممثلها، وأنا في الوقت نفسه شاهدها، فما إن جد لي منها منظر إلا تاقت نفسي لما بعده، ولا حل منها فصل إلا تعجلت غايته والتحول إلى ما وراءه!
وكذلك أفتأ أطلب النهاية حثيثا حتى تختم «الرواية»، ولن تختم إلا بتلك المأساة التي تنتهي بها جميع أقاصيص الحياة، غير «أن الرواية لم تتم فصولا».
5
الشباب المولي!
هذه هي المرة الثانية التي يهتف فيها «فلان» بسني، ويزعم أنني أتشرف الآن على الخمسين، إذا لم أكن قد جزتها بقليل! وترى ما خيره في أن يباديني بهذا ويؤكده ويلح فيه، وأنا أنفيه جاهدا فلا يصدق، وأرده عنه فلا يرتد، وأزجره فلا يزدجر! وتالله ما أراه يطلب بهذا إلا غيظي وإحناقي بإظهاري وإظهار الناس على أنني قد علت بي السن، وأنني أنشأت أمعن في الشيخوخة المضنية للأجسام، والداعية للأسقام، والمهرولة بالأحياء إلى الموت الزؤام!
اللهم إنه لسمج به أن يطلب لي هذا ويتمناه على الله، ثم لا يستحي أن يصارحني بهذه المنية ويصارح بها الناس، على حين أنني - شهد الله - ما أسلفت إليه إساءة، ولا تناولته قط بمكروه!
سبحان الله! ما أعظم كدر النفوس، وأشد اضطغان القلوب، حتى على من هو غير حقيق منها إلا بالعطف والإيثار!
وبعد، أفأراني حقا قد بلغت الخمسين؟ هذه الخمسون التي لا يبلغها المرء إلا إذا جاز مستمهلا بأيام الشباب، حتى تطويه السنون عنه طي السجل للكتاب وهيهات للمرء أن يأسى عليه بعد أن نهل من معين اللذات وكرع، ومرع في طيبات العيش ورتع، وواتى النفس بكل مناها، وأبلغ مطالب الصبوة غاية مداها، ويا طالما طاب مراحه وأنسه، وسطعت في أفق السعادة شمسه، ويا طالما اشتد لهوه وقصفه،
1
وتقلب في ألوان المتاع عطفه، لا تكدر الهموم من صفوه، ولا تشغله متاعب الحياة عن متاعه ولهوه، مخلصة لداعيات الصبا نفسه، لا يعنيه يومه ولا يعنيه غده ولا أمسه، حتى إذا استوفى حظه من متع الشباب، وشبع منها وبشم بها؛ انصرف عنها زاهدا فيها كارها لها، وأقبل على ما هو الأخلق بالحكمة، والأشبه بكمال الرجال، وأصبح يتمثل بقول الشاعر:
وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه
فإذا عصارة كل ذاك أثام •••
وكيف أكون قد بلغت الخمسين ولما أبلغ من آثار هذا الشباب شيئا؟ ولم أصب بعد من متعه كثيرا ولا قليلا؟
اللهم إنني ما برحت أستشرف لهذه الأيام التي طالما تمثلت لأحلام الفتوة جميلة جمال صفحة البدر، ناضرة نضرة الورد قد طله القطر، هذه الأيام الحلوة اللذيذة التي طالما تراءى لي بها المستقبل، فأتعزى بقرب لقائها عما أجد في حاضري من هم وأسى، ومن وجد وشجى.
اللهم إنني ما زلت في انتظار أيام الشباب التي لا يفتأ يوسوس في صدري بها الأمل، فأشعر لها بشوق لا يعد له شوق، وأجد في قلبي حنينا إليها لا يشبهه حنين، وهل تكون هذه الأيام كلها بين أيام العمر إلا روضة قد ينعت أثمارها، وضحكت أزهارها، وأشرقت أنوارها،
2
وتعطفت في أرضها الجداول، وسجعت على أيكها البلابل، ومشى في خلالها النسيم، يحمل من الورد عاطر التحية وأزكى التسليم، فتنحني الغصون إجلالا لوفوده، وإكراما لوروده!
هكذا الشباب المنتظر، مراح لا يلحقه ضجر، وصفو لا يشوبه كدر، ودعة لا تروعها الغير، ونفس قد وضعت عنها الأعباء والآصار،
3
فتكاد من الخفة تطير في اقتناص المنى كل مطار!
لقد طال بي انتظارك يا هذه الأيام، فليت شعري متى تحقق الآمال وتصدق الأحلام؟
أنت آتية أيام الشباب لا ريب فيك، وإنني ما زلت في الانتظار ... •••
ما لي أجد غمزا على كبدي، وأكاد أحس بأن شعبة قد انخلعت من قلبي، وأن ذهني تطاير عني كلما لاح شبح الخمسين، فلقد بلغت الخمسين، وا رحمتاه، حقا! ...
لا تأسي يا نفس ولا يتعاظمنك الأمر، فإنني إن كنت قد بلغت الخمسين عددا، فإنني لم أعل بها قط سنا، وكيف تعلو بي السن وأنا لما أزل في انتظار الشباب الذي لم أخضه بعد، ولم أله به لهو من يخوض الشباب؟
لا! لا! ليست المسألة عددا في السنين، وليست الحياة مساحة تقاس بدورة الفلك، فلتعد علي السنون ما شاءت أن تعد، ما دمت - في الواقع - لم أزل فتي الروح مستشرفا لعهد الشباب! وليس من سنن الطبيعة أن يسبق الجدة القدم، ويتقدم على الشباب الهرم!
إذن فأنا لما أزل على شرف الشباب الغض، وأنف هذه الخمسين العددية راغم!
لقد بلغت الخمسين حقا، ولكنها ليست تلك الخمسين التي كان يتمثل لنا الناس فيها شيوخا قد شاب قذالهم، وابيضت لحاهم، وتكرشت وجوههم، وترهلت لحومهم، وتجلجلت أسنانهم، وفترت حدة عيونهم، وضعفت قوة متونهم، وثقلت آذانهم، وكلت أذهانهم، فإذا تحدث أحدهم جعل يعصر ذاكرته عصرا، وإذا مشى فكأنما يحمل على ظهره وقرا.
4
لقد بلغت الخمسين عددا، ولكنني لم أتقدم بها في السن كما يتقدم سائر الناس، وكيف تعلى سني حتى تدخلني في الشيخوخة على حين أني لو قد استعرضتها وفررت عنها
5
من يوم تفطنت إلى الحياة ما زادت في الواقع على عشر، وهذا على أسخى تقدير، فأين يا ترى سائر هذه السنين؟ اللهم إني لأبحث عنها وأجهد ذاكرتي في طلبها سوية فلا أجدها، فليس من العدل أن تسقط من مدة العمر هذه السنون! وإن ظلما دونه كل ظلم أن نجري حساب الأعمار في هذه الدنيا على دورة الأيام!
وليت شعري ما الدليل على أنني قد بلغت هذه الخمسين لو أنني عشت في بداوة لا تتعقب فيها السنون؟
إذن لم أصبح بعد شيخا، ولتعد علي الأيام ما تشاء! •••
ولكنني مع هذا أرى الشيب يصيح في رأسي، فكيف لعمري لحقني قبل الشباب المشيب؟!
لا تأسي يا نفس ولا تشفقي من بياض الشعر، فلكم رأيت فتيانا باكر رءوسهم هذا النصول وعجل إليها، فما كان بياض الشعر يا نفس دليلا على المشيب! ومع هذا ففي الصبغ إصلاح لخطأ الطبيعة، وتصحيح لما يدعي علي بعض الناس من كذب وزور!
هذا كلام صحيح، ولكن ما لي أحس في عيني فتورا، وأجد في نظري قصورا، حتى أصبحت لا أتبين الشخوص إلا بمقدار، ولا أستطيع القراءة إلا بمعونة المنظار؟
لا شك أن هذا من مرض طارئ، أو من عرض مفاجئ، وما كان جهد العيون وتقاصر الأنظار، دليلا على انطواء الشباب والطعن في الأعمار!
وهذا أيضا كلام صحيح، ولكن ما بالي أري ثقلا في سمعي لقد يفوت علي في المجلس بعض الحديث، ولقد ترعش يدي في بعض الحين فما تكاد تستطيع ضبط اليراع!
وهذا كذلك ليس أمارة على فوت الشباب، إن هو - كما قال الطبيب - إلا من تعب الأعصاب!
فما بالي أجد أسناني قد شاعت في أصولها الآلام، وتجلجلت كلها فما تثبت واحدة منها إلا لهش الطعام؟
لقد حدثني الطبيب أن هذا إنما اعتراني من أثر «السكر» الذي كشف عنه «التحليل»، وهذا «السكر»، والحمد لله، ليس صادرا عن علة لازبة
6
ولكنه عارض لا يلبث أن يزول بأرفق العلاج؛ على أنه كاشفني بأن الخير كل الخير في خلعها جميعها والتعويض عنها بأسنان مصنوعة لا تحقن في اللثة أذى ولا تبعث ألما، فوق أنه يسهل تخليلها وغسلها، ويسلس جلوها وصقلها، وإن شئت كسوتها بالعسجد، وإن شئت تركتها كالدر المنضد، وماذا علي في هذا والكواعب الحسان في الغرب يبادرن إلى خلع أسنانهن في غير شكاة
7
بل لمحض التبهج بالأسنان المصنوعة، فلنعجل بخلعها قبل أن نقرع سن الندم، إذا ألحت العلة وأعضل السقم!
إذن فإنني ما زلت في انتظار الشباب، ولا يجوز أن نلقي لهذه الأعراض بالا أو ندخلها في الحساب! •••
ولكن ما بالي أصبحت لا أشتهي الطعام، ولا أكاد أقوى على هضم خفيفه فضلا عن غليظه إلا إذا استعنت على ذلك بألوان العقاقير: هذا في أثناء الطعام، وهذا عند المنام ، وهذه الحبة يجب أن تبلع بعد الوجبة، وهذا الذرور مما يسهل الصفراء، ويرفه عن الكبد وينظف الأمعاء، وهذا لكيت وكيت، وهذا لذيت وذيت.
سبحان الله! وماذا يضيرك ذلك ما دام يعينك على شأنك، ويصرف عنك الأذى، ويقيمك في العافية، والعقاقير ميسورة في كل مكان، ولا يستهلك تناولها وقتا، ولا يقتضيك مشقة ولا جهدا، والدواء مما لا يستغني عنه كبير ولا صغير، ولا قوي ولا ضعيف!
ثم ما لي إذا مشيت أحسست في جسمي تزايلا، وفي ساقي تخاذلا، وكأنني أحمل رجلي وليست هي التي تحملني، وسرعان ما يجهد بي وما مشيت طويلا، ولا حملت عبئا ثقيلا!
ثم إنني بت لا أقوى على رطوبة الليل في العراء، وما إن تبديت لها ساعة حتى أصبح في أسوأ حال، ويعتريني من الأوصاب ألوان وأشكال!
وهذا وذلك لا بأس عليك منهما إذا أخذت نفسك بشيء من رياضة البدن، واستنشاق الهواء النقي في الشمس الساطعة، فإذا كان الليل أثقلت الدثار، واعتكفت في الدار، فلا ينالك سقم، ولا يعتريك ألم!
فما لي أمسيت لا أنام إلا غرارا،
8
وأراني أهب على أخف طرقة، وأخفت خفقة؟
وما خيرك في أن يثقل نومك، ويستهلك في الغفلة عن الدنيا يومك؟ والنوم كما علمت حاجة يضطر إليها تعب الأجسام، فمن العبث أن نتفقد الحاجة إذا لم نجدها ولم تلجئنا إليها الضرورات! ورحم الله الشاعر الذي يقول: «إن تحت التراب نوما طويلا.» •••
وهكذا ما شكوت علة إلا أصاب الأمل لها تعليلا، وهون على خطبها وإن كان الخطب فيها جليلا! وأنا أصدقه وأطاوعه، وأدفعه ولا أدافعه، وما لي لا أفعل وهو لا يمنيني بحلم من الأحلام، وإنما يتراءى لي بحقي على الأيام، والحق لا بد واصل وإن طال بطؤه، والدهر لا محالة إلى الحق عادل وإن كثر خطؤه.
9
إذن فلننتظر، ومن صبر فقد ظفر! •••
ثم إني لأقوم إلى المرآة فأحقق النظر، فلا يروعني إلا أن أرى وجهي قد تغضن، وجبيني قد تكرش، وأجد في شفتي تهدلا، وفي عنقي ترهلا، أما عيناي فقد بدتا لي كعيني دمية قد نصلتا فلا أثر فيهما يشبه بريق الحياة!
وإني في هذه اللحظة لأستنجد ذلك الذي طالما واساني وهون علي ما أجد
10
فإذا هو يتثاقل عني، وإذا أوصابي وعللي تتداعى وتتجمع لذهني رويدا رويدا حتى تستوي كلها في خلق واحد.
رباه! ما هذا كله؟ أليس هذا كل ما كنا نتمثله في الشيخ إذا ضربته الخمسون؟
وما إن كاد يستوي لي هذا الخاطر المشئوم حتى أحسست أن نفسي تطير شعاعا،
11
وأن قلبي يتمشى في صدري، وأن كبدي تسيل مسالا، وأن ذهني قد تفرق عني فما أستطيع له جمعا! ... وإني لأستلقي على فراشي وأتحامل لأجمع بعضي على بعضي، وأصطاد ما ند عني من فكري، فما خرج لي من كل ما جمعت إلا أنني الشيخ صاحب الخمسين حقا، وأنها قد صنعت بي كل ما تصنع بسائر الناس!
إذن فقد ولى الشباب، فما له من رجعة ولا له من مآب!
أرأيت إلى التاجر يقدر مواتاة السوق ويطاول الأيام في انتظار الغني وإقبال الدنيا، وبينا هو في هذا حق سعيد بالثقة به والاطمئنان إليه، وإذا السوق ترجف رجفتها، وإذا نظرة واحدة في دفتره تؤذنه بأن قد أفلس؛ فقد ضاع السبد واللبد،
12
وإنه لن يشقى في الحياة شقاءه أحد! •••
يا ويلتاه! أكذلك يذهب الشباب قبل أن يجيء، ويدبر قبل أن يقبل ويودع قبل أن يسلم؟
يا عجبا للهلال يغشاه المحاق ولما يبلغ التمام، وللورد يلحقه الذبول ولما تتفتح عنه الأكمام!
يا عجبا للشمس تشمر للغروب والرجوع، ساعة يؤذن مشرقها بالبزوغ والطلوع!
ويا رحمتاه للروض إذا ذبلت في مطلع الربيع أزهاره، وجفت قبل النضج ثماره، وسكن من الشجر اصطفافه، وتساقطت أوراقه، وسكن النسيم، وكان العهد به أن يتنسم، وسكت العندليب، وكان الظن به أن يشدو ويتنغم!
أهكذا يكون نقض العهود، وخلف الوعود، أهكذا تشح السماء بعد طول ما منت بالبروق والرعود؟!
فأين هذا الشباب وهو حق لا حلم من الأحلام، ولا وهم من الأوهام؟ وليت شعري كيف ذوى، ومتى انطوى، وما زلت في انتظار وفوده، وترقب وروده، طوعا لمطرد وعوده؟
نترقب شبابا فإذا هو هرم، وجدة فإذا هي قدم، وصحة فإذا هي سقم، ووجودا فإذا هو عدم! تالله إن علمت قط أن التبر يحور ترابا، وأن الماء يستحيل سرابا! •••
هذا الدهر ما زال يعدنا ويمنينا الأماني، وكلما تنجزنا في السعادة وعدا أنظرنا إلى غد، فإذا صرنا إلى هذا الغد قال: أليس موعدكم الغد؟ ونحن نتابعه كمن يتابع ظله؛ فلا هو بلاحقه ولا هو عن لحاقه ببعيد، وكذلك تنقضي الأيام بعد الأيام، وتنطوي الأعوام بعد الأعوام، ثم لا يروعنا إلا أن نتفقد هذا «الغد» الذي طالما انتظرناه، فإذا هو قد مضى في «الأمس» الذي استدبرناه! فهذا الشباب الذي يتحدثون عنه لا قيام له إلا في التصور والتخييل، لأنه إما شيء تجيء به الأيام، أو شيء قد خلت به الأيام، أما أن له سرحة يتفيأ الإنسان في ظلالها، وفسحة يطمئن بين غداها وآصالها،
13
بحيث يستشعر الثبات والاستقرار، فذلك ما لا يكون في منهج الأعمار!
نعم، لقد يصيب الإنسان كثيرا أو قليلا مما يدعى بسعادات الحياة، ولكن هيهات أن يصفو له شيء منها إلا كدرا، فإن الزمان أحرص من أن يصفي العيش لإنسان، وإنه في هذه السبيل ليسلط عليه ولو من وساوس نفسه ما يصرفه عن متاع الحياة وهو في متناول يده، ورهن مراده، فإذا أعوزه هذا وسوس له بالتأميل فيما هو أجل مما تيسر له من النعيم وأعظم، فشغله عن حاضره بقابله، وصرفه عن عاجله بآجله، وهكذا تتصرم الأعمار، في الارتقاب والانتظار!
آمنت يا دنيا أنك سارقة ماكرة فاجرة، تمكرين بالناس وتخدعينهم على أعمارهم حتى تنشليها منهم نشلا، ولا والله ما يعينك على فجورك هذا إلا غفلة الناس! •••
وبعد، فلعلك عرفت لماذا يخادع المرء الناس على سنه، بل إنه ليخادع عليها نفسه، ولعله في هذا حق معذور، فلقد طالما وصل المستقبل بسعادات وارتبطه بها، حتى ما يستطيع تصوره بغيرها، ولا تمثله متجردا منها، فكلما مر عليه يوم لا تواتيه تلك السعادات لا يراه مما ينبغي أن يحسب في مدة العمر، ولا مما يجوز أن يعد عليه فيه! فهذه علة تعاظمه لدخوله في السن واستثقاله لتذكيره إياه.
اللهم إننا لنتهاون شأن الذبابة، ونستحقر هذه الحياة التي تحياها، ولو قد تفطنا إلى الحق الواقع لعرفنا أنها أسعد منا عيشا وأنعم حالا، لأنها لا تشتغل إلا بالحاضر، وهو الحق المحس الذي يذاق ويستشعر حقا، فلا يتفرق حسها بين الأسى على ما فات في سالف الأيام، وبين التعلق في المستقبل بكواذب المنى في كواذب الأحلام!
فيا الله ما أخس حياة تنتهي بالإنسان إلى التراب، وهو لا يتذوق منها بعض ما ينال هذا الذباب!
وإذا كان لنا معشر الناس أن نأسى على شيء في هذه الحياة الدنيا، فليكن أسانا على أننا ننفقها في الأسى على ما قد فات، وطول التأميل فيما هو آت، وهكذا نجوز بالدنيا فلا نستشعر منها إلا آلاما، ولا نذوق إلا منى وأوهاما، وصنع الله لهذا الشاعر في كذبه على كذب الآمال:
منى إن تكن حقا تكن أعذب المنى
وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
لا صحة إلا في المرض!1
لست أدري لماذا لا نتذوق صحة الأبدان ولا نستشعرها ما دمنا فيها؟ أترى لأنها شيء سلبي لا يذاق ولا يحس؟ أم لأنها كسائر نعم الحياة قل أن يقدر المتقلب فيها قدرها، أو يعظم المتمكن منها خطرها؟ أم أن ما تجد الأيام من أشغال الدنيا وهمومها ومطالبها مما يحول بين المرء وبين تذوق الصحة والالتذاذ بالعافية؟
اللهم إنني لا أقطع في هذا بشيء من وجوه التعليل ألبتة، ولكن الذي أقطع به ولا أراني أتحول عنه أن الإنسان لا يرى أن هناك نعمة أجل وأعظم من نعمة العافية يوم يضربه المرض ويسلبه السقام هذه العافية، بل إن بحسبه أن يرى امرءا معافى في بدنه ليقدر له من الشعور بالسعادة والإحساس باللذة ما لا يتعلق به وصف واصف، ولا يتصور مبلغه إلا هؤلاء الأصحاء!
لقد كنت في العافية فما قدرت لها قط قدرا إلا إذا ذكرت المرض وأوزاره، وإني لأكره بالطبع أن يتداخلني السقم، وينتابتي الوجع والألم؛ وأن يكفني هذا عن ولاية عملي، ويثقل
2
بشأني أهلي وولدي، ويحول بيني وبين الإصابة من متاع الدنيا إذا كان في الدنيا متاع!
ومهما يكن من شيء فإنني ما رجوت العافية لذاتها، وكيف لي برجاء ما لا أحس ولا أشعر؟ وإنما أرجو ألا أبتلى بالأسقام والعلل، فإذا لم أذكر المرض فهيهات أن يجري ذكر الصحة لي على بال!
ثم إني ذات صباح لأحس وجعا في بطني، فلا أوجه الأمر بادئ بدء إلا على أن أحشائي مغصة من أثر برد أو من فعلة طعام تجهمت له الأمعاء، فلم يجد له من خلالها لطف مساغ، فاحتميت على عادتي وتحرمت الطعام، أرجو أن يزول عني مغصي إذا انقضى النهار.
ويذهب النهار ويقبل الليل، فإذا المغص مقيم على غمزه ما يبرح ولا يريم، ثم يكون الغد فإذا هذا الغمز في الحشا يستحيل وخزا، فأظل على تحرمي واحتمائي، وجعلت أختلف على ألوان الرصفات تبتغى لمثل ما أنا فيه، ولكن الألم يزيد على هذا ولا ينقص، وينبسط في بطني ولا ينقبض!
وتجوز بي على ذلك بضعة أيام لا يكرثني الأمر ولا أراه حقيقا بالاعتداد به والاحتفال له، حتى إذا رأيت أن الألم قد طالت مدته، واشتدت وقدته، لم أر بدا من العياذ بالطب بعد أن أعيا علي ما تعودت الاستراحة به ألوان العلاج.
ولكن لقد أخطأ الطبيب شخص الداء، فسرعان ما استفحلت العلة وتمردت المعى على الدواء، فما أولاها على التمرد إلا عقابا، ولا أصلاها على الإباء إلا تأليما وعذابا!
وبعد أسابيع عراض نهرها، طوال لياليها، ينحسر الشك عن داء عقام، وعلة لا يرتقي إلى خطرها كثير من الأسقام.
وهنا أرجو أن يصدقني القارئ إذا زعمت أن الوقوع على حقيقة المرض ومبلغ خطره لم يتعاظمني ولم يدخل على نفسي الذعر بقدر ما يتصور، فإن كان قد مسني شيء من هذا فلعله قد ذهب به أو خفف من وقعه استراحتي إلى حقيقة شأني بعد تلك الحيرة الطويلة المملة العنيفة، وإذا عرف الداء، سهل - كما قالوا - الدواء، وإذا وقع في التقدير أن علتي مما لا يرجى منه الشفاء، إذن فقد بلغت حد اليأس، واليأس - كما قالوا - إحدى الراحتين!
إذن لم يكن كل همي إلى علتي، فلقد استهلكه دونها همي بما يعنيني من الأوجاع والآلام، وإن قصارى جهد المرض أن يرديني، وأهون بها من غاية، فلكم والله ابتغيت هذا الردى فلم يسعدني به المقدار! •••
إذا كان الصباح الباكر كنت كما يكون الناس، فإذا ارتفعت الشمس قليلا عن الأفق شعرت بغمزات لطاف على جنبي الأيمن، ثم أراها تثقل رويدا رويدا وهذا أذان النفير العام، يدعو إلى أحشائي جمهرة الأوجاع والبرح والآلام، فما هي إلا دقائق معدودة حتى أحس أن كل ما في الأرض من مدى مسنونة قد اجتمعت علي تقطع أحشائي، وأن كل ما في الدنيا من رماح ومزاريق قد تظاهرت على الطعن الدراك في أمعائي ما يفل لها حد، ولا يكل للطاعنين من دونها زند، وأن نيران جهنم كلها قد كورت وضغطت بقدرة القادر وقذفت في بطني قذفا حتى أكاد من وقدة الآلام أسمع لها حسيسا! وكلما ارتقبت الفرج بتقطع الأمعاء وتفرقها، وتمزقها وتحرقها، وأن الموت لا محالة آت، فذلك مما لا قيام للحياة معه ولا ثبات، فإذا آلامي جديدة لا تبلى على كل أولئك الأحداث، كأن يد القدرة تسرع إلى جمع ما يتفرق، ووصل ما يتمزق، حتى لا ينتهي لي عذاب، ولا ينقضي ما أعاني من الحرق والأوصاب، ونعوذ بالله من عذاب أهل جهنم الذين قال الله تعالى فيهم:
كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ! اللهم لقد ذقت هذا العذاب في هذه الدار، فأقلني في الآخرة بفضلك من عذاب النار!
ولا تزال البرح والآلام تفري الفري في أحشائي بلا هوادة ولا فترة ولا سكنة أبدا، وليت شعري كيف لا يدركها التعب والإعياء، على طول ما تبلي في هذا البلاء؟!
وإني لا أزال كذلك تختطفني الغفوة فأغفو دقائق، ثم تتخاذل عني فتلقيني ثانية لما كنت فيه من العذاب الشديد، وهكذا كان دأبي عامة الليل وعامة النهار! •••
ثم إني لأتجلد للألم وأتصبر، فلا آذن لحلقي أن يتنفس بالآهة أو بالأنة، وأكظم وجعي فلا أترجم عنه بما يترجم به عن الأوجاع عامة المرضاء؛ وأظل على هذا دهرا، ثم إذا هذا التصبر يتقلص رويدا رويدا، وإذا بي أئن لو كنت خاليا، ثم إذا بي أئن وأتأوه وأنا بين الناس!
ثم إنني رجل أعهد في شماس الطبع، وعصيان الدمع، فإذا المرض يأبى إلا أن يذلل ذلك الطبع، ويذل هذا الدمع! وهكذا أسلم للمرض أنفتي كما يسلم الشجاع الكمي سلاحه لخصمه، وينزله الغلب على حكمه، ما به رضى بهذا ولا ارتياح، ولكنها لقد جرت به الأقدار! •••
وإنني لأرجو الطبيب وأخشاه، وأحبه وأرهبه في وقت معا، كأنه قد أصبح لي أبا وكأنني قد ارتددت بين يديه غلاما! ولقد يأمرني الأمر فيما يتصل بعلاجي وما يطلب به سلامتي، فأعصيه في سر منه في بعض ما أمر، وأخالفه إلى بعض ما نهى، فإذا ما سألني عذت بالمعاريض فرارا من الكذب الصريح، وهذه من إحدى ذلات المرض أذله الله!
وما أن أبصرت إنسانا من أهلي أو عودي، حتى خادمي، إلا تخيلت أنه يستطيع أن يدفع عني بعض ما بي، ويخفف بعض ما أجد، ولولا الحياء لاستجديته العافية استجداء، فشأني كان كشأن الغريق يصارع الموج أكثر ما يصارعه بالتأميل في نجدة من على الشط من الناس! وتلك أخرى للمرض أخزاه الله!
هؤلاء الأصحاء الأجسام، وليكونوا من أولئك الباعة المترفقين بأبدانهم،
3
وليكونوا من كناسي الشوارع؛ بل ليكونوا ممن ضمنتهم
4
السجون في أفظع الجرائم، يا لله ما أسعدهم جميعا وما أنعم حالهم، إنهم ليكادون يطيرون طيرا بما يجدون من لذة العافية في الأبدان! من لي بيوم واحد أو بساعة واحدة أراجع فيها العافية وأنعم بها، فلا آسى بعدها على شيء أبدا!
ما لكم يا أهل العافية لا تطربون ولا تمرحون ولا تطولون الجبال الشامخة من تتايه ومراح؟ إنه ليخيل إلي أنكم تجاهدون في كظم أفراحكم أشد الجهاد!
فلو خلعتم علي شيئا مما تجدون من العافية؟ إذن لرأيتم أنه لا يتسع لمراحي كل ما بين الأرض والسماء!
الصحة، الصحة وحدها، ففيها عن كل عرض غناء.
ما عزبت عن الإنسان نعمة من نعم الدنيا إلا اقتصر حسه على ألم فقدانها والحرمان منها، أما فقد الصحة فإن يشعر الحرمان من كل شيء؛ وقد صدق من قال: «يا أهل العافية لا تستقلوا النعم!»
أستغفر الله! بل إن فقدان الصحة لمما يزهد في أنعم الحياة، وإنني لأذكر، وأنا في مرضي هذا، أنه ما عرضت لي منية من المنى التي طالما هفت نفسي إليها وسألت الله فيها جاهدا، إلا دقت في عيني، وهانت على نفسي ، حتى لأراني في تشهيها والاحتفال لها إنما كنت سخيفا كل سخيف!
هذا جرحي قد اندمل، وها أنا ذا أمشي وئيدا إلى العافية، وإني لأشتهي بعض الطعام ولكن هيهات أن ينولني الطبيب، فآه! هذا اللون ما أحسنه وأسوغه وأحلى مذاقه، وما أنعم الآكليه وأسعدهم؟ فلو رجعت إلى العافية لكسرت عليه عشر وجبات متتابعات!
هذه الرقعة من القاهرة أو من غير القاهرة ما أجملها وما أبدعها، وما أبهى خططها وأحلى موقعها! لئن رددت إلى العافية لأتخذن منها منتجعي ومثابي، ومذهبي في غدوي ومآبي!
وهذا كيت وهذا كيت، مما يصاب ب «لعل» وما يصاد ب «ليت»، ما دام في مصباح هذه الحياة زيت! •••
ويشاء الله تعالى بعد هذا البلاء كله أن أصح وأسلم، ويعود إلي ما كان لي من العافية، وإني لأستعرض ذلك الذي كنت أشتهيه وأنظره للعافية، فإذا النفس منصرفة عنه، زاهدة فيه، لا تراه يستحق من هموم الشهوة كثيرا ولا قليلا!
ها أنا ذا أعود إلى العافية فأعود إلى ألا أذوق لها طعما، ولا أشعر بها إلا وهما، ولا أجد لها من أسباب النعماء، بعض ما يقدره العليل للأصحاء، أفتراني أرجو دوام السقم، لأستديم الشعور بما في العافية من النعم؟ إذن فيا لها نعمة لا يقوم وجودها إلا في العدم! وصدق من قال: «الصحة تاج على رءوس الأصحاء، لا يراه إلا المرضاء» ورحم الله القائل «وبضدها تتميز الأشياء ».
وعلى هذا أسأل الله ألا يشعركم هذه النعمة يا معشر القراء، إنه تعالى سميع الدعاء!
في الطيارة بين ألماظة والدخيلة1
لقد كان بيني وبين صديقي وأستاذي المرحوم محمد بك المويلحي اتفاق وثيق على أن السيارة لم تصبح بعد مركبا عاديا سائغا يجوز للناس أن يتخذوه في سراح ورواح
2
آمنين، فإذا كنت ترى في ملاعب «البهلوان» من يمشي على السلك الأرفع، ومن يصارع الوعل، ومن يعفر الليث الخادر بالسوط، فصل ركوب السيارة بهذا، فإن كنت بطلا فتقدم إليها في غير حاجة، وإلا تكن فلا يضطرك إليها إلا الضرورة الملحة من طول مدى وضيق وقت، وخوف فوت ونحو هذا، والضرورات - كما قالوا - تبيح المحظورات، وقضى المويلحي رحمه الله على هذا؛ وبقيت بعده هذه السنوات الثلاث حافظا لعهده، قائما على ميثاقه، ولست أدري بعد إذ ترقرق في عالم الأرواح: ألا يزال ثابتا على رأيه؟ أم تكشف له من مكنون الحقائق ما حرفه عنه؟ ومهما يكن من شيء فسنلتقي في يوم قريب أو بعيد، وحينئذ يتهيأ لنا أن نعيد النظر في ذلك الاتفاق!
هذا رأيي، إلى أن أموت على الأقل، في اتخاذ السيارة؛ على أنني لا أفتأ أتخذها على علمي بأن جانب التلف فيها يغلب جانب السلامة، ولكنها كما زعمت الضرورة، وإنني لأخاطر من شاء على ما يشاء، مما يدخل في طوقي، إن كان أحد رآني قط أقرأ في السيارة جريدة، أو أنقد دراهم، أو ألقي بالا إلى حديث رديف؛ بل إن شأني معه إذا هو أقبل بالحديث علي لكشأن القائل:
وأطيل لحظ محدثي ليرى
أن قد فهمت، وعندكم عقلي
وكيف لي بهذا وأنا في أعظم شغل من رجفان القلب وضربانه، ومن عين شائعة بين يدي السائق والترام المقبل من هنا، والسيارة المنطلقة كالسهم من هنا، وهذا الغلام الذي يحجل بين يدي العجل من هنا، وهذا الحافي راكب الدراجة يعترض السيارة في تمام سرعتها، فيلوح لسائقها بيسراه ليتلبث حتى يقطع هو (بسلامته) الطريق، وغير هذا من ألوان العذاب الأليم والبلاء المحيق!
أما الساقة فوالله ما أدري ما حظ أكثرهم الكثير في أن يطيروا بك على أديم الأرض طيرا، وإني لأسأل الرجل منهم أن يتريث فلا يسمع، وإذا فعل طوعا لرجائي أو لزجري فلثانية أو اثنتين، ثم عاد أجرى وأسرع مما كان، وإني لأقول له: يا سيدي لست مستعجلا أمرا، والله ما أنا ذاهب لإطفاء حريق، ولا لإنقاذ غريق، صدقني والله ما أنا ماض لقيادة الجيش في المعركة الحاسمة، ولا أنا مدعو لتأليف الوزارة، ولا لشراء «النمرة» الرابحة في سباق الدربي، كل هذا ولا حياة لمن تنادي!
ولقد قلت لسواق مرة، وقد عناني في هذا الباب أمره: أتعلم يا سيدي أنك بإسراعك هذا ستفقدني مائة جنيه كاملة! فقال لي: وكيف هذا؟ قلت: إني خاطرت صديقا على أن من يسبق منا إلى الموعد يدفع لصاحبه مائة! فأشفق على مالي، وليت الخنزير لم يفعل، فلقد أقبل علي وولى الطريق قفاه، وجعل يلقي علي محاضرات شائقة في مضار المراهنات!
وآخر، لقد أسرع بي وأنفي راغم إسراعا مرعبا، فسكت وأسلمت أمري لله، وبعد لأي، إذ افترقت مسالك السبل، التفت إلي وقال: أين البيت؟ قلت: أفجاد أنت في أنك ذاهب بي إلى البيت؟ قال: طبعا! قلت: والله يا أخي لحسبت أنك عدلت بي إلى قرافة المجاورين! •••
هذا حديثي مع السيارة، وهذه علاقتي بها، لعنة الله عليها، أما الطيارة، كان الله لراكبيها، فلم يلحقني ولن يلحقني منها بعون الله أي أذى، وكيف لها بذاك؟ ولو قد دعيت إلى ركوبها على أن تحلق بي إلى موطن إجابة الدعوة، أو تتقرى بي مسقط الغنم من ليلة القدر، فيكون لي ما شاء الله من العافية في النفس والولد، وطول العمر، وسعة الرزق، ونفوذ الكلمة، وبسطة السلطان؛ لآثرت ما أنا فيه من الجهد على كل تلك العافية!
إذن فأمر هذه الطيارة مفروغ منه عندي إلى غاية الزمان إن شاء الله، فإن بدا لولدي أو لحفدتي، إن كان يكون لي حفدة، فليفعلوا فلهم زمانهم!
ولكن هناك قدرا يرغمنا ولا نرغمه، ويلجمنا ولا نحكمه،
3
وإنه ليدعنا نصور ونفكر، وندبر ونقدر، وهو منا ضاحك وبنا مستهزئ! وإنا لنريد اليمين، فإذا هو يطرحنا إلى الشمال، وإنا لنطلب قدام، فإذا هو يركلنا
4
إلى وراء، وكيف لنا بالفرار؛ والهارب إنما يتقلب في يد الطالب؟!
صدقني يا سيدي إذا أكدت لك أن العلم كله ليضيق بشأني، وأن مركوني والمرحوم إديسون، والعالم أينشتين، وأضرابهم من فحول العلماء والمستكشفين، لأعجز جميعا عن أن يهتدوا إلى «نظرية» تطيير هذا الكاتب، ألا فليبذلوا الجهد فيما هو أجدى: من إحالة الحصى ذهبا، والهواء حطبا، ومن إطالة العمر إن استطاعوا، ومدافعة الموت إن أطاقوا، والاصطلاء بالثلج، والابتراد بالنار، والمشي على أديم الطيف ، واستخراج القر من وقدة الصيف
5
ليعالجوا ما طاب لهم من هذا، وليعدلوا عن ذاك، فقد جفت عنه الأقلام، وطويت من دونه الصحف!
ولقد حدثتك عن القدر، فانظر بعد هذا كيف يصنع القدر:
لي صديق من شياطين الإنس لا تعجزه وسيلة، ولا تعيى عليه حيلة، لا أدري أي رصفائه من شياطين الجن زين له أن يطيرني أنا! والعياذ بالله تعالى، سلام قولا من رب رحيم، وإليك الحديث:
من بضع ليال غشيت سامر الأصدقاء، وما إن كدت أستوي في مجلسي حتى ابتدرني صديقي الأديب الظريف الأستاذ حسني نجيب بهذا الكلام: يا فلان! نسافر معا في الطيارة إلى الإسكندرية! فلم يعد الأمر عندي أن يكون من إحدى مزحاته، على أنه كرر هذا وأعاده، وأعاده وكرره، حتى لم يبق فيه فضل لنكتة، فقلت له: ويلك! أجاد أنت؟ فقال: إي والله لا أقول إلا جدا، وستكون نزهة جميلة تظل تذكرها على الأيام، وجعل يبدئ ويعيد في هذا ودمي يغلي في عروقي، والغيظ يذهب بي كل مذهب، حتى كدت أخرج من جلدي، فقلت له: ما الذي أصابك؟ ويحك! أسافر في طيارة؟! لعمري لو أمكنتني من خزائن ركفلر ومن سلطان موسوليني ما فعلت! فقال في جد وتصميم: بل تسافر!
ولما رأيته قد أطال في هذا وأفرط، قلت: لن أسافر ألبتة، فإن كان لك من الحول والسلطان ما تستكرهني به على هذا السفر، فاصنع ما أنت صانع! وأمسكت بعد ذلك عن مراجعته، فلم يسكت، بل جعل يدخل بنا في تفاصيل السفر، ويقترح ألوان الثياب التي آخذ والتي أدع! والفندق الذي نتدلى فيه عند مهبطنا الإسكندرية! و... و... و، حتى أضجرني وأبرمني وطير لبي كل مطير، فقمت عن المجلس وأنا لا أكاد أرى ما بين يدي، غيظا وحنقا، ولم يفته أن يشيعني بالتعجل في إعداد العدة واتخاذ الأهبة لأن الوقت قد أزف! فعدت إلى بيتي وقد جعلت على نفسي ألا أغشى سامر القوم إلا بعد أن يسافر حسني «على الطائر الميمون»!
لم يرعني في ضحى اليوم الثاني إلا أن يسألني حسني في «التليفون» عما إذا كنت قد فرغت من إعداد العدة للرحلة الجوية «يا فتاح يا عليم»! وأسأله أن يكف عني فلا يكف، وأستحلفه أن يدعني فلا يعطف ولا يرق، وفي المساء عاود المسألة في «التليفون» أيضا، وجعلت أجادله جدال المغيظ المهتاج، فلا يكرثه ذلك ولا يلويه.
وهنا تكلم القدر فسكت المقدور، وتزايل الحذر فوقع المحذور.
تقفون والفلك المحرك دائر
وتقدرون فتضحك الأقدار
فلقد أطلق علي القدر من كنانة الغيب ما قصف عزمي قصفا، ونسف كل تصميمي نسفا، فلقد كان ولداي الأكبران بنجوة مني يستمعان هذا الحوار ولا أراهما، فما إن أطبقت فم «التليفون» حتى تقدما وهتفا معا:
إذا كنت يا أبتاه تخاف الطيارة فنحن نركبها بدلا منها! فقلت: لقد قتلتماني أيها الشقيان كما قتل خادم المتنبي مولاه، سامحكما الله وعفا عنكما، وطلبت الأستاذ حسني من فوري وسألته عن ساعة قيام الطائرة وغير هذا من بعض التفصيل، وسرعان ما دعا إلى «التليفون» صديقي المفضال الأستاذ لطفي محمود السكرتير العام لبنك مصر، وهذا أقبل علي بالهناء، فقد كان بين السفر الكرام، وتبين لي بعد أنه كان أبلغ المؤتمرين بي أثرا! وهكذا يكون رجال المال، صنع الله لهم!
كان ذلك عشية الأربعاء، والسفر مصبح الجمعة؛ فيا لها من ست وثلاثين ساعة في انتظار البلاء!
جعل الرعب يشيع في نفسي، والفزع يغمز على قلبي، وأتلفت بالخاطر في كل مطرح فلا يقع إلا على ويل، أما الرجاء في السلامة فقد سكن صياحه، وانطفأ مصباحه.
يا رباه! كل يوم وفي كل ساعة تحلق الطيارات حتى تكاد تحك قرن الشمس وتصك وجه القمر، فتغدو سالمة، وتعود غانمة، فلماذا لا يجري القدر إلا على طيارتي أنا؟! لم تسعدني كل هذه الأمثال ولو بمزقة من ظل الرجاء، وأخيرا تهديت إلى حل ظهر لي بادئ الرأي محكما بديعا، ذلك بأنه إذا كان ولا بد من سقطة، فأقصى جهدها ألف متر، فماذا علي لو أديتها مقدما، فأتسلف السلامة في تلك الرحلة «العزيزة»! وما علي إلا أن أثب من سريري إلى الأرض ألفا وخمسمائة مرة زيادة في الاحتياط، وبذلك نبرئ الذمة من الآن.
وفيما أنا أتهيأ لهذا تنبهت فجاءة إلى أن «بنك» الطيران لم يدخل بعد في أعماله نظام المعاملة بالتقسيط! فسقط في يدي، وتركت الوهم يسري بين حنايا الضلوع مسراه، وفوضت أمري كله إلى الله، فبيده البسط والقبض، وعن أمره الرفع والخفض؛ ولا بد مما ليس منه بد.
ويطول علي الانتظار من مساء الأربعاء إلى صبح الجمعة «والوقوع في البلاء خير من انتظاره» كما يقولون، وكان يسلي عني الفينة بعد الفينة «تليفونات» أتلقاها من أصحابي سائلين عن الخبر كأنه حدث في البلد حدث، وأجيبهم بالتأكيد، وهم بين مصدق وبين مكذب، وبين مشجع وبين مخذل، وتتطارح المفاكهات من هنا ومن هنا، وكلها حول أن عبد العزيز يطير!
على أنها الأيام قد صرن كلها
عجائب حتى ليس فيها عجائب
يوم الطيران
وأهب من نومي في بعض الساعة الخامسة من صباح يوم الجمعة، وجعلت ظلال الأحلام تتقلص رويدا رويدا، والذاكرة تنصقل رويدا رويدا، وجعلت الذكريات تتوارد تباعا، وإذا من بينها أنني بعد ثلاث ساعات أطير! ورحت أجس أطواء نفسي، وأتقرى مداخل حسي، فإذا أنا كل وادع وكل مطمئن، ومضيت أبحث عن الوهم فلا أجده، وأتحسس الفزع في منابته فلا أصيبه! فلو وفدا علي ولو ساعة! فقد ألفتهما وطال الإلف، وحالفتهما فاستوثق بيننا الحلف، وإني في هذا لحقيق بقول المتنبي:
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا
ونهضت خفيفا، فأصلحت من شأني، ورزمت متاعي، ورأيت أنه ما زال بين يدي من فضل الوقت ما يتسع لرياضة الصباح، وهي تستهلك الساعة وبعض الساعة، وطلع علي حسني لموعده، فمضينا على اسم الله إلى المطار، وهو طول الطريق يزين لي هذه الرحلة ويبهجها لنفسي، وما به - شهد الله - إلا الخوف من أن يفلته صيده، فهو إنما يلقي الحب للطائر، ويتراءى بالحمل لليث الخادر!
ولما رأيته قد أسرف في هذا أقبلت عليه وقلت له: يا سيدي؛ دون هذا وينفق الحمار! خفض عليك، فإني طائر طائر! سواء أكانت الرحلة جميلة أم زفتا وقطرانا، وسواء وصلنا سالمين إلى الإسكندرية أم صرنا إلى الدار الآخرة، فالمسألة أصبحت مسألة كرامة، لا أضحك الله أولادي مني، ولا عبث بسيرتي أصحابي، فرأيته يعالج حقن الغيظ، ويجهد في هذا جهدا شديدا، لأنني توسمت فيه من أول ما دعاني لهذه الداهية أمرا، فبيننا ثأر قديم!
وأمسكنا كلانا عن الحديث حتى بلغنا المطار، وهناك استقبلنا الشاب الكفء الجليل القدر، والفاضل ابن الفاضل الأستاذ كمال علوي المدير العام لشركة مصر للطيران، ورفعونا أولا إلى الميزان، فخرجت والعصا في يدي بخمسة وخمسين كيلو، والحمد لله على القلة، فهي كثيرا ما تخفف من كلفة وتعصم من ذلة.
ثم مضوا بنا إلى الطيارة، وكانت أول طيارة رأيتها في حياتي من كثب، فصفوا الركب بجوارها، والتقط المدير بيده صورتهم الشمسية، ثم دعينا إلى الصعود، وأجلسوني وحسني أيضا في الصف الأول مما يلي مجلس السائق، وجلس في الصف الثاني الأستاذان لطفي محمود، وكمال علوي، ومن ورائهما ثلاثة من الإنجليز، وبقي في الطيارة مكان واحد خاليا.
وأطلق السائق التيار فدار المحرك برهة تزيد على الدقيقة، والطيارة ثابتة في موضعها، ثم بعثها فزحفت على الأرض زحفا رفيقا، ثم استحال جريا، وظلت تدور على اليبس، ولما طال ذلك منها قلت لصاحبي؛ لعلنا نبلغ الإسكندرية على هذه الحال برا؟ أفتراها إذن سيارة، أفرغوا عليها هيكل طيارة؟ فضحك صاحبي وقال: أي أرض؟ لأنت والله على جناح الريح، فالتفت وحققت النظر فإذا أنا حقا قد صرت بين الأرض والسماء من حيث لم أشعر!
ولقد كان يخيل إلي أن الطيارة ثابتة في موضعها من الجو، لولا أنني كلما تشرفت من النافذة رأيت البيوت تصغر وتدق، حتى إذا جزنا بحينا في حلمية الزيتون بانت لي المنازل في أحجام الرجام، ففسد علي كل ما أعددت لملاعبة أولادي، وقد واعدوني أن يطالعونا من سطح الدار.
ونسيت أن أقول لك إنني حينما دعيت إلى ظهور
6
الطيارة، تفقدت شيئا مهما جدا، وخاصة في هذه الرحلة فلم أجده، وكيف لي بإصابة ما لم يكن، ووجدان ما لم يخرج بعد إلى الوجود، ذلك بأنني تعودت إذا ركبت القطار أو السيارة أن أقرأ حزب البر، فإذا علوت السفين قرأت حزب البحر، فمن لي اليوم بحزب الهواء؟ لقد اشتد وجدي لهذا وكظ الهم صدري حتى كان يفرق أضلاعي!
يا قوم: لا أسألكم أن تصنعوا لنا سيارة تنهب الأرض نهبا، ولا طيارة تطوي الجو طيا، فلقد وفر الغرب عليكم هذا وكفاكم المئونة فيه، ولكنني أسألكم أن تؤلفوا لنا حزبا للهواء، نستعصم ببركته كلما عرجت
7
بنا الطيارة إلى السماء!
شعور
فإذا طلبت شعوري من ساعة استويت إلى مجلسي في الطيارة، فذلك مما يعيي تصويره على القلم: خطرة خوف ووهل
8
مرت كإيماضة البرق، أو كما قال البحتري: «خطرة البرق بدا ثم اضمحل»، وسرعان ما أحسست لونا من شرود في الذهن يسير لم يقطع ما بيني وبين ما حولي، فإني لأرى الأرض، وأفرق بين أخضرها ويابسها، مساكنها وخلائها، وأرى الترع في اختلاجها وتأودها،
9
فإذا أقبل علي أحد بالحديث تفهمت ما يقول، على أن ذلك كان يجشمني شيئا من حد
10
الذهن، ولقد أجيب عما أسأل عنه في غير تتعتع، إلا أنني كنت أوجز القول ولا أطيل، لأن ذهني لم يكن أكثره بملكي فإن شيئا قويا لينازعني نزاعا عليه!
فإذا عدت إلى نفسي، فرددت طرفي إلى جوف الطيارة، أو أغمضت عيني، وانقطع ما بيني وبين سواي ، لا أعود أشعر بشيء، أو أنني أشعر شعورا غامضا مبهما، لا هو بالخوف ولا هو بالأمن، ولا هو بالرجاء ولا باليأس، ولا هو بالسرور ولا بالحزن، ولا هو بالتفكير في النفس أو الولد أو أي شيء من تلك الأسباب التي كنت من قبل أقدر دوران الفكر فيها، ونزوع الهم كله إليها، بل إنني في هذه الحال، لا أفكر في أنني على جناح الريح، وعلى الجملة لقد كان شعوري في تلك الساعة أشبه ما يكون بشعور الرجل تهيأ للنوم ولما يزل على جناح السنة، هذا شعوري أديته إليك بقدر ما واتاني القلم.
ويتركني صحبي على هذا فترة لا أدري: أطويلة هي أم قصيرة، إلى أن بعثني حسني، حسني أيضا، بحديث «الغراب»، فعرفت أن كنانة الخبيث ما برحت حافلة بالسهام؛ وكان السهم هذه المرة أمضاها ظبة
11
وأصلبها مكسرا، فاسمع يا سيدي لا أسمعك الله حديث «الغراب»، وخاصة إذا كنت معلقا بين التراب والسحاب.
يا غراب «فلان» الغراب، وهذا لقبه، وهو يتكسب من الترسل
12
في القهوة التي نجلس إليها، ولقد عقد الشؤم كله والنحس أجمعه بغرته «السوداء»، حتى لو قلت له: يا غراب علي بكوب ماء، لم يلبث أن يعود إليك بأن شركة المياه قد أفلست، فهدمت أبنيتها، وسدت أقنيتها، وباعت عددها وآلاتها «خردة» وتحملت عن هذه البلاد بسلام! ولقد تقول له: يا غراب! اطلب داري في «التليفون» واسأل: هل زارني أحد؟ فيعود إليك بأنه لم يزرك إلا محضران وثلاثة من الغرماء، وصاحب البيت في طلب الكراء! - فهل طلبني أحد في «التليفون» يا غراب؟ - لم يطلبك يا سيدي إلا النيابة، والقصر العيني، والإسعاف! - إذن فامض إلى جريدة الأهرام، وإليك «نمرة» جلوس ولدي، واسأل: هل نجح في امتحان الشهادة الابتدائية؟ - سقط يا سيدي، وأغلب الظن أن ليس له ملحق! - أرجو منك يا غراب أن تراجع لي هذه «النمرة» في كشف سباق الدربي. - يا خسارة يا سيدي! لقد كان بينها وبين «النمرة» التي ربحت الجائزة الكبرى رقم واحد!
وهكذا،
أينما يوجهه لا يأت بخير ، صدق الله العظيم.
وأنا رجل شديد التطير، يزعجني ما دون «نفحات» الغراب بنسبة
وأصحابي يعرفون شدة ذعري من هذا الغراب، ويتقصون حوادثي التي لا تنقضي معه.
على أن من أشد ما يدهشني حتى يكاد يذهب بلبي، ولع في هذا الغراب شديد بألا يأذن لوجهه الكريم بمفارقة طرفي لحظة واحدة، ولو جلست ثمة عشر ساعات متواليات، اللهم إلا أن تكون القوة القاهرة، فأنى جلست وقف بإزائي، وإني لأجول طرفي إلى الشرق فسرعان ما يشرق وجه الغراب، فأرده إلى الغرب فيغرب، وأتحول من ناحية إلى ناحية، فيتمثل لطرفي في أقل من الثانية، ولما حزبني هذا الأمر رحت أطلب الفداء، وألتمس البرء من هذا الداء، فدعوت به وقلت له: يا غراب! هل تقبلني «مشتركا» عندك؟ فقال: وكيف ذاك؟ قلت: بألا تريني وجهك في مقابل «اشتراك» شهري قدره كذا، وعلى هذا تم الاتفاق، وإن بلائي من «قومبانية» المياه وأختها «قومبانية» النور لأهون من ويلي من الغراب، فهاتان لقد ينبئاني إذا تأخرت عن الدفع اليومين أو الثلاثة، ثم يحبس الماء، أو يقطع تيار الكهرباء، أما «قومبانية» الغراب فالبدار بإرسال «الاشتراك» البدار، وإلا أطلقت عليك التيار، من غير سابقة تنبيه ولا إنذار! •••
وبعد إذ تشرفت بتقديم هذه الشخصية الفذة إلى حضرات القراء، لم يرعني وأنا في تلك الغفلة اللينة إلا أن يهتف حسني بأعلى صوته: يا غراب! وكان بيننا وبين الأرض ما ينيف على ستمائة متر فقط؛ فمقياس الطيارة أمامي، والتفت إلي وقال: ألا تعرف أنني جئت بالغراب ودسسته في مؤخر الطيارة، وسيثب إلينا الآن، وهذا الكرسي الخالي له؟ فقلت: أتجد يرحمك الله؟ قال: بل يرحمك أنت! وأطلقها الخبيث في تشف وشماتة، ونهض يجيء بالغراب، ووالذي نفسي بيده ما شككت قط في أنه قد فعل، فصاحبي حاذق مدبر فاجر! فجمعت شملي، وحددت شجاعتي، وقلت في أتم وداعة واطمئنان: اسمع يا هذا! إن كنت فعلت فقد والله أحسنت كل الإحسان، لأنني إن بلغت سالما فقد نجوت من الغراب والطيارة معا؛ ومن نجا من هذين فقد أمن أحداث الزمان في طول الزمان، وإن هلكت، وكل امرئ هالك، فقد أنقذت العالم من الغراب، فأنا إذن مخلص هذا الزمان، وهذا مقام تتقطع دونه علائق الآمال! فضحك حتى تبادر دمعه وعرفت أن حقده علي لم يبلغ هذا المدى، وإن كنت لا أخفي على القارئ أن مجرد ذكر الغراب، ونحن على هذه الحال، خطر لا يتهاون شأنه إلا المخاطرون!
بعد هذا تركني وكفاني عبثه، فرجعت إلى نفسي فإذا كلي حاضر: إدراك تام، وشعور واف، ونفس وادعة، وعصب مطمئن، وطرف أوجهه حيث أشاء، فيعود إلي بألوان الصور كاملة واضحة، وكأن الفزع من رؤية الغراب، ذهب بالفزع من ركوب الطيارة، وهكذا تداوينا من الفزع بالفزع، وصح فينا قول الأعشى:
وأخرى تداويت منها بها
وقول أبي نواس:
وداوني بالتي كانت هي الداء
وتلك عندي يد للغراب لا أنساها له على تطاول الأيام!
على أن شيئا واحدا حير حسي، وأدخل علي الشك في صحة إدراكي: ذلك بأنني ما شعرت قط بأن الطيارة هي التي تسير، بل إنني لا أراها إلا ثابتة لا يتحرك منها إلا المحرك، ولكنني أنظر إلى المقياس فإذا هو يحدث أنها تجري في سرعة سبعين ومائة كيلو متر في الساعة، ثم ثمانين ومائة، ثم تسعين ومائة! ثم أرخي نظري إلى الأرض، فإذا هي التي تدور في اتجاهنا، ولكن في تثاقل وشدة هوادة، حتى يخيل إلي أن ما نقطعه منها أو ما تقطعه هي منا لا يدرك كيلو واحدا في الساعة!
ثم علونا وعلونا، فأشار صاحبي إلى قطار من قطر «السكة الحديد»، فإذا هو في لطف جرمه، ودقة حجمه، لا يكبر هذه القطر التي يتلعب بها أبناؤنا الصغار!
أما الأرض فكان مرآها عجبا من العجب: هذه رقاع سندسية خضراء، لا تزيد مساحتها على متر في متر، يفرق بينها فراغ أدكن طويل في مثل عرض الأصبع، هذه هي الترع، أو السكك الرئيسية، وتلك هي «الغيطان»، وكلما أمعنا في الارتفاع ازدادت هذه كلها دقة ولطفا، حتى لقد خيل إلي في بعض الوقت أننا إنما نتشرف على خريطة جغرافية كبيرة، لا على هذه الأرض، ذات الطول والعرض!
ولقد جزنا بالنيل مرتين، ولقد أذكر أنه بانت لنا جزيرة صغيرة في وسطه، وحسبت أنني أستطيع أن أتناولها من الشاطئ بخطوة واحدة، وأتناول الشاطئ الآخر بالأخرى! إيه! ما أصغر هذه الأرض في عيوننا، وما أهونها على أنفسنا نحن معشر سكان السماء!
ما أحلى منظر هذه الأرض وما أبدعه من عند السماء! هي رقعة شطرنج جميلة، إلا أنه لا يملك منها اتساق التقسيم ولا تشابه الأجزاء، ولا هي تقتصر في تلونها على البياض والسواد: هذه رقعة خضراء مربعة، وهذه أخرى تستوي في مثلث غير مستوي السوق ، وهذه رقعة مستطيلة تحسبها فرشت «ببركيه» جديد لم تمسه بعد يد الصقال، وهذا إطار جميل يعتدل ثم يتثنى، ويستقيم ثم يتلوى.
وما برحنا في شغل من تقليب النظر في هذه الطبيعة، وكأننا جالسون في أحد رواشن الدور، تجوز من دوننا مظاهر الابتهاج والسرور!
ولعلك الآن مستشرف إلى مطالعة شعوري في هذه الساعة، وإني لمباديك به غير متزيد ولا غال: كنت أستمتع بمثل نعيم الجنة لم يلقني في طريقها موت، ولم يعنني في سبيلها حساب!
وإن شئت وصفا يتصل بأحاسيس هذه الدنيا، فليس عندي ما أجلو عليك من فنون التشبيه إلا أن أحيلك على الحلم اللذيذ في النوم المطمئن الهنيء، تتوافى لك فيه أسباب المنى وما في يديك منها كثير ولا قليل!
ثم دخلنا في الصحراء، وكلها شيء واحد لا يرجع إليك طول النظر فيه إلا بالضجر والملال، فجعلنا نتشاغل بالحديث وبالقراءة بعض الحين، وعاد حسني، وحسني دائما، فقال لي: أتحب أن أشير على السائق بأن يعمل «شوية شقلباظ!» فتتمتع بهذا اللون من الطيران قبل النزول؟ فشخصت إلى الأستاذ علوي، وفي عيني ما لا يخفى من سؤال وضراعة، فتجمع في كرسيه، وقال في جد لا أثر فيه للعبث: لكما يا صاحبي أن تمزحا ما طاب لكما المزاح، وإني لأدخل معكما في بعض هذا كيفما شئتما، ولكن لا سبيل إلى مزاح مع طيارة ولا مع طيار! فتحولت إلى الشقي، وقد قلمت أظافره، وقلت له في لهجة الظاهر
13
المنتصر: «طيب انبط بقه!»
وتراءت لنا من بعيد صفحة البحر، فتداخلني كثير من الهم معه يسير من الفزع، أما الهم فلأن هذه الرحلة البديعة قد آذنت بانتهاء، وأما الفزع فلما كنت أعلم من أن الطيارة تترجح في مهبطها حتى لتستوي في بعض الحين على جنبها، وعلى هذا تمكنت في مجلسي، وشددت بيدي على حافة كرسي حسني، ولبثت أنتظر، وأنشأت الطيارة تتدلى، ولولا أنني أرى عقرب المقياس يتدلى ما شعرت أن الطيارة تتهابط، ومال علي حسني وقال: لا يرعك أن الطيارة ستميل ميلا شديدا عند مهبطها ، وهذا ما لا بد منه لنزولها، فقلت: فلتمل كيف شاءت، فليس بيننا وبين الأرض إلا مائة متر أو دون، وحدثتك أنني كنت قد جمعت شملي للتحرف لهذا الميل؛ على أنه لم يرعني، وأنا في فترة هذا الانتظار، إلا أن يهتف بنا من الركب هاتف: أن تفضلوا! وأنظر فإذا نحن على الأرض، وإذا الباب يفتح، وإذا الركب يتدلى!
وتسألني في النهاية، كم مرة أطلقت نظرك إلى يد السائق! فأقسم لك أنني ما أرخيت إليه طرفي قط ولا مرة واحدة، ولماذا أفعل؟ والطريق معبدة، ليس على عذارها طوار، ولا عمد للترام، ولا «مزلقان» لسكة حديد، ولا نحن على سيف
14
نهر، ولا بمقترب من سيارة يقودها بعض «الوارثين»، وليس على سكتنا غلمان لا يحلو لهم الحجلان إلا في بهرة الطريق، ولا «دغف» لا تطيب له قراءة الجريدة إلا وهو ساع على قدميه في الساعة الخامسة من يوم الأحد في وسط ملتقى شارع فؤاد بشارع عماد الدين، ولا، ولا، من هذا البلاء الذي يأخذ جميع المذاهب على ركاب السيارات!
نعم، لقد رجفت بنا الطيارة في أثناء الطريق بضع رجفات لا تزيد في مدتها، ولا في خفقاتها على اختلاجة الجفن، بحيث لو كان المرء مشغولا بحديث أو قراءة، فإنه لا يشعر بها أو لا يكاد، وقيل لي: إن هذه إنما تجيء عند اختلاف المناطق، كالخروج من اليابس إلى الماء، أو الدخول من أحدهما إلى الصحراء، على أن الطيارة لو ارتفعت فوق ما ارتفعنا قليلا لما كانت هذه الخلجات لعلوها على تيارات الهواء. •••
ولست أكتم سيدي القارئ أنني ذعرت في هذه الرحلة ذعرا شديدا كاد يجيء على نفسي: ذلك بأننا بعد أن وصلنا بسلامة الله، أخذنا من فورنا سيارة إلى النزل، فلبثنا هناك إلى ما بعد الظهر، ثم بدا لنا أن نتغذى في مطعم الشاطبي، وما كدنا نصل إلى رأس السلم حتى أشار لي صديقي حسني إلى ناحية السماء، فإذا طيارة تحلق في الجو، وقال لي: إنها التي كنا فيها، وهي الآن في مقفلها إلى القاهرة ، فقلت له: وقد اصطكت ركبتاي من الذعر والوهل! أفكنا على هذا الارتفاع؟ قال: بل لقد كنا في بعض الطريق على ثلاثة أضعافه! ولقد والله أحسست أن قلبي يمشي في صدري حتى بلغ حنجرتي، فجعل يتخلج فيها تخلجا «لا يرتقي صدرا عنها ولا يرد»، فلما عاد ريقي فجرى في مجاريه قلت له: أفجننت أنا حتى أجازف في مثل هذا؟! والله لئن كان حدث لي حدث في هذه الرحلة، ما سمعت لك مرة واحدة، ولا ركبت معك بعدها طيارة أبدا.
على أننا قد وصلنا بحمد الله تعالى سالمين، فلحى الله أنفس الجبناء!
الراديو1 كما يصفه أعرابي قادم من
البادية
سيداتي سادتي
تفضلت شركة مركوني فدعتني لأتحدث إليكم أحاديث شتى في أوقات متفرقة، وإني على ما تداخلني من الزهو بهذا التشريف، لقد تعاظمني الأمر وهالني، فليس من اليسير على مثلي أن يقف بين يدي هذا المذياع «أعني الميكروفون» فيخاطب آلاف الآلاف من أصناف الناس في شعب الأرض، بينهم العالم والأديب، وفيهم الكاتب والشاعر والناقد، وسيدات هنالك لا ينقصن في هذه المقامات علما وفضلا وأدبا.
لقد تعاظمتني هذه الدعوة، فتعذرت بادئ الرأي على إجابتها، ولكنني دفعت بعد هذا إليها من أولياء مشورتي دفعا.
إذن لقد حق القول، ولكن ماذا أقول، وكيف أتحدث؟
خلوت إلى نفسي لأختار أول حديث لي في هذه المحطة، وجعلت أتصفح وجوه الموضوعات، على أنه كلما سنح لي واحد منها، حال بيني وبينه همي وشغل نفسي بما يكون من موقفي في «الراديو»؛ وكف ذلك الشغل ذهني عن أي تفكير في غيره وعن أي تدبير، نعم، لقد ملك ذلك علي ذهني من جميع أقطاره ... إذن فلأرسل حديثي في «الراديو» ولأقصر عليه الحديث.
الراديو
سيداتي، سادتي
لعله قد هجس في نفوسكم جميعا أو في نفوس كثير منكم هذا السؤال: ترى لو أن مخترعا عظيما كالسنيور مركوني كان قد طالع سلفنا الأقدمين بهذا «الراديو» فماذا كانوا يظنون، وكيف كانوا يقولون؟
أما أنا بالذات، فقد غم علي الأمر، وتقسمت ذهني ألوان الفروض، ولكنني لم أستقر منها على واضح صريح، فضلا عن حق يقين!
ولكن، ولكن للمصادفات، المصادفات وحدها في كثير من الأحيان، آثارا تعيي على أشد عقل، وأعظم جهد، وأحكم تدبير، بل إن للمصادفات، المصادفات وحدها، في كثير من الأحيان، الفضل الأول فيما هدي إليه أعلام الناس من اختراع عظيم، وما وقفوا عليه من استكشاف جليل!
هذه المصادفات، أو على الأصح هذا القدر، لقد ساقني يوما، وكان ذلك من نحو عامين، إلى زيارة صديق جمع الله له إلى النعمة والترف، حلية الظرف والذكاء، وما إن كدت أطالعه بالسلام ويتلقاني بالتحية، حتى قال لي: إني سأريك الساعة شيئا عجبا لعله لم يخطر لك على قلب أبدا! قلت: هات ما عندك، فتقدم إلى خادمه بأن يدعو الشيخ عدلان، وما لبثنا غير قليل حتى أقبل علينا شيخ من الأعراب أسمر اللون شديد السمرة، خفيف اللحم، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، أملى علي شكله الستين، ثم علمت أنه قد أطل على الثمانين، وهو مع هذا مستوي القامة، حتى كأن قامته الرمح المثقف، فحيا بتحية الإسلام، فرددنا التحية بالتحية.
وأقبل علي صاحبي يعرف لي الرجل، قال: إنه من إحدى بوادي نجد، وهو يتنخس في الدواب،
2
على أنه لم تهيأ له رؤية الحضر من قبل، بل لقد كان يرسل على إبله وخيله إلى مصر وغير مصر ولده وبعض معشره، ثم بدا له أن يفد معهم هذا العام، ليشهد عيش الحضر قبل أن يدركه الأجل، ووافق مقدمه حاجتي إلى بعض الجياد، وسألته أن يقيم عندي ما أقام في مصر، لما رأيت من ظرفه، وخفة روحه، ولطف حديثه، وحسن بديهته.
ولقد بعثت «الراديو» ذات عشية في حضرته، فارتاع وشده، وذهب الرعب بلبه كل مذهب، ثم اطمأن صاحبي فترة قصيرة وقال: وعلى الشيخ عدلان أن يقص بقية الحديث، والتفت إلى الرجل وسأله أن يتكلم، فتعذر وتمنع، فعزم عليه إلا تكلم، فأكرم الضيف وأومأ إلي.
تنحنح الرجل، وسعل سعالا رفيقا، ثم أنشأ يتحدث في لهجة بدوية كثيرا ما كان يلتوي علي فيها اللفظ، فيسويه لي بعض من حضر.
سيداتي، سادتي
الآن أنقل إليكم حديث ذلكم الأعرابي بعد أن علقته وقيدته بقدر ما واتاني الجهد، فإن كنت قد عالجته بعض العلاج ففي شيء من الصياغة بتقويم ما لا يستقيم في آذاننا من لهجة أولئكم الأعراب، قال:
دعاني صاحبك ذات عشية إلى أن أصعد إليه، فلما استوينا في مجلسنا من إحدى الغرف، أومأ إلى ركنها، فحولت بصري فإذا دمية
3
من خشب بتر ساقاها فأقعدوها على منضدة،
4
لها أنف صغير، ولها أذنان دقيقتان، وقد توسط ما دون الجبين عين لها، وا عجباه، واحدة تمزقت حدقتها فتناثرت في بياضها تناثر أكارع النمل، على صفحة الرمل، ولها فم، يا حفيظ! قد استهلك نصف وجهها، سجوه بديباجة من حرير، وليتهم سدوا عليه مسامير من حديد! وما أحسب والله هذه الدمية إلا صنعت على صورة الجن لم تطبع على صورة الإنسان!
ثم قام صاحبك إليها فعرك أذنها، وسرعان ما احمرت حدقتها فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم! ثم سمعت لها حسيسا
5
ما لبث أن استحال زمزمة وهمهمة،
6
فخلت والله أن الأرض قد زلزلت علي، وأحسست قلبي يتمشى من الروع في صدري حتى يصك حنجرتي، فجمعت ثوبي للهرب، فجذب صاحبك فضل ردائي، ولو قد أطلقني ما أصبت المهرب، فلقد تخاذلت عني ساقاي، وأظلم ما بيني وبين وجه الطريق، وجعلت ألتمس آية الكرسي أستعصم بها من هذا الشيطان، فأذهبها الرعب عني، وكأني لم أحفظ منها في دهري الأطول كلمة واحدة! ولما رأى صاحبي ما بي قال لي: خفض عليك يا شيخ! قلت: وهذا العفريت! قال: لن ينالك منه مكروه إن شاء الله، فلقد قيدوا ساقه، وشدوا وثاقه، فما يجد له من إساره فكاكا، ولا يستطيع في محبسه حراكا، قلت: أفيسجن سليمان المردة في قماقم من نحاس أو من ذهب، وأنتم لا تبالون أن تسجنوها في جماجم من خشب؟ فانثنى عني إلى الدمية فعرك أذنها الثانية، فسرعان ما سكن هديرها، وبطل زئيرها، وإذا العفريت يتحدث في لين صوت واطمئنان نبرة كما يتحدث عرفاء القوم
7
إذا اجتمع لهم في الهينات القوم، وإذا هو ينطق بالحكمة بعد الحكمة، ويرسل العبرة في عقب العبرة، فأفرخ ذلك من روعي
8
حتى كادت ترتد إلي نفسي، ووالذي نفسي بيده لو كان حديث هذا العفريت مما يطعم لكان أحلى من الجلاب،
9
أو لو كان مما يبصر لكان أصفى من العسجد المذاب.
10
على أن صاحبك لم يلبثه حتى يأتي على غاية حديثه، فلقد قام إلى دميته فعرك هذه المرة أنفها، فجعلت عينها تدور في محجرها، ثم تركها فاستقرت، ولم يرعني إلا أن أسمع من جوفها عزيف عود، وصوت مزمار كأنما ينفخ فيه داود، وهما يتعطفان على نقر دف أحسبهم قد علقوا فيه صنوجا دقاقا،
11
ووالله قد حسن إيقاعه وحلا نبره، كأنما وكل إلى طويس
12
نقره، وسمعت معازف أخرى جعلت تتنغم وتترنم، حتى خلتها من جودة الإيقاع تتكلم، فشاع في الطرب، بقدر ما تداخلني من الدهش والعجب!
ثم ارتفع صوت لولا البيان لقلت: سجع كنار، أو شدو هزار، ولقد راح يشتد ثم يلين فيشف، ويحلق ثم يهبط ويسف، وآنا يطرد ويستوي، ثم إذا به ينثني ويلتوي، ويسترسل ثم يتعرج ويتعطف، ويتقدم ثم ينحاز ويتحرف، والكبد تتياسر معه وتتيامن، والقلب يتطاير ثم يتجمع ويتطامن، والنفس يرتفع كلما ارتفع، ويقع معه حيثما وقع!
وما برح العفريت في شدوه وتسجيعه، وترديده وترجيعه، حتى ذهب الطرب بي كل مذهب وغلب علي، ولم أقو على شق ثوبي فجعلت ألدم صدري، وليت شعري أفأمسى هذا العفريت يرد على المسامع، صنعة إسحاق وغناء ابن جامع؟
13
وما فرغ العفريت من غنائه، حتى أنشأ يقص علينا أحدث الأحداث في قواصي الأرض وأدانيها: صينها وهندها، وشينها وسندها، وعراقها وحجازها، ونجدها وأهوازها، ومصرها وسودانها، فقلت: لصاحبك: كيف للجني بهذا وهو قيد أسره، ورهن محبسه؟ فقال: إنما يوسوس له بهذه الأنباء إخوانه من المردة والشياطين، قلت: الأمر لا بد أن يكون هكذا!
سيداتي، سادتي
لقد تعاظمني أن أدع الرجل سادرا في ضلته، فقلت له: اسمع يا أخا العرب! والله لقد كذبك وهمك، وما صدقك صاحبي! فنظر إلي الرجل نظرة المأخوذ، وعلق نفسه وفغر فاه، ثم قال لي في لهفة ودهش: وكيف ذلك يا ابن أخي جعلت فداءك؟ قلت: إن الذي رأيت إنما هو من صنع مردة الإنس لا من صنع مردة الجن! ... ورحت أبين له حقيقة «الراديو» على قدر ما يتعلق منه بعلمي ويتسع له فهمه، وطفقت أضرب له ما حضرني من الأمثال، والرجل بين مصدق ومكذب، فلما أعياني أمره دعوت «بالراديو» وأظهرته على خلفه، ليرى بعينه ما في جوفه، فلما قطع اليقين عنده علائق الشك، زفر زفرة طويلة، ثم تمثل ببيت البحتري في وصف إيوان كسرى:
ليس يدرى أصنع إنس لجن
سكنوه، أم صنع جن لإنس
وليس هذا بأول بدوي بهرته أسباب الحضارة فأشاع فيها الظنون! فلقد قرأت مثل هذا عن أعرابي لعله انحدر إلى بغداد في عهد العباسيين، وأقول «لعله» لأن عهدي بهذه القصة عهد طويل.
سيداتي، سادتي
أفرأيتم أن المصادفة، المصادفة وحدها، هي التي هيأت لي الحديث إليكم الليلة؟
وبعد، فإذا كان العجب لم يأخذ فينا بعض ما أخذ في ذلك الأعرابي حين طلع علينا هذا «الراديو» أول مطلعه، فذلك لأننا نعيش في حضارة ممدودة الرواق، مبسوطة الآفاق، وقد جازت بنا ألوان من المخترعات لم تكن تخطر على القلب، فوق أن المجموعة قد أحرزت على الأقل أطرافا من علوم الحياة تسلس لها في هذا وأشباهه وجوه الفهم والتعليل، إلى أن الأخبار تتقدم عادة بخروج هذه المخترعات وشيوعها فيطامن ذلك من الانبهار بها، ولو لم نصب شيئا من هذا لكنا وذلكم الأعرابي في تصور «الراديو» بمنزلة سواء!
ولقد يكون أبناء هذا العصر قد دخلهم شيء من العجب أو الدهش يوم أضاءت لهم الكهرباء، ويوم تغنى لهم الحاكي (أعني الفونغراف)، ويوم حلقت فوق رءوسهم الطائرات، ويوم غناهم «الراديو» وخطبهم وحدثهم، ولكن الطفل الذين درجوا وهذه الأشياء قائمة، لم يلحقهم منها - إن لحقهم - إلا يسير من العجب، بل لقد يحسونها من إحدى البسائط في وسائط الحياة، وهكذا كلما زكا العلم وربا واطردت الحضارة ببني الإنسان!
من مزايا «الراديو»
سيداتي، سادتي
دعونا الآن من العجب والدهش في حديث «الراديو»، فلم يبق لهذا موضع الآن، وصدق المثل: إذا عرف السبب بطل العجب، حتى إذا لم يعرف للأمر سبب، فإن ذلكم الانفعال ليسكن وحده بالإلف وطول الاعتياد، ومن حق «الراديو» علي بعد ذلك، وهو وسيلتي إليكم الآن، أن أتحدث عن شيء من آثاره؛ ولكنني لن أتحدث إلا يسيرا.
كان للأصوات على العموم مدى تنتهي إليه، وهذا المدى يختلف بعدا وقربا باختلاف الأصوات من جهة، والأسماع من جهة أخرى، قوة وضعفا، كما يختلف باختلاف الجو ضوضاء وجلبة، أو هدأة وسكونا، وعلى أي حال فإن هذا المدى لم يكن يتجاوز الصدر في رقم المئات من الأميال، كما يكون من هزيم الرعود وعزيف المدافع مثلا، فلما كان البرق (أعني التلغراف) تهيأ له أن يحمل نقر الناقر إلى آلاف الأميال، فلما كانت المسرة (أعني التليفون) سافرت أحاديث الناس كذلك مبينة واضحة اللفظ، على أنه لا يتهيأ الاستماع إليها إلا لواحد أو لآحاد.
ويأذن الله باللاسلكي، وقوامه - كما تعلمون - إشاعة الأصوات في الأثير، ولمن شاء بهذه الأداة التي بين أيديكم الآن، استمع في حدود المسافة التي يبلغها جهد المصدر، وهو المحطة التي تتولى الإذاعة من جهة، وجهد الأداة التي تتلقاها من جهة أخرى.
بهذا أصبح أثر «الراديو» في باب الإذاعة أشبه ما يكون بأثر المطبعة، غير أن ذلك يتصل بالآذان ، وهذا يتعلق بالأعيان، والجامع بينهما واحد على كل حال! فكلاهما يستخرج من الشيء المحدود ما لا يحصره عد، ولا يحيط به حد!
فمهما يفسح بين يدي الخطيب أو المغني، ومهما يؤت أحدهما من قوة الصوت وجهارته، فإنه ليس ببالغ من الأسماع إلا بضعة الآلاف على أوسع تقدير، أما «الراديو» فيستطيع أن يبلغ آذان الملايين في شعاب الأرض المختلفة دون مطاولة جهد ولا تجشم عناء!
سيداتي، سادتي
ليس «الراديو» أداة لهو فحسب؛ على أن شأنه في هذا الباب جليل، ومن الفضول أن أحدثكم عن شيء تستمتعون به وتطربون عليه أكثر لياليكم إذا لم يكن في لياليكم جميعا، ولكنني ألفتكم إلى شيء واحد: ذلك بأن هذا «الراديو» قد اعتمد ناحية من نواحي «الأرستقراطية»، وإن شئتم قلتم ناحية من نواحي الأثرة الإنسانية، فحطمها تحطيما، ولقد أدركت العصر الذي لم يكن يؤذن فيه لصغرى الطبقات، بل لبعض وسطاها في سماع المرحوم عبده الحامولي وأضرابه إلا بخوض المشقات واقتحام الأهوال، فلقد كان يقف بأبواب السرادقات في أعراس علية القوم غلاظ الجند في أيديهم غلاظ الهراوات،
14
فما يتهيأ لمستمع مسكين أن يدنو لينشر أذنه إلا مشق
15
بالعصا العشر والعشرين، وهو يصيح في ظاهر السرادق آه آه، ووالله ما أدري أيتأوه الرجل من لذة النغم، أم من حرقة الألم؟
والآن، وبفضل هذا «الراديو» تيسر لكل إنسان أن يسمع أعلام المغنيات وأقطاب المغنين في أقطار الأرض، وهو وادع في كسر بيته، فإذا أعوزه «الراديو» استمع في المقهى، وإلا فعلى ظهر الطوار متسع للجميع!
سيداتي، سادتي
قلت لكم إن «الراديو» ليس أداة لهو فحسب، والواقع أنه كذلك وسيلة نافذة أبلغ النفوذ لبث العلوم والفنون والآداب، ونشر ألوان الثقافات على العموم، وكل أولئك من شأنه أن يرفع من مستوى الجماهير، حتى ليزيل كثيرا من الفروق الثقافية بين الطبقات.
هذا إلى أنهم لو تجاوزوا به المدن إلى القرى لرفهوا الفلاحين المساكين وسلوا عنهم، وخففوا من آثار كدهم في يومهم الأطول، إلى ما يغذون به من ألوان التعليم والتثقيف، والإرشاد إلى كل ما هو نافع فيما يتصل بصحتهم وزروعهم، وتربية بنيهم، وتدبير أموالهم، وغير ذلك من أسبابهم، وموافاتهم بما يعنيهم من أنباء بلادهم وسائر بلاد العالم.
ولا تنسوا بعد ذلك أن «الراديو» سيكون من العوامل البعيدة الأثر في التقريب بين الثقافات العالمية، وتقارض بعض الفنون بين الأمم المختلفة من غير عسر ولا تجشم عناء.
ولقد كنا وما زلنا، في الموسيقى بوجه خاص، نأخذ ولا نعطي، وإني لأرجو أن يضاعف أولو الشأن من قوة هذه المحطة العظيمة، حتى يتكافأ الأخذ والعطاء بفضل حذاق الموسيقيين المصريين، فلا نعيش عيالا على غيرنا أبد الآبدين! •••
هنالك مزية أخرى جليلة «للراديو» اسمحوا لي بأن أفخر وأتتايه بأنني - بفضل الله - أول من استكشفها، وما كان ليفكر فيها من قبلي إنسان: إن المغني إذا جلس للناس فنشز عليه النغم، والخطيب إذا تراءى للجماهير فأخطأه التوفيق والتوت عليه الكلم، كان شأنه بين حالين أحلاهما مر، وأيسرهما عسر: فإما أن ينفضوا عنه بسلام، وإما أن يثبتوا فيسمعوه موجعات الكلام، أما وهو قائم بين يدي المذياع، فإنه لا يرى ما يصنع له، ولا يسمع ما يقال فيه، وعلى هذا فإنني أسامحكم يا سادتي من كل قلبي في كل ما قلتم الليلة وفي كل ما صنعتم، وأسأل الله المغفرة لي ولكم!
مجدولين1
أخي السيد الجليل
هل لك إلى أن تعيرني قلمك ساعة واحدة، فأصف به تلك «الرواية» الرائعة التي أديتها إلى أبناء العرب، فإنه ليس حقيقا بوصف براعة «مجدولين» إلا معرب «مجدولين»!
قرأت كتبا وأقاصيص لأعيان الكتاب والمؤلفين متقدميهم ومن تأخر منهم، وليس شيء منها يقل عن «مجدولين» غرابة حوادث، وقوة خيال، وصحة معان، ونصاحة أسلوب، ورشاقة لفظ، وصفاء ديباجة، فلم تثر من شجوني، ولم تنل من شئوني بعض ما نالت «روايتك»، فعمرك الله كيف صنعت حتى برعت هؤلاء جميعا، وبلغت من نفوس القارئين ما تثلمت دونه كل أولئك الأقلام؟!
إني محدثك الحديث وأنت به أخبر! لقد كان ظن كثير باللغة أنها لا تنبسط إلا لما يتحرك في أذهانهم، وما تجول به أفكارهم ، وما تناله حواسهم، وحسبهم بهذا القدر الذي تستقيم به أمورهم، وتنتظم به معايشهم، وتتسق لهم به أسباب اجتماعهم في هذه الحياة.
أما تلك المعاني التي تعتلج في قرارات النفوس، وتترقرق في أطواء القلوب، وتضطرم في حنايا الضلوع، فهيهات أن ينتظمها الكلام، أو تشكها أسلات الأقلام!
تلك المعاني التي يبعثها في نفس الفتى مرأى الشمس إذا برزت من خدرها، والوردة إذا خرجت من كمها، والبدر إذا تألق في كبد السماء، والآل إذا ترقرق على متن الصحراء، والبرق إذا لمع، والسحاب إذا همع، والحمام إذا سجع، والعبير إذا سطع، والزهر إذا طله الندى، فأقبل النسيم يحمل إليك منه عرف الشذا، والجوزاء إذا تبدت في عقد مؤتلف النظام، والحسناء إذا افترت عن مثل حب الغمام - وما إلى هذا من ألوان المعاني وفنون الإحساس التي يدركها أولئك الذين صفت طباعهم، ورهفت مشاعرهم، في حال عشقهم وصبوتهم، وفي سعادتهم أو في شقوتهم، وفي مراحهم ولهوهم، أو في حزنهم وشجوهم.
لقد عيت لغة الناس بأداء كل ذلك وانخذلت دونه، وتقدم للتعبير عنه ما تراه من فتور النظرة، وانهمار العبرة، وانعقاد ما بين العينين، وانبساط الأسارير، وتربد الوجه، واحمرار الوجنة، وانتقاع اللون، وما تسمعه من نفثة مصدور، وأنة مهجور، وآهة عان، وزفرة غيران، ومثل هذا مما يدعوه أصحاب المنطق بالدلالة الطبيعية.
هذا ظن الناس باللغة؛ وبخاصة لغة العرب، حتى أخرجت لهم «مجدولين» فإذا قلم لم يتعذر عليه معنى، ولا تحرج عليه مذهب من مذاهب الكلام؛ وكأني به وهو يتدسس في القلوب تدسسا، فلا يزال يتعطف حتى يبلغ منها مجامع الإحساس، فما طلب في صميمها معنى إلا أصابه، ولا أراغ في قرارها عاطفة إلا شكها، ثم استلها فجلاها في «مجدولين»، بلسان عربي مبين!
فإذا بهرت قراءك «مجدولين» فلأنهم يسمعون فيها أحاديث عواطفهم، ويرون في أثناء سطورها عصارة قلوبهم؛ فما يدري أحدهم إذا اطرد في قراءتها: أهو في حديث نفسه أم أنه يتلو قصص غيره في كتاب؟!
ذاك أيها السيد، سر روعتي وإعجابي، ولئن سقطت إلى الكتاب هنات قليلة لا تطمئن إليها قوانين اللغة، فحسبك أنك أتيت فيها بما قطت دونه أنامل كثير من الكتاب، على تطاول الأزمان والأحقاب!
إني أهنئك يا أخي، وأهنئ هذه الأمة، فلقد كانت «مجدولين» فتحا جديدا للغة العرب.
إفلاس!1
لا أكذب القراء الخبر، فلقد اجتمعت اليوم لأكتب «حديث رمضان» فإذا بي مفلس لا أصيب زادا، ولا أجد لشأني عدة ولا عتادا، ولست أعني الإفلاس من المال، فهذا شيء قد أزمن وطال ثواؤه، حتى نزل منا والحمد لله منازل العادة، بحيث لو فارقنا لالتمسناه وتفقدناه، ووجدنا له من الشوق والحنين، ما لا يجد في وحدته مالك الحزين،
2
ورحمة الله على المتنبي حين يقول:
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا!
وبهذا ارتقينا، بفضل الله تعالى، عن مرتبة الرياضة على الصبر، إلى مقابلة المكروه بالحمد والشكر، فبتنا خيرا من كثير عزة حين يقول:
فقلت لها يا عز كل مصيبة
إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
فليس الإفلاس المعني إذن إفلاس مال، ولكنه إفلاس مقال! •••
لقد فصحني النهار، وعلي أن أكتب «للجهاد» حديث رمضان، وأنبعث إلى مكتبي فأستوي له، وأبسط القرطاس بين يدي، وأشرع اليراع ثم أهوي به، فإذا هو يتعصى علي ويركب رأسه، ويشرد تارة إلى اليمين وأخرى إلى اليسار، ما يكف له جماح ولا يطامن من نفار!
يا ويلتا! ماذا أكتب «للجهاد» اليوم وكيف أقول؟ اللهم لا شيء!
أترى الأرض كلها قد أقفرت من موضوع يكتب كاتب فيه، ولو بالإصابة من أطرافه ومس حوافيه؟ اللهم لا!
وإني لأبسط العزم وأشده، وأذكي الذهن وأحده، وأمد الفكر وأثنيه، وأنشره ثم أطويه، وأتصعد به إلى السماء، ثم أغوص به في جوف الدأماء،
3
فلا يجديني ولا قطرة ماء!
ثم إني لأرمي بالقلم وأتطاير عن مكتبي، وأنفر إلى حديقتي الصغيرة، فأتفقد أشجارها، وأتوسم أزهارها، وأهرول من ها هنا ومن ها هنا، لعل خاطرا يعتريني فأصيب به كلاما، فإن ظفرت بعد هذا بشيء، فظفر القابض على المزقة من الفيء.
4
ثم أعود فأستوي إلى مكتبي فأستندي ذهني فلا يندى، وأروضه على القول فلا يطيع ولا يرضى، وأستبينه فلا يبين، وأستعطفه فلا يرق ولا يلين، وأستمنحه فلا يمنح، وأستعطيه فلا يعطي ولا ينفح، وإني لأهز القلم هزة الكمي
5
ساعة يخرج للنزال، ويبرز لقراع الأبطال، فإذا هو يتعايا في يدي ويتثاقل، وإذا هو يتراخى ويتزايل، وإذا بي أراه قد تفلل من غير حرب، وتثلم من غير طعن ولا ضرب!
ويلي عليك وويلي منك يا هذا القلم!
هذا ميزان النهار قد اعتدل، وهذا البريد يتهيأ للسفر، فإن لم أرسل على جناحه حديثي «للجهاد» فبأي وجه أطالع القراء من غدي؟ إذن فلأبعث بهذه الشكوى العاجلة، لعل في معشر القارئين من يعذر الكاتب إذا ونى أو قصر، ويرثي له إذا تعاصى عليه البيان وتعذر!
في الجمال1
لا أعرض لتعريف الجمال، لأنني عاجز عن تعريفه، وما الحاجة إلى ذلك وهو حاضر في كل نفس، موصول بكل حس، يستشعره الإنسان، كما يستشعره الحيوان؟
والجمال يتجلى في الإنسان، وفي الحيوان، وفي النبات، وفي الماء، وفي كواكب السماء، وفي الجبل الأشم، وفي الصخر الأصم؛ بل إنه ليتجلى على متن الصحراء الموحشة، ما تبض
2
من الماء بقطرة، ولا تتفرج من النبات عن زهرة، فالجمال ماثل في كل خلق من خلق الله لو تفقده المتأملون!
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد
وإذا كان القدر قد جرى على أهل هذه الأرض بألوان المشاق والمتاعب، وأنواع الرزايا والمصائب، فقد سوى الله الجمال في كل شيء ويسره لكل طالب، وهيأه لكل حاسة؛ حتى إذا حزب
3
الناس الأمر تفرجوا
4
بالجمال، وإذا اعتراهم المكروه عاذوا به، فكان لهم خير العزاء، وكان لهم منه نعم الجزاء.
هذه الشمس تصحو بسحرة
5
من رقادها، وتتثاءب وتتمطى، وتأخذ زينتها لتطلع على الأرض، وهي لا تتبدى للأفق قبل أن ترسل من أشعتها رسلا خفاقا يكشفون لها وجه الطريق، حتى إذا رأوا أن جيوش الظلام تركب مناكبه، وتسد مسالكه، فتحيروا بينها ولم يجدوا لها مدفعا، استنجدوا فأنجدتهم من أشعتها برسل، ويقوم النزال، ويستحر القتال، وكلما قدم من ضوء النهار مدد انقبضت أجنحة الليل، وكلما أقبلت من جيوش الشمس نجدة، انحازت بين يديها جيوش الظلام، حتى إذا هي شمرت ذيلها وولت، وكسي أديم الأرض بذلك الضوء اللين الدقيق، بدا من الشمس حاجب لعلها تستوثق به من أمن الطريق، ثم جعلت تتثاقل في مطلعها وتتجنى، وتتهادى في مشرقها وتتأنى، والطيور تلاغيها بترجيعها وشدوها، والدواب تحييها بوثبها وعدوها، إلى أن تركب في فلكها، وتستوي على عرش ملكها، ولا تزال عامة نهارها تصدر توقيعاتها في حياة هذا العالم: فيا ضوء أنر للخلق سبلهم حتى يستطيعوا أن يسعوا في مناكب الأرض ويأكلوا من رزق الله، ويا أرض أنضجي بذرك ليزكو زرعه، ويبسق؛
6
فرعه، ويطيب للآكلين ثمره وينعه
7
ويا سحب جودي بالأمطار، لتخصب الأودية وتحتفل بالعذب السائغ الأنهار.
ولا تزال في جهدها ونصبها حتى تعلو بها السن، فتترقرق صفرة الأصيل، في ذلك الخد الأسيل،
8
ويبدل جلال الشيخوخة من رونق الشباب، وتصرف نضرة اللجين بالعسجد المذاب، وماذا تراه يجدي في نضارة السن أو يغني عن بضاضة الإهاب؟
ثم تمشي متثاقلة إلى خدرها، لتتوارى عن العيون خلف سترها، وهي تعتمد من شعاعها على عكازة، كأنها شيخة أجهدها طول السرى في مفازة، حتى إذا حاذت الأفق، جعلت تتدلى وراءه رويدا رويدا، كأنها تتزود ليومها من العالم بآخر نظرة، أو لتنفث من شعاعها المهزول ما أجنت على الصبا من لوعة وحسرة، حتى يغشاها الذبول، ويدركها الأفول، مخلفة وراءها فلولا من جيشها الأحمر، ما تفتأ تجتاحها جيوش الظلام، وكذلك الأيام دول وسبحان من تفرد بالدوام! •••
وهذا القمر يبدو لك أول الشهر خيطا دقيقا، ثم يبدو لك في ثانيه كحاجب الأشيب، ثم يستوي قوسا، والنجوم تحف به وتدلله، وتسهر عليه في سقمه وتعلله، ولله در ابن المعتز إذ يشبه الهلال بقوله:
انظر إلى حسن هلال بدا
يهتك من أنواره الحندسا
9
كمنجل قد صيغ من فضة
يحصد من زهر الدجى نرجسا
وقوله:
أهلا بفطر قد أناف هلاله
الآن فاغد على المدام وبكر
وانظر إليه كزورق من فضة
قد أثقلته حمولة من عنبر
ولا يزال ينمو ويدرك حتى يستوي بدرا كاملا، والنجوم حافة من حوله منها الثابت ومنها الرجراج، ومنها ما أثبتته الهيبة ومنها ما ألهبه الوجد فهو دائم الاختلاج، وكيف لا تحتفل النجوم لابن الشمس وولي عهدها، وحارس ليلها وقائد جندها في بعدها؟
والقمر في أول مولده، وفي طفولته، وفي فتوته، وشباب سنه، وفي شيخوخته وهرمه؛ رفيق النفس، رقيق الطبع، كريم الجوهر، حلو الشمائل؛ ما حضر إلا أهنأ وهدى، وما غاب إلا أضل وأشقى؛ وما تألق إلا كسا الأرض بردا من لجين، إذا أنكرته اليد فهيهات أن تنكره العين! •••
وهذا الروض الأريض: لقد انسرح بانه، وفرعت
10
فروعه وبسقت أغصانه وزكت أوراقه، ورف
11
بوحي النسيم نبته وجلجل اصطفاقه، وأشرقت أنواره، وتطلعت من أكمامها أزهاره، فعاجلها الندى، وانتثر من قطره بين طياتها مثل عيون الدبى،
12
والجداول من دونها تتعطف وتتمايل، والبلابل على أفنانها تتشادى وتتزاجل.
13
وهكذا، فإنك واجد الجمال في الكثير مما جلت الطبيعة، وفي الكثير مما جالت به يد الإنسان. •••
على أن الناس ليسوا على حظ سواء في الشعور بالجمال ومبلغ إصابة اللذة منه، كما أن مظاهر الجمال المختلفة ليست عند الناس بدرجة سواء: فمن الناس من لا يروعه إلا منظر البحر قد اشتد التجاجه،
14
وتدافعت أمواجه، ومنهم من لا يبهره إلا الزهر قد اختلفت ألوانه، ورصعت به بانه، وسطعت بالعبير أردانه، ولله در ابن المعتز حين يقول:
وعلى الأرض اخضرار
واحمرار واصفرار
فكأن الروض وشي
بالغت فيه التجار
نقشه آس ونسر
ين وورد وبهار
ومن الناس من لا تخلبه إلا الموسيقى، فهي تريه من آي الجمال بأذنه، ما لا يستطيع أن يشهد بعينه، وهي تشفه حتى يحسب نفسه صفحة من الماء، وترقه حتى يخالها قطعة من الهواء، وتخففه حتى يحلق في جو السماء، وما هو أن حلقا صلصل أو أن وترا تنغم، ولكن نفسا صبت وقلبا تكلم! •••
ولقد قلت لك إن الناس ليسوا على حظ سواء في إدراك الجمال ومبلغ إصابة اللذة منه، والواقع أنهم في هذا متفاوتون كل التفاوت : فمنهم من يسمو فيه إلى حد الافتتان والانبهار، ومنهم من يسف إلى حد جمود الحس وصمم الشعور، وبين هذين الحدين مراتب بعضها فوق بعض.
هذا وليست نعمة الشعور بالجمال مقصورة على إصابة اللذة وتنعيم النفس، واستراحتها من العناء، وتفرجها من ألوان الهموم؛ بل إن لها وراء ذلك أثرا بعيدا في ترقيق الحس، وتهذيب النفس، والمطامنة من جماحها، ورياضتها على العطف والرحمة وحب الخير، كما أن لها أثرا بعيدا في تهذيب المدارك، وتعويدها دقة الملاحظة، وشدة التفطن لما يعيى على كثير من الناس.
وإدراك الجمال، مهما يجف الطبع، يمكن أن يكتسب بالتنبيه وترديد الملاحظة، ولفت الشعور بإظهار الإعجاب والافتتان، حتى إذا أومض في نفس الناشئ برقه، نبض له عرقه، فأقبل على التماسه، فإذا أصابه جعل يتأمله، ويجرد له الحاسة التي تدركه، ولا يزال هذا دأبه ووكده حتى تستوي له ملكة إدراك الجمال، وله منها بعد ذلك ما شاء الله من اللذة ومن تهذيب النفس أيضا. •••
ولقد كان أكثرنا - نحن المصريين - إلى زمن قريب، لا يعنى بهذه الملكة ولا يحتفل لها، بل إن بعضنا قد كان يعد تفقد كثير من مظاهر الجمال ضربا من العبث، بل ضربا من الفتون.
وإن أنس لا أنس أنني من نحو خمس عشرة سنة كنت أساير بعض كبار الأعيان في بعض الرياض؛ فلمح على عذار الطريق وردة كميتة،
15
فسرعان ما أهوى إليها بيده، فغطى رأسها ببعض راحته، وزر أصابعه على أصلها، وما زال يشد عليها حتى فرق شملها، وجعل يحدثني وهو يعرك ورقها بيديه، حتى إذا فراها وبراها ألقى بعظامها على جانب الطريق، ولا والله ما ألقى عليها في أثناء هذا الصيال نظرة واحدة، حتى خيل إلي أن بين الرجل وبين هذه الوردة المسكينة وترا قديما!
وأعرف رجلا من الأغنياء المتعلمين المترفين أيضا، ما خلت داره من سيارة أو اثنتين أو ثلاث لحاجاته وحاجات أولاده، أفتدري كيف يقضي هذا الغني المتعلم المترف كل أوقات فراغه؟
صدقني إذا قلت لك إنه يقضيها في مقهى يحاذيه «موقف» مركبات يسطع في الجو من رجيع خيلها ما يسطع، وهو جاثم على النرد (الطاولة) ما يريم ولا يتحلحل، ولا يمل ولا يضجر، إن علمت قط أنه عدل بسيارته يوما إلى الجزيرة ليمتع الطرف بجمال مناظرها، ويريح
16
الأنف بشذا أزاهرها، أو أنه صعد إلى أصل الأهرام، ليجمع إلى الروعة بفخامة البناء، التمتع بطيب الهواء!
ولست بالضرورة أسوق هذين مثلا لجميع المصريين، وعلى كل حال، فإن نهضتنا الجليلة تناولت فيما تناولت فنون الجمال، فلقد وثبت الأمة لمعاضدتها، وانبعثت الحكومة لمساعدتها، وتظاهرت الهمم من كل جانب على تربية الأذواق وإرهاف المشاعر، فمن تشييد المعاهد للفنون الجميلة على اختلاف ألوانها، إلى إنشاء متاحف جديدة، وزيادة العناية بالمتاحف القديمة، إلى الإكثار من إقامة المعارض لمفتن الصور، وأخرى لمبتدع الزهر، يتبارى فيها المتبارون، ويتسابق إليها المتسابقون، وسيكون لهذا كله أثره في تربية الأذواق، وفي تهذيب الأخلاق، فإن من البطر على فضل الله ألا يقبل الناس على إمتاع النفوس بهذه النعمة العظيمة التي لا تكلف الناس من المال أو الجهد - إن هي كلفتهم - إلا يسيرا!
بنك مصر1
لا أحاول في هذا المقال - وهيهات لي - أن أجلو عليك صورة كاملة لتلك البنية العزيزة التي أقامها «بنك مصر» في شارع عماد الدين لتكون مثوى له، ولما يرفده من الشركات في القاهرة، وكيف للغة بأن تتناول ما لم يجر على مثال، ولا وقعت عليه العيون ولا تعلق به الخيال؟
ولقد كنا نقرأ أقاصيص «ألف ليلة وليلة» وما افتنت فيه من الأخيلة في وصف مجالس الملوك إنسهم وجنهم، وكنا نقرأ ما جاءت به السير من حديث قصر غمدان، وإيوان كسرى أنوشروان، وما حوى الخورنق والسدير، وما أبدع الفاطميون في القصر الكبير والقصر الصغير، كنا نقرأ هذا فلا نتمثل إلا ركاما من الذهب والفضة واليواقيت واللآلئ وغيرها من ثمين الجوهر، ثم يقبل البناءون فيدوفون
2
هذا بهذا بعد أن يعالجوه بالطيب والعنبر، وبالمسك الأذفر،
3
حتى إذا علكت
4
هذه الطينة، رفعوا منها قصرا ذا شرفات وكوى ومقاصير وإيوانات وأبهاء!
هذا الذي تنفضه عليك أخيلة القصاص من صفة القصور الدائرة، في الأعصر الغابرة، فإذا أنت انبعثت من النوم، وشخصت على قدميك، لا على جناحي خيالك، إلى تلك البنية التي أقامها «بنك مصر»، فسرعان ما تتفقد نفسك، وتجس مواقع حسك، لتعرف: أهببت من النوم أم عقد على جفنك المنام، وكان حقا ما ترى أم كان حلما من الأحلام!
لم تقم في هذا البناء كله لبنة واحدة من الذهب ولا أخرى من الفضة، ولا رصعت جدره بشيء من الدر ولا من اللؤلؤ، ولا ضمخت
5
حوائطه بالعنبر، ولا تدلت من سقوفه معاليق الجوهر، على أنه يملأك من روعة وجمال، لم تستشعرهما دهرك في حقيقة ولا خيال، إنما هو المال والعلم والذوق، تظاهر ثلاثتها على إخراج هذا البدع كله، وما شاء الله كان!
دعك من ظاهر هذا البناء، فلقد تجد له في البنيات أشباها؛ على أنه أوفى على الغاية من الفخامة والإحسان، وخذ بنا في جوفه، فهناك ينفغر الفم، ويتحير النظر، ويتعلق النفس، ويزيغ اللب في هذه الفتنة.
يستقبلك من الباب مصراعان عظيمان طبعا من الصفر، قد جالت فيهما أمهر الأيدي بأدق النقش وأحسن التزيين؛ فتراه كله قائما على أشكال هندسية بديعة مفرغة في متن المصراع تفريغا، فإذا جزته وصرت إلى المدخل فرفعت النظر إلى حوائطه كاد ينزلق عليها لشدة ملوستها انزلاقا؛ فقد كسيت بالمرمر الأملد من الصبح
6
واللؤلؤاني، تتمشى في صفحتها جداول دقيقة من الخضرة؛ حتى إنها لتمثل لك عروسا صقلت عارضها حتى تم إشراقه؛ وشف جلده فبانت من دونه أعراقه.
وتجد بين يديك سلما أي سلم! لقد اقتلعه «بنك مصر» صخرا من جبال أسوان من ذلك «الجرانيت» الأحمر الصلب الذي تراه في تماثيل قدماء المصريين، ثم بعث به إلى ألمانيا فنحت وسوي درجا عظيما مؤطرا بأبدع النقوش.
فإذا أنت ارتفعت على هذا السلم حتى غايته، فأنت في بهو عظيم يترامى فيه النظر، فيكون أول ما ينطق به اللسان: ما شاء الله كان! وأول ما يجول به الخاطر الندامة على أن ليس لك في كل جارحة عين، ففي كل شبر بدع، وفي كل فتر إحسان! وهيهات أن تحط بصرك على موضع في سقف هذا البهو، أو في أرضه أو في جدره أو عمده وكل ما قام فيه، فهان عليك أن تحوله عنه من جمال ومن إبداع!
وقد سقفت حواشي البهو الأربع بسقوف تعتمد على جدره من جهة، وعلى عمد من المرمر الأصفر مربعة من الجهة الأخرى، وأما بهرته
7
فقد ارتفع سقفها إلى مدى الطبق الثاني، وهذا السقف كله مؤلف من قطع مربعة من البلور افتنت فيها أيدي الصناع بمختلف الأشكال في مختلف الألوان، فخرج من هذا الاختلاف، أحسن الاتساق وأحكم الائتلاف، فإذا رفعت النظر إليها خيل إليك أنك في يوم عرس تبارت فيه الكواعب الحسان، من كل مكحولة العين وكل مخضوبة البنان.
وإن كنت قد غشيت دار الآثار العربية فاقتطفت نظرة من تلك القناديل الزجاجية التي خلفها الفن الفاطمي، فإنك ولا شك ستتخيل أن هذه القناديل قد صيغت من الجوهر قرطا، وأرسلت في هذا السقف حلية ونظمت فيه سمطا.
وأما تلك السقوف التي قامت على حواشي البهو، فقد قسموها مربعات أيضا، بحيث يتناهى عرض كل مربع إلى مدى ما بين العمودين، وأجروها كلها على الطراز العربي، فحدث ما شئت بلسان الذوق الجديد عن جمال الفن القديم، فبعد أن أبدعت الصناع في حفرها وتكريشها طوعا للأشكال الهندسية المقسومة لها، عادت عليها تكفتها بالفضة، وتموهها بالذهب، وتشجرها بأزهى الألوان، من أخضر ناضر وأصفر فاقع وأحمر قان.
والعجب أن لكل رقعة من رقاع تلك السقوف رسما خاصا، تجري فيه ألوان خاصة، في أشكال خاصة، وكلها مع هذا عربي، لا تدري أيها أجمل وأحسن، وأيها أبدع وأفتن، فلا يسعك أن تنصرف عنها إلا وأنت تردد قول شوقي:
حمراء أو صفراء إن كريمها
كالغيد كل مليحة بمذاق
وقد فصل بين حواشي البهو وبين بهرته بحجاز قائم على مسامته تلك العمد يرتفع إلى نصف القامة، ليقوم عمال المصرف من خلفه على قضاء حاجات الناس دون أن يداخلوهم، وهذا الحجاز كله قد اتخذوه من المرمر الأبيض، نحت على صورة أنصاف دوائر بارزة متجاورة، تقوم أطرافها على سوق من المرمر الأسود، وقد بسطت عليها مناضد صفيقة من المرمر الأصفر، مدت في داخل حواشي البهو مهادا لأسباب عمال المصرف، ومتكأ لأذرعة المتمثلين إليهم من الناس.
ومن فوق هذا السقف طبق آخر، له ما للأول من دقة فن وروعة جمال، وهو يشرف على بهرة الإيوان من أقطارها الأربعة، وترى من فوق كل عمود من تلك العمد المربعة التي حدثتك عنها عمودا أسطوانيا قد أحسنت يد النحات في قاعدته وهامته أيما إحسان، وافتنت في نقشها أيما افتنان.
أما أرض الإيوان فإذا لم يحدثك أحد أنها من الرخام، فقد خلتها فرشت بجلود الصلال،
8
أو بالوشي الصنعاني نمنم بمثل أكارع النمال، أو أنها لوح كفت بالذهب، أو كأس علاها الحبب!
9
وقد انتهى إلي أنهم جاءوا لها بقطع الرخام من إيطاليا وألمانيا وأمريكا، حتى يتم لهم ما قدروا لها من جمال يتحير فيه الطرف، وبدع يعز على كل وصف.
وهناك غرف ومقاصير، وهناك دهاليز وسلاليم، وهناك فرش ممهودة، وأرائك ممدودة، وتريات منضودة، وهناك طرف وتحف، وأشياء وأشياء إذا وعتها الأفهام، فهيهات أن تتعلق بوصفها الأقلام.
والعجيب أنك واجد في كل رقعة لونا من الحسن يخالف ما تجد في أختها، ونوعا من الفن غير ما ترى في التي تليها؛ على أنك واجد بينها كلها أوثق الاتصال وأحكم الاتساق، وكذلك شاءت عبقرية الفنان العظيم الأستاذ أنطوان لاشاك بك
10
أن تلحن في هذه البنية دورا موسيقيا بارعا، مهما يتنوع في ضروبه ويتلون في أنغامه، فكلها مؤتلف في قراره متسق في مقامه! •••
هذا ما واتاني به القلم في مدخل هذا البناء الجديد وبهوه العظيم، أما باقي تفصيلاته، ووصف سائر طبقاته، فإني أدع هذا لغيري، فقد جهد بي وجف في يدي القلم.
الباب الثالث
في التراجم والتعزيات والمراثي
رشدي باشا1
لست أحاول في مثل هذه العجالة أن أجلو على القارئ الكريم صورة كاملة لرشدي باشا، أو أن أترجم له ترجمة وافية تكافئ عظمته العظيمة، فإن من فتنة الدعوى أن تظن أن مثل حسين رشدي كله يجتمع في مقالة أو في مقالات، إنما هو من أولئك الأفذاذ المعدودين - إن لم يكن في العالم كله ففي الشرق على الأقل - فما أخلق رشدي بأن يتجرد لبحثه وتحقيق عبقريته نفر من علماء النفس والتاريخ، وإذن لخرجوا منه كل يوم بعظيم.
سأتحدث في هذا المقال عن رشدي لا حديث باحث محلل يرد غرائزه القوية إلى مناجمها من قضايا علم النفس، ويصل كل ناحية من نواحيه بأترابها في عظماء الناس، ولكنني أروي عنه حوادث متفرقة شهدتها كلها بنفسي أو ترويتها عن الثقات الذين لا يترقرق الشك حول خبرهم، ولربما عرضت لبعضها بشيء من التحليل ، على أنني في ذاك أتحرى أن أجمع كل حادثة إلى أختها، وأضم كل واقعة إلى ما يشابهها، حتى يمكن أن يتسق من هذه الأمشاج هيكل لرشدي باشا إذا كان ضئيلا فهو صادق على كل حال.
نشأته
رشدي باشا، على أنه نشأ في الحسب، لأنه ابن محمود باشا ابن دبوس أوغلي، أو طبوز زاده الكبير، إلا أنه لم ينجم في الغنى، ولم يتقلب في صدر شبابه في النعمة التي يتقلب فيها من تسلسلوا من مثل بيته، ولقد شخصت إليه يوما مع المرحوم والدي لزيارته وهو رئيس وزارة، فجعل يتحدث بنعمة الله عليه، وكان مما قال: إنه كان طالبا في باريس فمات والده المرحوم محمود باشا دبوس أوغلي، وإذا كل ما تركه لبنيه الخمسة (ثلاثة أولاد وبنتين) ستمائة «بنتو» خرج حسين منها بمائة وخمسين كانت هي كل مادته لطلب العلم وللعيش الجاهد في باريس، فانظر كيف عانى هذا الشاب في صدر العمر، وكيف كافح الشهوة والأيام ليعيش في باريس بمائة وخمسين «بنتو» لا يرفدها إلا نصيب كمصة الوشل
2
في وقف دبوس أوغلي الكبير، ويصبر على هذا العيش ويروض النفس له في طمأنينة ورضا، حتى يظفر «بالدكتوراه» ويسبق في الامتحان لداته جميعا!
ولقد كان رشدي باشا لعوبا طروبا، فكان يمضي عامه الأطول في لهو الشباب وفي عبث الشباب، قل أن يحتجز
3
لمذاكرة الدروس ومراجعة الأساتيذ، حتى إذا كان بينه وبين أوان الامتحان شهران، مضى إلى الحلاق فسأله أن يحلق رأسه كله بالموسى لكيلا يجرؤ على أن يتدلى بعدها في الشوارع أو يغشى الملاهي العامة، وانقبض هذين الشهرين في غرفته مكبا على الدرس جاهدا فيه، حتى إذا تمثل إلى ممتحنيه لم يقنع بأن يكون طالبا ناجحا فحسب، بل لقد تعمد مطاولتهم والولوغ بالتفنيد في قضاياهم، وانتهى بهم أو انتهوا به إلى الحكم بأن هذا التلميذ غير ما خبروا من التلاميذ، وأن هذا الذكاء غير ما عرفوا من الذكاء!
فقد خرج لنا من هذا أن رشدي من يوم تدلى إلى الدنيا تدلى إليها بخلتين لا يد فيهما لتعليم ولا تدريب، إنما هما من صنعة الله الذي يقول للشيء: كن فيكون، وهما: العزم الجبار، والذكاء العجيب!
ذكاؤه وفطنته
لقد كان هذا الرجل إلى يوم قبض إلى رضوان الله متسعر الذهن، ملتهب الذكاء، ولعله كان أذكى من نبهوا من المصريين جميعا، وكان حاد الفطنة مرهف الحس، ولقد كنت تطرح عليه القضية تحتاج إلى تسريح النظر وإجالة الفكر، وترتيب مقدمات القياس بحيث تتمكن كل واحدة منها في موضعها المقسوم حتى يتهيأ تحلب النتيجة المنطقية، وكل هذا يحتاج إلى جهد، وكل هذا يحتاج إلى بسطة في الزمن ومطاولة في التفكير والتدبير، ولكن رشدي كان ينحط بك إلى النتيجة الصحيحة السليمة قبل أن تتم لفظك وتفرغ من قولك.
ولقد مضيت يوما أتفرج في «الجمعية التشريعية» وكان رشدي على ما أذكر وزيرا للحقانية، وطرح على الجمعية مشروع قانون وضعته الحكومة لردم البرك، وكان الكلام في جزاء من يتخلف من الأهلين عن ردم بركة تدخل في ملكه، وفي أن الحكومة في هذه الحال تردمها بالقوة عنه، وترجع بوجوه النفقات عليه؛ فانبعث المرحوم عبد اللطيف المكباتي بك وقال: فإذا كان للحكومة بركة فتعذرت على ردمها فحينئذ يحق للأهلين أيضا، فلم يدعه رشدي يتم تشريعه، بل لقد وثب من مجلسه وثبة عنيفة، وصاح ملء لهاته: هذه ثورة! ... فانتفض المجلس كله انتفاضة عنيفة واحتج على الوزير ، واقتضاه أن «يسحب» هذه الكلمة، كلمة: الثورة «فسحبها» وهو - ولا ريب - يعلم أن قوله الحق، وأن القوم لم يلحقوه، أو أدركوه، ولكن لم يريدوا أن يسجل على جمعيتهم أنها تطلب الثورة، «فسحبها!»، ولست أشك في أنه فعل مصانعة لسكينة القوم، وإلا فأية ثورة أشنع وأخبث من أن الحكومة إذا ونت في عمل من أعمالها نفذ الأهلون ذلك بالقوة عليها، ورجعوا عليها بما بذلوا في ذلك من النفقات؟!
الواقع أن رشدي باشا كان رجلا حديد الفطنة، فلم تكن فطنته بأية حاجة إلى أن تتسكع على مقدمات القياس فتجس كلا منها، حتى إذا استوثقت من سلامته أقرته في موضعه، ثم خلصت بعد كل هذا إلى النتيجة فاستخرجتها في هوادة ومطمئن أناة، بل لقد كان يمر بذهنه على هذا كله مر البرق الخاطف، فيقبض على النتيجة الصحيحة في أسرع من رد الطرف، إذ أنت تحسبه يذكو ذكاء القرود، لا يلمح في طريقه أو لا يعني في طريقه إلى النتيجة، بوجوه الأسباب والعلل، في حين قد لمحها جميعا وعني بها جميعا، وبلغ المدى بذلك الذهن «الإكسبريس» الذي لا يقف على صغار المحطات، على أنه حتما يجوز بها في سبيله جميعا!
ولعل حدة الذهن هذه، ولعل صولة العقل هذه في حسين رشدي قد حطت من شأنه عند كثير من أولئك الذين لم تهبهم الطبيعة ما وهبته، فكانوا أعجز عن أن يطيروا في الفهم مطاره، إذ هو بعد رجل عصبي جائش سريع لماع الذهن، تقاوله في الأمر فيقذفك بحجته على نحو ما يصل هو، ويدعك لذهنك المطمئن المعتاد، فلا يسعك، وأنت بعض معذور، إلا أن تظن بالرجل عبثا، هذا إذا لم تكن رزين الذهن فتحسب أن الرجل قد خرف واهتر!
4
عبقريته
لقد كان رشدي باشا عبقريا بقدر ما يمكن أن تأذن به هذه الكلمة، ولقد سلف عليك أنه كان في صدر أيامه شابا لعوبا يعطي شبابه مدى أشره، فلم يكن كل ما تهيأ لرشدي من العلم الفحل في القانون، بمختلف فنونه، ابن التعليم ولا طول المراجعة وحفظ القضايا المرسومة، إنما كان ابن الاستعداد، ابن العبقرية، وفي النهاية ابن تلك اللطيفة الروحانية التي يهبها الله المتخيرين من عباده، فندركها فيهم لا نملك لها تعليلا، ولا نستطيع لسببها تأويلا، كان رشدي في هذا البلد ملك القانون غير مدافع، سلم له بهذا سعد، وهو من تعرف شدة عقل، وكفاية لا يترامى إليها حد، وسلم له بها عدلي، وعدلي إذا ذكر أحضرك المثل الأعلى لسلامة الفهم والبصر بالأمور، والرأي النصيح تتقطع من دونه جهود التفكير، وسلم له بهذا ثروت، وإذا قلت ثروت قلت كل بليغ في الفضل وكل عظيم، وسلم له بها من يلي هؤلاء علما وبصيرة وجلالة محل وشدة خطر، إذ رشدي في الحق لم يقرأ أكثر مما قرأ غيره، ولم يتوفر أبلغ من سواه على الدرس والتحصيل، وما شاء الله كان!
ولقد أذكر أنه في إحدى جلسات لجنة الدستور، وكنت من سكرتيريها، اقترح أحد الأعضاء مبدأ دستوريا لا يحضرني موضوعه الآن، فصده رشدي في عنف، وقال: إن هذا مبدأ غير مستقيم، ولا يمكن أن يؤذن به في قواعد دستور، فقال ذلك العضو، وهو من الأذكياء المتفقهين: ولكنه قد أخذ به في دستور كذا، وسمى دولة لعلها من تلك الدولات التي انصدعت عن روسيا ووضعت دساتيرها بعد إذ ضرب الفالج رشدي وصرفه عن درس القوانين، فأكد رشدي أنه، وإن لم ير ذلك الدستور، يقرر أن ما زعمه العضو لا يمكن أن يكون! وتحاجا ساعة، ثم انتهيا إلى أن يأتي العضو من غده بنسخة ذلك الدستور، ولكنه في اليوم الثاني إنما جاء معتذرا بأنه بعد إذ راجع المادة أدرك أن العجلة زلت به أول الأمر عن تفهم الكلام، وهكذا كان مخ رشدي نيرا سليما مطبوعا على القانون وللقانون، صادق الحكم فيما قرأ وما لم يقرأ من أحكامه ومبادئه.
قوة حجته
كان رشدي باشا من أشد خلق الله حجة وأمضاهم قولا، يحكم له بهذا كل من أوتي فطنة يلمح بها ما يتراءى لذهنه أثناء التدليل من فنون الأسباب والعلل، على أنه قد اجتمع عليه إلى تلك الحالة «العصبية» ضعف المادة في لغة العرب، فلم يكن لبيانه إذا تكلم بهذه اللغة أو كتب من الوضوح ما يتوافى لجلالة معانيه، ويواتي براعة تدليله، ولكنه برغم هذا كان إذا كتب ارتفعت قوة معانيه بعباراته العربية، حتى يجيء منها أحيانا بالرائع الجزل الذي لا يتهيأ لمن له مثل حظه القليل من لغة العرب والتفقه في أدبها.
وإني لأذكر أنه اختلف يوما مع بعض المصطفين الأعلام من أعضاء لجنة الدستور على مسألة، لا محل لإيرادها الآن، فذهب إلى رأي أزعجهم، وبعثهم بالإنكار والاحتجاج، وكلما سألهم أن يصبروا حتى يدلي إليهم بحجته، صاحوا في وجهه، ودافعوه بغليظ الكلام، وأخيرا وثب من مجلسه، وأهاب بهم بأعلى ما اتسعت له لهاته: «يا حضرات السادة: استمعوا لي حتى أفرغ من حجتي، ثم فندوها بكل ما عندكم من حجة ودليل» ثم اطمأن قليلا، وعاد فقال في رفق ولين وإلقاء: «ولكنكم لن تستطيعوا!» فسكت القوم وتكلم رشدي ثم تكلم، فما هو والله إلا أن راح يلعب بالألباب لعبا، وما هو إلا أن راح يستعرض كل أدلتهم وما حصلوا من حجج، فيشد وثاقها، ثم يلقيها بين يديه واحدة بعد واحدة، والقوم ذاهلون عن مصيرهم بما تداخلهم من العجب ومن الطرب، حتى إذا ذابت آيتهم تحت لسانه كما يذوب الثلج في اليوم القائظ، أقبل على معارضيه في تؤدة واطمئنان، وقال لهم: إذن فتكلموا، فما هي إلا رءوس منغضة وأفواه مفغورة، ثم تصفيق يرتفع إلى السماء من إعجاب ومن افتتان!
ولقد حدثت أحداث الإسكندرية في مايو سنة 1921 ورشدي مع عدلي في لندن يفاوضان كيرزن في المسألة المصرية، وكانت السلطة العسكرية قد ملكت الأمر كله عن الحكومة المصرية، وتولت هي التحقيق بقوة الأحكام العرفية التي كانت مبسوطة يومئذ على البلاد، فلما انتهت المفاوضات إلى الكلام في حماية الأجانب، وعارض المفاوضون المصريون في أن يكون هذا إلى إنجلترا، دفع اللورد كيرزن إليهم بتحقيق السلطة العسكرية في حوادث الإسكندرية، وما دمغ المصريين ظلما بألوان الوحشية، وما أضاف إليهم من أمور تقشعر منها الجلود، فتناول رشدي باشا هذا التحقيق ويداه صفر من كل شيء، لأن التحقيق - كما قلت لك - استقلت به السلطة العسكرية، فأبت على رشدي عزيمته، وأبت عليه وطنيته، وأبت عليه عبقريته إلا أن يكب ليلته كلها على هذا التحقيق، والله يعلم ماذا بذل من مخه، والله يعلم ماذا هراق من ذكائه، حتى اتسق له في الصباح تقرير يعصف بهذا التحقيق عصفا، ويشهده على نفسه بالبطل، وشدة الحمل على المصريين، ثم مضى به إلى لود كيرزن فألقاه إليه، وما إن قرأه حتى سأل أن يتقاص الطرفان، وكذلك أخلت حوادث الإسكندرية الطريق!
نعم، لا يعرف أحد ما بذل رشدي ليلتئذ من عزم وذكاء، ليدفع عن وطنه كل هذا البلاء، ولكن كثيرين يعلمون أنه بذل الصحة، أو على الصحيح بذل الحياة، لأنه لم يدر عليه يوم أو يومان حتى ضربه الفالج فأبطله حينا، ثم أتى في النهاية على حياته العزيزة الغالية.
شجاعته
ولقد كان رشدي رجلا شجاعا كل الشجاع، يجهر بكل ما يعتقد، واقعا كلامه حيث وقع، لا يبالي في ذاك شيئا ولا يبالي فيه أحدا؛ وإن امرءا كرشدي قوي العزم، عظيم النزاهة، وافر الإخلاص، شديد التمكن من النفس؛ لا يجد أية حاجة لأن يرائي الناس أو يماريهم ويتحرف لهم، بل هو كل حقيق بأن يعد كتفه لاحتمال كل ما يحمله سعيه من التبعات.
ولست أريد أن أعرض لشأنه في أعقاب سنة 1914، فذلك - كما أشار رئيس مجلس النواب ووكيل مجلس الشيوخ في تأبينه - من حق المستقبل يحكم فيه بعد أن يطالع ما طاف به من الظروف، وما اتكأ عليه من الأسانيد، إلا أنني في هذا الباب لا أنسى أن رشدي كان شجاعا في احتمال تبعة ما وقع على يديه، وكان له بالطبع رأي فيه إن خيرا وإن شرا، وهو على أنه - كما علمت - قد راجع الكثيرين من أصدقائه في الأمر فأقروه وأجازوه، إلا أن شجاعته أبت عليه في معرض الجدال أن يشرك معه في تبعة الأمر أحدا، بل لقد مضى بها وحده، محتسبا إنصافه عند التاريخ وحده.
لقد تعلم أنه سير سفينة الحكم طوال مدة الحرب، ولقد تعلم ما حاق بمصر أيام الحرب من هول وشدة، ولقد تعلم ما كان للسلطة العسكرية من صولة وقوة، وغدا ستعلم ما كان لرشدي باشا من مواقف يكف بها العاديات عن المصريين لا يقفها إلا الرجل الشجاع.
وجاءت الهدنة العامة، وأعد الجبار «السربرونيات» عدته لالتهام مصر، وأخرج مشروعه الذي يسل به الحكم من أيدي المصريين سلا، وخاف الناس وانقبضوا في أكسار دورهم من خوف ورهبة، وبرز له رشدي بتقريره الوطني الخالد على وجه الدهر، وسرعان ما كسره به تكسيرا، وكان ذلك أول أذان بالفورة المصرية، حتى إذا تعذر عليه الإنجليز ودلوا بقوتهم؛ أضرب - وهو رئيس الوزارة - عن الحكم أشهرا، فكان صنيعه حدوة للموظفين فأضربوا جميعا، وكان إضرابهم أبلغ مظهر للنهضة المصرية، ولقد سمعت منه، رحمه الله، أن الحبال قد فتلت لرقبته مرتين، فما أبه ولا بالى في سبيل وطنه، وكذلك يكون الرجل الندب الشجاع.
ومما يذكر له في هذا الباب أنه كان في مفاوضات سنة 1921، وجرى الكلام في الاحتلال الإنجليزية، وأصر المفاوضون المصريون على طلب الجلاء، فقال لهم اللورد كرزن في شيء من التهكم: وإذا سحبنا عسكرنا من بلادكم، ألا يجوز أن تحتلها اليونان في اليوم الثاني؟! فانتفض رشدي انتفاضة شديدة، وأجابه من فوره: لا تنس يا لورد أن أسلافك حين حاولوا غزو مصر ألقاهم هؤلاء المصريون في البحر، وكان ذلك بقيادة جدي أنا! (يريد رحمه الله موقعة رشيد)، فوجم اللورد كرزن ووجم الحاضرون جميعا، وبعد سكوت طويل أو قصير صرف اللورد الحديث إلى شأن آخر!
نزاهته
تقلب رشدي في مناصب الحكم حتى صارت إليه رياسة الوزارة، وحتى طرح القدر بين يديه يوما أمر مصر كلها، وكان طوال زمن الحرب كل شيء، في الجهة المصرية على الأقل؛ فما التمس قط لنفسه ولا لأحد ممن يلوذون به مغنما من أي نوع كان، وعزيز علي أن أنوه بشرف رشدي وأن أشيد بنبل نفسه، فإن مثله لأجل من أن تلحق ذمته التهم، ولقد وافقته مرة في مكتب المرحوم أحمد الأزهري بك من كبار موظفي مصلحة الأملاك، وهو يسأله في تأجيل دين عليه للمصلحة، ذهب عني قدره بالضبط، على أنه على كل حال يضطرب بين الستمائة جنيه والثمانمائة، ثم التفت إلى بعض الحاضرين وقال في مرارة أردفها بضحكة مصنوعة: يقولون إني بعت مصر بثلاثة ملايين، فهلا دفعوا منها لمصلحة الأملاك هذا المبلغ وأخذوا لأنفسهم الباقي؟
عطفه وبره
كان رشدي نبيل الإحساس، بالغا من طيبة القلب مبلغا لا يكاد يلحقه فيه إنسان، فما أصاب عانيا أو مدنفا أو امرأ تغير له الزمن إلا أحس بأنه هو المسئول عما ضربته به الأيام، وكثيرا ما تتضح عينا هذا الرجل الشجاع بالدمع إذا رأى مكلوما في جسمه، أو ممتحنا في أسباب حياته، أما ماله وأما جاهه العريض فذلك كله نهب مقسم بين العافين من الناس، ولو كان رشدي باشا يملك كل ما في الدنيا من مال لخرج عنه لطالبيه في سماحة وارتياح، ولقد تقسم وقته في أخريات سنيه، بين أن يفرق على الناس كل ما احتوته محفظته، وبين أن يطوف بهم الدواوين يشفع لهم في قضاء الحاجات، ولقد أسرف في هذا حتى ابتذلت شفاعته أو كادت تبتذل عند الحكام لشدة إفراطه في الرجاء، على جلالة محله لديهم، وسمو قدره عندهم، وحتى خرج من الدنيا صفرا إلا من الشرف، وإلا من أعلى الذكرى لأعلى الرجال. •••
وبعد، فلقد خسرت مصر - من غير شك - بموت رشدي باشا مجموعة من المواهب جليلة غالية، وإذا كانت الأيام تنجب لنا رجلا في علمه، أو في عبقريته، أو في شجاعته، أو في وطنيته، أو في طيبة قلبه، أو في نبل أخلاقه، أو في كرم يده؛ فهيهات أن تنجب رجلا جمع معا كل هذه الخلال كما جمعها فقيدنا العظيم، وإن لم يكن ذلك على الله بعسير.
الشيخ علي يوسف1
في يوم 25 أكتوبر من سنة 1913 والقلوب واجفة، والأبصار زائغة، ومصاير الأمور تتواثب للأوهام في صور مبهمة غامضة، تضطرب بين اليأس كله وبين الرجاء كله، والناس يتساءلون متهامسين من الخوف ومن الورع: ترى ماذا عسى أن يكون قسم مصر من هذه الحرب العامة، وماذا كتبت لها الأقدار، في صفحتي الليل والنهار؟
في ذلك اليوم من تلك الأيام السود، مات رجل ليس كمثله في مصر كثير، رجل إذا أحبه ناس أشد الحب، فلأنه قوة كبيرة في مصر، وإذا كرهه ناس أشد الكره، فلأنه قوة كبيرة في مصر، فالشيخ علي يوسف، على تفرق الأهواء فيه، كان قوة هائلة في هذه البلاد يحسب الناس جميعا لها كل حساب.
ولقد كنت من الذين أبغضوا الشيخ عليا أبعد البغض، ثم كنت من الذين يحبونه أغلى الحب، ولا والله ما رأيته في حالي بغضي وحبي له إلا رجلا عظيما!
مات الشيخ علي يوسف في ذلك اليوم، فما قامت الدنيا لموته كما كان ينبغي أن تقوم، ولا قعدت الدنيا لموته كما كان ينبغي أن تقعد، بل لقد شيع ودفن كما يشيع ويدفن أوساط الناس، وكأن الناس لم يشيعوا فيه مفخرة من مفاخر مصر، ولا أودعوا الضريح كنزا من كنوزها الثمان!
لا أقول إنه الإهمال السيئ، ولكن أقول إنه الظرف السيئ، ولا أريد المزيد، والآن تسأل الشباب المثقفين المتعلمين عن الشيخ علي يوسف، وكيف كان خطبه في البلاد من إحدى وعشرين سنة فقط، فترى أقلهم من لا يعرف عنه كثيرا، وترى أكثرهم من لا يعرف عنه كثيرا ولا قليلا!
أهكذا، وبهذه السرعة السريعة، تختفي سير الرجال عندنا كما تختفي الصور إذا ساد الظلام، أو كما تختفي أشباح الرؤى ساعة الهبوب من المنام؟
وإنني لأضيف الوزر في هذا أيضا على الظروف، والحمد لله الذي جعل لنا من هذه «الظروف» تكأة نعتمد عليها كلما غشيتنا غاشية من الإهمال، أو طاف بنا طائف من سيئ الأعمال! •••
ولقد قلد الشيخ علي منصب مشيخة السجادة الوفائية، فاستحق بهذا أن يسمى السيد عليا، وقلده الخليفة العثماني الرتبة الأولى من الصنف الثاني، فاستحق بذاك أن يدعى علي بك أو علي باشا يوسف؛ ولكنني لا أعبر عنه إلا بالشيخ علي يوسف، هذا الاسم الذي طالما رن في الآذان، وتجاوبت به الأصداء من كل مكان: الشيخ علي يوسف! الشيخ علي يوسف! وحسبه بهذا لقبا، بعد ما اعتز بنفسه حسبا، وكرم بالرسول الأعظم نسبا.
كان الشيخ علي يوسف رجلا عصاميا بأوفى معاني الكلمة، نجم في «بلصفورة» من بلاد مديرية جرجا، في أسرة إذا كرم أصلها فقد رقت حالها؛ ولا تنس أن المال هو كل شيء في هذا الزمان، وتعلم القراءة والكتابة في كتاب القرية، وحفظ القرآن الكريم، ثم انحدر إلى بني عدي من أعمال مديرية أسيوط، فطلب العلم هناك على الشيخ حسن الهواري، ثم قدم الأزهر فطلب العلم فيه بضع سنين.
وإلى هنا كانت حياة الشيخ علي حياة عادية بحتة، فلم يزد خطبه على مجاور مغمور في ذلك الخضرم الزاخر بآلاف المجاورين.
وتستشرف نفس الفتى للأدب، والأدب في ذلك الوقت أن تقول شعرا مقفى موزونا، فإذا أعوزك العروض، وعميت عليك أوزان الشعر، فحسبك أن يكون المصراع في طول المصراع، فإن زاد الكلم ففي تصغير الكتابة وتدقيق الحروف متسع للجميع، وعلى شرط أن تتغزل فتتغزل كلما طلبت مديحا، وتتغزل كلما أردت رثاء، وتتغزل كلما ابتغيت هجاء، وكانت هذه - وخاصة في البيئة الأزهرية - أهم فنون الشعر، إن لم تكن جميع فنون الشعر!
وعلى هذا قرض الشعر المجاور علي يوسف، فذهب له بين المجاورين صيت وذكر.
ولقد كان الأدب يحمد من المجاور عند أشياخه، إلا أن يسرف فيه، ويجرد له صدرا كبيرا من وقته، فإنهم كانوا يكرهون ذلك منه، لأنه في الواقع يشغله بقدر ما، عن توفير الذهن على الدرس والاستذكار، ويرون هذا منه آية على «عدم الفتوح» والعياذ بالله! وحسبه في العام قصيدة يمدح بها شيخه يوم يختم الكتاب، وقصيدة أو اثنتان يرثي بهما من يموت من علية العلماء.
وأسرف الشيخ علي في قرض الشعر، فمدح ورثى، وتغزل «بالطبع» وهجا، حتى اتسق له من هذا النظم ما جمعه بعد في ديوان كامل، وبهذا أصبح مجاورا ممتازا وإن حق عليه القول، وتراءى له شبح الهول!
إذن أصبح الشيخ مجاورا ممتازا بين المجاورين بالأدب، أو إن شئت قلت: لقد أدركته من الناحية الأزهرية حرفة الأدب.
ولقد دعاه هذا إلى الاختلاف إلى مجالس الأدباء، ومساهرتهم ومسامرتهم والتروي عنهم، ثم إلى غشيان دور بعض العلية ممن كانوا يجلسون لأهل العلم والفضل والأدب، فيتحاضرون ويتذاكرون، وأقبل الشيخ على هذا الشأن بقدر ما أدبر عن الكد في دروس الأزهر، ثم جعل يرسل المقالات المنثورة في الصحف والمجلات التي كانت قائمة في ذلك الوقت، وكان يكتب أول الأمر على طراز الكاتبين في عصره: مقدمات طويلة تمهد بين يدي كل موضوع ولو لم تدع إليها حاجة الكلام، واحتفال للمحسنات البديعية تستكره استكراها، ولو استهلكت الغرض المطلوب!
على أن من حسن حظ الشيخ علي أنه ابتدأ في معالجة الكتابة في الوقت الذي انبعثت فيه تلك النهضة البيانية الفاخرة، تلك النهضة التي نفخ في ضرامها بالإرشاد والتنبيه السيد جمال الدين الأفغاني، وبالفعل من الإنشاء والتعليم والتأليف الشيخ حسين المرصفي، وللشيخ علي طبيعة، وفيه فطنة قوية، فجعل يدرب قلمه ويروضه على إرسال البيان سهلا جزلا خاليا من الاعتساف، متطلقا من تكاليف البديع.
وفي هذا المقام يجدر بي أن أنبه إلى شيء جدير بالانتباه: ذلك أن حسن البيان وجودة المقال لا ترجع في جميع الأحوال إلى تمكن الكاتب من ناصية اللغة، وتفقهه في أساليبها، وبصره بمواقع اللفظ منها، واستظهاره لصدر صالح من بلاغات بلغائها، إلى حسن ذوق ورهافة حس، بحيث يتهيأ له أن يصوغ فكرته أنور صياغة، ويصورها أبدع تصوير، بل إن ذلك ليرجع في بعض الأحوال، وهي أحوال نادرة جدا، إلى شدة نفس الكاتب وقوة روحه، فقد لا يكون الرجل وافر المحصول من متن اللغة، ولا هو على حظ كبير من استظهار عيون الكلام، ولا هو بالمعني بتقصي منازع البلاغات، ومع هذا لقد يرتفع بالبيان إلى ما تتقطع دونه علائق الأقلام، ذلك لأن شدة نفسه، وجبروت فكرته، تأبى إلا أن تسطو بالكلام فتنتزع البيان انتزاعا، ولعل في بيان السيد جمال الدين الأفغاني، وهو غريب عن العربية، وقاسم بك أمين وهو شبه غريب عنها، أبين مثال على هذا الذي نقول، ولقد يعجب القارئ أشد العجب إذا زعمت له أن المرحوم حسين رشدي باشا، وكان رجلا قل أن تطرد على لسانه ثلاث كلمات عربية متواليات، لقد كان أحيانا يرتفع بالعبارة إلى ما يتخاذل من دونه جهد أعيان البيان!
والآن أستطيع أن أزعم أن الشيخ علي يوسف - على أنه تعلم في الأزهر، وقرأ طرفا من كتب الأدب، واستظهر صدرا من مظاهر البلاغة في منظوم العربية ومنثورها - لم يكن مدينا في بيانه لشيء من هذا، بقدر ما كان مدينا لشدة روحه وسطوة نفسه، وإنك لتقرأ له المقال يخلبك ويروعك، وتشعر أن أحدا لم ينته في البيان منتهاه، ثم تقبل على صيغه تفتشها وتفرها، فلا تكاد تقع على شيء من هذا النظم الذي يتكلفه صدور الكتاب، وبهذا أنشأ الرجل لنفسه أسلوبا، أو على الصحيح لقد خط قلمه القوي نهجا من البلاغة غير ما تعاهد عليه الناس من منازع البلاغات.
ولندع الآن بيان الشيخ علي وأثره، فلذلك موضع آخر من هذا الحديث، ونعود إلى تاريخ الرجل فنقول: إنه ما كان يستوي له ذلك القدر من الأدب حتى أنشأ مجلة دعاها «الآداب»، وهي وإن لم تكن شيئا يذكر بالقياس إلى المجلات الأدبية القائمة الآن، لقد كانت شيئا مذكورا بالقياس إلى المجلات التي كانت قائمة في ذلك العهد، وخاصة بعد إذ عفى الزمن على مجلة «روضة المدارس» التي كان يقوم على تحريرها وإجالة الأقلام بروائع البيان فيها صدور العلماء والشعراء والكتاب.
المؤيد
وإذا قلت «المؤيد» قلت شطر من تاريخ مصر محتفل بالأحداث العظام راع أهل الرأي في مصر أن ليس لهذه الأمة - أعني للمسلمين وهم كثرتها الكثيرة - صحيفة تتحدث عنها وتدلي بحاجاتها، وتترجم عن أمانيها، وتذود عن حقوقها وكرامتها، وإن أمة ليس لها في هذا الزمان صحيفة، لهي أمة لا تحس لنفسها وجودا، ولقد قوي الشعور بشدة الحاجة إلى صحيفة وطنية إسلامية بعد إذ صدر المقطم صحيفة تظاهر الاحتلال الإنجليزي، وتروج للسياسة الإنجليزية في هذه البلاد، وتدفع في صدر الأماني القومية ما اعترضت تلك السياسة في يوم من الأيام، وهنا يتقدم الشيخ علي مع صاحب له يدعى الشيخ أحمد ماضي، فينشئان جريدة «المؤيد» يومية سياسية وطنية إسلامية، ثم لا يلبث الشريكان أن يختلفا، ولا يخرج أحدهما عن الشركة إلا على مال، والمال في يد الشيخ علي أقل من القليل، وهنا تحركت أريحية بعض كبار المصريين، فأدوا المال عن الشيخ إلى صاحبه، وهكذا خلص المؤيد للشيخ علي يوسف، وكان للمرحوم سعد باشا زغلول في هذا سعي مشكور.
وأذكر أنه لما أتى رحمه الله بمطبعة جديدة من طراز «الروتاتيف» وعقد لذلك حفلا جامعا في إدارة «المؤيد»، خطب في الجمع فأتى في سيرة المؤيد على هذه الحادثة، ونوه بفضل سعد بك زغلول «المستشار بمحكمة الاستئناف» الذي أبى أن يسمع هذه الخطبة إلا واقفا.
وجرى المؤيد طلقا، والله يعلم كم عانى الشيخ علي في إخراجه فردا لا مسعد له من معين أو من مال، الحق أن الرجل قد جاهد في هذا جهاد الجبابرة، وعانى عناء لو صوره القلم على حقيقته لظنه الناس من إحدى القصص التي تمثلها أخيلة الكتاب، وهكذا لم يمض زمن طويل حتى جنى ثمرة الصبر العجيب
إن الله مع الصابرين
صدق الله العظيم.
مضى «المؤيد» يحرره الشيخ علي يوسف، ويرفده بالمقالات البارعة أعيان أهل الرأي والعلم والأدب في البلاد، من أمثال المرحومين: الشيخ محمد عبده، وسعد بك زغلول، وقاسم بك أمين، وفتحي بك زغلول، وحفني بك ناصف، وكثير غيرهم من أصحاب البيان، وكانوا يسرون أسماءهم في الأحاديث السياسية بوجه خاص، فذلك مما لا تأذن به المناصب الحكومية بحال، وكذلك أضحى المؤيد مجالا لأفحل الأقلام وأنضج الآراء، بل لقد أضحى المدرسة التي تخرج عليها من شهدوا الجيل الماضي من أعلام البيان.
ويسير المؤيد، ويذهب صيته لا في مصر ولا في العالم العربي فحسب، بل في العالم الإسلامي كله، فلقد أصبح لسانه المعبر أفصح تعبير عن حقيقة حاله، والمترجم أنصح ترجمة عن آلامه وآماله ، ومتحدث أخبار المسلمين وراويها، وملتقى أفكارهم في قواصي الأرض وأدانيها:
لا يرحل الناس إلا نحو حجرته
كالبيت يفضي إليه ملتقى السبل
وحسبنا هذا القدر الآن في المؤيد وفي صاحب المؤيد، وسنعاود الحديث فيه إن شاء الله تعالى، عسى أن نوفيه بعض حقه إن لم نوفه كل حقه، رحمة الله عليه.
ليس بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد، على أنه كان إلى الطول، يظهر في مرأى العين نحيلا هزيلا، ولكنه كان مكتنز اللحم، مستطيل الوجه، واسع مساحة الجبهة، أزرق العينين، طويل الهدبين، كثيرا ما ترى له في إطراقه نظرة غريبة ساجية، ضيق الفم، على أن في شفتيه الحمراوين شيئا من الغلظ، تعلوه صفرة ما أحسبها من أثر مرض، وشعر لحيته الدقيقة المتسقة يميل إلى الشقرة، رفيق الصوت لينه إذا تحدث، فإذا رفع صوته ضمر بعض الضمور، وتسلخ بعض التسلخ، فلم يكن من تلك الأصوات التي تصلح للخطابة.
وكان بعد رجلا شديد العقل، قوي النفس، حديد العزم، وافر الشجاعة، لا تتعاظمه قوة خصم بالغة ما بلغت قوة ذلك الخصم وبأسه، وإذا تحداه متحد ركب رأسه في نضاله لا يبالي أين يقع المصير، وصح فيه قول الشاعر:
إذا هم ألقى بين عينيه عزمه
ونكب عن ذكر العواقب جانبا
وأذكر أنني مضيت إليه مرة في صحب لي من خلصانه، وسألناه أن يترفق بالمؤيد، فلقد تظاهر عليه خصومه، وألبوا الجمهرة عليه، وأذكوا عليه حماسة الشباب في رأي له قد لا يحسن فهمه العامة، ولا يستريح إليه طموح الشباب، فأصغى إلينا وأحسن الإصغاء، وترك كل واحد منا يقول ما عنده، حتى إذا انتهينا ونحن على الظن بأنه نازل عند رأينا، عادل إلى ما سألنا، فإذا هو يرتج في مجلسه ارتجاجة عنيفة، ويقول في قوة وفي عزم حديد: «والله لا يعنيني أن يكون الناس جميعا في صف واحد، وأنا والحق الذي أعتقده بإزائهم في صف واحد!» وتركناه ونحن نرى منحدر المؤيد بطغيان الخصومة يوما بعد يوم!
ولقد كان الشيخ علي رحمة الله عليه رجلا متمكنا من نفسه حقا ، ولقد كان مما يشاع عنه - ولعل خصومه هم مبعث هذه الإشاعة - أنه كان يقول: أنا لا أبالي أن أخسر هذا البلد، ففي إمكاني أن أعود فأكسبه بثلاث مقالات ...!
ولقد عاشرت الرجل ما عاشرته، واستمكن ما بيننا من الود والإلف إلى الحد الذي يبعثني على الاعتقاد بأنه ما كان يخفي عني شيئا، حتى من نجوى نفسه في الأسباب العامة، وشهد الله ما سمعت منه قط هذا الكلام، ولا أية عبارة أخرى يمكن أن تؤدي معناه.
ولكن مع هذا لقد كان هذا هو الواقع - أعني الواقع من حاله لا من مقاله - فإنني لا أعرف رجلا سياسيا عظيما كان أقل الناس أنصارا وأكثرهم خصوما كما كان الشيخ علي يوسف، وخصومه على كثرتهم، لقد كانوا من جميع الطبقات، وكانوا من جميع الهيئات، وإنهم ليحيطون به إحاطة الطوق من كل جانب، وكلهم عامل على إسقاطه، جاهد ما امتد به الجهد في هدم المؤيد، مذك عليه الأقلام والألسن من كل ناحية، تدمغه بتهمة الخيانة الوطنية فما دونها في غير هوادة ولا إشفاق، والمؤيد يتقلص بين أيدي القارئين ويتقلص، حتى يظن أنه قد تشرف على العفاء، ثم إذا الشيخ يتجمع، وإذا هو يشرع القلم شرع الرمح الرديني، وإذا هو يطعن الطعنة البكر ها هنا مرة، وها هنا مرة، فلا يصيب إلا الكلى والمفاصل، وإذا هؤلاء الخصوم يتطايرون عنه تطاير الشعراء عن ظهر البعير إذا انتفض، وإذا المؤيد يرن في البلد رنينه، بعد ما تردد تأوهه وطال أنينه!
وقد عرفت أن الشيخ علي يوسف كان مبغضا إلى الكثرة في البلاد، وإن هذا البغض ليرجع في الأكثر إلى أسباب صناعية: منها المنافسات الصحفية، ومنها الغيرة من موضعه يومئذ من ولي الأمر، ومنها أنه كان هنالك رجال أقوياء ببسطه الجاه وسعة الغنى، وفيهم كذلك من ذهب لهم في العلم والأدب صيت وذكر، كان هؤلاء لا يستريحون إلى سياسة القصر، ولربما ظاهروا المعتمد البريطاني أحيانا في عدائه للقصر، فهم بالضرورة ينقمون من كل رجل توافيه للقصر، وخاصة إذا كان رجلا كالشيخ علي يوسف جبار العقل، جبار القلم!
أرأيت كيف كان هذا الرجل محاطا من جميع أقطاره بنطاق من العداوات المختلفة، بل التي يصطرع التناقض أحيانا بين أسباب بعضها وبين أسباب بعض؟ على أن إذكاء بغض الشباب والعامة للرجل من جهة، وبغض بعض الخاصة له من جهة أخرى، إنما كان يسلكه له خصومه من أحد طريقي الضعف فيه - إن صح هذا التعبير - أولهما: أنه كان معتدلا لا يرى العنف سبيلا إلى استرداد حقوق البلاد؛ بل إن هذا العنف لقد يرديها في أخطار لم تكن لها في الحساب، وكان طوعا لهذا يرى ألا يتحدث عن الشئون العامة إلا الشيوخ الناضجون المجربون، وهذا وهذا - ولا شك - مما لا يرضي الشباب المشتعل حماسة لحق الوطن، ولا تنس أن العامة من وراء هؤلاء.
أما السبب الثاني فلصوقه بالقصر، وشدة توافيه له، ومظاهرته له على الدوام، وأظن أن هذا مقام لا تحمد فيه إطالة الكلام.
مع هذا كله ففي الجلى، يوم تحدث الأحداث القومية، ينفض الناس قلوبهم حتى يتساقط عنها كل ما علق بها من الحقد على الشيخ علي يوسف، ويتلعون أعناقهم نحو المؤيد، شاخصة أبصارهم، مرهفة آذانهم، معلقة في انتظار ما يقول الشيخ أنفاسهم، فإذا النمر الجبار يثب على فريسته من عدوان العادين وثبته، فلا يزال يوسعها تمزيقا بمخلبه، وضغما بأنيبه، حتى ما يدعها إلا «أعظما وجلودا»!
نعم، لقد كان يقول الشيخ علي فيروي كل غلة، ويشفي كل علة، ويعلو بسطوة قلمه حتى ما ينتهي منتهاه في ذاك أحد، والناس طرا لهذه النصرة بين مهلل وبين مكبر! هذه كانت قدرة الشيخ القادرة، وهذه كانت قوته العبقرية النادرة، وهذه مقالاته في أعقاب حادثة دنشواي ما برحت ترن في آذان من قرأوها إلى الآن.
وإني لأذكر له حادثا طريفا في هذا الباب: فشت الفاشية، لا أعادها الله بين المسلمين وإخوانهم الأقباط عقب مصرع المرحوم بطرس باشا غالي، وكان ذلك في سنة 1910 على ما أذكر، وعقد الأقباط مؤتمرا مليا لهم في أسيوط، وأجابهم المسلمون بمؤتمر مثله في القاهرة، وأفضوا برياسته إلى أكبر رجل في البلاد يومئذ، وهو المرحوم مصطفى رياض باشا، واختار القائمون على هذا المؤتمر مثوى لاجتماعه ملعب مصر الجديدة، ومضى الناس أفواجا في اليوم المشهود، واجتمع رجالات البلد لم يتخلف منهم إلا من انقطع به العذر، وتصدر الحفل رياض باشا، وتعاقب الخطباء كابرا بعد كابر، فأبلوا في المقال أيما بلاء، وأبدعوا في الخطاب أيما إبداع.
حتى إذا كانت النوبة على الشيخ علي أذكى بعض شبان الحزب الوطني في المحتشدين في بهو الملعب طائفة من الفتيان من طلبة الأزهر وتلاميذ المدارس، يسألون القوم ألا يصفقوا إذا خطب الشيخ، ولا يظهروا أية إشارة تدل على الاستحسان، فوعدهم أكثر الناس بهذا، وأصروا عليه مخلصين لما تنطوي صدورهم من حقد عليه ومن بغضاء.
وينبعث الشيخ يخطب، وهو كما قدمت لك غير خطيب - أستغفر الله - بل لقد انبعث يتلو مقالته في أوراق بين يديه، وأنت حق خبير بالفرق الهائل بين أثر التالي وأثر الخطيب، وما إن مضى في تلاوته بضع دقائق حتى أخذ الناس عن نفوسهم، ونسوا ما عاهدوا أولئك الفتيان وعاهدوا أنفسهم عليه، فبروا من التصفيق أكفهم، وشققوا بالصياح حناجرهم تشقيقا، فكنت تسمع من هتافهم مثل الرعد القاصف، وترى من اضطرابهم وتموجهم فعل الريح بالأغصان في اليوم العاصف! وكان من أشدهم سعرا من كلام الرجل هم أولئك الفتية الذين كانوا يروضون الناس على ألا يلقوا خطابه إلا بالجمود والإعراض.
وجهد بالرجل فتعاور التلاوة عنه كل من أستاذنا إبراهيم بك الهلباوي، والمرحوم أحمد بك عبد اللطيف المحامي الأشهر، وأنت كذلك خبير بأثر خطبة يتلوها في الساعة غير منشئها، ما أرخى إليها من قبل نظرا، ومع هذا فما برحت تزداد الفورة ويشتد بالقوم الفتون!
ولقد أذكر أنه بعد إذ فرغ من خطاب الشيخ، وافقت في طريقي صديقا لي من شبان الحزب الوطني، وهو الآن من أعلام الفضل الذين يتولون منصبا جليلا في السلك القضائي؛ وكان يومئذ مسرفا غاليا في التشيع لمبادئ حزبه، مفرطا في بغض الشيخ، شديد الحمل عليه؛ ورأيته يضرب كفا بكف ، فسألته: ما به؟ فأوما إلى مكان الشيخ من منصة الخطابة وقال: «على حس الخطبة دي، يقعد ابن ال ... يخون في البلد ثلاث سنين أخر!»
ولا زلت كلما لقيت صاحبي أذكره هذه الحكاية، فيضحك في غيظ، لا أدري: أمن تذكيري له بهذه القصة، أم أنه ما تزال في صدره بقية من هذا الضغن القديم؟! الله أعلم! •••
وقد عرفت أن الشيخ علي يوسف كان رجلا مكافحا، بل إن قلمه لم يكن يجود في شيء مثلما كان يجود في الكفاح، ولم تكن سياسة الاحتلال في مصر تخشى سطوة قلم قدر ما تخشى قلم هذا الرجل، فإنه كان - فوق كفايته البيانية، وما آتاه الله من شدة العارضة، والتمكن من نواصي جلائل المعاني - لا يهرول إذا هرول في الصغائر، ولا يطعن إذا طعن إلا في الصميم.
ولا أحب أن أتجاوز هذا المعنى في الرجل قبل أن أدل على خلة من خلاله في كفاحه: ذلك بأنه كان يعتمد أضعف النقاط في خصمه فيتجمع لها، ثم يثب عليها بكل قوته، ولا يبرح يطعنه منها دراكا، حتى يدوخ رأسه، ويذهله عن سائر أسلحته، إذا كانت له أسلحة أخرى تجهز بها لذلك النضال.
وكان في كتابته سريعا جدا، حتى لتحسبنه ويده تجول في القرطاس عازفا على قانون، لا مسطرا بيراع، وتراه كلما فرغ من وجه الرقعة من الإضمامة دفع بها إلى من يفضي بها إلى المطبعة، وهكذا حتى يأتي على غاية المقال، لا يتتعتع، ولا يتحبس، ولا يحتاج إلى مراجعة شيء مما أسلف، ومع هذا تجد المقال سويا غاية في الحبك وتناسق الأطراف!
ومن العجب العاجب في أمره أنه كثيرا ما كان يكتب والغرفة محتفلة بالزوار وأصحاب الحاجات، يرفعون أصواتهم بفنون الأحاديث والجدل، بل لقد يأخذ معهم في بعض ما هم فيه، وهو ماض لشأنه لا يشغله هذا عنه كثيرا ولا قليلا!
الشيخ علي الصحفي
ولقد كان رحمه الله، صحفيا بأجمع معاني الكلمة، يكتب المقال الرئيسي كل يوم بيده، ويراجع كل ما يدلي به إليه الكتاب من المقالات، ويفض البريد بنفسه، فما رآه كفئا للنشر أذن في نشره، وقد يحذف بعض المقال ويبقي على بعض، فإذا تهيأت الجريدة للطبع وراجعها المصححون، تناولها فقرأها من أولها إلى آخرها، يصحح ما عسى أن يكون قد فات القوم تصحيحه ويتثبت من ألا يكون قد دس على الجريدة شيء مما يكره، أو يكون قد سقط إليها في سر منه إعلان عن خمر أو غيرها من المناكر.
وكان على جلالة محله، وكثرة المخبرين لديه، يطوف بنفسه كل يوم بأكثر الدواوين في تنسم الأخبار، يستخرجها بلطف حيلته من النظار «الوزراء» أو من المستشارين الإنجليز فمن دونهم من عيون الموظفين.
وهكذا استطاع الشيخ علي بكفايته وحد عزمه، أن يجعل من المؤيد أعظم جريدة في مصر، برغم كل ما كان يعتريها من الكيد، بل أعظم جريدة في العالم العربي كله.
من أخلاق الشيخ علي
وقبل أن أختم الحديث في الشيخ علي يوسف أرى لزاما أن أشير إلى فضيلتين من فضائله البارزة بروزا عظيما: أولاهما أنه كان خيرا مطبوعا، ما رأيته سئل الخير قط يستطيعه إلا فعله مهما يكن فيه من عنت ومن إرهاق، وإنه ليفعل مغتبطا راضيا هاشا حتى ليكاد يلتمس لسائليه الخير التماسا، وحتى ليكاد يصدق فيه قول الشاعر: «كأنك تعطيه الذي أنت سائله»، وإني لأعرف أنه كان يجرد صدرا من يومه في السعي لحاجات الناس ابتغاء رضوان الله، هذه واحدة، أما الثانية فشدة وفائه، ولقد عرفت صلة الرجل بالقصر، ومبلغ ضعفه له، ولقد يتغير ولي الأمر يومئذ على رجل من صدقانه، أو ممن أسلفوا له يدا، فتتناهشهم الأقلام من كل جانب، اللهم إلا المؤيد، فإنه الذي لا يطلق مقالة السوء فيه أبدا، وحسبك دليلا في هذا الباب شدة توافيه للمرحومين الشيخ محمد عبده، وسعد باشا زغلول، ورياض باشا، وغيرهم كثير، فإن كان قد مس بعضهم كما مس رياض باشا عقب خطبته المشهورة؛ فلقد كان عذره واضحا، وأي وطني يطيق أن يسمع الإشادة بفضل المعتمد البريطاني على حساب كرامة أمير البلاد! على أنه فيما مسه قد كان به أرفق الكاتبين. •••
فإن زعمت بعد هذا أنه كانت في الرجل هنة أو كانت فيه هنات، فمن ذا الذي سلم على العيوب كلها، و«كفى المرء نبلا أن تعد معايبه»، وحسب الشيخ علي أنه كان بمجموعة مزاياه ومواهبه مفخرة من مفاخر هذه البلاد التي لا يسخو بمثلها الزمان، و«إن الزمان بمثله لبخيل».
رحمه الله رحمة واسعة، وعزانا عنه نحن القادرين قدره أحسن العزاء.
محمد بك المويلحي1
قبل أن أتحدث عن هذا الرجل الذي يجب أن يتحدث عنه مدونو تاريخ الأدب العربي في العصر الحديث، قبل هذا أحب أن أقول في هذا الباب شيئا عاما، ذلك بأننا اعتدنا أن نغفل الكلام في سيرة من عاصرناهم، ورأيناهم ولابسناهم، إلا أن يكون القول من جنس هذه المراثي التي تضفى فيها حلل الثناء، ويكال فيها المديح في العادة بغير حساب، ولقد يكون هذا الثناء حقا أو قريبا من الحق، بحيث لا يؤذي التاريخ في كثير ولا قليل، ولكنه لا يمكن أن يجلو على الأجيال المستقبلة شيئا من حقيقة الرجل، لأن الكاتبين في هذه الحالة لا يعنون ببسط حياة الرجل، وظواهر خلاله، والعوامل البارزة في تكوينه، ومطبوع عاداته، ولو ما يتصل منها بالأسباب العامة، وذلك من أيسر الأمور، لأنهم عرفوه بالمشاهدة، واستيقنوه بالملابسة وطول الاختبار، وهذا ولا شك مما يهيئ للقادمين دراسته وتحليله دراسة إن لم تنته إلى أصدق النتائج، فهي أدنى إلى الصدق من غيرها على كل حال.
وليس يذهب عن القارئ أن إهمال المعاصرين على هذا النحو لا بد مفض إلى إحدى حالين: إما إلى إدراج كثيرين من رجال الآداب والفنون في مطاوي النسيان، أو التحيف من أقدارهم بقدر كثير أو قليل؛ وإما إلى تجليتهم إذا تراخى الزمان في غير صورهم، ونحلهم صفات وخلالا لم تكن لهم، بحكم العنعنة في رواية الأخبار، والاتكاء في تحليل نفس الرجل على ما صدر عنه من الآثار، وكثيرا ما يضل الباحث المستنتج في هذا أبعد الضلال، هذا إلى ما في معاناة مثل تلك البحوث من إضاعة للوقت، ونفقة من الجهد، وتجشم للعناء.
وأغلب الظن في هذا الإغفال من المعاصرين لمن عاصروهم من رجال الفنون والآداب، أنه يرجع إلى أن الرجل العظيم قل أن يراه معاصروه بالعين التي يراه بها الخالفون، فهو في الغالب إذا استحق منهم ترديد ذكره، والهتاف باسمه، وتدوين سيرته، فقل أن يعنى أحد بتقصي عاداته، والتسلل إلى مداخله، وعرض ما يلابس الأسباب العامة من سائر أموره، أو لأنهم لا يعنون بهذا لأنه حاضر لمعاصريه قريب منهم، فهو في حكم المبذول الذي ينال منه من شاء أن ينال، ولا شك أن في هذا ضربا من الغفلة عن أن الحاضر سيغيب على الزمن، وأن المبذول سينقبض، وأن ما في متناول اليد اليوم ستتقطع من دونه غدا علائق الآمال!
ولقد يسكت النقدة عن تقصي ذلك عمدا، والتلبث بتحليل الرجل ورد العوامل في تكوينه إلى مناجمها، حتى ينطوي الزمن عليه وعلى أهله، وعلى أشياعه وخصومه من معاصريه، فيتهيأ الجو للبحث والتحقيق، لا رغبة ولا رهبة فيه، فيكون البحث أنور وأصفى، وتخرج النتائج أدق وأوفى.
وهذا مذهب في الرأي له أثره وله خطره، بالرغم من أنه يفوت على المؤرخ المدقق من عناصر الحكم ما قد يسيء في بعض الأحيان إلى حكمه، فإذا هو طلبها تصحيحا لبحثه، فلن ينالها إذا نالها صادقة إلا بعد أن يتجشم في سبيلها عرق القربة كما يقولون.
على أنني في هذا لا أذهب إلى القول بنشر المعايب، واستظهار المكاره، حتى لا يثير المدون ثائرة الأهل والصحاب والأنصار، إنما أريد أن يجلو المعاصر، من غير ذلك، كل ما له خطر في تكوين الرجل، فإذا كانت هناك مغامز لا ينبغي إغفالها في تجليته وتحليله، فليسجلها على أن يكتمها حتى يجليها لوقتها، أو يجليها من بعده من الأعقاب.
وعلى أي حال فإن إغفال هذه الأمور التي نحسبها في غالب الأحيان من التوافه، كثيرا ما يخل بحق التاريخ، ويفضي إلى الجهل بالجم من حقائق الأشياء، ولست أجد في الباب مثلا أيسر ولا أدنى إلى الحس من أننا ، لولا مهبط البعثة العلمية التي صحبت الحملة الفرنسية في سنة 1798، ما اهتدينا بسهولة أو ما اهتدينا أبدا إلى أزياء جدودنا وسمتهم من قرن وثلث قرن من الزمان، فكيف بمن هم أعلى من هذا وأبعد في مذهب التاريخ؟
ولو قد عني أهل كل عصر بأن يحفظوا لخلفهم نماذج من ثيابهم، وآلاتهم في سائر حوائجهم، وفعل هؤلاء مثل فعلهم، لظلت سلسلة الأزياء واضحة على وجه الزمان.
ولعل من الخير أن أنبه في هذا المقام إلى أن محاولة كشف الرجل من آثاره المحفوظة لا تجدي كثيرا في الإبانة عن خلاله ومداخل عيشه حتى مظاهرها، بل إنها لكثيرا ما تكون من وسائل الضلة في إثبات التاريخ، ولست أسوق لهذا أكثر من مثلين اثنين: ذلك بأنك لو اتكأت في طلب خلال الجاحظ على مجرد آثاره، لخرج لك منها أنه كان أزهد الناس في المال، وأنه لو سقط ليده لكان أجود به من الريح المرسلة، فإن أحدا لم ينع الشح ولم يذم الأشحاء كما نعى الجاحظ وكما ذم، وإن أحدا لم يؤلف كتابا في «البخلاء» أبلغ فيهم إيجاعا، وأشد لهذه الخلة وأصحابها إقذاعا، كما صنع الجاحظ، ومع هذا لقد كان هو نفسه من أشد المبخلين الذين أوفوا على الغاية من الجشع والحمل على المروءة أحيانا في طلب المال، وإنك لو التمست مثل هذا في أبي الفرج
2
لخرج لك من آثاره أنه كان أجمل الناس سمتا، وأنظفهم بدنا وثوبا، وأشدهم أخذا للنفس بأدق آداب السلوك في طعامه وشرابه، وغير ذلك من أسبابه، ولكن الواقع أنه كان من أشد الناس شرها، وأقبحهم مؤاكلة، وأقذرهم خلقا وثوبا، حتى ليصح في بعض خلته قول الشاعر:
وسخ الثوب والعمامة والبر
ذون والوجه والقفا والغلام!
ولولا أن معاصري هذا وهذا أثبتوا لكل منهما ما أثبتوا لزلت فيهما الأقلام، وضلت الأوهام! •••
بعد هذا آخذ في حديث أستاذي ورئيسي وصديقي، العالم الفيلسوف الأديب الكاتب الناقد، السيد محمد بك المويلحي، رحمة الله عليه.
من أكثر من ثلاثين سنة خلت، ولما أزل بعد في أيام الفتوة ، وفي صدر طلب العلم في الأزهر، صدرت في مصر جريدة أسبوعية سياسية أدبية باسم «مصباح الشرق» في أربع صفحات دون صفحات الجرائد التي تصدر الآن مساحة، ولون ورقها يضرب إلى الحمرة، ويقوم بتحريرها إبراهيم بك المويلحي وابنه السيد محمد المويلحي، وكانت عامة الصحف الأسبوعية قد وصلت في ذلك العهد من المهانة والفسولة والإسفاف وتفاهة الموضوعات إلى أبعد الحدود.
مصباح الشرق
لقد كان هذا «مصباح الشرق» شيئا طريفا حقا، لقد كان أبلغ من طريف فإنه لأعجوبة حقا، لقد كان «مصباح الشرق» أبلغ من أعجوبة، إنه لشيء يكاد يتصل بحكم الخوارق في تلك الأيام!
بلاغة بليغة، ولفظ جزل متخير وديباجة مشرقة، وصيغ مونقة ، ونسج متلاحم، وأسلوب ليس وراءه في هذا الذي يدعونه السهل الممتنع.
أدب بارع، علم وفلسفة، وبحوث رائعة في سياسة الأمم، وفي الأخلاق وعلوم الاجتماع، منها المبتكر المنشأ، ومنها المترجم من مختلف اللغى، في عبارة عربية بليغة سلسة ناصحة واضحة لا تستروح منها أي ريح للاستعجام، هل رأيت قط ترجمات السابقين في عصر بني العباس؟
مذهب طريف في النقد، نقد الأشخاص، لا عهد للأدب العربي به من قديم الزمان؛ بل لعله لا عهد له به من أول الزمان!
لم تكد تطالع الناس هذه الصحيفة الدقيقة الجرم مرتين أو ثلاثا حتى أصبحت من بعض شغل الخاصة في هذه البلاد!
لا يدخل الأصيل في يوم الخميس من كل أسبوع إلا وقد زاغت أبصار، وتكرشت جباه، وتقلصت شفاه، وتداركت أنفاس، ووجفت قلوب، هل رأيت انفلات الطائر بعد طول الاحتباس؟ كذلك كان يترقب الخاصة مشرق «المصباح» وسرعان ما تخطفه اليد الراجفة فتشقه، وسرعان ما يشيع البصر كله في مساحة النقد كلها، لا يستقر على موضوع خاص، ولا يتحيز في حديث معين، بل إنه لينساح على الصفحة كلها انسياحا ليدرك قبل رد الطرف: أشك المويلحي اسم صاحبه فيمن شك أم أرسله في جملة الطلقاء؟! حتى إذا اطمأن الرجل إلى أنه قد كتبت له السلامة لجمعته، ألقى الصحيفة بين يديه، وجعل يطامن من نفسه، ويبسط من خلقه ما تقبض، ويفرخ من روعه ما تحبس.
وإذا كان هذا شأن من لم تصب منهم أقلام المويلحيين، فاحكم أنت - عصمنا الله وإياك - كيف كانت حال من تنال منهم هذه الأقلام؟ على أنه مما ينبغي أن يذكر هنا، أن «المصباح» لم يكن يعرض قط لأعراض من يتولاهم بالنقد، ولا يتدسس إلى مكارههم، أو يتتبع عوراتهم، بل لا يتناول من أمورهم إلا ما كانوا يعرضونه هم من ذات أنفسهم، أو ما يدلون هم عليه بآثارهم وظاهر أعمالهم؛ فلقد كان «المصباح» أجل من ذاك موضعا، وآنف كرامة.
وإنه ليستحدث لونا طريفا من النقد لا عهد لأدب مصر به، بل لا عهد به للأمم العربية جمعاء، وهذا النوع من النقد يقوم في الجملة على التماس الجانب الضعيف في أثر الرجل، فيعرضه بالقلم في صورة «كاريكاتورية» يزيد في تشويهها ما يتوافى لذلك الذهن الدقيق من ألوان التشبيه، وما يحضره من فنون الاستشهاد والتمثيل، ولا يبرح يمط الموضوع في هذه الناحية بالتوليد، وطلب المناسبات القريبة، والملابسات الدانية، تسندها النكتة البارعة، ويسعفها التندر البديع، حتى ينتهي إلى ما لا ينتهي إليه أحد من الناقدين!
ولقد كان هذا من «مصباح الشرق» الأصل الثابت لهذا اللون من النقد - أعني النقد «الكاريكاتوري» في مصر - كما كانت صحيفة المويلحيين «أبو زيد» أول ما عرف فيما أعرف أنا من التصوير «الكاريكاتوري» في هذه البلاد، ولعلي ألمع إلى هذه الصحيفة في بعض هذا الكلام.
لم ينته خطب «مصباح الشرق» إلى هذا الموضع فحسب؛ بل لقد كان - على أنه صحيفة لا تظهر في جميع الأسبوع إلا مرة واحدة - يروي من جلائل الأخبار في الأسباب العامة ما لا تبلغه الصحف اليومية، على شدة ارتصادها لمثل ذلك، وإذكاء عيونها الكثيرة في طلبه وتقصيه، فكانت أمهات الصحف اليومية لا تتحرج، في كثير من الأحيان، من نشر مهام الأخبار نقلا عن صحيفة «مصباح الشرق» الأسبوعية مضافة إليها معزوة لها، وفضل «المصباح» في هذا السبق العجيب إنما كان لجلالة محل إبراهيم بك المويلحي عند أولي الأمر كلهم، وخفة روحه، ولطف مدخله، وسعة حيلته، حتى ليستخرج منهم بهذا ما لا يخرجون عنه لغيره من رواة الأخبار!
ولا أحب أن أجوز هذا الموضع من الكلام قبل أن أقول إن «المصباح» أول من جلا للناس براعة الجاحظ وعبقرية ابن الرومي بما كان يختاره لهما من بدائع المنثور وروائع المنظوم، قبل أن تقع العيون من آثارهما على كتاب أو ديوان، وأول من عالج النقد الأدبي لما تنتضح به قرائح الشعراء، وأعني به ذلك النقد الرفيع الغالي، الذي جمع بين أساليب النقد في أزكى عصور العربية، وبين طرائقه التي اختطها نقدة الغربيين في هذا الزمان.
وعلى الجملة، فلقد فتح «المصباح» في الأدب العربي فتحا جديدا، وأمسى «مصباحا» حقا يهتدي المتأدبون بسناه إذا أرسلوا القول أو اجتمعوا لنظم الكلام.
وبهذا وهذا أصبح «مصباح الشرق» أفخر مدرسة لطلب الأدب الرفيع الجزل الطريف في هذه البلاد.
ومما ينبغي أن يذكر في هذا المقام أن جماعة الشعراء قد تعاظمتهم سطوة «المصباح» في باب النقد، فحسبوا له كل حساب، ويا ويل من لا يتحرى من الشعراء البارزين ما لا يبلغه الجهد كله من التدقيق والتجويد والإحسان.
وإني لأكتفي اليوم من حديث السيد محمد المويلحي بهذا القدر، على نية العودة إليه في القريب، إن شاء الله.
لست أغلو إذا زعمت أنني في مطلع نشأتي الأدبية كان «مصباح الشرق» عندي هو المثل الأعلى للبيان العربي، وبهذا كنت شديد الإكباب على قراءته، وتقليب الذهن واللسان في روائع صيغه وطرائف عباراته، حتى لقد كنت أشعر أنني أترشفها ترشفا لتدور في أعراقي وتخالط دمي، وتطبع ملكتي على هذا اللون من البيان الجزل السهل الناقد الطريف، ولكن «ما كل ما يتمنى المرء يدركه»!
ولقد كنت فتى مولعا بالصناعة، شأن أكثر نابتة المتأدبين في ذلك العهد، فلما أرسل محمد المويلحي في المصباح: «أحاديث عيسى بن هشام» زادني وزاد لداتي به فتونا.
كيف تمثل لي محمد المويلحي؟
لم تكن عيني إلى هذا العهد قد وقعت قط على محمد المويلحي، ولا خيار للمرء في تمثل صورة من لم ير من الأناسي، وما لم يشهد من البقاع، فكانت الصورة التي جلالها علي الخيال لهذا الرجل، صورة شاب معتدل القد، وضيء الطلعة، وسيم الوجه قسيمه، وما كان ذلك البيان الجوهري ليجلو علي من الرجل غير ذلك، على أنني كنت أرى أباه إبراهيم بك الحين بعد الحين في زياراته لوالدنا، عليهما رحمة الله، وفي زيارات والدنا له «بعمارة البابلي» يوم كنت أصحبه، وكان هذا المويلحي الكبير تحفة من تحف العصر التي قل أن يجود بمثلها الزمان: قوة لسن، واشتعال ذهن، وحضور بديهة، وسطوة نكتة، وسعة علم بالزمان وأحوال الناس، أما سرعته وتوفيقه في إيراد الشاهد من عبر التاريخ، ومأثور الآداب من منثور الكلام ومنظومه، فهذا ما لم يتعلق بغباره فيه أحد، فكان مجلسه متاعا من أعظم المتاع.
على أنني لم أوفق إلى رؤية المويلحي الابن مرة واحدة!
وتتابعت السنون، وخلص تحرير «المصباح» إلى محمد، ثم امتحنه القدر بحادثة اعتداء يسير عليه من بعض الطيش من أبناء «الذوات» في إحدى القهوات، وانتهى الخبر إلى المرحوم الشيخ علي يوسف، وكانت في صدره موجدة شديدة على محمد وعلى أبيه لما كان بينه وبينهما من كيد وصراع، فانتهز الفرصة، وروى الحادثة في صورة مهولة، واستدرج الكتاب والشعراء للقول فيها، وفسح لهذا في المؤيد مكانا عريضا، ومن ذا الذي لم يكن موتورا من المويلحي؟ ومن ذا الذي لم يقدر الوتر منه في مستقبل الأيام؟ وإذا كان الرجل عاجزا عن أن يخرج للمويلحي وحده، فهذه جموع الأدباء والشعراء والعلماء أيضا قد تداكت لقتاله بكل ما في أيديها من سلاح! ألا فليتقدم لطعن المويلحي من شاء أن يتقدم، فليس على أحد في قتاله اليوم من بأس!
وتثور العاصفة، ويشتد البأس، وتحمر الحدق، وأذن النفير العام، فوثب القاعد، وتحرك الساكن، وانبعث الجاثم، وهب النائم، وأهاب القعديون
3
بالمتخلف، واستحمسوا المتخاذل، وشد الجميع على قلب رجل واحد، وهل كان من المستطاع أن يصمد لهذا الجيش اللجب رجل واحد؟ لم يستطع المويلحي أن يثبت في الميدان، فأطفأ «المصباح»، وانسل إلى داره وقد ألقى يد السلام، واحتجب ولكن في انتظار الثأر وري الغلة بالانتقام!
ولقد تم للمويلحي من هذا بعض ما أراد أو كل ما أراد، فلقد كان ممن أثاروا الثائرة على الشيخ علي يوسف أيام حادث الزوجية المشهور، وفتح له في جريدة «الظاهر» بابا مثل ذلك الباب، واستدرج له أقلام الشعراء والكتاب، وواحدة لواحدة كفاء!
متى رأيت المويلحي وكيف اتصلت به؟
بين سنتي 1907 و1908، لا أذكر على التحديد، سألت صديقا حديث العهد بصداقتي، ولكن وده للمويلحي قديم، سألته وتمنيت عليه أن يجمع بيني وبينه، وما كان أبلغ دهشي واغتباطي حين قال لي: إن المويلحي قد طالعه بأنه يحب أن يراني، ولعله عرف بي من أيام كنت أرسل القول في الشيخ في فتنة الزوجية شعرا ونثرا، (وأسأل الله أن يغفر لي هذا)، وتواعدنا أن نذهب إليه في الأصيل.
وكان رحمه الله قد اتخذ مسكنه دارا من دور سعيد باشا نصر، تقع في أطراف العباسية يومئذ، وهذه الدار لا يعطي العين ظاهرها أكثر من منظر «حوش» في قرافة الإمام، فإذا جزت مداخلها انفرجت للعين حديقة واسعة قد عبدت طرقها تعبيدا، ونضدت أشجارها تنضيدا، وتأنقت يد البستاني في تسويتها وتنميقها، كما تأنقت يد الطبيعة في تشجيرها وتزويقها، فهذا الفل الوضيء الآلق، وهذا الورد المشرق الضاحك، وهذا النرجس تنبعث من عيونه الأسحار،
4
وهذا الياسمين لقد استحال تنفسا في ساع الأسحار.
5
ولقد أفرد زاوية من زوايا الحديقة للغزلان والطواويس وجماعات الطير من كل غرد صداح.
ويستقبلني رحمة الله عليه بالبشر والتأهيل والترحيب، وإذا بي إزاء رجل حنطي اللون، بين الطويل والقصير، والسمين والهزيل، مستطيل الوجه، عريض الجبهة، حاد العينين، مستوي الأنف، له فم قريب إلى الفوه في غير قبح ولا استكراه، إذا تمثل واقفا لمحت في ساقيه تقوسا خفيفا لعله دخل عليه من أنه عالج المشي قبل أن تصلب عظامه، وله إذا تحدث صوت لا أقول خشن، بل أقول جزل، فإذا أقبل على القراءة زر عينه اليسرى، فبان التكرش الشديد في معقد ما بين أعلى العارض وأسفل الجبين، وهذا التكرش لا شك كان من أثر السنين، وإن كان يخفيها في المويلحي شدة عنايته بصحته، وتكلفه ألوانا من علاج البدن بمأثور الوصفات، والتزام الحمية في كثير من الأوقات، وأخذ النفس بالراحة التامة ما تستثيره أزمة من الأزمات، ولا يستدرجه مجلس لهو، ولا تقنصه داعية لذة من اللذات؛ وبهذا تهيأ له أن يحيا في مثل نضرة الشباب إلى الممات.
وقد تلقاني في غرفة الاستقبال، وهي غرفة أنيقة حقا، لقد أثثت بأفخر الأثاث وأغلاه، وأفخر من كل شيء فيها الأناقة في تصفيف الفراش والذوق التام، وقد زينت أجبنها
6
بصور كبيرة له ولأبيه، وللأميرة نازلي فاضل، وللسيد جمال الدين الأفغاني، وبألواح خطية جميلة جرت بروائع الحكم، وأكثرها من شعر المعري.
وخضنا في أحاديث من أحاديث الأدب، ولونا الكلام تلوينا حتى تجاوزنا نصف الليل، وتفارقنا وكأن حبل المودة بيننا ممدودة من عشرين سنة، وتواعدنا اللقاء ما تهيأ لنا، وكذلك استمكن الإلف، واستوثقت حبال الود، فما نتفارق إلا على موعد من لقاء قريب، ولقد أعيش معه اليومين والثلاثة نقرأ عامة نهارنا وصدرا من ليلنا كتبا، أو نتذاكر أدبا.
وكان ممن يختلفون إلى داره مغرب الشمس عادة بعض أقطاب العلم وأصحاب الرأي والبيان والبداءة المواتية، وأذكر منهم المرحومين: عمه السيد عبد السلام باشا المويلحي (سر تجارب مصر)، والسيد محمد توفيق البكري، والشيخ علي يوسف، بعد إذ تصافت القلوب مما كان علق بها من الأضغان، والسيد محمد البابلي، ومحمد بك رشاد، وحافظ بك إبراهيم، وعبد الرحيم بك أحمد، وحافظ بك عوض، والسيد عبد الحميد البنان، أحياهما الله أطيب الحياة؛ وخذ ما شئت في أثناء هذه المجالس من أدب رائع، ومن نادرة طريفة، ومن حاضر نكتة قل أن تسخو بمثلها الأذهان.
ولقد كنا نقضي معا عامة الصيف في مدينة الإسكندرية، ولعل من أسعد هذه الأصياف ذلك الذي قضيناه معا في فندق في ضاحية المكس خالصين للرياضة ومراجعة الكتب في مختلف الآداب، لا ننحدر إلى صلب المدينة إلا لقضاء سهرة مونقة مع آثر الصحاب، كما عشنا معا في شتاء سنة 1911 و1912 بضعة أشهر في دار استأجرناها في حلوان.
وفي سنة 1910 قلد في ديوان «عموم» الأوقاف منصب رئيس قسم الإدارة والسكرتارية، وفي يناير من سنة 1911 عينت في «قلم السكرتارية»، وللمويلحي في هذا التعيين سعي غير منكور، وبهذا أصبح لي رئيسا، كما كان لي أستاذا وصديقا.
ولقد ظل الود بيننا موصولا حتى قبض إلى رحمة الله.
نشأته ودراسته
هو السيد محمد المويلحي بن إبراهيم بك بن السيد عبد الخالق المويلحي، أصلهم من مرفأ المويلح ببلاد العرب، هبط جدودهم مصر من زمن غير قصير، وكانوا يتجرون في صناعة الحرير؛ وهم أهل نعمة وثراء، ولقد أتلف أبوه إبراهيم كل ما كان في يده من الأموال، فلم ينزلق عنه لبنيه إلا نطاف من الاستحقاق في بعض الأوقاف.
وما أحسب محمدا تجاوز في الدراسة المنظمة التعليم الابتدائي، ثم جعل يتعلم على أبيه، ويكب على قراءة الكتب في العلوم والآداب، ثم اتصل بأئمة العلماء وأقطاب أصحاب الأدب، من أمثال السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والشيخ حسين المرصفي، ومحمود باشا سامي البارودي، وغيرهم من أعلام عصره، فحذق العربية وبرع فيها، وجود البيان أيما تجويد، وهيأ له جده واضطرابه في أسفاره بين الشرق والغرب تجويد اللغات الفرنسية، والتركية، والإيطالية؛ كما أصاب حظا من الإنجليزية واللاتينية، وكان كثير القراءة إلى غاية الممات، فلا تكاد تقتحم عليه إلا رأيته يعالج بالتنسيق حديقته، أو يقرأ في كتاب عربي، أو في كتاب يجري في إحدى هذه اللغات.
ولقد سألته ذات يوم عن أحسن الفرص التي هيأت له أعظم حظ من العلم، فقال: كنت في الآستانة في ضيافة رجل فاضل يدعى سليمان أفندي، وكانت عنده خزانة كتب تعد من أفخر خزائن الكتب الأهلية، فلبست ثيابي ذات عشية تأهبا للخروج كعادتي لأسهر في بعض ملاهي المدينة؛ وتفقدت كيسي فإذا هو صفر من الدرهم، فنضوت ثيابي ثانية وقلت باسم الله، ولبثت عاكفا على قراءة الكتب، لا أبرح هذه المكتبة إلا للنوم أو لغيره من حاجات الحياة، وظللت على هذه الحال ستة أشهر وبعض الشهر، حتى أذن الله بالفرج، وجاءني من المال ما هيأ لي استئناف الحياة مع الناس!
ومن يعرف صبر المويلحي، وشدة حمله على نفسه، لا يستطيع أن ينكر منه هذا المقال؛ وسألم إن شاء الله بهذه الخلة العجيبة فيه عند الكلام في عاداته وأخلاقه، وحسبي هذا الآن، فقد أطلت الحديث؛ وإلى الملتقى القريب.
تتمة في نشأته ودراسته
لقد عرفت مما قصصنا عليك أن هذا الرجل وإن نشأ عظاميا بما لبيته من الغنى والحسب، فقد نشأ عصاميا بما حصل من العلم والأدب، اتكأ على نفسه فأكب على الكتب داثرها ومجفوها، ولعل أكثر نظره إنما كان في كتب التاريخ والسير، ولو قد وقع لك صدر من آثار أبيه وآثاره لرأيت لهما في مواطن الاستشهاد فطنة عجيبة إلى دقائق دقيقة، مما يعلق بزوايا التاريخ أو بحواشيه، قل أن يفطن لها أكثر القارئين، وقل أن يحفل بها أو يعلقها من يفطن إليها من الدارسين، على أنها قد يكون لها في دواعي الكلام مقام عظيم، وكثيرا ما ترفعه درجات على درجات.
كذلك اعتمد محمد في تحصيل العلم والآداب على الاتصال بصدور أهل الفضل، يصاحبهم ويلابسهم، ويلازم مجالستهم، ويشهد محاضراتهم ومقاولاتهم، كذلك داخل رجال الحكم وأصحاب السياسة في مصر وفي الآستانة، فعرف أساليبهم، وأدرك مذاهبهم، ولم ينكسر على هذا وهذا؛ بل لقد صاحب كذلك أهل الظرف وأصحاب البدائه، وشاركهم في أسمارهم، ودخل في مناقلاتهم ومنادراتهم.
وعالج البيان من صدر شبابه، يصقل له أبوه القول، ويقرب له مصطفى اللفظ، ويأخذه بتجويد النسج، ويهديه إلى مضارب القلم، وسرعان ما نضج وأدرك، وجرى قلمه بالبيان حلوا متينا نيرا، ووقع من فنون المعاني على أجلها وأكرمها، ونهج لنفسه أسلوبا خاصا به، إن تأثر فيه بأحد، فبالأسبقين من أعلام الكتاب، فكان منه بذلك كله الأديب التام.
واحترف صنعة القلم، واشترك في تحرير جريدة المقطم بضع سنين على ما أظن، ولا أحسبه قد شارك أباه في تحرير الصحف التي أخرجها في عهد الخديو «إسماعيل»، فتاريخها إن لم يكن أبعد من مولده، فهو أبعد في أرجح الظن من حمله القلم، والله أعلم!
وكان أبوه رحمة الله عليهما، كثير الاختلاف إلى الآستانة مثوى الخلافة يومئذ، فكان يصحبه في بعض الرحلات، وقلد إبراهيم بك في زمن السلطان عبد الحميد منصب المستشار لوزارة المعارف العثمانية، وأقام فيه بضع سنين، لعلها تسع إن صدقتني ذاكرتي: فقضى محمد في الآستانة هذه السنين.
ولما اعتزل إسماعيل باشا إمارة مصر، وآثر المقام في إيطاليا، دعا بإبراهيم بك ليؤنسه ويسامره ويخدمه في بعض مساعيه عند السلطان، فحمل معه ولده وأقاما في نابولي في قصر إسماعيل بضع سنين، ومن هنا تدرك كيف حذق محمد لغة التليان.
ولقد طاف محمد كثيرا ببلاد أوروبا، إما موفدا من أبيه في بعض مساعيه، وإما متفرجا متنزها، وله في وصف مؤتمر باريس سنة 1900 مقال بارع بديع، كان ينشر منجما في مصباح الشرق،
7
وطاف كذلك بالبلاد السورية، وزار المدينة المنورة، ووصف القبر الشريف أحسن وصف وأبدعه، ونشره في جريدة المؤيد.
8
واستقر المويلحيان أخيرا في مصر ما يبرحانها إلا للنزهة والرياضة، وأصدرا صحيفة «مصباح الشرق»، وقد مرت بك صفتها في أول مقال، ثم طواها كما ذكرت لك، واعتكف محمد في داره لا يلي عملا عاما، حتى عين في سنة 1910 رئيسا لقسم الإدارة والسكرتارية في ديوان «عموم» الأوقاف، وأزيل عن هذا المنصب بعد إذ قامت الحرب العظمى، وتبدلت الحال، لأسباب لا يحتمل ذكرها هذا المقال، فعاد إلى اعتكافه لا يتدلى إلى البلد إلا في قضاء حاجة، أو مساهرة من يستطيب مجالستهم من الصحاب، وظل كذلك إلى الشكاة التي مات فيها، عليه رحمة الله، وكانت وفاته في يوم 10 مارس سنة 1930.
أخلاق المويلحي وعاداته
قبل أن أطرق هذا الباب من سيرة الرجل، يحسن بي أن أقرر أنه لم يكن على حظ من نطاقة اللسان؛ بل لقد كان يعتريه في بعض الحديث ما يشبه الحبسة؛ بل لقد تتعثر الكلمة في حلقه فلا يستطيع أن يلفظها إلا بمط عنقه، كأنما يمرئ لها مجرى الصوت.
ومن أهم ما يلفت النظر في خلاله، أنه كان أقل خلق الله تأثرا بما يغمر المرء من متعارف الناس ومصطلحهم في عاداتهم وتقاليدهم وسائر أسبابهم؛ بل لقد كان له نظره الخاص في الأشياء، وكان له حكمه الخاص عليها، وهو إنما يأخذ نفسه بما يصح عنده من هذه الأحكام، لا يبالي أحدا؛ ولا يتأثر كما قلت بأثر خارجي، ولو كان مما انعقد عليه إجماع الناس، وإذا كنت قد نعته «بالفيلسوف» فإنما أعني هذه الصفة فيه، فإنني لم أكد أرى رجلا لاءم كل الملاءمة بين رأيه في أسباب الحياة، وشدة تحريه أخذ النفس بأحكام هذا الرأي، كما بان لي من خلة هذا الرجل، بحكم ملابستي له السنين الطوال.
ولقد كانت له آراء في كثير من الأشياء لقد تبدو غريبة، حتى يظن أن في طريقة تفكيره شيئا من الشذوذ والانحراف، وما أحيل هذا إلا على أنه لا يخف لمطاوعة الناس في كل ما يستوي من الإدراك للناس!
ثم لقد كان رجلا يرجح عقله ذكاءه، وإنه ليحتاج في تفهم دقائق المعاني إلى شيء من المطاولة والتدبير، على أنها بعد هذا تتسق لذهنه مدركة ناضجة، لا كما تخطر لحداد الذكاء «خطرة البرق بدا ثم اضمحل»!
كذلك كان مما يلفت النظر في شأن المويلحي أنه شديد الاستيحاش من الناس، فلا تراه يستريح بالحديث إلى من لا يعرف منهم ولم يألف، ولقد يكون في مجلس يجمع الصفوة من خلانه، ومعهم رجل لا يعرفه، فإذا هو يفتر وينقبض حتى يكاد «يوحش في المجلس»، وعلى هذا لقد كان يكره بالطبع الدخول في زحمة الناس، والترائي للجماهير، وما إلى هذا من مقتضيات الظهور.
ومن أجل صفات هذا الرجل حدة العزم، وقوة الصبر، وشدة الحمل على النفس، فما إن رأيته يوما شاكيا ولا مظهرا للبرم بالحياة مهما كرثه تصرف الحياة، ولقد يكثر المال في يده فيبسطها، إلى ما يقرب من السرف في النفقة في حاجاته، وإصابة ما يحلو من المتع واللذائذ، ولقد يرق المال في يده فيلزم داره الشهرين والثلاثة لا يبرحها أبدا، متجملا في عامة شأنه بما عنده مهما يبلغ من القلة، لا يسأل أحدا عونا، ولا يطالع الصديق بحاجة.
كذلك كان من أجل صفاته الصدق في القول، ولقد عاشرته ما عاشرته، فما أذكر - والذي نفسي بيده - أنني أحصيت عليه كذبة واحدة قط، ولا من ذلك النوع الذي يتورط فيه المرء في مصانعة الناس ومجاملتهم، فإن ألحت التقاليد عليه في شيء من هذا سكت أو ورى، ولقد أذكر أنه قابل ولي الأمر الأسبق في يوم من أيام رمضان، فسأله: أصائم أنت يا محمد بك؟ فأجاب من فوره: «والله ما أكذبش عليك يا أفندينا!» فضحك ملء شدقيه من هذا الجواب! •••
ثم لقد كان رحمه الله شديد العناية بالنظافة في جميع ملابساته، متأنقا عظيم التأنق في كل شيء، يحب الزهر ويكلف به، ويحسن تأليفه وتصنيفه، ولا يمس إلا أزكى العطر وأغلاه.
وكان شديد الاحتفال للطعام، مبالغا في التأنق فيه؛ ولربما طالع طاهيه المرات الكثيرة في مطبخه، يتقدم إليه بأن يفعل بهذا اللون كذا وكذا، ويصنع بتلك الصحفة كيت وكيت، وهو بهذا حق خبير، فإذا قرب إليه طعامه اجتمع له اجتماع شهوان يلتذ به أيما التذاذ، على أنه مع هذا كان حسن المأكل، يلتزم في تناوله وإزلاقه أعلى الآداب.
وكان رجلا طبا، كأن طول تمرينه في النقد الكتابي قد طبعه على النقد في كل شيء، وأنضج ملكته فيه، فلا تراه يتخذ شيئا في أي سبب من أسبابه إلا إذا فحص ونقد وتخير، فما يكاد يخدع على أمر أبدا!
وهو بعد يحب النكتة البارعة ويحتفل لها، على أنه إذا وصل المجلس بينه وبين أصحابه ممن حذقوا هذا الفن وبرعوا فيه، من أمثال المرحومين السيد محمد البابلي، ومحمد بك رشاد، ومحمد بك رأفت، لم يكن في الغالب هو المنشئ للنكتة والمبتكر لها، ولكنها ما تكاد تسقط من فم غيره حتى يتولاها بالتخريج والمط والتوليد والتلوين، فما ينتهي أحد في ذاك منتهاه.
ومهما يكن من شيء فإن هذا الرجل كان من أوسع الناس علما بطباع المصريين وأخلاقهم وعاداتهم ومداخل أمورهم، على اختلاف طبقاتهم وتفاوت مراتبهم، فإذا تحدث في هذا الباب فحديث المتمكن الخبير.
ومما ينبغي أن يذكر له، ويختم به هذا الحديث، أنه رجل لم يجد الإلحاد ولا الزيغ إلى قلبه السبيل؛ بل لقد كان مؤمنا شديد الإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، والحمد لله رب العالمين، فإن رأيت منه شيئا من الانحراف في تخريج مسألة جزئية من مسائل الدين، فأحل الأمر على مجرد الخطأ في الاجتهاد والتأويل.
رحمه الله رحمة واسعة، وغفر لنا وله، وأحسن جزاءه في دار الجزاء.
عزاء1
كتب يعزي كبيرا في بنية له:
لا قوة إلا بالله، ولقد خبرتك يا سيدي دهري الأطول، فإذا رأس لم يطأطأ لعظيم، وإذا قلب لم يهن في يوم الروع، وإذا ساق لم تنخذل من دون أفدح الأعباء، فكيف كانت حالك يا سيدي يوم التمست زهرتك الناضرة فإذا قد عراها الذبول، واستقبلت شمسك الساطعة فإذا قد لحقها الأفول، أفترى عزمك قد تضعضع، وقلبك قد تصدع، ورأسك قد ألقي إلى كفيك فلا تسمع بينهما إلا زفرة، ولا ترى إلا عبرة تترقرق في عبرة؟
وا رحمتا لك، فقد طالما كبرت على غبر الدهر، وشمست على أحداث الليالي، فلم يزدك امتحان الزمان إلا شدة على الشدة، وقوة على القوة؛ ولم يزدك جلاد الأيام إلا صبرا على الجلاد، وعزما في الكفاح والجهاد، حتى كان قضاء الله في بنيتك، فسرعان ما سلمت لقضاء الله، ووهت قوتك كلها حين لا قوة إلا بالله.
ولو كان للموت قلب لكنت آخر من يعتدي الموت على قلبه، فإن عظيما أن يجرح آسي الكلوم، والدافع عن ظلامة المظلوم، والقائم طول العمر في وجه الأقوياء الطغاة، ذيادا عن حقوق الضعاف العفاة، والباذل كل مواهبه العظام في سبيل الوطن وفي سبيل الله!
ليس في الموت حيلة إلا أن يعين الله على بلائه بالصبر وجميل العزاء، ثم يثيب من فضله عليهما بالأجر وحسن الجزاء، وقد حق لك يا سيدي الرئيس أن تظفر في الأولى بالصبر الجميل، وأن تفوز في الأخرى بالأجر الجزيل، والسلام عليك ورحمة الله .
تعزية صديق لصديقه1
إلى صديقي الدكتور بيومي
لقد ضربك الدهر فأدمى، وطعنك فأصمى؛ واعتمد أزكى زهرة في يدك فاقتطفها اقتطافا، وأكرم درة في بيتك فاختطفها اختطافا، ولطالما تألقت فيه نورا، ولطالما سطعت فيه أرجا وعبيرا.
وإن صديقك الذي أنقذت في الله والمودة ولده، لحقيق بأن ينخلع فؤاده بما عصف الدهر بولدك، فجمل الله يا أخي صبرك، وأجزل فيه أجرك، والسلام عليك ورحمة الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
صديقك المخلص
من صديق1 إلى الدكتور نجيب بك
(باشا) محفوظ
لقد عشت عمرك عظيما جليلا، ويأبى الدهر إلا أن يكون مصابك عظيما جليلا.
وإذا كان القدر إنما يمتحن الناس على قدر ما رزقوا من فضل وصدق وعزم ، وقوة صبر ووثاقة حلم؛ فما أروع رأي القدر فيك حتى امتحنك بهذا كله! وكيف الحيلة في ذلك؟ وذلك تقدير العزيز العليم!
يا صديقي
لقد أجرى مصابك في كل محجر دمعة، وأذكى في كل صدر لوعة، وكان له على كل حشا غمزة، وفي كل قلب وخزة، وأقام في كل دار مناحة، وبسط في كل مكان مأتما، وشده الناس من هول المصاب، وزاغت أبصارهم حتى كأنما دعوا لساعة الحساب، فاللهم رحمة ولطفا، واللهم رأفة وعطفا.
لقد شاعت هذه الفاجعة حتى أصاب كل سهمه، واحتمل كل قسمه، فالله تعالى أكرم من أن يختصك بهذا كله، فبعض هذا مما لا يقوى على حمله إنسان!
ألهمك الله من التصبر ما يكافئ مصابك، ومن التعزي ما يؤاسي كلومك وأوصابك. اللهم آمين.
مسكين!1
كتب تحت هذا العنوان يعزي عزيزا في عزيز:
لست أرى امرءا أحق بالشفقة وأولى بالرحمة من هذا الذي قدر لنفسه طول السلامة ودوام الأمن، فلم يدخل قط في حسابه صروف الأقدار، ولا ما عسى أن يجيء به الليل والنهار، حتى إذا امتحنه الدهر في نفسه أو في ولده، أو في أحب الناس إليه من أهله وغير أهله، انخلع قلبه، وكاد الهلع يأتي عليه؛ ورأى أن صبره أوهن من أن يحتمل الرزيئة، وجلده أرق من أن يصمد لما حاق به من البلاء!
وطول الجزع إذا لم يورث العلة ويخلف الداء، فإنه قمين بأن يكدر العيش ويخبث النفس، حتى لا يكاد المرء يرى في هذه الدنيا إلا ظلاما ووحشة ومنكرا ومكروها، وماذا لعمري وراء ذلك من مفسدات الحياة؟
كل هذا من ركون الإنسان إلى موادعة الدهر، والتفاته عن مواقع محنه ورزاياه، ولو قدر هذا وأعاره صدرا من لحظه، وأولاه شطرا من تقديره، لأخذ نفسه بالاستعداد لكل ما عسى أن يكون: فراضها على احتمال المكروه، وطامنها إلى أن الإنسان ما دام قائما في هذه الحياة فهو هدف لأحداث الزمان، فإذا وقعت الواقعة كان من القوة والجلد والتمنع بحيث لا يهده الجزع، ولا يقوضه الحادث الجسام.
اللهم إنه لا عذر لنا في الغفلة عن صروف القدر، والاستراحة إلى موادعة الأيام، وهذا الدهر - من يوم كان الدهر - لا يزال يرمي بسهامه دراكا عن أيماننا وعن شمائلنا، ومن قدامنا ومن ورائنا؛ فلا يطيش له سهم أبدا، فلماذا نقدر لنا نحن السلامة والأمن والعافية على طول الزمان؟
هذا الموت! ومن ذا الذي سلم على الموت، ومن ذا الذي سيسلم على الموت؟ إليه مصير كل حي، ولا حيلة فيه أبدا
كل شيء هالك إلا وجهه
تعالى الله،
إنك ميت وإنهم ميتون
صدق الله العظيم.
ومع هذا فإذا جاء هذا الحق الذي لا ريب فيه، والذي لا مفر لأحد منه، فامتحننا في ولد أو في قريب أو في حبيب، تصدعت كبودنا، وتفرقت أحشاؤنا وطارت كل مطار أحلامنا، واشتد إنكارنا لهذا الموت كأنه لم يكتب قط علينا، وكأن القدر قد ضمن لنا السلامة عليه، وكتبنا دون الخلق جميعا في سجل الخالدين!
يا ويلنا من غفلتنا! يا ويلنا من إحسان ظنوننا بالأيام!
ليس الزمان هو الذي يخدعنا، ولكنا نحن الذين يخدعون أنفسهم عن صرف الزمان! وإننا لنجزى على هذه الخديعة جزاءنا الأوفى، إذ نضاعف بمصيبة الروع والهلع مصيبة الفقد والحرمان! •••
لا تجزع يا أخي ولا يسرف فيك الأسى، وما خيرك في أن تتلف وتتلف أنفسا معك، على حين لا تجدي بذاك حيا ولا ميتا؟
خذ نفسك بالصبر، وكلفها التجلد، وألق مصابك بالعزم الشديد؛ فذلك الأخلق بالرجال، لا أسألك يا أخي ألا تحزن، ولا أريدك ألا تبكي، فإنني بهذا أجشمك ما ليس في الطباع، وأريدك على ألا تكون لك عاطفة تترقرق، وكبد تحن، ولب يسيل بالذكرى، وعين تتبادر بالدمع على من ذقت فيهم لوعة الفراق!
بل ابك، فمن الدمع ما أسكن من وخز الحشا، ومن الدمع ما أهدأ من غمز الكبد، ومن الدمع ما أبرد من لوعة الملتاع.
ابك، ولكن بكاء رقة ورحمة، وشتان بين عين تذرف الدمع من شدة الهول والهلع، وبين عين تفيض بالدمع من الرحمة والحنان!
ولعلك في لوعتك وشدة ولهك ذاكر قول كثير:
فقلت لها يا عز كل مصيبة
إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
أعانك الله يا أخي، وشد بالصبر عزمك، وثبت بالإيمان قلبك.
إنا لله وإنا إليه راجعون.
إسماعيل1
لقد نفضنا أيدينا من ترابه، ورجعنا عنه منهزمين بين يدي القدر.
وا رحمتاه! أيدري الناس ماذا صنعوا اليوم؟ لقد كفنوا الجمال كله في برد، وأودعوا الأدب أجمعه في لحد، وراحوا من بعده سكارى وما هم بسكارى ولكن الخطب فيه جليل.
إسماعيل! أين ذلك العلم الذي برعت به الأقران، وأين ذلك الفضل الذي أوفيت به على مقدور الزمان، وأين تلك الشمائل، كأنما قدت من الورد والأقاحي، وأين تلك الخلال قد استعيرت من نسيم الصباح؛ وأين هذا العقل والذكاء، أين هذا الأدب والحياء، أين هذا الإخلاص والوفاء، أين هذا البر والسخاء، أين تلك الهمة القعساء، أين تلك العزمة التي أنافت على الجوزاء؛ أين رجاء للأمة بك مرصود، أين أمل للوطن فيك معدود؟ كل هذا كان يستجمه الدهر للموت يا إسماعيل؟
لقد سخت الدنيا بك سخاء
لم يسمع بمثله في سالف الأيام
برزت يا إسماعيل إلى ميدان الحياة فتيا مقداما، لم تنخذل لك فيه ساق، ولم تصطك لك كسائر الناس قدم، بل أبت عليك تلك العزمة الهائلة الجريئة إلا أن تقطع الشوط كله بوثبة واحدة، فبلغت المدى في مثل طرفة العين، وماذا بعد الحياة إلا الموت يا إسماعيل؟
حسب الناس إذ رأوك أن سنة الحياة قد تبدلت في الخلق، وأن النبوغ جميعه يمكن أن يتهيأ للمرء في فجر العمر، وما دروا أن نفسك العبقرية هي التي كانت تطير في العمر حتى تناولت آخره، فمت شيخا وأنت بعد في ميعة الصبا وباكورة الشباب.
لقد قضيت أيامك القصار الطوال، في حرب مع المنية ونضال، فما صارعت في حماك مريضا إلا صرعتها، ولا قارعت بين يديك عليلا إلا قرعتها، حتى أصابتك من مأمنك، وعمدت إليك في المعركة وأنت تستخلص من لهوتها نفسا فرمتك بتلك اليد العسراء، فرحت الشهيد الكريم شهيد العلم والمروءة والوفاء.
لقد رماك الدهر بالأرزاء يافعا ، فاضطلعت بحملك الثقيل صابرا، ومضيت لطلبتك العظيمة في الحياة، تقتحم إليها العقبة بعد العقبة، ضاحك السن، طيب النفس، حتى إذا جزتها كلها، وانطلقت الآمال تهيئ لك ذلك المكان الرفيع الذي يعتليه المقاديم النابغون، إذا بيد القدر قد سبقت فمهدت لك هذا المضجع في جوانب القبر، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! لهفي عليك! أي عين لم تدمع، وأي نفس لم تجزع، وأي كبد لم تتصدع، وأي يقين لم يتزعزع؟
لقد كان يدعى لابس الصبر حازما
فأصبح يدعى حازما حين يجزع
تلك حيلة الناس في عزائك، لو كان يلتمس في مثل رزئك السلوان، فاللهم أفض على عيوننا من الدمع بقدر ما يشب في قلوبنا من لوعة أسى، ويذكو في صدورنا من حرقة جوى، فتلك على «ضيائي» نعمة الصبر والعزاء.
يا من خلقت الدمع لط
فا منك بالعبد الحزين
بارك لعبدك في الدمو
ع فإنها نعم المعين
محمد بك أباظة1
من شاء أن يعرف الصرح كيف يتهدم، والطود كيف يتحطم، والجمال كيف يحول،
2
والزهر كيف يلحقه الذبول، والبدر كيف يدركه الأفول؛ فهذا مصرع محمد بك أباظة فيما دون ردة الطرف، لقد كان مصرعه آية من آيات الله على أن القوة لله جميعا.
كان محمد شديدا في عقله، شديدا في ذكائه، شديدا في خلقه ، شديدا في خلقه، شديدا في صراحته، شديدا في وفائه، يرى أن أسباب الحياة دون أن يستخذي لها، فكان لا يصيبها إلا قوة وغلابا، لا ورعا
3
في إقدامه ولا هيابا، حتى إذا جاء أمر الله تلقاه مطيعا، ومضى إليه سريعا، لم تغن عنه قوته كلها فإن القوة لله جميعا.
لقد ضننا بك يا محمد على الموت، وضن القدر بك على الحياة، فلم يكن ما أردنا ولكن كان ما أراد الله.
وا رحمتا لك: أهكذا تهوي البدور، أهكذا تغيض البحور، أهكذا تزلزل شم الجبال، أهكذا يخترم غطاريف الرجال، أهكذا تعدو المنية على ذخيرة أمة وعدة آمال؟
وا حسرتا عليك: يطويك الردى أكمل ما تكون بدرا، أفكرهت فسحة العيش خشية أن يدركك السرار، ولمصر فيك أوطار كثار: أم هكذا جرى على مصر حكم الأقدار، فلا ينجم فيها فتى إلا عاجلته بالتلف والبوار؟
لقد أتعبت الوسائل في خطبك، فجللت على الرثاء، وتعاظمتني فيك أسباب العزاء، ولو كان منك عوض لاطمأن الصبر على فقدك إلى جزاء.
فاللهم رفقا بالبلاد، واللهم لطفا بالعباد، إنا لله وإنا إليه راجعون، وإنا لموتك يا محمد لمحزونون.
محمود باشا سليمان1
قضى محمود باشا سليمان فطويت صحيفة حفيلة بالعظائم في تاريخ مصر الحديث، وليست تتسع مثل هذه «اليوميات» لترجمة مثل هذا الراحل العظيم الذي كان آخر عهدي برؤيته غاية ربيع سنة 1923، وإني لمحدثك عنه في هذا العهد حديثا يسيرا ما كنت لأفضي منه بما يتصل بولده وهو ثابت في الحياة.
كنت مفتشا في وزارة الحقانية سنة 1923، وبدل الحكم غير الحكم، ورأت الوزارة الجديدة، لسبب لا أعلمه إلى هذه الغاية، أن تقصيني إلى أسيوط، حيث ولتني عملا تافها أشبه بلا عمل، فكنت أتحين أيام الفراغ من الأسبوع فأقضيها عند محمود باشا سليمان في ساحل سليم.
وكان رحمه الله ينام مبكرا، ويهب من نومه في السحر، فيتوضأ ويتهجد إلى أن ينصدع الفجر فيقوم لصلاته، فإذا ختمها أخذ في ذكر الله تعالى من تلاوة قرآن، إلى أوراد مشهورة، وأدعية مأثورة؛ حتى إذا بلغ من هذا ما شاء الله أن يبلغ قربوا إليه لمجة
2
خفيفة، فأصاب منها يسيرا، فإذا فصحه النهار نهض لرياضته، فمشى ساعتين كاملتين خفيفا يجول في حدائقه الواسعة، ويتجاوزها حتى يطلع على سيف النهر، وهكذا إلى أن يتم نصاب الرياضة.
ولقد كنت أصحبه أحيانا، فإذا مشينا أخذ بأطراف الحديث، فكان حديثه كقطع الروض قد طله الندى.
وانظر بعد هذا إلى دفة هذا الرجل العظيم وكرم شمائله: لقد كان رحمه الله يراني شابا غريبا ليس لي هناك من لداتي من آنس بهم، وأستريح بألوان السمر إليهم؛ فيأبى - على جلالة محله - إلا أن يتبسط معي في فنون القول، فيقص علي نوادر من حضرهم من مشيخة الأدباء، أمثال المرحومين الشيخ القوصي والشيخ علي الليثي ، ويروي الطريف من أشعارهم وأزجالهم، وأجل ما انتضحت به قرائحهم في محاضراتهم ومناقلاتهم؛ فتزول وحشتي، ويغمرني الأنس، حتى لأحسبني في مجلس رفقة من الشباب الفاره، وهو على هذا ما يبرح حدود الواجب لسنه ووقاره وتاريخه الجليل، وبذلك أيضا استدرجني لمسامرته والتسرية عنه بما يحضرني من ملح ونوادر وأفاكيه، مما لا ينشز على مثل مجلسه الكريم.
وما برحت له في تلك السن فطنته القوية، وعينه العالية، واتصال ذهنه من الأسباب العامة بكل دقيق، فكان إذا جاء البريد بالصحف السيارة قرأها بنفسه واحدة بعد أخرى، حتى يأتي عليها جميعا، وكان قد اعتزل السياسة، ولكنه لم يستطع أن يعتزل الرأي، فإذا وقع له في إحدى الصحف حديث لا يرى للبلد فيه خيرا صاغ الكلام في صورة استفهام يريك ظاهره أن الأمر لا يشغله ولا يعنيه، فإذا فتشته أصبت فيه كل صدق الرأي وكل حكمة الحكيم.
وقلت له ذات يوم: ألا تهبط يا باشا مصر فتقضي في «ذهبيتك» أياما كسابق عهدك؟ فرأيت الدمع يترقرق في عينيه، وقال: ومع من أجلس يا بني؟ لقد مات قرنائي وأصحاب عمري، فأنا لا أجدني في أبناء هذا الجيل إلا غريبا!
وإليك مثلا واحدا من شفقته بولده، وشدة عطفه عليهم، وإيثاره لهم: دعوت له مرة - وقد جرى حديث الصحة والمرض - بطول العمر ودوام العافية، فانتفض انتفاضة شديدة، وقال: لقد كنت أحسبك يا فلان تحبني! فدهشت من هذا السؤال، وقلت له: وكيف رأيتني يا باشا لا أحبك، وأنا أدعو لك بطول العمر ودوام العافية؟ فقال: بل ادع لي بأن يلحقني الله عاجلا بالدار الآخرة، فلا يمتد بي الأجل حتى أشهد مكروها في ولد من بني أو في أحد أبنائهم.
3
الله أكبر! ...
سيذكرون في نعي محمود باشا سليمان إيثاره لبنيه، فلقد خرج لهم حيا عن كل ما ملكت يمينه، وما دروا أنه آثرهم بما هو أعز من المال، لقد آثرهم بالحياة!
والرجال قليل!1
راغب بك عطية
2
إلى صديقي محمد راغب بك
وا رحمتاه لك: لئن فقد الناس بالأب واحدا لقد فقدت فيه أيها الحزين الواله اثنين: أبا وأخا معا: أبا يكاد من حدب يخلع شغاف قلبه على وليده، ويعتصر من الحنان كبده ليفيضه على طفله وحيده، ولو تهيأ للأجسام أن تتبخر لاستحال جثمانه عطفا عليك، وترقرق في الأثير حنانا إليك.
وإذ تستوي في الدنيا فتى لا يراك إلا أخا يماده أوثق أسباب الإخاء، وصديقا يصفيه أحلى علائق المودة والولاء.
وحين تعلو به السن، ويلحقه الوهن، وتتداخله الأسقام من كل جانب، لا يتمثل فيك إلا الأب يعوذ به ولده كلما أدركه العجز أو أصابه المكروه من أي ناحية، فكنت للوالد البر: الوالد العطوف الحنان، فقارضت عطفا بعطف، وبادلت برا ببر، وقضيت الدين خير القضاء، ووفيت الحق وأغليت الوفاء.
ولقد مضى أبوك، وما أحسبه وهو متقلب في رضوان الله إلا راثيا لشانك، حزينا لبكائك وأحزانك، حتى ليصح فيكما قول الشاعر:
لو كان يدري الميت ماذا بعده
للحي منه بكى له في قبره
غصص تكاد تفيض منها نفسه
ويكاد يخرج قلبه من صدره
وا رحمتاه لك! إن عذابك لأشد من كل عذاب، وإن مصابك لأجل من كل مصاب.
لست أسأل لك يا صديقي اليوم سلوا، فهيهات لي أن أطلب المحال، ولا أسأل أن يرقا دمعك، فالله تعالى أرأف من أن يكظم هذا الأسى كله في صدرك، فإن جمود العين في مثل ما أنت فيه من العي بالبكاء، وهو أشد من عي اللسان بالكلام، بل إني لأدعو الله أن يفيض شئونك حتى يروح عن هذه الروح المجروحة، ويفرج عن هذه الكبد المقروحة.
لم يخلق الدمع لامرئ عبثا
الله أدرى بلوعة الحزن
وهكذا الدنيا، ما سقت حلوا إلا أعقبته مرا، ولا بسطت عرفا إلى وهي تطوي فيه نكرا! فكل ما تقلبت فيه من ذلك الحنان العذب، لقد بات ذكرى تخز الكبد وتحز في القلب، كان الله في عونك يا أخي، فما يصبر أحد على ما تجد، إلا بعون من الله ومدد. •••
أما المصيبة في أبيك رجلا عظيما شأنه، جليلا في البلاد خطبه، فهذه تتقسمها الأمة كلها ، لا تستأثر بها وحدك، فلقد كان رحمه الله رجلا حق الرجل: سعة علم، ووثاقة حلم، ونصاحة رأي، وشدة عزم، وسلاسة طبع، جم التواضع، فإذا ما دعا داعي الكرامة، كان أشمس من أسامة.
3
وحسبك عزاء فيه أن عاش كريما وفيا أبيا، وهذا تاريخه الضخم يتألق فخرا، وتعتد سيرته في البلاد عدة وذخرا.
وصل الله في عمرك، وأدام منك أفضل خلف لأفضل سلف، والسلام عليك ورحمة الله.
أحمد عبد الوهاب1
طوى الجزيرة لما جاءني خبر
فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا
شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
من كان يظن أن يذوي الغصن إبان إيراقه، وأن يذبل الزهر ساعة إشراقه، وأن يسرع البدر ليلة التمام إلى محاقه؟
أي حسن لعمري، وأي جميل، وأي كريم في هذه الدنيا لم يكن لأحمد عبد الوهاب؟
هذا الشباب الناضر، وهذا الحظ المواتي الحاضر، وهذا الأيد والقوة، وهذا أسر الفتوة، وهذا العقل الراجح، وهذا الذهن الواضح، وهذا المنطق الناصح، وهذه النفس الوضية، وهذه الشمائل الرضية، وهذا النظر البعيد، وهذا الرأي السديد، وهذا العلم والفضل، وهذه السماحة والنبل، وهذه الكفاية التي دوت بها السهول والجبال، وستتغنى بها الأجيال بعد الأجيال.
هذا كله أحمد عبد الوهاب، وهذا كله لقد دس وا لهفتاه في التراب !
ما حسبت ساعة طلع علي الخبر إلا أنه مزحة بغيضة، وإذ هو وا حسرتاه أبغض مزحات الموت جميعا!
لئن كانت حياتك عجبا من العجب، لقد كان موتك يا عبد الوهاب أعجب العجب! السبل ممهودة، والوسائل موصولة ممدودة، كل شيء في انتظارك، وكل عظيم من الأمر في تنسم أخبارك، قم يا عبد الوهاب وشمر، وأصلح وعمر، وثمر ما شئت أن تثمر، فلقد طالما ضربت على صدق العزم أبلغ الأمثال، وأريت الشباب أن من الشباب من لا يعرف المحال!
تعال يا عبد الوهاب! فمصر الناهضة لطلاب المجد في أشد الحاجة إلى أمثالك، وأمثالك في مصر قليل، وانهض من مطالبها بعبئك وعبئك منها ثقيل.
تعال يا عبد الوهاب! فقد آن لمصر أن تعتز بما لها من المفاخر، وآن لها أن تعتد بما فيها من الذخائر، انظر كيف ترى الآمال بك معقودة، والعظائم في ترقب طلعتك مجموعة محشودة؟ أقدم أقدم! فما عودت مصر الإحجام، في ساعة الجلى ولا في حد الصدام.
ما لك لا تجيب؟ أحقا لقد عدا الموت عليك، وإنها لجناية على البلد جميعا؟
أهكذا تأفل الأقمار، أهكذا تغيض الأنهار، أهكذا تيبس الروضة المعطار، أهكذا يعدو ظلام الليل على وضح النهار؟ وما أجدر مصر أن تقول في منعاك:
كنت الشبيبة أبهى ما دجت درجت
وكنت كالورد أزكى ما أتى ذهبا
طلعت لي قمرا سعدا منازله
حتى إذا قلت يجلو ظلمتي غربا
يا عمر الورد: لقد كنت حلما من الأحلام، لولا ما تحدثتا به آثارك الضخام!
يا علما تنكس، ويا سيفا تثلم، ويا أملا تحطم، ويا بنيان قوم تهدم!
وما كان قيس هلكه هلك واحد
ولكنه بنيان قوم تهدما
لقد عظمت مصيبة مصر فيك، أحسن الله لها العزاء، وأوفى لها الجزاء، إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
يا حافظ!1
لم لا تجيب وقد دعوت مرارا
يكفي سكوتك أربعين نهارا!
يا حافظ! هذه أربعون تقضت ونحن في انتظارك، إذ أنت لم تحسن بطلعة ولم تسعد برد خطاب!
أطاب لك المقام هناك من بين من تقدموك من إخوانك، فلم تعد تحفل بمن خلفت هنا من صحبك وصدقانك؟ أم لعلك آثرت انتظارهم في مثواك ليجتمع الشمل كله؛ وإنهم لموافوك عما قليل، فما في هذه الدنيا كثير!
يا حافظ! هذه أربعون تقضت والوله عليك لا يخلق تليده، ولا يبلى جديده، وما ذكرك صاحبك،
2
وهيهات ألا يذكرك، إلا أحس على قلبه غمزا لا يسكن إلا بالعبرة، وهكذا:
لم يخلق الدمع لامرئ عبثا
الله أدرى بلوعة الحزن
وكذلك كان البكاء نقمة، فأبى خطبك إلا أن يحيله نعمة أي نعمة!
هذه شعبة من قلبي قد انخلعت لموتك، ولعلها دفنت معك، وما لها لا تفعل؟ وقد كنت بعضي وكنت بعضك؟ فإذا أنا بكيتك فقد «بكى بعضي على بعضي معي»، فاعجب لمن جمع بين الموت والحياة، ومن تقسمت هذه الأرض شطريه: هذا يدب على متنها، وهذا مدرج في بطنها!
وإذا كان المرء تاريخا وذكرى، فخبرني يا حافظ كيف أصنع بسبع وعشرين سنة، هي في مساحة العمر ملاعب الصبا، وهي بين أشواك الحياة أزهار الربى؟
وها هي ذي لقد أضحت مبعث الأسى والشجن، ومثار اللوعة والحزن، وهكذا الدهر إذا أسعد وأنعم، أبى إلا أن يحيل شهده إلى صاب
3
وعلقم!
يا حافظ! أين أنت؟ إني لأطلبك في كل مكان فلا أصيبك، وكيف وقد كنت يا حافظ ملء كل مكان؟ هذي يدي لقد أصبحت منك صفرا، وهذي نفسي لقد أمست من داعيات العيش قفرا:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
يا حافظ! أين أنت، وكيف صنعت؟ وأين ذهب ذلك الود الذي ظللنا نجمعه جمع الشحيح للمال، في مدى سبع وعشرين سنة، ونحرص عليه حرص الكريم على وليده، وندلله تدليل الشيخ الفاني لوحيده، أتراه قد تبدد كله بضربة من الموت واحدة؟ فحق فينا قول متمم بن نويرة في أخيه:
وكنا كندماني جذيمة حقبة
من الدهر حتى قيل لن نتصدعا
فلما تفارقنا كأني ومالكا
لطول افتراق لم نبت ليلة معا!
لقد كنت تعيب على من صاروا إلى الآخرة قبلك أن أحدا منهم لم يباد الأحياء بما سمع وما رأى؛ وكيف يكون ذلك العيش عيش الآخرة، فهلا فعلت أنت؟ فما أشوقنا إلى حديثك! أنت الذي ملأ الدنيا بيانا في جميع أسباب الحياة، فهل يعز عليك أن تحدثنا في بعض أسباب الممات؟
ها أنت ذا تدعى فلا تجيب! وقد كنت الطلاع في كل مهمة، الندب
4
عند كل ملمة، الشادي كلما تفتح لأمل هذا البلد زهره، النائح كلما كرثه أمره وتغير له دهره!
ليت شعري، ما الذي حبس لسانك، وقد كان أجرى من السيل الدافق؟
وما الذي أخمد بيانك، وكان أسطع من البرق الآلق؟ ما هذا منك يا حافظ؟
يا ليت ماء الفرات يخبرنا
أين تولت بأهلها السفن ؟ •••
يا حافظ! لقد سافرت قبل أن تتزود لهذا الذي يدعى بالموت، وقبل أن أتزود لهذا الذي يدعى بالحياة بعدك، فهلا جلسنا معا جلسة نتذاكر فيها العيش في تلك الأيام؟
أتذكر إذ كان المترفون يقلبون أعطافهم في ألوان المناعم، أو ما اصطلح هذا الناس على أنه من المناعم، إذ أنا وأنت لا نغبط أحدا على عيشه، ولا ننفس على امرئ ما وصله الله به من مال وجاه، وما لنا نفعل ونحن بحمد الله سريان حق سريين بما رزقنا كلانا من محبة وصدق ووفاء؟ أتندر عليك ما شاء الله أن أتندر، فلا أرى عليك برما ولا تعاظما لهذا الذي أصنع بشاعر النيل، وتتطرف بي ما شاءت لك سطوة اللسان أن تتطرف، فلا والله ما أحسست قط أن نعمة في الدنيا تقوم بإزاء هذا الذي أنا فيه! فما حاجتنا بعد هذا إلى ما يتكاثر الناس به من جاه ومن مال؟
أرأيت يا حافظ كيف قد بعدك متني، وكيف هد فقدك ركني؟
كنت لي نعمة وكنت سماء
بك تحيا أرضي ويخضر عودي
يا حافظ! أتذكر كيف أغنانا هذا العيش وكفانا، وكيف كنا ندل به ونتتايه، حتى ما يعجبنا من الأمر عجب، ولا يستهوينا من مغريات هذه الدنيا أرب، فلو قد سألت اليوم في سر من حارس الموت عن صاحبك، أو عن بقيتك التي ما زالت ثابتة في سجل الأحياء، لخرج الجواب في قول مسلم بن الوليد:
أصبحت كالثوب اللبيس قد اخلقت
جداته منه فعاد مذالا
وبقيت كالرجل المدله عقله
أشكو الزمان وأضرب الأمثالا
سالمت عذالي فآبوا بالرضا
عني وكنت أحارب العذالا
ومقد علمت بأنه ما من فتى
إلا سيبدل بعد حال حالا
يا حافظ! إن الرجل العظيم ليموت فيخلو بموته موضع واحد، أما أنت فلقد أخلى موتك مواضع كثيرة: أنت شاعر النيل غير مزاحم؛ فلقد اتصل شعرك بمائه، وامتزج بواديه أرضه وسمائه، وشدا في نعمائه وسرائه، وناح في بأسائه وضرائه، وأنت الكاتب لا يلحق في حسن الصياغة غباره، ولكن تترسم إذا أعوز تجويد النسج آثاره، وأنت الأديب التام؛ تضرب في فنون الأدب كلها ما تشرد عليك شاردة، ولا تند عنك منها مستأنسة ولا آبدة، وأنت المحاضر كأنما يخوض منك جلاسك في عباب، أو كأنما يقرأون منك في كل باب أسبغ كتاب، وأنت السمير ما تبرح تشيع في مجلسك الطرب، وما يبرح جلاسك يتنزون لحديثك من إعجاب ومن عجب، وأنت الذكي الألمعي ويا له من ذكاء كان مثل سنا البرق، يومض من جانب الغرب فيسطع في عرض الشرق، وأنت، وأنت، وأنت يا حافظ! لقد كنت معاني كثيرة، وكنت مباهج من مباهج الحياة عديدة، فقدر يا أخي، رحمك الله، جملة مصائبنا فيك!
أنا هنا إنما أبكي حافظا لا أنشر مناقبه؛ فلذلك بعد مقام عريض. •••
وبعد، فلقد تعذرت على رثاء حافظ طويلا ضنا بنفسي على إظهار الناس على ما يشهدون اليوم من حيرة ووله واختلال أعصاب، ولكن لقد بعثني على هذا من أصدقائي من لا أستطيع مدافعتهم، وإظهار الخلاف لهم، فحقت علي قولة الشاعر:
ألا يا حمامي قصر زوران هجتما
بقلبي الهوى لما تغنيتما ليا
وأبكيتماني وسط صحبي ولم أكن
أبالي دموع العين لو كنت خاليا
وبعد، فلقد كنت يا حافظ كثير الترجيع لقول صديقك وأستاذنا إسماعيل باشا صبري:
وحياة المرء اغتراب فإن ما
ت فقد عاد سالما للتراب
وها أنت ذا قد عدت إلى الوطن، وأبت بعد طول السفر إلى الأهل والسكن، وبدلت من حدث الدهر الأمن والسلامة، وضمنت لك الدعة والراحة إلى يوم القيامة.
فإلى الملتقى يا حافظ في الجنة إن شاء الله، فلقد كنت شديد الإيمان بالله عظيم الإحسان إلى الناس، والسلام عليك ورحمة الله.
ابني! ...1
يا مشرعا للمنى عذبا موارده
بيناه مبتسم الأرجاء إذا نصبا
2
كنت الشبيبة أبهى ما دجت درجت
وكنت كالورد أزكى ما أتى ذهبا
طلعت لي قمرا سعدا منازله
حتى إذا قلت يجلو ظلمتي غرا
جاء ولم يرغب في مجيئه أحد، ولكنه ذهب على عيني وعلى أعين الجميع.
فيم جئت يا بني وفيم ذهبت؟ أفكنت حامل رسالة البرح والآلام، أديتها إلي ورجعت إلى مثواك بسلام؟
ما الذي حبب إليك هذه الحياة؟ ثم ما الذي زهدك سريعا في هذه الحياة؟
لقد يكون من الأثرة الشديدة يا بني أن أرجو لك اللبث في هذه الدنيا تعاني كل ما يعاني من حكم عليهم فيها بطول البقاء، كل هذا لأنعم من وجهك بنظرة، ومن شفتيك بابتسامة، ومن صوتك الحنان بلغاة!
ولكن لقد كانت كذلك أثرة شديدة منك يا بني أن تطلب النجاة بنفسك من هذه الحياة، وتتركني كما تركتني لا أنا مع الموتى ولا أنا مع الأحياء!
أمسكتك وحرصت عليك إرضاء لشهوة نفسي، وتركتني وفررت مني إرضاء لشهوة نفسك، وواحدة بواحدة، وذلك الجزاء الوفاق!
وافيتني ولم أدعك، فعندي من مثلك ما يكفي وما يغني، والفضل لله، فصدفت عنك وأعرضت.
وما أدري أكان ذلك مني عن زهد فيك أم بطر على نعمة الله بك؟ ولكنك أبيت إلا أن يكون لك هناك محل، فما برحت تجهد لذلك الجهد الكبير، بخلقك هذا الدقيق الصغير، تعمل لتلك الغاية في كل يوم من الشهر، وفي كل ساعة من اليوم، وفي كل دقيقة من الساعة، لا وانيا ولا متخاذلا، تعمل لها مستيقظا ونائما، ومختلجا وساكنا، ومبتسما وباكيا، وصحيحا وشاكيا، وهل كان مما يخرج عن جهدك أن تكبر وتزكو، وتنمو وتحلو ؟ ومع هذا لقد كنت أجاهد فيك النفس وأغالبها عليك، وأزعم إذا هتف بك إخوتك ومضوا يشيدون بموقعك من قلوبهم، أنك لا ترتقي في السعر عندي إلى جناح البعوضة! وإني لأغلو في هذا وأشتد كلما غلوا واشتدوا في أنك الآثر الأحلى.
ثم أجدني - على غير إرادة مني - أختلس النظرة السريعة إليك، ثم أجدني - برغم عنادي - أثبت النظر في وجهك وأطيل، ثم يبدو لي في سر من العيون أن أمس ببنانتي خدك الرخص الدقيق، فإذا أنت تبتسم وتدير في وجهي طرفك الحيران، ثم أتشجع على نفسي فألاغيك، فإذا أنت ترجع بالصوت الناعم الرقيق كأنه قطعة من أنعم نسمات السحر، ثم إذا بي أقبلك فإذا لقبلتك حلاوة، وإذا بي أجد لها على صدري بردا!
وإن هي إلا أيام تمضي على هذا، حتى أصبحت أشعر أن هذه القبلة تجاوزت أن تكون لذة من اللذائذ، فقد صارت لعيشي ضرورة من الضرورات.
فإذا أصبتك نائما في ساعة من ساعات حنيني إليك وما أكثرها، علقت عيني بشخصك، وأفرغت كل ما في قلبي على وجهك الملائكي لو أن الملائكة تنام.
لقد بلغت وشيكا غرضك، فأصبحت من شغل نفسي، بل لقد كدت تصبح شغل نفسي جميعا، وهكذا ينخذل عنادي من دونك انخذالا، وأفتضح يا بني في هواك افتضاحا!
لقد تم لك يا حسن كل ما أردت، وبلغت مني فوق كل ما أردت، وهذا مطعني لقد انكشف لك دانيا سويا، فما لك لا تعجل بالثأر من بطري، فتطعن الطعنة الشهلاء، وهذا منك أعدل الجزاء؟ ولقد فعلت يا بني في غير تردد ولا إبطاء!
وهكذا لقد كفى عزمك الحديد عشرون دقيقة بين أن كنت كالوردة الضاحكة وبين أن صرت جثة تطلب - وا مصيبتاه - اللحد!
جدت بنفسك المطمئنة على صدري الملتاع، فإذا بك تخوض لجنة الموت في دعة ورفق ونعومة نفس، لا مجاهدة ولا معاناة ولا اختلاج، حتى أسلمت نفسك، ولولا إجلالك الموت لظل على شفتيك هذا الذي طالما نعمني من حلو الابتسام.
وما لك يا بني وأنت بين يدي تعالج نزعا أو تعاني احتضارا؟ فعنك كنت وما زلت أنزع، وعنك كنت وما برحت أحتضر، وإنه لنزع شديد، وإنه لاحتضار يا بني طويل!
لقد استحالت كل جارحة في نفسا تعاني من سكرات الموت ما لا يعلم مدى أوجاعه وآلامه وبرحه إلا الله، فهذه تزم بملازم الحديد زما، وهذه تضغمها أنياب النمور ضغما، وهذه توخز بالإبر وخزا، وهذه تحز بالمدى حزا، وهذه تفريها المخالب فريا، وهذه تشويها النار شيا، وكيف لي بعذاب نزع واحد، ولم يصبح لي كسائر الناس نفس واحدة «ولكنها نفس تساقط أنفسا»؟
لا شك يا بني أنك مضيت من فورك إلى الجنة، فإذا أحببت أن تعرف مبلغ عذاب أهل النار، فأشده بعض ما أنا فيه!
ويلي منك يا بني! لقد ورثتني كل يوم موتات لا نجاء لي منها إلا بهذا الذي يدعونه الموت، اللهم يا من امتحنني بهذا العذاب كله في الدنيا، أقلني بفضلك من عذاب الجحيم في الآخرة. •••
لست أدري يا بني أينا الأحق برثاء صاحبه؟ لعمر الله إذا حققت، وأنت في مقعد الصدق، لرأيتني الجدير منك بالمرحمة وطول الرثاء، ولكأنما كان يعنيني وإياك هذا الشاعر حين يقول:
لو كان يدري الميت ماذا بعده
للحي منه بكى له في قبره
غصص تكاد تفيض منها نفسه
ويكاد يخرج قلبه من صدره
وا حر قلباه! إننا نعيش في هذه الدنيا عيش الآمن في سربه، بل عيش الذي عاهده القدر على أن يسلم على الزمان فلا تكرثه الكوارث أبدا، وإننا لنشعر في أنفسنا المراح فنعبث ونضحك، ولقد يضحك لضحكنا خلق من الناس، ولا ندري ماذا يضمر لنا القدر بعد ساعة واحدة، بل بعد دقيقة واحدة، ولقد يكون فيما يضمر لنا ما يقد المتن قدا، وما يهد النفس هدا، وكذلك كان شأني يا بني فيك.
في ليلة أسهرها في داري راضيا مغتبطا، وما لي لا أكون وأولادي بخير، وأهلي جميعا بخير، وأصحابي جميعا بخير، بل لا أشكو المرض الذي طالت علي مدته حتى كاد يصبح عندي من إحدى العادات، ثم أسترسل للنوم كذلك راضيا مغتبطا، ثم أبعث في جوف الليل لا لشيء إلا لأرى مصرع ولدي، وأشهد هذه الخاتمة الوجيعة من فصول رواية تمثلها لي وتمثلها بي الحقيقة لا يمثلها الخيال!
يا هذه الليلة: كيف كنت ولم كنت؟ أفكان يفنى الدهر كله لو لم تكوني بين لياليه الكثار؟!
يا هذه الليلة! لقد رميتني فأصميت، وطعنتني فأرديت، وكأني بك وقد نفست بي على الموت، لا لأنك تؤثرين لي طول الحياة، بل لأنك تؤثرين لي طول العذاب!
آمنت يا هذه الليلة أنك كنت السهم في قوس الدهر، وأنك كنت النصل في رمح القدر!
النظرة الأخيرة
هذا ولدي يحمله حامله ويخرج به من داري إلى غير عودة أبدا، وإني لأتحامل وأجمع جسدي المحطم، وأجر ساقي المتزايلتين جرا، لأشيع إلى الباب ولدي بل لأشيع نفسي، وإني لأتزود منه بالنظرة الأخيرة، فإذا بي أحس أن كبدي وقلبي يسيلان كلاهما على عيني، فإن كانت بقيت منهما بعد هذا بقية فكالأسفنجة بعد شدة الاعتصار، ووالله ما أدري أكانت تلك النظرة أحلى ما ذقت في حياتي من ألوان المتاع، أم كانت أقسى ما شعر به حي من الحرق والآلام والأوجاع؟
اللهم اشهد أنني راض بقضائك، صابر لبلائك، شاكر لنعمائك، إنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
مقدمة
بقلم طه حسين
رغبت إلى الأستاذ الصديق عبد العزيز البشري في أن أقدم الجزء الثاني من كتابه المختار، فتأبى علي وأظهر امتناعا ثم التواء، ولم أظفر منه بما أردت إلا بعد جهد وإلحاح، وما رغبت إليه في ذلك حرصا على كتابة فصل من الفصول، أو إيثارا لإملاء مقال طويل أو قصير، فالله يشهد لقد أضيق بالكتابة حتى أكره أن أسمع لفظها، وأتبرم بالإملاء حتى لا أسمح لصاحبي أن يتحدث إلي بذكر القلم والورق.
وما رغبت إليه في ذلك لأعرفه إلى الناس، وقد عرفه الناس قبل أن يعرفوني، ولا لأقدم كتابه إلى القراء، فليست آثار البشري من الآثار التي تحتاج إلى أن تقدم بين أيديها المقدمات، وإنما رغبت إليه في ذلك؛ لأني أرى له دينا في عنقي، وفي عنق كثير من المثقفين في هذا الجيل الذين يحبون الفن الرفيع من الأدب، ويحرصون على الاستمتاع به، ويخلصون له نفوسهم وعقولهم وقلوبهم وضمائرهم، فكل هؤلاء المثقفين قد وجدوا عند البشري منذ أوائل هذا القرن ما يرضي حاجتهم إلى الأدب العالي والفن الممتاز، وكلهم مدين له بساعات حلوة قضاها مستمتعا بلذة موسيقية رائعة، كان يشترك فيها سمعه وقلبه وعقله، وأيسر ما يجب للبشري عند هؤلاء أن يعترفوا له بالفضل ويسجلوا على أنفسهم هذا الجميل، ويشهدوا الأيام على أنهم ليسوا من الجحود والعقوق بحيث يقصرون في ذات كاتب عظيم كهذا الكاتب العظيم.
وما أحب أن يظن بي البشري مجاملة أو ملاطفة، أو مبالغة في القول، أو تزيدا في الثناء، فأنا أبرأ إلى الله وإليه من هذا كله في هذا الفصل الذي أمليه الآن. إنما هو ثناء صادق يصدر عن ضمير مقتنع اقتناعا صادقا بأن هذا الكاتب الأديب قد فرض على هذا الجيل لنفسه حقا ما أحسب أنه قادر على أن يؤديه أو ينهض به، وما أراه يبلغ من ذلك إلا أن يقدم إلى عبد العزيز البشري تحية مهما تكن فهي رمز متواضع يسير لما يشيع في النفوس، ويتغلغل في القلوب من شكر له، وإعجاب به وإكبار لفنه الجميل.
لست أدري أيرى الناس كلهم رأيي في فن عبد العزيز، ولكن الذين تحدثت إليهم في ذلك قد شاركوني فيما رأيت، ووافقوني على الصورة التي كونتها لنفسي من هذا الفن، وأخص ما يمتاز به أدب عبد العزيز أنه حلو سمح خفيف الروح، لا يجد قارئه مشقة في قراءته، ولا جهدا في فهمه، ولا عناء في تذوقه وتمثله، ومن الفنون الأدبية الرائعة ما يكون شاقا عسيرا، وغامضا ملتويا، وما تكون اللذة التي يؤتيها نتيجة لمشقته وعسره، وأثرا لغموضه والتوائه، فهو فن مقصور على الخاصة، أو على جماعة ضيقة من الخاصة، ومن الفنون الأدبية ما يكون سهلا يسيرا وقريبا داني المنال، لا يلتوي على أحد ولا يشق على طالب، ولكن إمتاعه لقرائه يسير مثله، ليس عميقا ولا بعيد المدى، لا يكاد يذاق حتى ينسى، ولا يكاد يستمتع به حتى ينقضي العجب منه والرضى عنه والرغبة فيه، فهو إلى أن يكون فنا لتمتيع العامة وإرضائها أدنى منه إلى أي شيء آخر، وليس أدب عبد العزيز من هذا ولا ذاك، وإنما هو أدب لا تنقطع أسبابه بينه وبين أوساط المثقفين، ولعل الأسباب أن تتصل بينه وبين عامة الناس، ولعلهم أن يجدوا فيه اللذة القوية إذا قرءوه أو سمعوا له، ولكنه مع ذلك - بل من أجل ذلك - يرتفع ويرتفع، حتى يرضي خاصة الناس ويبلغ إعجابهم، وينزل من قلوبهم أحسن منزل، ويقع من عقولهم وشعورهم أجمل موقع وألطفه، فهو فن ميسر ممهد موطأ الأكناف، فيه دماثة الرجل الذي حسنت أخلاقه، ورقت شمائله، وظرفت نفسه، واعتدل مزاجه، فهو محبب إلى الناس جميعا، مقرب إلى الناس جميعا، ويرغب الناس جميعا في صحبته، ويكلف الناس جميعا بعشرته، ويتحرق الناس جميعا إلى لقائه، ويعجز الناس جميعا عن فراقه وبعد العهد به.
وما عليك إلا أن تسأل من شئت من أي طبقة من طبقات الناس الذين يقرءون الأدب العربي الحديث عن رأيهم في أدب عبد العزيز البشري، فستلقى منهم جميعا رضى وحبا وإعجابا واستعذابا، وسيختلفون في تعليل ذلك وتأويله. يلتمسون هذا التأويل وذلك التعليل في أمزجتهم الخاصة، وفي حظوظهم المختلفة من الثقافة، وفيما يكونون لأنفسهم من رأي في الأدب، ومن مثل أعلى في الفن، ولكنهم سيتفقون على أنه أدب محبب إلى الأسماع والنفوس جميعا. وقد حاولت غير مرة فيما بيني وبين نفسي، وفيما بيني وبين أصدقائي، أن أتعرف مصدر هذه الخصلة التي يمتاز بها أدب عبد العزيز، والتي تحبب أدبه إلى الناس - على ما يكون بينهم من اختلاف الطبقة وتفاوت المنزلة - وأحسبني وفقت إلى هذا المصدر ووضعت يدي عليه، وما أدري أيقرني عبد العزيز على ما أرى أم يخالفني فيه؟ وما الذي يعنيني أن يرضى عبد العزيز من هذا أو يغضب؟ فأنا لا أكتب لأرضيه ولا لأسوءه ، وإنما أكتب لأقضي دينا وأؤدي حقا، ولعلي أن أرضي التاريخ الأدبي بعض الرضى.
وأول ما يبدو لي من مصدر هذه المزية التي يمتاز بها أدب عبد العزيز أنه جمع خصالا ثلاثا، فلاءم بينها أحسن ملاءمة، وكون منها مزاجا معتدلا رائع الاعتدال، فهو مصري قاهري كأشد ما يمكن أن يكون الإنسان مصريا قاهريا، يحس كما يحس أبناء الأحياء الوطنية، ويشعر كما يشعرون، ويحكم كما يحكمون، لولا أن ثقافته ترتفع به إلى هذه الطبقة الممتازة التي تحسن الحكم على الأشياء، وهو - على كل حال - قاهري الحس، قاهري الشعور، قاهري الذوق، وما أراه يجد مشقة يسيرة في أن يتحدث إلى أشد الطبقات في الأحياء الوطنية تواضعا، وما أراه يحتاج إلى أن يبذل جهدا ضئيلا في أن يبلغ من الحديث إلى هذه الطبقات رضى نفسه ورضى محدثيه، فهذه خصلة، والخصلة الثانية: أنه بغدادي الأدب كأشد ما يمكن أن يكون الأديب بغداديا، وقد عاشر أبا الفرج الأصبهاني وأصحابه، فأطال عشرتهم وتأثر بهم، وانطبعت نفسه وعقله ولسانه بطابعهم، فهو إذا تحدث إلى المثقفين تحدث بلغة الأغاني، لا يكاد يصرفه عن هذه اللغة صارف، إلا أن يأتي من قرارة نفسه المصرية القاهرية، فإذا هو يلقي النكتة المصرية بارعة رائعة لاذعة، ولكن لذعا يؤلم ولا يؤذي - إن أمكن مثل هذا التعبير - فهذه خصلة ثانية.
والخصلة الثالثة: أنه قد ألم بحظ من حياة المترفين الذين عرفوا الحضارة الغربية وذاقوها وتمثلوها، واستمع لأحاديثهم وشاركهم في هذه الأحاديث، فأخذ من هذه الحضارة الأوروبية شيئا يسيرا خفيف الظل قوي التأثير في الوقت نفسه، يستطيع أن يلائم مصريته الموروثة وبغداديته المكتسبة، فتكون له من هذه الخصال الثلاث مزاج غريب اشتركت في إنشائه بغداد والقاهرة وباريس.
اشتركت في تكوين هذا المزاج، ووفقت في هذا التكوين إلى أبعد مدى، إلى مدى لم توفق إلى مثله في تكوين كاتب من كتابنا المعاصرين، فأنت واجد عند الكتاب المعاصرين الظاهرين هذه العناصر الثلاثة كلها، ولكنك ترى العربية تغلب على هذا، والمصرية تغلب على ذاك، والإنجليزية أو الفرنسية تغلب على ثالث، فأما أن تتوازن هذه العناصر وتأتلف ويحب بعضها بعضا، ويطمئن بعضها إلى بعض، ويجتهد كل منها في أن يعين صاحبيه؛ فذلك شيء لا تظفر به إلا عند عبد العزيز.
ومن هنا كان أدب عبد العزيز مرضيا معجبا لطبقات المثقفين جميعا، إذا قرأه الأزهريون أعجبوا به؛ لأن فيه شيئا من الأزهر، وإذا قرأه أبناء المدارس المدنية أعجبوا به؛ لأن فيه روحا من أوروبا، وإذا قرأه أوساط الناس الذين ليسوا من أولئك ولا هؤلاء أعجبوا به؛ لأن فيه روحا من مصر، وإذا قرأه أهل الشام والعراق أعجبوا به؛ لأن فيه روح العربي الخالص القوي، والغريب أن التئام هذه العناصر قد أتاح لعبد العزيز ما لم يتح لكاتب آخر من المعاصرين ، فهو أكثر الكتاب المحدثين اصطناعا للنكتة البلدية. يصطنعها بلغتها العامية في غير تكلف ولا تحفظ ولا احتياط. يأخذها من حي السيدة أو من حي باب الشعرية، فيضعها في وسط الكلام الرائع الرصين الذي يمكن أن يقاس إلى أروع ما كتب أهل القرن الرابع والثالث للهجرة، فإذا نكتته البلدية العامية مستقرة في مكانها مطمئنة في موضعها، لا تحس قلقا ولا نبوا، ولا يحس قائلها قلقا ولا نبوا، ولكنها تفجؤه فتعجبه وتملأ نفسه رضى، ثم يحس أن الكلام ما كان ليستقيم لولا أن هذه النكتة قد جاءت في هذا الموضع واستقرت في هذا المكان.
وهذا الذي يصنعه بالنكتة البلدية في يسر ولباقة لا يعرف سرهما أحد غيره، ولعله هو لا يعرف سرهما، ولعله لا يتعمد ذلك ولا يصطنعه، وإنما هو وحي الطبع وإملاء الفطرة. هذا الذي يصنعه بالنكتة البلدية في يسر ولباقة يصنعه بالكلمة الأوروبية، أو بالجملة الأوروبية، فأنت تقرأ الفصل من فصوله فما تشك في أنك تقرأ لبديع الزمان، وإنك لفي ذلك، وإذا كلمة فرنسية تفجؤك فلا تزيد على أن تذكرك بأنك تقرأ لعبد العزيز البشري ليس غير.
وأغرب من هذا أنه يجمع بين الكلمتين الأوروبية والبلدية في جملة واحدة من سياق عربي رصين، فإذا هذا كله يأتلف وينسجم كأحسن ما يكون الائتلاف والانسجام. ألم يجمع في جملة واحدة هذه الكلمة الفرنسية «موريه» وهذه الكلمة البلدية «الألاج»؟ فاقرأ الجملة العربية الرصينة التي اجتمعت فيها هاتان الكلمتان، فلن ترى فيها نبوا ولا قلقا ولا اضطرابا. هذا على أن أحدنا قد يحتاج إلى أن يورد الكلمة البلدية أو الأوروبية في سياق الكلام الهين الذي لا يتكلف فيه رصانة ولا جزالة، فيدور حول هذه الكلمة ويدور، ولا يأمن مع ذلك أن يتورط في الثقل والاستكراه!
وأخرى تعيننا على تعرف المصدر لما يمتاز به فن عبد العزيز، وهى أنه قوي الحس إلى درجة نادرة حقا، لا يكاد يمر به شيء إلا التقطه التقاطا، ورسمه في نفسه رسما، يخالطها مخالطة حتى يصبح كأنه جزء منها، ثم هو لا يكتفي بالتأثر والتقاء ما يعرض لنفسه من الأشياء والخواطر، ولكنه سريع التأثر سريع التأثير، فهو إذا أحس لا يكن ما يحسه، ولكنه يعلنه ويظهره، فهو يتلقى الأشياء مسرعا ويعكسها مسرعا، وتعمل نفسه الخفية أو ضميره المكنون فيما بين ذلك عملها الغريب الذي يظهر خواطره وأحكامه وتصويره للأشياء كأروع ما تكون الخواطر والأحكام والتصوير!
من أجل هذا كله كان عبد العزيز مدرسة وحده في هذا الجيل، لا تستطيع أن تلحقه بهذه البيئة أو تلك من بيئاتنا الأدبية، ولا تستطيع أن تصله بهذه المدرسة أو تلك من مدارسنا المنتجة في الشعر والنثر، وكنت أظن في أول الأمر أنه بقية لمدرسة قد مضى أكثر أعضائها. بقية لتلك البيئة التي كان يضطرب فيها المويلحي وحافظ والبابلي - رحمهم الله - ولكني رأيته يعرض لأشياء ما كان أحد من هؤلاء يستطيع أن يعرض لها، ويلج موالج ما كان أحد من هؤلاء يستطيع أن يفكر فيها، ثم يمرق منها كما يمرق السهم من الرمية، وقد ظفر بكل ما أراد وبأكثر مما أراد، وما أشك في أن تلك البيئة الطريفة اللبقة الموفقة لو اجتمعت كلها لكتابة فصل عن الطيارة كالذي كتبه عبد العزيز، أو فصل عن أحمد ندا، أو فصل عن حسن غندر، لما ظفرت من ذلك ببعض ما ظفر به. إنما كانت الإجادة تتاح لأعضاء تلك البيئة سهلة ميسرة، ولكنها عادية مألوفة لا تبلغ الروعة إلا نادرا، فأما صاحبنا؛ فإنه يستطيع أن يبدأ الفصل رائعا ويمضي فيه رائعا، ونحن نستطيع أن نعد له فصوله العادية، فأما فصوله الممتازة فهي أكثر ما كتب. ماذا أقول؟ تستطيع أن تسمع له وهو يتحدث جادا أو هازلا، راضيا أو ساخطا، فإن استطعت أن تملك نفسك وتردها عن الإعجاب به فأنا مخطئ، ولكنك لن تستطيع!
ومن أجل هذا أيضا لم يكن عبد العزيز مدرسة وحده فحسب، بل كان مدرسة لا تلاميذ لها، فكما أنك لا تستطيع أن تلحقه بهذه البيئة الأدبية أو تلك، فأنت لا تستطيع أن تلحق به هذا الكاتب أو ذاك. فنه على سهولته ويسره وقربه من الناس جميعا أرفع وأعسر وأشد استعصاء من أن يتعلق به المتأثرون والمقلدون؛ ولذلك لم يتعلق به أحد ولم يحاول تقليده أحد، وظل عبد العزيز واحدا في فنه، وسيظل واحدا في فنه يستمتع بآثاره الناس جميعا، ولا يستطيع أحد من هؤلاء الناس أن يلحق به أو أن يحاكيه، أو أن يزعم لنفسه القدرة على أن ينقل فنه إلى الأجيال المقبلة.
سيبقى فن عبد العزيز؛ لأنه فوق التقليد الذي يبتذل آثار الأدباء، ولأن شخصية صاحبه فذة، ليست شائعة، ولا يمكن أن تكون شائعة.
أفتراني بعد هذا قد استطعت أن أعلل هذه المزية التي يمتاز بها هذا الكاتب الفذ؟ أما أنا فلا أدري، ولكني أعتقد أني قد اهتديت من ذلك إلى شيء، ولعل هناك أشياء ليس الاهتداء إليها يسيرا.
أفتراني بعد هذا محتاجا أن أطوف بك كما فعل صديقنا مطران في هذا المتحف الذي يقع بين دفتي هذا الجزء؟ أما أنا فلا أرى ذلك ولا أميل إليه، ولا أريد أن أكون دليلك بعد هذه الفصول الرائعة؛ لأني لا أريد أن أعرض نفسي لما يتعرض له الأولاد، ولا أحب أن تقول لي ما أنت وذاك؟ أرحني من صوتك الغليظ، ومن لهجتك العنيفة الفظة، وخل بيني وبين هذا الفن الرائع والأدب الرفيع.
لك علي ذلك يا سيدي، فخذ في قراءة هذه الفصول وأنا زعيم بأنك لن تتركها حتى تفرغ منها، ولعلك لا تفرغ منها إلا لتستأنف النظر فيها، فإني قد جربت ذلك من قبلك.
الباب الرابع
في الفن والمفتنين
في الفن وحده1
يريدني صديقي الأستاذ العالم الأديب محرر «الهلال» على أن أقول مقالا في موضوع الفن والجمال! على أنني من جانبي قد قدرت بادئ الرأي أن المدى المقسوم لا يتسع لهذين معا، فلنقسر حديث اليوم على «الفن»، ولنرجئ القول في الجمال، فله إن شاء الله إذا امتد العمر مجال.
ما الفن؟
ولقد كان أول ما انبعث فيه ذهني هو التماس أفق هذا الفن وترسم حدوده وماذا يراد به اليوم في متعارف الناس؟
في الحق أنني لم أصب في كل ما وقع لي من كلام المتقدمين والمتأخرين من أصحاب العربية إلى زمن قريب تخصيصا لهذه الكلمة بذلك المعنى الذي يتناول اليوم بكلمة
Art ، فلم أر بدا من مراجعة معجمات اللغة العربية تحقيقا لأصل الوضع اللغوي لكلمة «فن»، ووجوه تصرفها في مختلف المعاني بالاشتقاق والتجوز وغير ذلك من أسباب الدلالات، وقد اعتمدت في طلب هذه الغاية من متون المعجمات لسان العرب، وصحاح الجوهري، والقاموس المحيط، وأساس البلاغة، فخرج لي من كل أولئك ما أنا مورده عليك في إيجاز ولكن فيه الغناء.
الفن في اللغة
الفن واحد الفنون، وهي الأنواع، والفن الحال، والفن الضرب من الشيء، والجمع أفنان وفنون، يقال: رعينا فنون النبات، وأصبنا فنون الأموال.
والرجل يفتن الكلام: أي يشتق في فن بعد فن، والتفنن فعلك، ورجل مفن (بكسر ففتح): يأتي بالعجائب، وذو فنون من الكلام.
وافتن الرجل في حديثه: إذا جاء بالأفانين، افتن الرجل في كلامه وخصومته إذا توسع وتصرف، وافتن أخذ في فنون من القول.
والفنان (بتشديد النون الأولى): الحمار الوحشي.
وتطلق هذه الكلمة أيضا في بعض تصرفاتها على معان أخر لا محل للإشارة إليها في هذا المقام لأنها لا تتصل بما نحن فيه من قريب. •••
وبعد، فأنت ترى أن كلمة «فن» إنما تدل بالوضع اللغوي على النوع والحال، ويدل الفعل منها «فنن» الكلام على الاشتقاق في فن بعد فن، أي التصرف فيه نوعا بعد نوع.
ومهما يكن من شيء، فإن دلالة هذه المادة في هذا المعنى، تكاد تكون مقصورة على التصرف في فنون الكلام، وللعرب في هذا عذرهم إذ كان جل همهم إلى «فن» الكلام، على أنها قد امتدت مع الزمن حتى تناولت كذلك بعض معان أخر، وسيأتي في ذلك الكلام.
ثم لقد رأيت أن العرب لم يطلقوا كلمة «الفنان» إلا على الحمار الوحشي
2
على أن إطلاقها على المعنى الذي يطلقها بعضهم عليه اليوم
Artiste
ليس مما يعيى على وسائل العربية، لولا أن استعارة اسم الحمار للإنسان مطلقا، فضلا عن الإنسان الحاذق الصنع، قبيح!
ولقد سلف عليك أنه يقال رجل «مفن» (بكسر ففتح): يأتي بالعجائب ولا شك في أن هذا أصح تعبير وأدقه للمعنى المراد، لولا أن اللفظة جد قريبة من لفظة تنفر الآذان منها أشد النفور، إذن لم تبق حيلة إلا أن نصير في أداء هذا المعنى إلى اتخاذ كلمة «مفتن» أو «متفنن» وهما صحيحتان على كل حال.
كيف تطورت كلمة الفن وإلى ماذا صارت اليوم؟
قلت لك إن كلمة «الفن» قد تصرفت في بعض معان أخر غير تلك المعاني التي أطلقت عليها بأصل الوضع اللغوي؛ ذلك بأنه لم تكد الدولة العربية تنبعث في الحضارة حتى أرسلت كلمة «الفن» للتعبير عما يقابل كلمة «العلم»، فما كان قوامه إرسال القضايا الكلية التي يتعرف بها أحكام ما يندرج تحتها من الجزئيات، فذلك علم، وما كان قوامه العمل الجاري طوعا للأصول والأحكام المقسومة، فذلك فن، فيقال علم الأصول، وعلم الفقه، وعلم النحو، وعلم الصرف، ولا يقال في شيء من ذلك فن، ويقال للخطابة، وقرض الشعر، والموسيقى فن ولا يقال علم.
فقد بان لك أن العلم مادته الفكر والنظر، وأن الفن مادته العمل والأثر.
ولقد يتبهم الفرق الدقيق بين العلم والفن على بعض الناس حين يجدون بين أهل اللسان من يعبر عن الموسيقى مثلا بعلم الموسيقى مرة، وبفن الموسيقى مرة أخرى، وعن البلاغة بعلوم البلاغة تارة، وبفن البلاغة تارة أخرى، وهكذا.
والواقع أن الموضوع الواحد قد يكون علما وفنا معا، ولكنه إنما يكون هكذا من ناحية، ويكون كذلك من ناحية أخرى، فنحن إذا طلبنا الموسيقى مثلا من جهة القضايا العامة من نحو تقسيم النغم إلى أصلية وفرعية، وأن هذه النغمة لا يفضى منها إلى تلك إلا بطريق كذا، وأن هذه لا تقع في جواب تلك إلا بشرط كذا إلخ، فلا شك أن «الموسيقى» على هذا علم لا فن، فإذا غنانا المغني بالفعل فتصرف في فنون النغم طوعا لتلك الأحكام، فلا ريب في أن «الموسيقى» على هذا فن لا علم.
وكذلك قل في علوم البلاغة، فما قررت من أحكام الفصل والوصل، والإيجاز والإطناب والمساواة، والاستعارة والتشبيه، والجناس والتورية والتقسيم إلخ، فتلك علوم البلاغة، حتى إذا أرسلت القلم بالكلام البليغ، فذلك فن البلاغة.
لتفننت في الكتابة حتى
عطل الناس فن عبد الحميد
3
وكذلك القول في الهندسة، وفي كل ما تجري عليه أحكام القضايا النظرية بحيث يمكن أن يكون له أثر محسوس في خارج الأعيان كما يقولون.
على أن العامة في مصر بوجه خاص، قد تبسطوا بعد ذلك في هذا الباب حتى دعوا كل مهنة فنا، وحتى أصبحوا يكنون أصحاب «الكيوف» بأولاد الفن، ولعل الوجه في هذه النكتة أن ما كان يتناوله الصناع إلى الجيل الماضي من «فنون» المخدرات، كان يعينهم ولو إلى حين، على طول الصبر في سبيل التأنق والتجويد والإتقان!
وكيفما كانت الحال، فإن اللغة في اطرادها وتوسعها لم تكن تأبى إدراج هذه الحرف في جريدة «الفنون»، لأنها وإن لم تقعد لها القواعد وتعقد لها القضايا في الكتب، إلا أن أصحابها قد تغنوا عن ذلك بطول العلاج والتمرين، وما كشفت لهم التجارب على طول السنين.
وقد جرد المتأدبون المصريون من أبناء هذه الجيل كلمة «الفنون» للفنون الجميلة خاصة، فجعلوها بذلك ترجمة لكلمة
Beaex Arts
في لغة الفرنسيين، وعلى ذلك أصبحت كلمة «الفنان»، أستغفر الله بل «المفتن» أو «المتفنن» ترجمة لكلمة
Artiste ، ويعنون بها صاحب الفن الجميل.
ولا يذهب عنك في الغاية، أن وصف بعض الفنون «بالجميل» لا ينافي، بل إنه ليقتضي أن هناك فنونا أخر، وإن كان لا يوصف شيء منها «بالجميل» وكذلك بقي اصطلاح الجمهرة على المراد من «الفن» قائما في الجملة، وإن كان بعض المتأدبين اليوم يأبى إلا أن يقصرها كما أسلفنا على «الفن» الجميل.
استمداد الفنون وتطورها
وبعد إذ فرغنا من تاريخ هذه الكلمة من أول منجمها في متواضع العرب الأولين، وتصرفها في وجوه المعاني حتى مصيرها اليوم، بعد هذا يحسن بنا أن نلم إلمامة يسيرة بنشأة الفنون وتطورها واضطرابها بين مختلف الأوضاع والأشكال.
لا شك في أن منشأ الفنون على وجه عام إنما هو الغريزة، فالحاجة هي التي تدفع الإنسان إلى أن يبتكر الفن ابتكارا، أو أن ينقله نقلا ويقلد فيه تقليدا، سواء أكان ذلك عن الحيوان أم عن الطبيعة نفسها، بحيث يكون هذا النقل والتقليد على الوجه الذي يوائمه ويواتي أسبابه.
وأريد «بالحاجة» ما يعم الضروريات والكماليات جميعا، فحاجة الإنسان إلى الثواء في المأمن هي التي هدته إلى بناء الدور، وحاجته إلى الأنهار هي التي هدته إلى إقامة الجسور، ومن ثم نجم فن الهندسة، وقل مثل هذا في سائر الفنون التي تدعو إليها ضرورات الحياة، كما أن استراحته إلى تنغيم الطيور وتسجيعها، وتغريدها وترجيعها، وما يجد لذلك من طرب ويملكه من أريحية، قد بعثه هو الآخر على التنغيم والترنيم، وكذلك نشأ فن الموسيقى، وقل مثل هذا في كل فن جميل.
وبعد، فأنت خبير بأن الفنون كلها وإن نشأت بسيطة غاية في البساطة، ضئيلة غاية في الضآلة، بحيث لا تواتي إلا أدنى الحاجة، فإنها على الزمن لا تفتأ تتسع وتتركب، وتتشكل وتتلون، طوعا لسنة الاطراد في تفقد سائر مطالب الحاجة أولا، ثم التدرج في التماس الأحسن ثانيا، ثم التأنق في ابتغاء الكمال ثالثا، ولا يزال الإنسان يجد في السعي لبلوغ هذا الكمال؛ ولكنه غير بالغه مهما تراخى الزمان بحال!
ولقد نعلم أن الفنون في تطورها وتلونها وتهذبها وارتقائها، والأساليب التي يجري فيها كل أولئك، خاضعة للزمان والمكان، والجو ومألوف العادات، ومأثور التقاليد، وحظ القوم من التعليم والتثقيف، ذلك شأن الفنون كلها، ضروريها وكماليها فيه بمنزلة سواء. •••
هذا ما هداني إليه الفكر في أمر «الفن» فإذا كان القلم قد زل في بعض الرأي، فأرجو أن يدلني العالمون على وجه الصواب.
في الفن1
لا أحاول أن أعالج في هذا الباب بحثا علميا يقوم على نظم الأدلة ومدافعة الشبه، إنما أريد أن أعرض ما سنح لي فيه من الخواطر وما تنظر
2
من الأفكار.
إنك لترى المرأة التامة أو الفتاة الكعاب فيتداخلك العجب بها فتروح تهتف بجمالها، وإنك لترى طاقة الزهر قد ائتلفت وتناسقت أنوارها
3
فتروح تهتف بجمالها، وإنك لتسمع الصوت فيلذ لك جوهره، ويطربك إيقاعه، وتحلو لنفسك نبرته ولطف تنغيمه، فتروح تهتف بجماله، وإنك لترى البيت يروقك منظره، ويعجبك حسن نظامه، فتروح تهتف بجماله، وكذلك القول في كل ما يخلبك ويروعك مما يقع لحسك، ولا شك في أن ما يعتريك عند هذا كله من الانفعال إنما هو من أثر الجمال في نفسك، ولو قد أقبلت على نفسك تيك تسائلها: ما الجمال؟ ما استرحت منها إلى جواب!
أما الجمال فموجود حقا، وإن محاولة التدليل على وجوده لضرب من العبث، وهو مدرك حقا، لأننا نحسه ونشعر به كلما تجلى علينا في معنى من معانيه.
نعم، نحن نحس الجمال في الإنسان، ونحسه في الحيوان، وفي النجوم الآلقة، وفي الآجام الباسقة، وفي اللج القامس،
4
وفي الجبل الشامس،
5
وفي الغدير الناعس، وفي الزهرة تطلعت من كمها، وعاذت بغصنها عياذ الطفلة بثدي أمها، كما نحس الجمال من حلق المغني، ويد العازف، وريشة المصور، وشعر الشاعر، ورسم المهندس، وغير أولئك من كل حاذق صناع.
نحس الجمال ونشعر به، وكثرة الناس على الأقل ترتبه في كل مظهر من مظاهره على درجات، فيقولون: هذه الخريدة أجمل من تلك الخريدة، وهذه الطاقة أبهى من تلك الطاقة، وهذا الإناء أظرف من ذلك الإناء، وهذا الصوت أحلى من ذلك الصوت، وهذا المصور أبرع من ذلك المصور، وهذا الشاعر أروع من ذلك الشاعر إلخ.
ولو قد سألتهم القاعدة التي رسمت لهم حدود الجمال، وعرفتهم جميع منازله، حتى فضلوا بعض مظاهره على بعض لأعياهم الجواب، ذلك بأنهم لا يرجعون في حكمهم ولا في تقديرهم إلى قواعد محدودة معينة، كما يرجعون بجزئيات النحو والمنطق مثلا إلى قواعد محدودة معينة، فيقولون هذا التعبير يصح على لغة التميميين دون الحجازيين، أو أنه إنما يجري على لغية، أو أنه شاذ، أو أنه لحن صريح، وأن هذه القضية منقوضة، أو أن هذا القياس مختل لأن صغرى مقدماته لا تندرج في كبراها، بل إنهم إنما يرجعون في قضية الجمال وترتيبه في كل سبب من أسبابه، وإيثار بعض مظاهره على بعض، إلى ما يروقهم ويخلبهم ويتمشى في نفوسهم من الطرب والإعجاب.
وهنا لا نجد بدا من أن نعود فنقول ما الجمال؟ لا أحسب أحدا من الناس وفق إلى إدراك كنه الجمال فحده بذاتياته حدا، على تعبير المناطقة وإن كانوا عرفوه بآثاره، ولعل أدنى تعريفات الجمال إلى الصواب: أنه كل ما يستريح إليه الذوق ويثير الإعجاب في النفس.
ولقد حاول الصدور الأولون أن يضبطوا حدود الذوق، ويدلوا على ما يرضيه وما ينشز عليه، فوضعوا فيما وضعوا في هذا الباب فن الموسيقى، وعلوم البلاغة.
6
وهنا ينبغي أن يفهم النشء حق الفهم أن استمداد مثل هذه الفنون ليس من الأمور الواقعة، ولا هو من أحكام العقل، كاستمداد علوم الكمياء والطبيعة، والحساب والمنطق مثلا، إنما مادتها الذوق السليم، وتعرف ما يرضيه، وتقصي ما يطربه، وعلى هذا أجروا قواعدهم، وفي حدوده أطلقوا أمثلتهم وشواهدهم.
وأحب بعد هذا، أن تعرف فرقا جليلا بين شأن العلوم وشأن الفنون، فإنك بمدارسة العلوم والتمرين فيها، تستطيع أن تكون بقدر ما منتجا، أي تكون كيميائيا أو طبيعيا أو حاسبا، أما في الفنون فإنك في الأكثر، تستطيع أن تكون بصيرا بالفن ومميزا بين جيد الصنعة ورديئها، كما تستطيع أن ترفع جيدها في التقدير درجات على درجات ، وتحط رديئها درجات دون درجات، أما أن فن الموسيقى يؤهلك لأن تكون مغنيا بارعا أو عازفا رائعا، وأن علوم البلاغة تستطيع أن تخرج منك كاتبا لبقا أو شاعرا فحلا، فذلك ما تتحسر دونه تلك الفنون!
ذلك أن البراعة في هذه الفنون الجميلة إنما ترجع أولا إلى الاستعداد والطبيعة وتهيؤ الملكة، على أن التعليم والتهذيب إنما يصقلان الطبيعة صقلا ولا يخلقانها خلقا، وإنك وإن غيرك ممن جروا من أصول الصنعة على عرق، لتقضون بالتفوق والتبريز لهذا المغني على ذلك المغني إذ أنتم كلكم جازمون بأن هذا المسبوق أبلغ خبرة وأغزر علما، كما قد تحكمون بأن هذا الشاعر أبلغ من هذا الشاعر وأحلى كلاما، وأبرع منزعا، وأروع مقطعا، إذ أنتم كلكم قاطعون بأن هذا المبروع أوسع باللغة علما، وأكثر لعلوم البلاغة تحصيلا وأصدق فهما!
والوجه في هذا أن العلوم التي تستند قضاياها إلى العقل أو إلى الواقع كالحساب والمنطق والطبيعة، إنما يكون التبريز فيها في العادة على قدر ما حصل المرء من قواعدها، وتفهم من قضاياها ومسائلها، أما الفنون التي تستند قضاياها إلى الذوق، فالبراعة فيها إنما تجري على براعة الذوق نفسه، لا على العلم بالقضايا الاصطلاحية التي تحرى بها علماء الفن ضبط ما يرضي هذا الذوق وما ينشز عليه، وإنك لا تجد في الدنيا رجلا واحدا درس فن الطبقة وضروب النغم، وضبط حدودها، وعرف ما يستقيم على الصبا وما يتسق من التناغيم للعراق، ثم أقبل يمط حلقه متأثرا هذه القواعد الفنية، فانتظم مغنيا حاذقا يشيع الطرب ويبعث الأريحية في الناس!
وكذلك قل في سائر هذه الفنون، وإنك لتجد آلافا من الناس أعلم من مثل شوقي بمتن اللغة وبأوزان الشعر وما يلحقه من زحاف وعلل، وأفقه في علوم البلاغة وسائر أسباب الكلام، وإذا شوقي يسجع بأعلى الشعر، وإذا أولئك لا يبعثون إلا الفسل المليخ
7
من المقال.
وإنك لتجد كثيرين من الضراب أعلم من محمد العقاد بالموسيقى، وأحفظ لأصولها، وأضبط لقواعدها، فإذا أطلقوا في «القانون» أيديهم لم يحركوا منك ساكنا، حتى إذا أرسل العقاد فيه بنانه، أخذ منك العجب، وتمشى فيك الطرب، ولربما ارتفع بنفسك وأدخل عليك من الأريحية ما يخيل إليك أنك أصبحت على المؤمنين أميرا!
والواقع أن العبقرية في الفن لم تعرف علتها ولا سبيلها للناس ولا للعبقريين أنفسهم، ولقد تسأل العامة وأشباه العامة عن فلان المغني أو القارئ: بماذا كان أبرع أهل فنه حتى ذهب له ما لم يذهب لهم من صيت وذكر، وليس بأنداهم صوتا ولا بأعرقهم فنا؟ فيجيبونك من فورهم «فتوح من الله»، ولقد تسألهم عن العقاد بماذا تفرد «بالقانون» دهرا طويلا لم يتعلق بغباره أحد؟ فيجيبونك «حلاوة إصبع» يا سيدي!
ولقد تسأل الخاصة عن الشاعر فلان أو الكاتب فلان، وبماذا برعا وبذا؟ فيجيبونك: «إنها الموهبة!»، ولا أرى بين مذهب العامة ومذهب الخاصة في هذا فرقا كبيرا ولا صغيرا، فكلاهما يدل على تمام العجز عن إدراك ذلك الشيء الذي تتهيأ به العبقرية للمرء في فن من الفنون!
والآن يمكننا أن نحدد الفرق بين البراعة في الفن والبراعة في العلم: فالتبريز في العلم أساسه تحصيل قضاياه وحسن تفهمها، والاستعداد والذوق شرطان فيه، أما التبريز في الفن، فأساسه الذوق والاستعداد، وتحصيل قضاياه وحسن تفهمها شرط فيه.
ومما يجلو لك هذا المعنى وينير سبيله بين يديك، أنك لا تستطيع أن تحكم بصحة القضية الرياضية، أو المنطقية، أو بفساد النظرية الطبيعية، إلا إذا كان لك إلمام بالعلم وبصيرة فيه، على أنك تقرأ شعر الشاعر فيروعك ويعجبك، وتسمع غناء المغني فيهزك ويطربك، وترى صورة المصور فتروقك وتخلبك، في حين أنك لم تحصل من قضايا تلك الفنون كثيرا ولا قليلا؛ ذلك بأن مرجع الحكم فيها كما قلنا، إلى الذوق أولا، والذوق غريزة لا يخلقها الدرس ولا التعليم، فإذا كان للتعليم في هذا الباب فضل، فهو مجرد التهذيب والصقل، على ما سلف عليك من الكلام.
ولا يفوتك أن الفن لا يدل على موضع الجمال، اللهم إلا الغافلين ومن تقاصرت أذواقهم إلى حد بعيد، ولكنه يسمي مظاهر بأسمائها التي وقع بها الاصطلاح، كما يدل على مذاهب المفتن في ألوان تصرفه، ولقد يكون بهذا أقدر من غيره على إدراك مبلغ الحذق في كيفية التصرف وطريقة الأداء، على أنك مع هذا لو جئت برجلين ذيقين، أحدهما خبير بفن الموسيقى والآخر غير خبير، فإنهما كليهما ليطربان لجيد التوقيع، وإن عرف أولهما أن اللحن جار في نغمة الرمل مثلا، وجهل ثانيهما إلى ماذا ينسب اللحن من مذاهب الأنغام، لأن إدراك الجمال والانفعال به لا يحتاجان كما قلنا إلى تعليم ولا تلقين.
وهنا شيء يتصل بهذا الباب ما ينبغي لنا أن نتجاوزه وألا ندل عليه، ذلك أن كل ما تخرجه عبقرية العالم من طريف القضايا ومستحدث النظريات في العلوم، لا يعدو أن يكون مجرد استكشاف لأمر موجود في ذاته، وكل الخطب فيه أنه كان مجهولا حتى تهدت عبقرية العالم إليه، ودله ذهنه أو تجاريبه عليه.
أما ما تنتضح به عبقرية المفتن من ذاك، فإنشاء وخلق من عدم، ومن هنا ندرك لماذا كانت الفنون أشد تطورا من العلوم، وأبلغ منها قبولا للتغيير والتحوير؟ ذلك لأن مردها كما علمت إلى الذوق، والذوق أسرع تكيفا بحكم الزمان والمكان والعادات والأحداث. •••
وبعد، ففي نفسي أن أتحدث عما صنع العالم قديمه وجديده للفن تعرفا للجمال، وضبطا لمذاهبه، وتربية لملكاته، ولكن لقد طال الكلام اليوم، فلندع هذا إلى فرصة أخرى إن شاء الله تعالى.
في علوم البلاغة
سيداتي، سادتي
1
طوينا في الأزهر بضع سنين، مقصورا جهدنا كله على درس الفقه والنحو، ثم استشرفنا على العادة، لدرس شيء من علوم البلاغة في أبسط كتبها المعروفة يومئذ لأهل الأزهر، ولم يرعني في تلك الأيام إلا أن هجم على نفسي سؤال شغلني وأهمني، حتى كان في بعض الحين يملك علي مذاهب تفكيري! وإني لأخشى أن أبادي به أشياخي أو لداتي في الطلب، لئلا أرمى بالجهل المطبق بما يعلم الناس جميعا، بدليل أن أحدا لم يراجع فيه من بين الطلاب جميعا!
هذا السؤال هو أنه ما دامت للبلاغة علوم مقررة، ومعارف واضحة، وقواعد مفصلة مقسومة، وقضايا محدودة مرسومة، فقد أصبح من السهل اليسير على كل من يجيد علمها، ويحذق فهمها، أن يجيء بالبليغ من القول إذا نظم أو نثر، بل لتهيأ له أن يجيء بأبلغ الكلام، بل بما ينتهي منه إلى حدود الإعجاز! وما له لا يصنع، وقواعد البلاغة تشير بأوضح الإشارة إليه، وتدل بأفصح العبارة عليه؟
ماذا على المرء إذا أرسل الكلام أن يخرجه مطابقا لمقتضى الحال، ويجريه على أحكام الفصل والوصل، ولا ينحرف به عن مقتضيات الإيجاز والإطناب والمساواة؟ وهذه أحوال التشبيه بين يديه، فما يمنعه أن يصوغ الكلام على غرارها، ويترسم فيه أجلى آثارها؟ وهكذا ...
ولكن الواقع ... الواقع القاسي يأبى مع الأسف إلا أن يزعجني عن الاستراحة إلى هذا الفكر القويم، والمنطق السليم! فهؤلاء متقدمو الطلاب الذين درسوا علوم البلاغة في أفحل كتبها المقسومة وأعلاها مكانا، لا حظ لأكثرهم الكثير في فصاحة ولا في بيان! بل هؤلاء أشياخهم الذين استهلكوا الدهر الأطول في درس هذه الكتب وتحقيق قضاياها ومسائلها، حتى فروا أبوابها فريا، وبروا فصولها بريا، هؤلاء كثير منهم لا غناء لهم في فصاحة لسان، ولا في نصاحة بيان!
هذا طالب كبير يجاورني في خزانة حوائجي في الأزهر، وهو يتلقى علم الأصول في كتاب «جمع الجوامع»، أي أنه فرغ من درس كتاب «السعد»، أي أنه ختم علوم البلاغة، ولم تبق له بشيء منها أية حاجة، لقد جمعنا هذا الطالب المنتهي ليسمعنا قصيدة رائعة من نظمه يهجو بها أهل بلدة «كوم زمران» المجاورة لبلده، فأسرعنا إلى الاستواء بين يديه وقد أرهفنا الآذان، وحددنا الأذهان، وعلقنا الأنفاس، حرصا على المتاع بما لا يظفر بمثله عامة الناس!
ولست أروي لكم أيها السادة، من هذه القصيدة الرائعة حقا، والجديرة بمن أتم دروس «السعد» وحواشيه حقا، إلا هذه الستة الأبيات.
أما مطلع القصيدة فهو بمشيئة الله تعالى.
دع كوم زمران كي تنجو من العلل
وتستريح أخي من كثرة الزلل
ومنها:
إن جاءهم ضيفهم قبل العشاء إذن
تراهم يا فتى في غاية الملل
فالبخل يشتق منهم ما على أحد
منهم ثياب سوى البالي من الحلل
ما فيهم عاقل يا ابن الكرام فقد
جنوا جميعا وقاك الله من خبل
ومنها:
لا يحضرون دروس الفقه إنهم
والله لو تدرين في غاية الكسل
أما تمام التمام، ومسك الختام، فهو:
ستون بيت قريض لا تزيد سوى
بيت به قد سألت العفو عن زللي
سيداتي، سادتي
إذا لم يكن لهذه القصيدة من نظم ذلك الشيخ كل الفضل، فلا شك في أن لها أبلغ الفضل في أن نبهتني إلى أن درس علوم البلاغة - على هذه الصورة على الأقل - ليس من شأنه أن يعلم البلاغة أو يطبع على ناصع البيان، ولعل لها بعد ذلك شأنا آخر!
البلاغة
من البين الذي لا يحتاج إلى أي جلاء أن مقاويل العرب إنما كانت تجود ببليغ القول فطرهم، وتنتضح ببارع الكلام سلائقهم، لا يصدرون في شيء من هذا عن علم تعلموه، ولا عن درس تفهموه، ولا قواعد يتحرون أحكامها، ولا أقيسة يتقرون حدودها وأعلامها، إنما مردهم في كل ذلك إلى الفطنة، الفطنة والذوق المرهف السليم، حتى موسيقى الأشكال والهياكل - وأعني أوزان الشعر ومقاطعه - لقد كانت هي الأخرى موصولة بطباعهم، فلم يكونوا في أي حاجة إلى قانون يهديهم موقع النبرة من السلك المنظوم.
2
وما يقال في الخطيب والشاعر، يقال في سائر النقدة وهم كثرة العرب الغامرة إن لم يكونوا كلهم متذوقين ناقدين.
وبهذا المقياس الفطري كانت تقدر أقدار الشعراء والخطباء، فينزل كل منزلته في غير ضراع ولا حراب،
3
من الصدور أو المتون أو الأعقاب.
هذه الفطنة النافذة، وهذا الحس المرهف، وهذا الذوق التام، لقد أغنت جمهرة العرب عن المطالعة بفنون نقد الكلام، والتنبيه إلى ما في مطاويه من المحاسن والعيوب، حتى لكأن هذه الخلال الشائعة فيهم كانت عندهم من أفصح أساليب الخطاب!
ولست أزعم أن العرب كانوا كلهم أصحاب بيان، وأن شعراءهم إنما كانوا يرسلون الشعر من عفو الخاطر، لا! بل إن من أعلامهم لمن كان يجتمع للقريض ويتكلف تجويد النظم، ولقد يجهد ببعضهم كثيرا في تحرير الكلام وضبطه، والكر عليه بالجندرة والصقل والتهذيب.
ولقد ظل شأن البلاغة العربية كذلك إلى غاية العصر الأموي، فإذا كان قد نجم في هذا الباب جديد، فإن بعض البصراء بفنون الكلام قد انبعثوا لنقد بعض ما يجلى عليهم من الشعر، وجعلوا يدلون بوجه عام على ما لعله يخفى من عيوب، ولقد يقارنون بينه وبين شيء من جنسه من أشعار السابقين، ويفطنون إلى ما يضمر من دقة معنى وإحسان أداء، ومهما يكن من شيء فإن ذلك الضرب من النقد لم يكن جاريا على أي نهج علمي - إذا صح هذا التعبير - إنما هو الذوق والفطنة والحس العام.
وبالرغم من أن بعض العلماء تقدموا في أعقاب هذا العصر، وفي صدر العصر العباسي الذي وليه، لجمع الحديث واستخراج الأحكام الفقهية، وعقد القواعد للنحو والصرف، بل لقد تعمد الخليل بن أحمد المتوفى سنة (170) ضروب الشعر وتقصي أوزانه ومقاييسه، فوضع علم العروض، بالرغم من هذا كله فإن أحدا من العلماء لم يتكلف وضع قاعدة علمية واضحة المعارف بينة الحدود لشيء من فنون البلاغة، يرد إلى حكمها ما يندرج تحته من الجزئيات.
كيف عقدت للبلاغة قواعد وجردت لها علوم؟
سيداتي، سادتي
إذن فكيف ومتى ضبطت للبلاغة قواعد وجردت لها علوم؟
يقول ابن خلدون: «إن السبب في إطلاق «البيان» على الأصناف الثلاثة أنه أول ما تكلم فيه الأقدمون، ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى، وكتب فيها جعفر بن يحيى، والجاحظ، وقدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها، ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئا فشيئا إلى أن محص السكاكي زبدته وهذب مسائله إلخ»، وهذا الكلام يحتاج إلى قدر كبير من الإيضاح والتفصيل.
أما أن البيان كان أسبق الفنون الثلاثة إلى التدوين، فذلك أن الإمام اللغوي الجليل القدر أبا عبيدة المتوفى سنة (209) قد وضع رسالة في البحث عن «المجاز في غريب القرآن»، ولا شك في أن غرضه إنما كان دينيا محضا، فإن تبين الحقيقة من المجاز مما تتأثر به الضرورة أحكام الشرع الكريم، فإذا صح أن تقصي هذه المجازات تقصيا جزئيا دون العناية بنظمها في قواعد كلية تستخرج منها الأحكام العامة - إذا صح أن يدعى هذا تدوينا في علم البيان - فلا نزاع في أن رسالة أبي عبيدة هذه هي أول ما دون لا في علم البيان فحسب، بل في علوم البلاغة على الإطلاق.
بعد هذا نعود إلى جعفر بن يحيى والجاحظ، أما جعفر فلم يسقط إلينا مما كتب في هذا الباب كثير ولا قليل، وأما الجاحظ المتوفى سنة (255) فلقد جرى قلمه في كتابه «البيان والتبيين» أكثر ما جرى بأسباب بتراء، وإرشادات عامة لمن يتصدون لنسج الكلام، ونقول في تعاريف البلاغة عن الأقوام الآخرين، على أنه قد يقع اجتهاده في بعض ما يكتب على أمور يعتبرها العلماء المدونون بعد ذلك - إما بنصها أو بعد تهذيبها وتسويتها - من قواعد علوم البلاغة التي لا يطوف بها ريب ولا يلحقها نزاع.
يقول الجاحظ مثلا: ... ومن ألفاظ العرب ألفاظ تتنافر وإن كانت مجموعة في بيت شعر لم يستطع المنشد إنشادها إلا ببعض استكراه، فمن ذلك قول الشاعر:
وقبر حرب بمكان قفر
وليس قرب قبر حرب قبر
ولا شك أنه بهذا يعد واضع شرط من شروط الفصاحة، وهو السلامة من تنافر الكلمات، وقد استشهد مدونو البلاغة على هذا الضرب من التنافر بالبيت نفسه.
ويقول في مقام آخر: «... عن الحسن يرفعه، أن المهاجرين قالوا يا رسول الله: إن الأنصار فضلونا بأنهم آووا ونصروا وفعلوا وفعلوا قال النبي
صلى الله عليه وسلم : «أتعرفون ذاك لهم؟» قالوا: نعم، قال: «فإن ذاك»، يريد أن ذاك شكر ومكافأة».
وهذا أيضا من بلاغة الإيجاز بالحذف.
وهنالك أمثلة يسيرة أخرى مما نضح به قلم الجاحظ صادرا فيها عن اجتهاده أو ناقلا عن غيره، وكل ذلك لا غناء فيه إذ نحن تحدثنا في شأن علوم البلاغة عن التدوين والتصنيف. •••
بعد هذا جعل أمير المؤمنين عبد الله بن المعتز المتوفى سنة (296) يتفقد ألوان البديع التي أصابها في الكتاب العزيز، وفي كلام من سبقه ومن عاشره من أعلام البيان، فأحصى منها بضعة عشر نوعا ضمنها رسالة لطيفة، نشرها مطبوعة من عهد قريب أحد كبار المستشرقين .
قدامة بن جعفر
ثم يجيء أبو الفرج قدامة بن جعفر المتوفى سنة (337) على أرجح الأقوال فيصنف فيما يصنف كتابيه «نقد الشعر» و«نقد النثر».
ولقد يغنيني عن الإطالة في الإبانة عن أثر هذا الرجل في وضع الأسس الأولى لقواعد علوم البلاغة، ومحاولة إجراء هذه الأسس على نهج علمي - إذا صح هذا التعبير - لقد يغنيني عن هذا تلك الرسالة البديعة التي وضعها في الفرنسية صديقي الدكتور طه حسين، وأداها في العربية صديقي الأستاذ عبد الحميد العبادي، وصدر بها كتاب «نقد النثر».
وقد صرح الدكتور طه في رسالته هذه بأن قدامة إنما وضع ما وضع من أسس علوم البلاغة العربية متهديا بكتب أرسطاطاليس، وهذا حق لا شبهة فيه، ولا يتخالج الشك فيه من يقرأ كتاب «نقد النثر»، بل إن المؤلف نفسه ليصرح في بعض المواطن من كتابه بأن أرسطاطاليس قال في هذا الموضع كذا ونص على كيت.
على أن من أظهر ما يخرج به متصفح هذا الكتاب، أن الرجل في تدوينه لعلوم البلاغة، أو على الصحيح في محاولته تدوين هذه العلوم، إنما كان - برغم ما بين يديه من قضايا أرسطو - كالساري في بيداء مجهل، فهو لا يفتأ يلتمس الأعلام ويتحرى المسالك والدروب، أو هو كالطائر المهاجر يسقط حيث يلوح له الحب، وتترقرق لعينه صفحة الماء، فما إن تسنح له الجزئية يحسبها مما يتصل بما هو بسبيله إلا تراه قد هجم عليها، ومثل لها بآية من آي القرآن الحكيم، وتارة يتمثل بالبيت أو بالبيتين من الشعر، مترفقا شديد الترفق في وجوه التعليل والتأويل.
وهو إنما يتصيد أسباب البلاغة نثارا حتى إنه لم يفصل بين فنونها الثلاثة، فقد يأتي بالمسألة من مسائل البديع في إثر القضية من قضايا المعاني أو البيان.
ثم لقد يميل في بعض الطريق إلى بحث فلسفي، أو يأخذ في شيء من المنطق أو الأصول أو النحو أو الصرف، أو يعدل بالحديث إلى قوانين الجدل، وهي التي دعيت بعد بآداب البحث والمناظرة، وللرجل حق العذر في هذا فإنه لم يعد سنة من نشأوا العلوم، وخاصة منها ما كان مرده إلى الأذواق، وهذا ما نعبر عنه اليوم بالفن الجميل.
وكيفيما كانت الحال، فإن هذا قدامة حتى في القليل من المعاني التي وقع عليها من فنون البيان، لم يضع لشيء منها قاعدة كلية، إنما جهده كله كما أسلفنا أن يلتمس لما يتمثل له من الجزئيات وجوه العلل التي تشرف بها رتبة الكلام.
عبد القادر الجرجاني
ومن العجب أن يشب ابن خلدون في تسجيل نشأة علوم البلاغة من قدامة إلى السكاكي، ولا يقف وقفة - ولو قصيرة - برجل له أثره وله خطره، بل لقد عقد له بعضهم فيما نحن بسبيله أبلغ الآثار وأعظم الأخطار، وذلكم الرجل هو الإمام الجليل عبد القاهر الجرجاني المتوفى سنة (471).
ألف الجرجاني في علوم البلاغة كتابين، هما «أسرار البلاغة» و«دلائل الإعجاز»، ولقد جعل أجل همه في الكتاب الأول إلى «البيان»، فتكلم في التشبيه وأطال، وتكثر من إيراد الشواهد والأمثال، وقسم المجاز إلى لغوي وغير لغوي، وأسبغ القول في فنون الاستعارات، وأصاب في أثناء ذلك ألوانا يسيرة من «البديع» كالسجع، والتجنيس، وحسن التعليل، أما ما أصاب من مسائل المعاني فإن جميعه إنما كان من حظ كتابه الآخر «دلائل الإعجاز»، اللهم إلا سنحات قد تلوح أحيانا في آفاق الكلام.
وعبد القاهر يعمد إلى المسألة من مسائل العلم فيضفي بين يديها المقدمات، ويسبغ المقال في التعليل لها أيما إسباغ، ولا يزال يتيامن بالقول ويتياسر، ويضرب في مجازات الكلام جيئة وذهوبا، ولا يبرح يفصل المعاني تفصيلا، ويلون الحجج تلوينا، حتى إذا ظن أنه أوفى من ذلك على الغاية ووقع بقارئه على الصميم، راح يورد الشاهد في إثر الشاهد، جاهدا في شحذ فطنتك وإرهاف ذوقك، ليتهيأ له أن يتدسس بك إلى أطواء الكلام، فتجس ما أجنت من الدقائق جسا، وتستشعر ما أضمرت من المحاسن ذوقا محسا، وكل أولئك يصنعه في عبارة جزلة فخمة، ويجلوه في ديباجة مشرقة اللفظ، متلاحمة النسج، ولا شك أن عبد القاهر بعبارته هذه إنما كان أدنى إلى تعليم البلاغة منه بآثار ما يخرج له من بحثه وتحقيقه، لولا أنه يتكلف السجع ويجتمع له في كثير مما يجرى من البيان.
وكيفما كان الأمر، فإنه كقدامة لم يعن بضبط ما اتسق له من نتائج البحوث في قواعد كلية تنتظم ما تحتها من الجزئيات على الأسلوب المعروف، نعم إنه لقد مهد لهذا ويسره لمن دون بعده من العلماء في هذه الفنون.
ومما تحسن الإشارة إليه في هذا المعنى أن التأليف في علوم البلاغة، إلى هذه الغاية لم يعد في الجملة ألوانا من أساليب النقد، طلبا لشحذ الأذواق وإرهاف الإحساس، والاجتهاد في التفطين إلى ما دق وخفي من وجوه المحاسن والعيوب في الكلام، وليته لم يتجاوز هذا القدر، إذن لكان لهذه العلوم من الحظ ومن الأثر غير ما لها الآن؟
السكاكي والقزويني
سيداتي، سادتي
بعد هذا جاء العلامة المحقق أبو يعقوب يوسف السكاكي المتوفى سنة (626)، فاستخلص جملة أحكام البلاغة التي تهدى إليها من تقدمه من الباحثين، وضم كل جنس إلى جنسه، وجمع كل شكل إلى شكله، وجعل ينظم ما تهيأ له من ذلك في قواعد واضحة الرسوم، مضبوطة الحدود، حتى تكون جامعة مانعة، على اصطلاح جمهرة العلماء، وساق لكل قاعدة ما اجتمع له من الأمثلة والشواهد، ووصل كل ذلك بكتابه «مفتاح العلوم».
ولا ينبغي أن نظن أن السكاكي في مجهوده هذا إنما كان صائغا فحسب؛ بل إنه كثيرا ما يكون لاجتهاده في توجيه الأحكام وفي جوهر المادة العلمية الأثر البعيد.
إذن لقد استطاع السكاكي أن يحيل أحاديث البلاغة من مادة أدب ونقد واحتفال لتفطين الأفهام وشحذ الأذواق، حتى تستطيع النفوذ إلى دقائق البلاغات، لقد استطاع السكاكي أن يحيل أحاديث البلاغة علوما إنما تخاطب الأفهام، لتدلها على مبرم الأحكام!
ثم جاء العلامة الخطيب القزويني محمد بن عبد الرحمن المتوفى سنة (739)، فضغط ما استخرج السكاكي ضغطا شديدا، وعصره عصرا «بليغا»، حتى أصبح ما يطالعك من قواعد كتابه أشبه بالأحكام العسكرية في شدة السطوة والجفاء!
وعلى كل حال فإنه على قدر ما تم لعلوم البلاغة - بمختصر الخطيب القزويني - من التحرير والضبط والدقة في تجلية الأحكام والقواعد، وشدة التحري في إيراد الأمثلة والشواهد، فلقد ذهب من الجهة التعليمية رواؤها، وجف ماؤها، واقتصر خطابها على العقل والحافظة، وكانت من قبل تخاطب الإحساس والأذواق!
وإذا كانت علوم البلاغة «الرسمية» قد ختمت بمختصر الخطيب القزويني، فتكون قد استهلكت من أول تنشيئها إلى غاية نضجها وإدراكها أربعة قرون سويا.
ولا شك أن من الكتب التي استغرقت جليلا من هم الدراسين والباحثين والشارحين والمعلقين هو هذا الكتاب، فلقد شرحه وعلق عليه من لا يحصون من العلماء كثرة، وأهم شروحه وأعظمها كان استدراجا لعناية أصحاب التحقيق هو المختصر لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني المتوفى سنة (792)، والمطول له كذلك، وأشهر الحواشي على هذا المطول وأشيعها بين أهل العلم تداولا، حاشية السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني المتوفى سنة (816)، وشرحا السعد وحاشية الجرجاني لقد كانت من عهد بعيد هي المادة العظمى لتروية علوم البلاغة لمتقدمي الطلاب في الأزهر الشريف.
فوق التعقيد الشديد في عبارات هذه الكتب، أيها السادة، والمبالغة في إيهامها وإغماضها، فإن ملاك البحث فيها إنما هو الجدل اللفظي، والاعتساف في بحوث فلسفية لا غناء لها في صنعة البيان، بل إنني لأزعم أنه لو كان هناك من يريد التخلص من فصاحة اللسان ونصاحة البيان، فليس عليه أكثر من أن يدرس هذه الكتب حق درسها، ويديم النظر فيها، ويقلب في عباراتها لسانه وفكره، ليكون له كل ما يحب إن شاء الله!
لتكن هذه الكتب مما يفسح في الملكات العامة، ويطبع الطالب على الصبر على البحث والتحقيق، ويعوده ألا يسيغ قصية من القضايا إلا بعد أن يحككها بألوان الاختبار والامتحان - ليكن لها كل هذا، وليكن لها غير هذا أيضا - ولكنها لا يمكن أن تلقن علوم البلاغة على أي حال، فضلا عن أن تذيق الطالب البلاغة نفسها، أو تريحه ريحها، اللهم إلا أن تكون بلاغة من طراز:
دع كوم زمران كي تنجو من العلل
وتستريح أخي من كثرة الزلل!
البلاغة فن
سيداتي، سادتي
لقد حدثتكم في صدر هذا الخطاب عن عقلية فتى ناشئ لم يتهيأ له بعد أن يدرك الفرق بين العلوم والفنون، ولم يكن يعرف أن الفن ابن الطبع والغريزة والملكة، وإنما تدعو إلى إنشائه ومعالجته الحاجة تبعثها ضرورة أو تبعث إليها مجرد الرغبة في الترفيه والتلذيذ، أما العلم فمهمه بعد ذلك الملاحظة والتقييد والتسجيل.
فالبلاغة باعتبارها فنا هي أثر الملكة ومظهر قدرتها من نظم شعر رائع أو إرسال نثر بديع، أما البلاغة باعتبارها علما فهي عصارة ما خرج بالاستقراء للإحساس والأذواق من دواعي الحسن والقبح في فنون الكلام، وما يقال في البلاغة من هذه الناحية لا شك يجري حكمه على سائر الفنون والعلوم، والعالم بالفن غير المفتن على كل حال، وإنما بينهما العموم والخصوص الوجهي على تعبير أصحاب المنطق، فيجوز أن يكون المرء بليغا وهو غير عالم بقواعد البلاغة، ويجوز العكس، كما يجوز أن يجمع بين الخلتين معا، وهذه الشواهد ماثلة في الكثيرين ممن عاصرنا ومن لم نعاصر من العلماء والكتاب والشعراء.
إذن ليس العلم أيها السادة هو الذي يخلق الفن ويطبع ملكة المرء عليه، إنما الفنون كما زعمنا، وخاصة هذه الفنون الجميلة، وفن البلاغة منها - وإن نازع بعضهم في هذا - إنما هي من أثر تهيؤ الفطرة، أو ما اصطلحوا على تسميته بالموهبة في هذه الأيام، فإذا كان للعلم من هذه الناحية أثر، ففي توضيح المناهج وهداية السبل، وتبصير من يعالج الفن بما استجادت جمهرة أصحاب الأفهام والأذواق، أو ما أنكرت من آثار جماعات المفتنين، سواء من السابقين أو من المعاصرين.
ومما ينبغي أن يلاحظ في هذا المقام أن أفحل من عاصرنا من الشعراء لم يكن أكثرهم من العلم بقواعد البلاغة على حظ جليل ولا ضئيل، إنما هو الطبع والتهيؤ، وكثرة الحفظ، وترديد النظر في آثار البلغاء المجلين!
الفن يتطور
سيداتي، سادتي
إذا كان الفن التقليدي إنما يجري في حدود العلم، أي أنه ينبغي أن يطابق ما اجتمع عليه رأي أصحاب الأفهام والأذواق في الفنون الجميلة بوجه خاص، فلا ينبغي أن يفوتنا أن العلم لا يستحدث في الفن جديدا، ولا يعدل به من نهج إلى نهج، ولكن الفن هو الذي يغير العلم ويدخل على قضاياه بالتشكيل والتلوين، ما دام يشرع ويتطور ويستحدث، إذ كل هم العلم هو كما أسلفنا إلى الملاحظة والتسجيل والتدوين.
ولا شك أن أظهر ما يظهر فيه التطور بالاتساع والدقة هو الفن الجميل، لأن مرده في الغاية إلى الأذواق، والأذواق كما تعلمون شديدة التأثر بالكثير من أسباب الحياة، ومن أفعلها مبلغ حظ الجماعات من الحضارة والتثقيف، ولون تلكم الحضارة وهذا التثقيف.
نعم، إن للفنون الجميلة عند كل أمة تقاليد تكاد تتصل جذورها بالطباع والفطر، ولكن ذلك لا يمنع من أن يتناول الزمان كثيرا من مظاهرها وصورها بالتشكيل والتلوين. •••
أرجو أن تدعوني بعد هذا أزعم أن البلاغة العربية - باعتبارها فنا أولا، وباعتبارها فنا جميلا ثانيا - مما يجوز عليه التغيير والتلوين، ومما يتقبل النمو وشدة النفوذ، بحكم اطراد التقدم في أسباب الحضارة، واتساع الأفهام، ورهافة الأذواق باتساع آفاق العلوم والفنون.
وإذا كان مشق البلاغة العربية هو بلا شك ما أثر إلينا عن عرب الجاهلية والصدور الأولى في الإسلام، فإن مما لا مراء فيه أنه قد استحدثت بعد ذلك ولا تزال تستحدث بلاغات لم تشكها علوم البلاغة المأثورة بالتقييد والتدوين، ولم تعقد لها قاعدة بين قواعد البيان والتبيين.
بل إن هناك صورا مما استجاد متقدمو النقدة وواضعو علوم البلاغة، وساقوها شواهد على براعة الكلام، هذه الصور مهما كان من استراحة أذواق السابقين إليها، فإنها مما ينفر منه ذوق العصر الحديث، ويأباه الحس القائم كل الإباء!
ومن هذا الباب ما مثلوا لحسن التعليل بقول الشاعر:
لو لم تكن نية الجوزاء خدمته
لما رأيت عليها عقد منتطق
وقول الشاعر:
لم تحك نائلك السحاب وإنما
حمت به فصبيبها الرحضاء
أو قول الشاعر:
ما به قتل أعاديه ولكن
يتقي إخلاف ما ترجو الذئاب
فمن ادعى أنه يسيغ مثل هذا الكلام اليوم، وأن ذوقه يستريح به، فإني إلى غيره أوجه الحديث.
هنالك شيء آخر له خطره الشديد، وله أثره البعيد: ذلكم أن تقدم الحضارة واتساع آفاق العلوم، قد فطن النقدة ومتذوقي الأدب إلى ألوان من البلاغة في مأثور العربية، لا أجرؤ على أن أقول إنه لم يفطن لها، وإنما أقول إنه لم يحتفل لها متقدمو نقدة الكلام أي احتفال، ومن أظهر ما أغفلوا الحديث عنه في هذا الباب بلاغة الصورة، وبلاغة القصص وما يتضمن من بارع الجدل ورائع الحوار.
انظروا أيها السادة، كيف يجلو الله تعالى علينا بعض خلقه في كتابه الحكيم:
إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون .
انظروا، أيها السادة كيف يصور لنا القرآن أهل الكهف في منامهم الطويل:
وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا * وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا .
الله الله، ما شاء الله! ولا قوة إلا بالله!
حدثوني بعيشكم: أي مصور مهما فحلت عبقريته واستمكنت سطوة فنه، يستطيع أن يجلو مثل هذه الصورة للعيون! فكيف وقد جلاها عليها القرآن عن طريق الآذان!
حدثوني بعيشكم: إلى أية قاعدة من قواعد البلاغة «الرسمية» نرد هذه «اللوحة» الفنية الرائعة لندرك بها علل كل هذا الإحسان والإبداع؟ أترى هذه الصورة قد انتهت كل هذا المنتهى لأن فيها ألوانا من الطباق في اليمين والشمال، وفي طلوع الشمس وغروبها، ويقظة الجماعة ورقودهم؟
لا لا يا سادة اللهم إن الخطب لأجل من هذا بكثير وفوق الكثير!
وبعد، فلو قد ذهب ذاهب في سرد أمثال هذه الشواهد من كتاب الله تعالى وحديث الرسول
صلى الله عليه وسلم ، وما أثر عن فحول البلاغة من الخطباء والكتاب والشعراء، لاستهلك في ذلك الزمن الطويل.
وهنا شيء لا أحب أن أتجاوز هذا المقام دون أن أشير إليه: ذلكم أن من علل الحسن في الفنون الجميلة ما يدق حتى تعيي الترجمة عنه على اللسان والقلم جميعا، وإن تعلقت به الفطن وأصابته الأذواق.
ومما يتصل بهذا الباب ما روي من أن بعض الخلفاء العباسيين قال لإسحاق الموصلي ذات يوم: «صف لي جيد الغناء» فقال: «يا أمير المؤمنين إن من الأشياء أشياء تصيبها المعرفة، وتعجز عن أدائها الصفة!»
4
ولست أستدل على هذا بأبين من صنيع عبد القادر الجرجاني في كتابه «دلائل الإعجاز»، فإنا كثيرا ما نراه يحاول بكل ما أوتي من بسطة علم، ونفوذ فكر، وسطوة قلم، أن يقع على إحدى دقائق الحسن في الآية من الكتاب، فلا يصيب الصميم وإن أجهدته كثرة اللف والدوران، على أنه إذا عجز عن جلو الحقيقة بالنص، فإنه محصلها كاملة في نفس قارئه، وواصلها بذوقه، إذا كان ممن يجرون من الصناعة على عرق، وذلك بالبراعة في التنمية والتفطين.
سيداتي، سادتي
لعل من أظهر ما نحسه من ضعف النقد الأدبي - أو بعبارة أبين، من قصور علوم البلاغة العربية في هذا العصر - أن سلفنا وجهوا كل عنايتهم إلى النقد الجزئي، أعني نقد الكلمة في الجملة، أو نقد الجملة في العبارة، فإذا كان الكلام نظما جرى النقد للبيت مستقلا، وأحيانا للبيت من حيث اتصاله بما قبله أو بما بعده، أي النقد (بالقطاعي) على تعبير التجار.
أما نقد الكلام مجتمع الشمل، وتناوله من حيث استواء الصورة، واتصال المعاني، واتساق الأقطار، وتلاحم الأجزاء، فذلك ما لم يكن له من نقدة البلاغة حظ جليل!
وليس يغيب عنا في هذا المقام أن هذه الحضارة القائمة قد جلت علينا من صور البلاغة صورتين لم تلبثا أن ساهمتا في أدبنا العربي بنصيب جليل، وأعني بهما فن القصص، والتصوير البياني، على حين أننا لا نرى لهما مكانا واضحا من عناية علوم البلاغة المأثورة ومضارب النقد القديم!
سيداتي، سادتي
لست ثائرا فأدعو إلى إلغاء علوم البلاغة العربية بتاتا، كما ألغتها أمم في الغرب بتاتا، ولكنني أدعو إلى تليينها وتمرينها، حتى تصبح أشبه بالأسلوب النقدي القائم على التفطين والتذويق بحيث تتطور مع تطور الأفهام والأذواق وعلى أن يوصل تعليمها في المدارس والمعاهد بدرس الأدب نفسه، فالواقع أنه ما نضجت موهبة شاعر ولا كاتب قط بدرس علوم البلاغة؛ ولكن بطول ترديد النظر وتقليب الذهن في المأثور من روائع الآداب، إلى الارتياض بكثرة العلاج والتمرين، فإذا انفسحت مع هذا ملكة الكاتب أو الشاعر، ورهفت فطنته بترسم مذاهب النقد الفني، فقد تمت نعمة الله عليه! هذا رأيي في الجملة، وأقول «في الجملة» لأن هناك أسبابا من القول يضيق عن شرحها هذا المقام، وبعد فإذا أبينا إلا الحرص على بقاء هذه العلوم على تلكم الصورة التي دفعها إلينا السابقون، فلا شك في أن لها في دار الآثار العربية المكان الفسيح!
في الفن والمفتنين1
لا شك في أن الفن لا يستوي للمرء بمجرد التحصيل والتعليم والتمرين، ولكنه إنما يستوي بهذه إذا كانت للمرء طبيعة، وكانت له موهبة، وعلى قدر هذه الموهبة يكون حظه من الفن، ولقد تصل به، ولو كان في شباب السن، إلى النبوغ والعبقرية، وذلك أن الفن - على ما يظهر لي - قائم في النفس، إنما أعني نفس المفتن، وما التعليم والتحصيل إلا وسيلة إلى نفضه إلى عالم الأعيان الخارجية (على حد تعبير أصحاب المنطق)، ولاختصار الطريق إليه بالاستفادة بتجاريب السابقين، وطول ما فكروا وتدبروا، وتهدت إليه على الزمان أذواقهم فانتضحت به قرائحهم، وما التدريب إلا لتوثيق الصلة بين ما تعتلج به النفس، وبين الفكر أو اليد أو اللسان.
وهؤلاء النابغون في الفنون، لو حققت النظر، ليسوا من جنس واحد، بل إنهم ليردون إلى جنسين مختلفين، أو على الأصح إلى ثلاثة أجناس: فأحدها مبتكر مخترع، يخلق الفكرة خلقا، ويبتدعها ابتداعا، ويخرجها للناس على غير سابق مثال، أما الثاني فلا يبتدع ولا يبتكر؛ ولكنه صائغ ماهر يقع على فكرة غيره، ويسطو ببدع سواه، فيخرجه أحسن مخرج، ويصوره أبدع تصوير، وأما الثالث فالذي اجتمعت له الخلتان جميعا، وهؤلاء في أصحاب الفن هم الأندرون.
ولعلك تظن مع هذا أن المبتكرين أفضل وأجدى على الفن دائما من الصاغة الناظمين! والذي لا ريب عندي فيه أنهما كليهما يتساهمان في الجدوى على الفن، أما إذا لم يكن بد من فاضل فيهما ومفضول، فإن أرجح الكفتين قد يكون لهؤلاء الصاغة الماهرين، وإليك البيان:
اعلم - وفقني الله ووفقك إلى السداد - أن ذلك العبقري المبتكر من العدم، والمبدع على غير مثال، قد لا يكون لتفكيره شيء مما يصنع، ولا لعقله دخل في شيء مما يبدع، إنما هو الطبع والغريزة ينضحان بهذا، ولقد يفعلانه في سر من عقله، وفي غفلة من تقديره، فشأنه في هذا شأن القمري يشدو أبدع الشدو، ويرجع أحلى الترجيع، ما يريغ لحنا، ولا يعتمد تنغيما، وكالوردة ينفرج عنها كمها، ما بها أن يملأ أنفك طيب شذاها، ولا أن يبهر عينيك جمال مرآها!
وإني لأزعم لك أبلغ من هذا، أن كثيرا من هؤلاء المبتدعين قل أن يشعروا بما صنعوا، وقل أن يقدروا حق ما أبدعوا، إنما هم قناة بين ما استودع الله تعالى من سر خلقه نفوسهم، وبين ألسنتهم أو أيديهم.
نعم، إنهم إنما ينتضحون بما يخرجون بمحض الإلهام، أو بتلك الحاسة السادسة التي لم يكشفها العلم إلى اليوم، تلك الحاسة التي تهتدي وحدها، وفي سر من حركة العقل، إلى كثير من حقائق العلم، وإلى كثير من دقائق الفن! هذه الحاسة التي تهدي طبيبا واحدا بين عشرة أطباء يختلفون في تشخيص مرض واحد اشتبهت أعراضه بأعراض عشرة أدواء، فيقع هو على حقيقة العلة دونهم جميعا، إذ هو نفسه لا يدري كيف اهتدى ولا كيف أصاب!
أما الصائغ الماهر، فلست أعني به بالضرورة ذلك الذي يسطو بفكرة غيره فيصوغها في لفظ آخر، أو يجلبها بنفسها في صورة أخرى، واقعة من الفن حيث وقعت، فهذا لص لا فضل له أبلغ من سراق الليل وعياري النهار.
وفي هذا المقام يحضرني كلام قرأته من زمان بعيد في شرح الشريشي على مقامات الحريري في السرقات الشعرية، وإني لأذكر أنه قسمها أو لعله نقل تقسيمها عن غيره، إلى عشرين: عشر محمودة مستجادة، وعشر مذمومة مستقبحة، وإني لأذكر أنه مثل لبعض الأولى بقول الشاعر:
من راقب الناس مات غما
وفاز باللذة الجسور
يسرق هذا من قول الآخر:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته
وفاز بالطيبات الفاتك اللهج
أو ما في معنى ذلك، فلعلي نسيت بعض ألفاظ البيت، ولعله كما أوردته.
على أنني لا أعني ببراعة الصياغة هذا القدر! فإن الصائغ مهما يجود الصنعة ويحكم النسج، فإنما ينادي على نفسه بالسرقة، ويشهد على اختلاس ما ليس له، إذ المعنى ثابت للمبتدع مهما أسف في نظمه، وضعف في صياغته، بل لا أعني كذلك منزلة فوق هذه، وهي التي لا ينقل الصاغة الفكرة فيها نقلا، وإنما يلحظونها من بعض جوانبها أثناء صياغتهم لمعنى آخر وهذا ما يعبر عنه نقدة الشعر بقولهم: إن الشاعر في هذا قد لمح قول فلان، فإن المفتن مهما كان له في هذه الحال من الفضل في جودة النظم وقوة السبك، واستخدام فكرة غيره في أداء غرض آخر، لا يزال عيالا ولو بقدر ما، على صاحبه المبتدع، في حين لا يزال هذا النبع المستقى، والمثال المحتذى.
وإنما أعني بالبراعة في الصياغة ما هو أعلى وأدق من هذين الصنيعين، فالمفتن الصنع، حتى الذي لم يؤت ملكة الابتكار، ولم يرزق القوة على الإنشاء، ترى له من شدة الفطنة ودقة الحس ما يتلقط به المعنى الغريب، ويصيب به النبرة الدقيقة، ويشك به الفكرة الطريفة، في شعر أو نثر، أو موسيقى، أو تصوير أو نحت، أو غير أولئك من ألوان الفنون - إنه ليتلقطها بذهنه الدقيق إذ قد لمح فيها سانحا من طريف بديع، لعله لم يعهده من قبل ولم يعهده الناس، وإن كان شخصه لم يتبين بعد كل التبين، وصورته لم تستو حق الاستواء، فلا يزال به يحككه بحسه المرهف، ويمخضه في ذوقه الرحب مخضا، وكلما فعل ازداد في نفسه تبينا ووضوحا، وهكذا حتى يتمثل لها خلقا سويا، فسرعان ما يجلوه على الناس كما جلته عليه نفسه، ما يصل بينه وبين أصله عندهم نسب، ولا يرتبطه بمنجمه الذي خرج منه أي سبب، فلا يحسبونه، مهما جهد بهم من حد الذهن وترديد النظر إلا خلقا جديدا، أنشأته من القدم قدرة هذا المفتن الصناع!
وكثيرا ما يعمد هذا الحاذق الصنع فيما يفطن إليه من هذه الدقائق الكامنة إلى مطلعها والبسط في خلقها بالتوليد والاشتقاق، وبتداعي المعاني، حتى يبلغ بها في ذلك غاية المدى، وأنت تحسبه كذلك مبتكرا منشئا، وتظنه مستحدثا مبدعا، إذ هو يعلم كيف فتح عليه في كل هذا، ومن الذي ألهمه إياه!
وبعد، فإذا كان قد تعاظمك بادئ الرأي ما زعمت في صدر هذا الحديث من أن أرجح الكفتين قد تكون لهؤلاء الصاغة الماهرين، فلعلك الآن قد تطامنت واستراح إيمانك إلى هذا الكلام بعد إذ بان لك فضل هؤلاء أولا في الوقوع على تلك الدقائق المستورة المغمورة، ما يكاد يفطن إليها أحد، ولا يكاد يقدرها حتى هؤلاء الذين نبغت بها في بعض الأحيان سلائقهم عفوا بلا قصد ولا سابق تدبير، وثانيا في تجليتها على الناس في صورة واضحة الخلق، ترهف شعورهم، وتمتع أذواقهم، وتلذذ إحساسهم، وتبعث فيهم ما شاء الله من أريحية ومراح! •••
ولقد كان المرحوم محمد أفندي عثمان المغني مبدعا بارعا، وكان المرحوم عبده أفندي الحامولي صائغا رائعا، فكان أولهما ينشئ الصوت (الدور) إنشاء
2
ويلحنه على غير مثال، فيخرج قويا بديعا، لأن عثمان صائغ كما هو مبتكر، ثم يتلقفه عبده فما يزال يهلهله، ويسوي من صورته، ويمره على ذوقه الدقيق، فيعدل من أطرافه، ويشع فيه نفسه، ويولد فيه من النعم فنونا حتى يخرج أقوى وأبدع وأفتن، ثم يقال هذا الصوت لعثمان فيه لحن، ولعبده فيه لحن آخر!
ولشد ما كان ذلك يحفظ عثمان على صاحبه، ويغيظه أشد الغيظ، فيروح يغلظ له القول، ويباديه بما هو أقسى من العتب، ويتهمه بالسطو بصنعته، وعبده يطامن من هياجه، ويلطف من حده، ولا يزال به يدلله ويرفه عنه بالكلم الطيب حتى يسكن ويرضى، وكان الحامولي، رحمه الله، من دهاة الرجال!
وليس معنى هذا أن عبده لم يكن مبتكرا ألبتة، فإن له لابتكارات عجيبة؛ ولكنه كان صوغا أكثر مما كان منشئا.
وإذا كان فن التنغيم بآي القرآن الكريم قد بلغ اليوم أوجه، فلا شك في أن نهضته الحاضرة مدينة للمرحوم الشيخ حنفي برعي، فهو الذي استن هذه الطريقة الحديثة، فكانت جمهرة القارئين له فيها تبعا.
ولقد نشأ الشيخ أحمد ندا - أشهر القارئين اليوم - يلحن على أسلوب المرحوم الشيخ حنفي برعي، ويسلك نفس طريقته، ويقلده في إيقاعه، ويحاكيه في ترتيله، فإن الشيخ حنفي كان أعلى سنا وأقدم فنا، ثم ما زال الشيخ ندا يزيد بالتلوين والصياغة وقوة الافتنان، إلى أن استوت له شخصية خاصة، إن هو استقل بها عن شخصية أستاذه، فما برحت عليها مسحة منها إلى اليوم.
على أن واجب الإنصاف يقضي علينا في هذا المقام، أن نقرر أنه إذا كان أسلوب الترتيل الحديث من ابتكار الشيخ برعي، فإن الشيخ ندا بما ولد وما افتن قد زاد ثروة هذا الفن أضعافا، ولا أحسب أن تاريخ أهل التنغيم «مغنين ومنشدين وقارئين» أحصى لأحد ما أحصى لأحمد ندا من سلخ أكثر من خمسين عاما مرتلا قوي الصوت، رائع الإيقاع، تلوح له «الحركة» في عنان السماء، فلا ينخذل عنها، ولا يتزايل عزمه من دونها، بل إنه ليجمع نفسه، ويحلق إليها بصوته القوي المرن، فلا يزال بها حتى يصيدها، ويفرغها على السمع في لباقة وقوة إبداع!
ولقد فاتني أن أذكر لك أن الشيخ برعي كثيرا ما كان يرى واقفا برجل من هؤلاء الذين يسألون في الطريق بقراءة القرآن، ذلك أنه تعجبه منه نغمة، أو تهزه نبرة، وسرعان ما يتلقفها، فيهذبها ويصقلها، ويطلقها في سهرته سوية بديعة تضاف إلى فنه الكريم.
ولقد أخذ المرحوم الشيخ أبو العلا نفسه بفن عبده الحامولي، وكان يتغنى أغانيه، ويقلده في جميع تناغيمه، حتى لم يكد يرث صنعة عبده سواه، على أن أبا العلا كان لبقا بارعا، واسع العلم بالفن، محيطا به من جميع أقطاره، بقدر ما يتهيأ لمصري من فهم أصول الغناء العربي، وكان إلى هذا على حظ من الذوق عظيم، ولكنه لم يرزق من حلاوة الصوت وكرم جوهره ما يواتي كل تلك المواهب، فلم يبرع، وإن جاد في غنائه؛ ولكنه برع البراعة كلها في تلحينه.
وإذا لاحظت أن الذوق المصري لا يستريح إلا إذا انتهت النغمة بتكريش الصوت، والزر على الحلق، أو ما يدعوه أصحاب الغناء (بالعفق)، قدرت براعة أبي العلاء وجراءته في الإقدام على تلحين هذه القوافي الصخرية من نحو:
وحقك أنت المنى والطلب
وأنت المراد وأنت الأرب
ولي فيك يا هاجري صبوة
تحير في وصفها كل صب
ونحوه:
والله لا أستطيع صدك
ولا أطيق الحياة بعدك
ولا شك في أن الآنسة أم كلثوم تعد اليوم من أفخر المغنيات والمغنين، لا بجمال الصوت وحده: بل بسلامة الذوق وجودة الصنعة أيضا، ولا أدري لو لم تقع في أول نشأتها في طريق أستاذها أبي العلا، أو لم يقع هو في طريقها، كيف كان يكون شأنها في الغناء؟
فأبو العلا، رحمه الله، هو باعث فن عبده بتلحينه هذه القصائد والمقطوعات التي تصلصل بها الآن حلوق أكثر المغنين، إلى أنه خدم فني الأدب والغناء جميعا بما لحن كثيرا من متخير الشعر القديم والجديد، على حين لم يلحن أستاذه عبده في هذا الباب غير قصيدة أبي فراس «أراك عصي الدمع شيمتك الصبر»، فإن كان له سواها فما أحسبه بالشيء الكثير.
ولقد مضى صنيع الشيخ أبي العلا سنة درج عليها الأستاذ المفتن المبتدع محمد عبد الوهاب في بدائع أمير الشعراء، وسيدرج عليها غيره في نهضة الأدب الحديثة إن شاء الله!
تذييل عبده الحامولي
في 23 أبريل سنة 1934 نشرت مجلة «الرسالة» للكاتب مقالا طويلا ختمه بحادث شهده بنفسه من عبده الحامولي، ولقد رأينا إثباته في هذا المقام:
لم يكن يتهيأ لفتى حدث مثلي أن يسمع عبده الحامولي في سهولة ويسر، فلقد كان في العادة، لا يغني إلا في بيوت الطبقة «الأرستقراطية»، ودون أبوابها لؤم الحجاب، وعصي الأحراس، فما من سبيل إلا في الغفلة من أعينهم، أو الرشوة في أيديهم، أو في التسلل أعجاز الليل بعد منصرف السادة المدعوين، وعلى بعض هذا أذن الله أن أسمع ملك المغنين بضع عشرة مرة.
وبعد فعبده، وتاريخ عبده، وفن عبده، وصنعة عبده، وبدع عبده، كل أولئك غني عن التعريف والتبيين، ولكنني أبادر فأقرر أن صوت هذا الرجل على جلالته وحلاوته، ووفائه بكل مطالب النغم في جميع الطبقات، لم يكن بالموضع الذي يتمثل لأوهام من لم يسمعوه من أهل هذا الجيل، بل إن من القائمين من لعله يجهره في هذا المعنى من الجمال، ولكن لا يذهب عنك أن من وراء هذا الحس المرهف، والذوق الدقيق، والفن الواسع، والكفاية الكافية، والقدرة القادرة على التصرف في فنون النغم ، في يسر ولباقة وقوة ابتكار، ورعاية لوجوه المقامات المختلفة، والتوفيق إلى كل ما يغمز على الكبد، ألا لقد جمع الله أحسن هذا كله لعبده الحامولي، فلم ينته أحد فيه ممن سمعنا منتهاه، إذا استثنيت صاحبه المرحوم محمد عثمان، على اختلاف بين فني الرجلين غير قليل.
وإني لأذكر أنني سمعته مرة عند مطالع الفجر، وكان ذلك في دار المرحوم السبكي بك في شارع الطرقة الشرقي، ولعله كان قد مسه طائف من الشجا، فكاد يحيل العرس مناحة من كثر ما تبادر لنغمه الشجي من دموع الناس!
أما الحادثة التي أوثرها بالرواية، فلقد كانت في دار رجل من خئولتنا أولم لتزويج ابنه، وداره تقع في حي الناصرية، وكان صديقا حميما للمرحومين عبده أفندي الحامولي، والشيخ يوسف المنيلاوي، وكان أثيرا عندهما كريم المحل منهما، وقد دعاهما كليهما ليغنيا معا في عرس ابنه، فلبيا الدعوة خفيفين.
وأنت بعد خبير بأن «أفراح» أولاد البلد لا يحجب عنها الناس، ولا يدفعهم من دونها شرط ولا أحراس، وكذلك اكتظ السرادق بالمئات، إن لم أقل بالآلاف من أصناف خلق الله.
ويستوي عبده إلى «التخت»، ويتدلى في الميدان يحمي ظهره الشيخ يوسف وأحمد حسنين، ونصر الحصاوي، عليهم رحمة الله، وشيخ المغنين الآن الأستاذ محمد أفندي السبع، نعمه الله بأطيب الحياة، ومعهم السيد أحمد الليثي بعوده (أو الجمركشي لا أذكر)، وأمين أفندي بزري وإبراهيم أفندي سهلون بكمانه، ومحمد أفندي العقاد بقانونه، فغنوا وعزفوا ما شاء الله أن يغنوا ويعزفوا، حتى أتوا على ما يدعى «بالوصلة» الأولى، ولست أذكر ما تغنوا فيه من الأصوات (الأدوار)، ثم استراحوا برهة من الزمن عادوا بعدها إلى شأنهم، وما برح عبده رحمة الله عليه، يضطرب بين «الليل والعين»، ثم ينقلب إلى المواليا فيرجع فواصله ترجيعا، حتى إذا فعل في هذا كله الأفاعيل، وصنع ما لا ترتقي إلى صفته الأقاويل، أقبل يغني، والجماعة معه، «الدور» المشهور وهو من نغمة العراق:
3
لسان الدمع أفصح من بياني
وأنت في الفؤاد لا بد تعلم
هويتك والهوى لجلك هواني
ولكن كل ده ما كانش يلزم
إلى آخر ما يدعى في عرف أصحاب الغناء «بالمذهب»، ثم أمسك القوم لحظة خرج بعدها عبده منفردا، وقفى العقاد على أثره بقانونه، وقال الجبار: «أديني صابر على ناري!»
لست بمستطيع يا معشر القراء أن أقول لكم كيف قالها الرجل ولا كيف صنع؟ لأنني أنا نفسي لا أدري، ولا أحسب أحدا من الخلق درى، كيف قال الرجل ولا كيف صنع؟! ولكنني أستطيع أن أقول لكم إن طائفا عنيفا جدا من الكهربا سرى في هذا الحشد كله لم يسلم عليه أحد: جمد الناس جميعا، وتعلقت أنفاسهم، وشل كل مناط للحركة فيهم، فما تحس منهم إلا أبصارا شاخصة، وأفواها مفغورة، لو اطلعت عليهم لخلتك في متحف يجمع دمى منحوتة لا أناسي يترقرق فيها ماء الحياة! حتى القائمون بالخدمة، لقد مسهم هذا الطائف فجمدوا وثبتوا! وحتى رداف
4
عبده، لقد جرى عليهم من هذا ما جرى على سائر الناس!
ولقد ظلت هذه الحال زهاء عشرين ثانية، أعني قرابة ثلث الدقيقة، وينفجر البركان الأعظم يتطاير عنه الحمم، وترى الخلق يموج بعضهم في بعض، لا يدري والله أحد أين مذهبه، ولا تسل كيف قدرت الحناجر من الشهيق، ولا كيف بريت الأكف بالتصفيق، وخرج الأمر ساعة عن عرس مقام إلى مستشفى مجانين، رفعت فيه الحوائل وفتحت الأبواب، ونحى عنه أحراسه من الشرط والحجاب!
تطور الموسيقى المصرية في العصر الحاضر1
سيداتي، سادتي
لست أثقل عليكم الليلة بنحو سيبويه ولا بلغة أبي عبيدة؛ لأنني لا أحدثكم هذه المرة بلسان أعرابي بشملة، بل لقد أتدلى بالحديث إلى العامية الخالصة ما اقتضاها المقام، وللعامية أيضا بلاغاتها ودقة تصويرها، وخاصة في مثل بعض المقامات التي سأعرض لها بالحديث اليوم.
سأتكلم في هذه الأغاني الشائعة الآن، ولا يظنن أحد أنني بهذا أنحرف عن الحديث في الأدب، فالقول في الأغاني إنما هو قول في صميم الأدب، ولا تنسوا أن أغزر كتاب وأجمعه وأكفاه صنف في الأدب العربي، فأتى على عصارته وعيون روائعه من أول العلم ببلاغات الجاهلية إلى غاية ثلاثة قرون في الإسلام، إنما كان موضوعه الأغاني، بل اسمه الأغاني!
وقبل أن أمعن في موضوعي أخير من عندهم منكم فتيات إحدى اثنتين: إما أن يقفوا «الراديو» بتاتا حتى ينقضي الزمن المقسوم لحديثي، وإما أن يصرفوا عنه فتياتهم، على أنكم تستطيعون أن تطمئنوا من هذه الناحية إلى ما قبيل مختتم الحديث، وعلى أنني أستطيع أن أؤكد لكم جميعا أن فتياتكم جميعا قد سمعن هذا الذي سأتمثل به، وسمعن ما هو أنكر منه وأكره، ولقد سمعته محسنا مبهجا لآذانهن الكريمة بالتوقيع والتطريب؛ بينا أنا لا أعرض منه ما أعرض إلا في مقام التقبيح والتهجين، فأنتم الآن بالخيار، وقد أعذرت، فاللهم اشهد وأنت خير الشاهدين!
وبعد، فأرجو ألا يتهاون أحد منكم شأن الأغاني، على اختلاف ضروبها وألوانها، فالأغاني كما هي عرض من أعراض الأمة، وترجمان صادق الأداء عن حالها وعقليتها، ومبعث مواجعها وآلامها، ومتناجى آمالها في الحياة وأحلامها، فإن لها كذلك لأثرا بعيدا في بناء النشء وتربيتهم، وفي تسوية الأذواق العامة، بل إن لها وراء ذلك لأثرا أبعد مدى يوم تكون الجلى، ويوم تستنفر الجمهرة للعظائم!
على أن أثر الأغاني، في هذا الباب، لا يحتاج مني إلى بيان، فلقد طالما قال فيه أفاضل الأدباء وبينوا، وأفاضوا فأجملوا وأحسنوا، وصدق المتقدمون حين قالوا: إن توضيح الواضحات من بعض المشكلات، ولله أبو الطيب المتنبي حين يقول:
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل!
سيداتي، سادتي
لعل من الخير أن نستعرض حال الغناء وما اعتراه من ألوان التطور من قبل ثلاثين سنة خلت إلى الآن، وكيفما كانت الحال، فإن الغناء المصري قد صرف جل همه، إن لم يكن صرف همه كله إلى ترديد أحاديث الصبابة والهوى، وشدة البين وطول النوى، وألم الفراق وحرقة الجوى، والهتاف بالمحبوب في حالي إقباله وإعراضه، وجماحه وارتياضه، وإظهار الفرح بجميل لقائه، والشكوى من صده وطول جفائه، ونحو هذا من فنون المعاني التي ما برح الغناء المصري يتصرف فيها إلى الآن، أما العناية بإصابة المعاني السامية التي تتصل بتربية الأخلاق، أو بتزكية الأذواق، أو بوصف الحالات الاجتماعية، أو الإشارة بالوطنيات جملة، فهذه لقد ألقاها الغناء المصري دبر الآذان، إذا استثنينا أنشودة وطنية ضئيلة كان يترنم بها صغار التلاميذ عند منصرفهم آخر النهار من مدارسهم، والتي مطلعها:
مصر النعيم هي الوطن
وهي الحمى وهي السكن
وهي الفريدة في الزمن
فجميع ما فيها حسن
ولست أدري إن كانت أقلام الشعراء أو المتشاعرين أرسلت في ذلكم العصر غير هذه الأنشودة أم لم ترسل؟ وعلى كل حال فما في شيء من مثل هذا جليل غناء!
والآن نمضي إلى استعراض حال الغناء في مصر من قبل ثلاثين سنة خلت، وما دخل عليه من التطورات إلى هذه الغاية، على أن يكون هذا في إيجاز بيان: لقد كان من عادة جماعات المغنين - قل من ينحرف منهم عن هذا - أن يستفتحوا «وصلاتهم» بالموشحة، ثم ينفرد رئيسهم بمناداة الليل والعين، ثم يتناول بعض الموالي فيروح يرجعه، ويطوف به على فنون من النغم، ثم يرده على عقبه ويفضي منه إلى «الدور»، يشترك الجماعة معه في «مذهبه» وينفرد هو بالتغني في «غصنه»، إلا أن يحتاج منهم إلى المعونة في الترجيع والترديد.
ولقد ينشد القصيدة في أعقاب الليل، ولقد يتغنى - وكان هذا نادرا جدا - في المقطوعة التي يتكرر على جميع وحداتها نفس اللحن، وهي المعروفة الآن «بالطقطوقة»، ولا يزال المغنون التقليديون يصنعون هذا كله إلى اليوم.
وإنه ليعز علي أن أنعي، أو إني أكاد أنعي إليكم فنا جليلا من فنون الغناء، ألا وهو الموشحة، ولولا بقية لا تزال تستفتح بالقديم المأثور منها أبواب الغناء، لأدرجت في مطاوي التاريخ، ذلكم النوع الذي يحتاج في تلحينه إلى أبرع البراعة، وأحكم الفن، وأقوى الصنعة، وأين منا ما لحن عثمان
2
وأضرابه من نحو:
كللي يا سحب تيجا
ن الربى بالحلي
واجعلي سوارك
منعطف الجدول
أتاني زماني بما أرتضي
فبالله يا دهر لا تنقض
ملا الكاسات وسقاني
نحيل الخصر والقد
وغير ذلك كثير.
ولا والله ما أرمي ملحني العصر بالقصور عن معالجة هذا، بل لقد تهيأ لي أن أسمع موشحات قيمة من تلحين بعض المعاصرين، ولكن ما كان الأمر إلى ملحن يقدر أو لا يقدر، إن مرد الأمر كله إلى هوى الجمهور، وإن شئنا تعبيرا أدق، قلنا إن ذلك إنما يرجع إلى هذا التطور الذي يتناول أسباب الحياة جميعا.
سيداتي، سادتي
أما نصيب «الدور» من هذا التطور، فهو على أنه ما زال ينظمه الناظمون، ويلحنه الملحنون، ويغني في قديمه وحديثه المغنون، إنني أراه - على هذا كله - قد أنشأ يتقلص ويذوي غصنه، ويهون خطبه، ويدبر حظه، ولقد جعل «المونولوج» يدافعه شيئا فشيئا، ويحتل مكانه رويدا رويدا، ولا أحسب أن الزمن سيطول حتى يصبح شأن «الدور» كشأن الموشحة، إن دخلا في الغناء والتطريب، فعلى أنهما فنان تقليديان فحسب، صنع من يبني في هذا العصر داره أو بعض داره على طراز عربي أو فرعوني مثلا، وأكبر الحظ في مثل هذا إنما هو التلميح والأغراب!
وهذا «المونولوج» ضرب من النظم لا أحسبه كان معروفا في الغناء القديم، أو على الأقل إنه لم يكن شائعا فيه، ويلحق بهذا «المونولوج» «الديالوج» وهو ما يتطارح الغناء فيه اثنان، و«التريالوج» وهو ما يتعاون الغناء فيه ثلاثة، وواضح أن هذا الأسلوب الغنائي مما نضح به علينا الغرب في هذا العصر الحديث.
سيداتي ، سادتي
هنالك ضروب أخرى من التطور في أسباب الغناء المصري ألخص أهمها تلخيصا رفيقا: (1)
لقد كانت «الأدوار» والموالي في الجملة، أقوى عبارة، وأدق صياغة، وأحكم نسجا، وما لها لا تكون، والذي يتولى نظمها هم السابقون الأوالي من أمثال الشيخ علي الليثي، وإسماعيل باشا صبري، والشيخ الدرويش، ومصطفى بك نجيب، ومحمود أفندي واصف، ولداتهم من أئمة الأدب وأعيان البيان؟
ولست بهذا أذهب - لا سمح الله - إلى القول بأن أدباءنا اليوم قاصرون عن الإتيان بمثل هذا أو بما هو خير منه، بل الواقع أن هذه الفنون أصبحت في تقلصها وإدبارها، فلم يبق لها من جلالة الشأن ما يستدرج أعيان البيان لمعاناتها وعلاجها! (2)
شيوع المرارة والألم في أناظيم الغناء الحديثة، حتى لا نكاد نسمع منها إلا الأنين والزفير، والصراخ والعويل، ولا تكاد ترى فيها - لو تمثلت لك خلقا يرى - إلا الدمع السائل، واللون الحائل، ولدم الصدور، وشد الشعور، والتقوض على الأعتاب، وتمريغ الخدود في التراب، وغير أولئك من ألوان الذلة والهوان والعذاب!
نعم، إن حديث العشق والصبابة لا ينبغي أن يخلو من هذا، فهو جار في طبيعة العشاق، ولكن موالاة الحزن ومتابعة الأسى الدهر الأطول مما يتجاوز مدى الاحتمال!
على أنه قد كان إلى جانب «الأدوار» الشاكية الباكية، ولكن في رفق وحسن تأميل مثل: لسان الدمع أفصح من بياني - في البعد يا ما كنت أنوح - كادني الهوى وصبحت عليل - أقول لقد كان إلى جانب هذه الأدوار أدوار يشيع فيها الفرح وتقطر منها البهجة من نحو: اليوم صفا داعي الطرب - متع حياتك بالأحباب - أنسك ظهر - يا وصل شرف يا جفا رح عنا - خلي الحبايب بالحياة تتهنا - أفراح وصالك تدعي الناس، للائتناس، والخير على قدوم الواردين - يا طالع السعد افرح لي، دا الحب رح يوفى بوصله - وغير ذلك كثير.
ولقد يكون مرجع هذا إلى ما يطوف بالعالم هذه السنين من طوائف الهم والكرب والضيق، ولكن ذلك لا يعفي الناظمين على أي حال، فهم إن ترجموا بهذا عن الحال العامة، فعليهم إلى جانب ذلك أن يرفهوا عن الناس بعض الشيء، ويتراءوا لهم ولو بصبابات من المنى، فالناس في جهدهم هذا أحوج ما يكونون إلى الترفيه والتأميل! (3)
وهو الأدخل في الموسيقى والأوصل بها، ألا وهو التطور الشديد في التلحين، ولست أدعي العلم بالموسيقى، بالقدر الذي يأذن لي بأن أفيض القول في هذا الباب منها، فذلك من شأن من تحرروا لهذا وحذقوه، ولكن لا أظن أنني أفتئت على الفن إذا زعمت أن الغناء المصري إنما كان يتصرف في قدر محدود من فنون النغم؛ على أنه كان يتصرف فيها في براعة وقوة وسلامة تكاد تشعر المصري أن هذا الغناء الذي يرد على سمعه، إنما هو صدى ما يجري في طبعه، وأنه لو كان خلي إلى نفسه لقال هذا الذي سمع، وهذا الذي يدعونه السهل الممتنع.
أما في العهد الأخير فقد أغارت الموسيقى المصرية على الموسيقات الأخرى، فسبت كثيرا من أنغامها، فاتسعت بذلك رقعتها، وكثرت دروبها، وتشعبت طروقها، وإذا كانت الآذان أو بعض الآذان لم تسترح إليها إلى الآن، فلعل ذلك لأنها ما برحت في طور الترويض والتذليل، ولا أفسح في جوانب القول، فإنني أكره أن أذكي الفتنة بين أنصار القديم وأصحاب الجديد!
وهنالك بعض التطورات الأخرى أرجئ الكلام فيه إلى الشق الأخير، وهو المقصود في الواقع من كل هذا الحديث.
سيداتي، سادتي
بقي الحديث في تلكم المقطوعات التي شاعت في هذا العصر شيوعا هائلا، وأمست تردد بكثرة عظيمة حتى على ألسنة كبار المغنين والمغنيات ما مهدت لهم مجالس الغناء، ولا شك في أنكم عرفتم أنني أعني بها ما يدعى في العرف العام «بالطقاطيق».
واسمحوا لي أن أقول لكم إنني، من الجهة القومية، أصبحت أحتفل للكلام في «الطقاطيق» أكثر من احتفالي لأي ضرب آخر من ضروب الغناء!
نعم، لقد أصبحت مني بهذا الموضع لأنها في الواقع الأغنية الشعبية التي ترددها حلوق الجميع في هذه الأيام: يرددها الرجال في مجالسهم، كما ترددها السيدات في خدورهن، ويرددها الشبان والشابات، والفتيان والفتيات، الأطفال والطفلات، كلهم يرددها على اختلاف المنازل وتفاوت الثقافات، فاللهم إذا كان لشيء من فنون الغناء أثر شديد أو ضعيف، قريب أو بعيد في تكوين الأخلاق، وتربية الأذواق، والدلالة على ثقافة أمة واتجاه ميولها، فهو ولا شك لهذه «الطقطوقة» أكثر من أي شيء آخر.
وإنني أرجوكم أولا أن تقبلوا النظر في هذه «الطقاطيق» التي تمطرون بها كل بكرة وكل عشي، إذن فلستم واجدين في أكثرها الكثير إلا كل رذل وسمج وسخيف وبارد من الكلام!
حدثوني بعيشكم: أي غرض من مثل هذا الذي تسمعون كل يوم وكل ساعة، وأي معنى فيه، وأي مغزى له؟
وهنا أرفع شارة «الخطر»، ليأخذ من شاء الحذر: اللهم إن كان يطلب بهذا الهراء من القول معنى أو يستشرف به إلى مغزى، فهو تصوير عقلية هذه الأمة الكريمة أقبح الصور وأنكرها، بل إن من بين هذه الأغنيات لما يسعى جاهدا إلى إشاعة الفاحشة فيها!
لقد كانت «الطقاطيق» تغنى في القديم، وكان أكثر من يصطنعها ويرددها جماعات «العوالم» في أعراس الطبقة الوسطى وما دونها، على أنها كانت ظريفة خفيفة على السمع، عفة بريئة من فحش القول، فإن هي شذت في القليل النادر جدا، فشذوذها لا يصل بها إلى هذا الذي يدعونه الأدب المكشوف على أي حال! على أن أعلام المغنين كانوا يرددون في قليل من الأحيان المقطوعات التي تتسق في ألفاظها ومعانيها لأخطارهم وجلالة محلهم، وإذا كان قد غنى في بعض تلك «الطقاطيق» النسائية، فإن ذلك منه إنما كان على جهة التطرف والتمليح!
سيداتي، سادتي
اسمحوا لي بأن أبين الفرق بين أغاني الرجال جملة، وأغاني النساء جملة، وهذا الفرق وإن دق وصغر فإن له أثره البعيد: فأغاني هؤلاء يغتفر فيها من الطراوة والرخاوة ما لا يغتفر في أغاني الرجال، سواء أكانت تلك الطراوة والرخاوة في اللفظ أم كانت في طريقة الأداء، ولهذا ساغ للسيدات أن يغنين جميع أغاني الرجال، في حين لا يسوغ لهؤلاء أن يتغنوا بكل ما يتغنى به السيدات؛ لأنه إذا جاز للمرأة أن تشتد وتعنف - ولقد يكون ذلك جميلا منها في بعض الأحيان - فقبيح كل قبيح بالرجل أن يسترخي ويتكسر ويتفكك ويتزايل، والعياذ بالله تعالى!
وإن أعجب لشيء في هذا البلد، فعجبي لأن الكثرة الكثيرة من مغنيات الطبقة الأولى يغنين غناء قويا مستمسكا لا أثر في نبراته لتميع ولا لاسترخاء، وتأبى حلوقهن إلا أن ترسل الخالص الجوهري من حر الكلام، في حين نسمع رجالا، رجالا عدة مجتمعين، أعني فرقة بأسرها، من لم يشعل الشيب منهم رأسه، فلا أقل من أن له أولادا مميزين، لعل فيهم من ارتقى إلى المدارس الثانوية بله العالية، هؤلاء الرجال لا يتأثمون من أن يغنوا على أملاء الناس: «لابسة الدواق ليلة الزفة، فرحانة بالدخلة ... وخايفة إلخ ...»، يا للفضيحة ... ويا لانخذال الطباع! ...
وبعد، فهل هذا كلام يليق بالرجال؟ لا والله ولا يليق بالنساء!
ولا يكفي هذا، بل يؤبى إلا أن يطبع في «أسطوانات» تذيع في الشرق والغرب، ويصيح بها «الراديو» في كل مكان!
لقد أفهم يا سيداتي وسادتي، أن تغني سيدة في السيدات: «مبروك عليك عريسك الخفة، يا عروسة يا زاينة الزفة» مثلا، لكنني لا أتصور، ولا أطيق أن أتصور، أن يتمثل للمذياع سبعة أو ثمانية من شبابنا الناهض، فيتغنون في تكسر صوت واسترخاء نبرة، مبالغة في المحاكاة والتقليد: «مبروك عليك عريسك الحيلة ... تتهنوا وتتمتعوا الليلة ...» يا ساتر! يا ساتر! يا دافع البلاء! اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا! ... ثم لا يتحرج الفحل منهم أن يزغرد كما تزغرد مساعدات المغنية، وذلك منهم كذلك لإحكام المحاكاة والتقليد!
سيداتي، سادتي
ليس والله أفتك بالأخلاق ولا أعصف بالآداب من شيوع مثل تلكم الأغاني الخبيثة المائعة، وخاصة على ألسنة الرجال، وإنها لحقيقة بأن تشيع في فتيانكم انخذال النفس، وتزايل الخلق، واسترخاء الطبع، وتدك مكان الرجولة فيهم دكا، وإنني بإيراد هذه المترادفات إنما أحاول أن أؤدي ما تؤديه اللفظة المقسومة لهذا المعنى؛ ولكنني أرفق بأسماعكم، وأشد إجلالا لكم من أن أحملها جناح الأثير، فتسلك جميع الدور، وتقتحم الخدور على ربات الخدور!
وليست الجناية في ترجيع مثل هذه الأغاني مقصورة على فتيانكم رجال الغد، بل إنها لواقعة أيضا على فتياتكم أمهات المستقبل، فتياتكم اللائي يفرض عليهن الوطن، إذا ما شببن وأصبحن ربات بيوت، أن ينشئن الطفل - أعني وديعته بين أيديهن - على الفضيلة، وأن لا يتعاظمهن جهد في إعداده ليكون إذا شب وكبر، رجلا تام الرجولة.
سيداتي، سادتي
إن لبلادكم آمالا عراضا في جميع نواحي الحياة، وهيهات أن تنال أيسرها مطلبا إلا على أيدي رجال صحاح البنى، متان الأخلاق، شداد النفوس صلاب الطباع.
والأمر الآن إليك أيها الشعب، فقل كلمتك، وامض في شأنك حكمك، والله موفقك وهاديك سواء السبيل.
في الأغاني المصرية1
لقد شاعت في هذه السنين مقاطيع الغناء المعروفة «بالطقاطيق»، وهي من فاتر القول وساقط الكلام، لا يرن في أذنك فيها لفظ، ولا يتشرف على نفسك منها معنى، فأما ما يجري منها على ألسنة الفتيان ، فكله خور وتكسر واستخذاء هيهات أن ينتهض معها للفتى عزم، أو يشتد له طبع، وأما ما يتصلصل منها في حلوق البنات، فكله خنى وعهر، وكله استرسال في الفتنة إلى آخر المدى، وكله تدريب على عصيان الآباء في طاعة الهوى! «أنا لما استلطف ما يهمني بابا»! وكله لا يرفع الأم عن مكان القيادة، بما يقتضيها أن تفسح في جوانب الحيل لتجمع بنتها بهواها، وتبلغها أخس مناها: «هاتي لي حبي يا نينة الليلة!»
وهنالك ما هو أوصل من هذا بالتعهر وأعرق في أبواب الفحش، مما إن صنت عينك عن قراءته، فلا سبيل إلى أن أصون أذنك عن استماعه في الملاهي، وفي الشوارع، وفي أجواف المقاهي، وفي أكسار الدور، ترجعه بنت الشريف على نبرات «البيانو»، وتوقعه بنت الوضيع على نقرات الدف.
وهذا لعمر الله شر كثير، وأي شر أبلغ من أن يطبع الأبناء على ضعف الهمة، وخذلان النفس، وخنث الطبع، وأن نطالع أنفس البنات في شباب السن، بهذه المعاني الخسيسة، وتستدرج أحلامهن إلى تلك الأغراض الوضيعة، إلى ما يجري على ألسنتهن من تهاون لأقدار الآباء، وعبث بوقار الأمهات!
ولقد كانت دور «السينما» تعرض من حيل اللصوص والقتلة، وأسباب غدرهم وفتكهم ما بعث الحكومة على مراقبة ألواحها ضنا بأحلام الفتيان، عصمة لأخلاقهم من أن يشيع فيها الفساد بحكم المحاكاة والتقليد، وهي على كل حال دور مقصورة لا يغشاها إلا القليل بالقياس إلى سائر الناس، إلى أنها لا تقوم إلا في المدن وحواضر البلاد، فكيف بهذه الأغاني وهي تطير إلى الناس من كل جانب، وتملك عليهم أقطارهم من جميع المذاهب، وتسلك الأكواخ وتقتحم القصور، ولا يسلم على أذاها حتى المكفوفات في الخدور، فأنى دارت الآذان، سمعت صلصلتها من كل حلق وجلجلتها على كل لسان!
وإن شططا تكليف الحكومة أن تنشر في الشوارع والدور شرطها وعسسها ليقبضوا على أصحاب هذه التلاحين، كما يقبضون على المتجرين في الكوكايين، ويصادروا كل ما في الأفواه من هذه «الطقاطيق»، كما يصادرون ما في الجيوب من تلك المساحيق، فذلك مما لا يتسع له الذرع، والمخلص أن ينهض جماعة من أئمة الأدب وأعلام الموسيقى، فيدافعوا هذا الوباء، ويداووا بالتي كانت هي الداء، فينظم أولئك ما يخف على السمع من معان شريفة، في ألفاظ حلوة لطيفة، تبعث الهمم، وترفع الأنوف إلى موضع الشمم، ويخرجها هؤلاء في تلاحين تثير الطرب وتهز الأريحية هزا! •••
وبعد، فتالله لو كان لي بعض ثروة «فلان» باشا لأجريت على هذه الجماعة من مالي ما يغنيها ويتضمن لها طول الحياة، فإذا شق هذا على النفس، فحسبه أن يفتح الباب، ويبدأ قائمة الاكتتاب، فإذا شق هذا على النفس أيضا، فإني أرجوه أن يدعو إليه كلا من رصفائه «فلان» باشا، و«فلان» بك، والسيد «فلان»، فيقرءوا «العدية»، على هذه النية، فما برحت المشروعات القومية تقوم ببركة أسمائهم، وتنجح بحسن توسلهم ودعائهم، اللهم آمين!
التجديد والمجددون1
سيداتي، سادتي
أتحدث إليكم الليلة في التجديد والمجددين، فإننا الآن في شبه ثورة، بل في ثورة بالقديم من الآداب والفنون: فهناك ثورة في البيان، منظومة ومنثورة، وهناك ثورة في الموسيقى، وهناك ثورات في غيرهما من الفنون، وكل أولئك إنما يعبر عنه بالتجديد، ويعبر عن المضطلعين به بالمجددين، وإني لأخشى في التعبير بكلمة «الثورة» أن أكون من المتجوزين! وقبل أن أخوض في لجة الموضوع، أرجو أن تأذنوا لي في أن أعرض عليكم نموذجا مما سلف لي من الرأي في هذا الباب، وأرجو أن يكون كافيا في استراحة إيمانكم إلى أنني لست من الجامدين المتشبثين بلزوم القديم، بل إنني لأطمع في أن يقنعكم بأنني من أشد أنصار التجديد والمجددين، ولكن على صورة أحب أن يتفطن إليها بعض هؤلاء المجددين!
قلت من رسالة في الذكرى الثانية لوفاة أمير الشعراء المرحوم أحمد شوقي بك:
إذا كان من آيات الحياة في الكائنات تطورها ونموها وتجددها، فالأدب ولا شك من هذه الكائنات التي لا تكتب لها الحياة إلا على التطور والنمو والتجديد، وإلا كان ميتا، أو أشل على أيسر الحالين!
ولكنني أحب أن ألفت النظر في هذا المقام إلى مسألة قد تدق على أفهام الكثير أو القليل، وتلك أن هناك فرقا بين التربية والتجديد، وبين المسخ والتغيير، ولست أجد مثلا أسوقه في هذا الباب خيرا من حياة الطفل وحياة النبات: كلاهما ينمو ويربو، وكلاهما يطول ويزكو، حتى يبلغ الحد المقسوم لكماله، وقد تتغير بعض معارفه، وقد تحول بعض أعراضه، ولكنه في الغاية هو هو لا شيء آخر، فحسن الوليد، هو حسن الطفل، وهو حسن الفتى، وحسن الشاب، وهو حسن الكهل وحسن الشيخ، وتلك الفسيلة الصغيرة، هي النخلة الباسقة، كل نما وربا بما دخل عليه من الغذاء، وما اختلف عليه من الشمس والهواء.
لقد أصاب كل منهما ما أصاب من أسباب التزكية والإرباء، فاحتجز منها ما واءمه وما تعلقت به حاجته، ونفى عنه ما لا خير له فيه، ولا حاجة به إليه، ثم أساغ ما أمسك وهضمه، فاستحال في جسم الفتى - مثلا - دما يجري في عرقه، ولحما وعظما يزيدان في خلقه.
ولا شك في أن لأدبنا العربي عناصر وله مقومات، وله شخصية بارزة معينة فمن شاء فيه تجديدا - وحتم الحتم على القادرين أن يجددوا - فليتقدم ولكن من هذه السبيل.
سيداتي، سادتي
لعلي أطلت عليكم في دفاعي عن نفسي وإثبات براءتي من الجمود والجامدين، ولكن مما يشفع لي عندكم في ذلك أن هذا الدفاع قد صرح لكم في الوقت نفسه عن رأي في التجديد والمجددين، وهذا ولا شك وثيق الصلة بالموضوع الذي عقدنا له هذا الحديث.
عرفتم إذن أنني لست والحمد لله، من الجامدين العاضين بالناجذ على كل ما هو قديم لأنه قديم، وعرفتم كذلك أنني أرى وجوب التجديد لأن طبيعة الحياة تقتضيه، بل إن التطور والتجدد من علامات الحياة، على ألا يكون هذا التطور والتجديد ضربا من المسخ والتشويه!
وبعد، فالمقام ما برح محتاجا إلى شيء من البسط والتفصيل، فلنمض على اسم الله، في معالجة هذا البيان بقدر ما يتسع له الوقت المقسوم.
تعلمون أيها السادة، أن العلوم على وجه عام، إنما تستمد قضاياها من العقل والتجارب، أما الفنون الجميلة على وجه خاص، فإن استمدادها في الجملة من الذوق، فهي من الذوق تنشأ وإلى الذوق تعود، والذوق شيء ليس في الكتب.
وإذا كانت العقول الصحيحة قل أن تختلف بإزاء الحقائق الواقعة باختلاف الأشخاص أو البيئات والعصور، فإن الاثنين مثلا ضعف الواحد، وزوايا المثلث تساوي قائمتين، وهذا في كل زمان وفي كل مكان، إذا كان هذا هكذا، فإن الفنون التي مردها إلى الذوق - أعني الفنون الجميلة - تفترق افتراقا قد يكون يسيرا وقد يكون شديدا، طوعا لاختلاف الأشخاص والعصور والبيئات، فما يعجب قوما ويلذذهم ويشيع الطرب فيهم، لقد ينشز على أذواق آخرين ويدخل الضجر عليهم، بل لقد يزعجهم ويغثي نفوسهم.
ذلكم بأن حاجة الأذواق ليست من آثار منطق العقل، ولا هي وليدة الحقائق الواقعة حتى تشترك الخلائق على اختلاف أصنافهم وأعصرهم في تقبلها والتسليم بها، بل إنها لوليدة البيئة والتاريخ، ومأثورة العادة والإلف الطويل، ولا شك في أن من عناصرها المهمة كذلك حظ الأمة من العلم والثقافة، ولون هذه الثقافة، ومبلغ الأمة كذلك من دقة الحس ورهافة الشعور.
من هنا كان لكل أمة أدبها، وكان لكل أمة موسيقاها، وكان لها غير هذين من ألوان الزخرف والتصوير، وغير الزخرف والتصوير، من كل ما يدخل في معنى الفن الجميل، فليس من حق جماعة أن تقول لأخرى: إن هذا الأدب الذي تصطنعين لا يترجم حق الترجمة عن شعورك، ولا يواتي منازع عواطفك، أو إن هذا اللون الذي تتخذين من الموسيقى لا يوائم ذوقك.
ولا يلذذك ويدخل الطرب عليك، ذلكم بأن مظاهر هذه الفنون إنما هي أمور نسبية، لا تكاد تتصل بأحكام العقل أو الواقع خلافا لقضايا العلوم، وقد تقدم في ذلك الكلام. •••
لكم بعد هذا أن تسألوني عن كيفية التجديد إذن وعن مدى آثار المجددين؟
والواقع أنه حين يعرض هذا السؤال تعرض للنفس مسألة أخرى: ترى الأذواق هي التي تؤثر في الفنون؟ أم الفنون هي التي تؤثر في الأذواق؟
لقد سبق القول في أن منشأ الفنون الجميلة إنما هو الذوق أولا، وهي إنما تصطنع لتنعيم الذوق وتلذيذه آخرا، فهي منه تبدأ وإليه تعود، ولكن ليس معنى هذا أن الفنون لا أثر لها ألبتة في تكييف الأذواق، بل إني لأزعم أنه قد يكون لها في بعض الأحيان الأثر البعيد، إذن فهناك تفاعل من الجانبين، أعني بين الأذواق والفنون، ونحن إذا عبرنا في هذا المقام بكلمة «الفنون» فمن الواضح أننا إنما نريد أثر المفتنين، أو على الصحيح أثر العبقريين من جماعات المفتنين.
ومن الجلي أن العبقري هو الذي يرتفع على مجموع قومه، وأحيانا على أهل عصره في صفة أو في أكثر من صفة، بحيث يتهيأ له أن يدرك في بعض الأمر ما لا يدركون، ويشعر بما لا يتعلق لهم به حس ولا شعور، ولنقصر الحديث على عباقرة المفتنين، ما دام الحديث في الفن والمتفننين.
المفتن الموهوب إنسان أوتي كمال الذوق، ودقة الشعور، ورهافة الحس، وحدة العاطفة، والقدرة القادرة على الأداء والتصوير، وليس يشترط فيه أن يكون واسع العلم غزير المادة، بل بحسبه أن يحصل من قضايا فنه صدرا لا يزل معه ولا يضل.
ولقد قلنا إنه يسبق بتلك المواهب جمهرة قومه، ولقد يسبق أهل عصره؛، إذ تهديه فطنته إلى أشياء لم يفطنوا لها، وتذيقه رهافة حسه ألوانا من الشعور لم يتذوقوها، فينفضها بما رزق من براعة الأداء كما أحسها، ويحاول أن يذوقها غيره كما تذوقها، وكذلك تزيد ثروة الفنون وتشحذ الفطن، وترهف الأحاسيس على اطراد الأيام.
نعم، لقد ينصب بعض هؤلاء العباقرة للعدول بالفن عن مذهبه، وقد يقلبه رأسا على عقب، وتلكم هي الثورة بعينها، والثورات كما تعلمون حالات شاذة لا ينبغي أن تجري على مظاهرها الأحكام العامة.
وكيفما كان الأمر، فإن ما تجيء به الثورات إما أن يختفي ويزول جملة بعد الدعة والاستقرار، وإما أن يتخلف منه صدر ترى الطبيعة أنه صالح للبقاء، وهذا القدر بالنسبة إلى الفنون، مهما يكن في مبتدأ الأمر نابيا عن بعض الأذواق، فإن مما لا شك فيه أنه مع طول الزمن وكثرة تقليبه على الذهن أو السمع أو البصر، وانعقاد الإلف، تتكيف به الأذواق وتتلون، ولقد يكون تكيفها به وتلونها إلى حد بعيد.
بقيت مسألة دقيقة أحب أن يجيل الرأي فيها سادتنا المتصدون للتجديد شعراء كانوا أم كتابا أم موسيقيين أم مصورين، وهذه المسألة أن المرء مهما يكن على حظ من المواهب، وخاصة فيما يتعلق بالأذواق والعواطف، فإنه لا بد متأثر بقدر غير يسير، بالبيئة التي درج فيها، وبعادات قومه، ومنازع عواطفهم وما ألفوا بطول الزمن، وغير أولئكم مما انحدر إليهم من التاريخ البعيد، هو متأثر بكل هذا حتى ليكاد يتصل بطبعه وغريزته، فالأصل فيه أن يحس الأشياء كما يحسها قومه، وأن يذوق ألوان المعاني كما يتذوقها معشره، وذلكم بحكم ضرورة الاشتراك في الجملة، في عناصر تكوين الذوق العام، فهو على هذا إذا ابتدع طريفا، واستحدث في الفن جديدا، ففن قومه القائم هو ولا شك أساس ابتداعه، وملاك ابتكاره واختراعه.
وهذا إلى أنه إنما يسعى في هذه السبيل سعيه ليرفه عن قومه أولا، ولينعمهم ويدخل الطرب والسرور عليهم، فينبغي له بالضرورة ألا يسقط من حسابه في تجديده ألوان عواطفهم، وما تستريح إليه من صور الجمال أذواقهم.
نعم لقد تفتر الأذواق في مبتدأ الأمر عن الجديد، ولكنها سرعان ما تألفه وتتذوقه وتلتذه، ما دام يمت إلى فن القوم بسبب، ويدلي إليه بنسب، ولا حرج على المفتن، بل إن من واجبه أنه إذا حرك عواطفه، وهز مشاعره شيء من آثار فنون الأمم الأخرى، أن يبادر إلى اقتناصه، يسرع إلى معالجته بالتسوية والتثقيف، حتى يتسق لفن قومه، ويطبع بطابعهم ويسوغ في مذاقهم، حتى ليترجم عن بعض ما يعتلج من العواطف في نفوسهم.
أما أن يهجم على القطعة من فن غيره فينتزعها انتزاعا، ويمتلخها امتلاخا، على حين لا يتذوقها هو نفسه ولا يسيغها، ولا هي مما يمكن أن يسيغه قومه ويتذوقوه، ومع هذا يأبى إلا أن يستكره استكراها على فنهم باسم التجديد، فذلكم لعمري هو المسخ والتشويه!
سيداتي، سادتي
ليس في هذا اللون من «التجديد» إساءة إلى الفنون، وإساءة إلى الناس بما يفوت عليهم من الاستمتاع بالفنون الجميلة فحسب، بل إن من شأنه أن يبلبل أذواق الجمهرة ويشتتها تشتيتا!
اللهم إن براعة المفتن هي في أن يطبع ما يسنح له بطابع فنه، وينظمه في سمطه، فلا يشوه به الفن ولا يتنكر، بل يظل هو هو، على ما زيد في ثروته، ووسع في آفاقه، ومد له في تلطيف العواطف وإرهاف الأحاسيس، وحسبكم ما صنع المرحوم عبده الحامولي بالموسيقى المصرية، وما كان له في التجديد البارع حقا من أثر بعيد.
وبعد، فإذا كان عندنا بفضل الله، نوابغ أكفاء للتجديد الصحيح في الآداب والفنون، فإن فينا مع الأسف العظيم، من يعبثون أشد العبث بالآداب والفنون، ليظفروا هم الآخرون بلقب «الأبطال المجددين»، وما أرخص الألقاب، إذا كانت لا تنال إلا بمثل هذا الإغراب!
إن بعض هذا الذي تقع عليه أسماعنا وأبصارنا في الفنون والآداب ليس تجديدا، ولكنه مسخ وتشويه، وما ظنكم بمن كل جهده هو محض الإغراب، والإتيان بكل ناب عن الطباع ناشز على الأذواق، وكيف لمن لا يحس شيئا بأن يشعره غيره، وقد قال الأقدمون: إن فاقد الشيء لا يعطيه؟!
هؤلاء رأوا أن فلانا ذهب له صيت وذكر لأنه أتى في الفن بما لم يكن يعهد الناس، فما لهم هم أيضا لا يغربون، واقعا هذا الإغراب حيث وقع، ليذهب لهم كذلك في الفن ذكر وصيت؟ •••
لقد عبرت في صدر حديثي بكلمة «الثورة»، وخشيت أن أكون في هذا التعبير من المتجوزين، فالثورة كما تعلمون، إنما هي الانفجار من أثر فكرة تغلي في الصدر، غليان الماء في القدر، ثم إنها تضطرم وتحتدم في سبيل تحقيق غاية معينة، فهل بعض هذا الذي نرى ونسمع في الأدب والفن كذلك؟ أي أن الفكرة قد ملكت على هؤلاء جميع مذاهبهم، وغلت في صدورهم فثاروا بالقديم، وراحوا يقيمون فنونا جديدة واضحة المعارف بينة الرسوم! أم أن الأمر كله لا يعدو التلفيق من هنا ومن هنا تلفيقا كله تعسف واستكراه، حتى تبدت للفن صورة متناكرة الأعضاء، متنافرة الأجزاء، وذلك في سبيل الإغراب طلبا للظفر كما قلنا بلقب «البطولة في التجديد»؟!
إذا كان الأمر كذلك، فليس ما نحن فيه بثورة، ولا هو من الثورة في كثير ولا قليل، إنما هو الفوضى بأجمع معاني الكلمة، فحذار أيها الإخوان حذار، وإلا لحق الفنون البوار، وحقت عليها «بتجديدكم» كلمة الدمار!
ديمقراطية الفنون!
ترى أمن الحق الواقع أن الإنسان، وأعني من الأناسي من يعالجون فن البيان، قد يعيي عليه الفكر ويستصعب عليه الرأي في بعض الأحيان، فلا يرى بدا من أن يعود بالقلم يستهديه ويستنديه، ويترسم آثاره، حتى يقع على الرأي، ويبلغ - ولو في تقديره هو - مناط الصواب؟
اللهم إنه ليخيل إلي أن الأمر هكذا، فلو كان هذا حقا لبلغ بادئ الرأي من كل من يطالع به مبلغ العجب، إذ المقدر أن ذهن الكاتب هو الذي يصرف القلم، لا أن القلم هو الذي يصرفه، وأن الذهن هو الذي يوحي إليه، ويملي ما يشاء عليه، إذ كل سداد هذه القصبة إنما هو في الرسم والرقم لا أكثر ولا أقل.
والآن أترقى بالدعوى فأزعم أن الواقع، في بعض الأحيان، هو كذلك، وهو إذا لم يجر في طباع جميع الكاتبين، فإنه يجري في طباع بعض الكاتبين.
على أن من الخلال التي لا ينشز عليها أحد، ولا أظن أن يماري فيها أحد، أن الكاتب مهما يحط بموضوعه، ويتكشف له من قضاياه، ويتمكن من ناصية الرأي فيه، ويظن أن ذهنه قد استوفاه، وتقرى جميع أقسامه ومسائله، حتى يتمثل له في صورة متسقة الأعضاء، متلاحمة الأجزاء، ليس بينه وبين أن يجلوها على الطرس كذلك إلا أن يتفصد بها عليه اليراع في غير جهد ولا عناء، أقول إن الكاتب مهما يخيل إليه ذلك، فإنه لا يكاد يجري بتدوين ما يحضره من الفكر يراعه، حتى يرى هذا الفكر يزيد وينقص، ويتلون ويتشكل، وقد يتحرف ويتحول، وقد يتغير ويتبدل، وقد يميل عن سياقه المقسوم، ويعدل ألبتة عن مذهبه المرسوم، فيخرج في النهاية خلقا غير الذي هيأ الكاتب وقدر، في صورة غير التي سوى في ذهنه وصور!
هذا هو الواقع، وما أحسب الأمر فيه حبسا على الكاتبين وحدهم، بل لعله متناول سائر من يعانون مختلف الفنون.
وهنا أرجو أن يفهم من كلامي أنني إنما أريد النظم والأسلوب والسياق، وألوانا من التفصيل، ونحو ذلك مما تتجلى به صور الكلام.
وتعليل ذلك ليس بالأمر العسير، فإن المفتن مهما يظن أن موضوعه قد أصبح بعد جولان الفكر وطول التدبر، تام الخلق مكتمل الصورة، بحيث لا يحتاج في نفضها على القرطاس إلى زيادة أو إلى تهذيب، فالواقع أن هذه الصورة مهما يبلغ حظها من النصاحة والوضوح، لا تعدو أن تكون إجمالية يعوزها كثير أو قليل من دقاق التفاصيل، حتى إذا اجتمع لنقلها إلى عالم الحقائق الخارجية - على تعبير أصحاب المنطق - جعلت تسنح له الفكر واحدة بعد أخرى في صور جزئيات، وأحيانا في صور قضايا كلية، وهذه وهذه لقد يبعثها بين يدي القلم وصل فكرة بفكرة، أو التحول من غرض إلى غرض، أو الشعور بحاجة الكلام إلى البسط والتبيين، أو الاستطراد بحكم تداعي المعاني، بما لم يقع للكاتب من قبل في الحسبان، أو غير أولئك مما تتغير به صور المقال، ويجلوه على غير ما تمثل الذهن له من المثال. •••
هذه عادة الكاتبين، ما أحسب أنه يستثنى عليها منهم أحد، وإذا كان هذا غير ما زعمت في صدر هذا الحديث، وإذا كان لا ينتهض دليلا على صحته كله، فلا ريب في أنه قد يهدي إلى تعليله وجه السبيل: ذلك بأن ما يصحب جولة القلم من اتساع آفاق الفكر، والنفوذ إلى بعض الدقائق، وسلوك كثير من الجزئيات، والوقوع على ما لم تتبسط له الفطنة من قبل، وأثر هذا في طبع الكلام، ونزوع سياقه إلى غير منزعه، وتجليته في غير الصورة المقدرة له، أقول: إن ما يكون من هذا في صحبة القلم - أعني ساعة تشمير الكاتب للصياغة وإجراء البيان - من شأنه - مع الزمن وكثرة المعاودة - أن يدخل في وهمه أن القلم مما يرفد ويمد ويعين!
وفي هذا المقام يحسن بي أن أذكر أنني أملي المقال في بعض الحين، وإني لأقوم على هذا ما دام الكلام هينا لينا، حتى إذا تعذر علي القول وتعصى الكلام، أو إذا قدرت أن المقام يحتاج إلى حد الكلام وسطوة البيان، أو إلى تزيين اللفظ وتبهيجه، والتأنق في صياغته ونظمه، أسرعت إلى اختطاف القلم، فاستشعرت القوة وأحسست المدد، وسرعان ما يواتيني مما أبغي من هذا ما لا يواتيني به الجهد في الإملاء!
هذا إلى أن الذهن، كما أسلفت، قد يعيا بالإحاطة، ويضيق عن انتظام جميع جزئيات الموضوع جملة، وربما تواثب عليه من طوارق الفكر ما يشغله ويفرق شمله، ويكفه عن موالاة التصفح والاسترسال، وخاصة في ساعات القلق واختلاج النفس، وقلة استراحتها إلى الاطمئنان والقرار، أما إذا اجتمع الكاتب للبيان، كان مضطرا إلى أن يجمع شمله ويعتنق نفسه، ويرهف ذهنه ويذكي حسه، ويصل كل الوصل ما بينه وبين فكره، ويقطع كل القطع ما بينه وبين غيره، وتراه كلما اطرد في البيان جليت عليه الصور، وتتابعت المعاني وتلاحقت الفكر، فتيسر له وهي متمثلة بين يديه، أن يمد الذهن لتفقدها، وتقري ما عسى أن يعزب من وجوه الرأي عنها، وتبين ما يأتلف منها وما يتناكر، وما يتوافق وما يتنافر، فهيأ له ذلك التسوية ما شاء من خلق الفكرة، وتجليتها في صورتها الكاملة، بقدر ما يدخل في طوقه ويتسع له ذرعه.
لعله قد بان لك بعد هذا، الوجه فيما زعمت من أن الكاتب قد يعيي عليه الفكر ويستصعب عليه الرأي، فلا يرى بدا من أن يعود بالقلم يسترشده ويستهديه مواقع الصواب!
وإذا كنت قد أطلت في هذه المقدمة، فاعلم أن هذا شأني اليوم في علاج هذا المقال.
سؤال يتطلع إلى جواب
وبعد، فإن سؤالا يترجرج منذ أيام في نفسي، وكلما هممت بالارتصاد للنظر في موضوعه، وإشاعة الذهن في أقطاره، والتماس جواب له تستريح إليه النفس ويطمئن به صحيح المنطق، تطايرت عنه شعب هذا الذهن بما يهجم عليه من طوارق الفكر، أو يغمز من أوجاع المرض، أو بما يزحم المرء من هم يعز عليه في بعض الأحوال، أن يجد له مفيضا ومتنفسا، وإني لأصرف هذا السؤال عني صرفا وأدعه دعا، فلا يني عن مطالعتي من أي أقطار الفكر لأن له مدخله، وما برح كذلك يعتادني لا سلطان لي عليه، ولا طاقة لي بكفه والخلاص من طنينه، ولا أنا - وقد عرفت شأني - بقادر على الاستراحة إليه والاسترسال معه حتى أبلغ به ولو بعض ما يريد!
إذن لم يبق بد من جمع الشمل، وحد الذهن، وكف الطوارق عن النفس، واستكراه الفكر على التجرد في هذا المطلب أو يبدو فيه وجه الرأي، ولا يكون هذا، إذا قدر أن يكون، إلا بانتضاء القلم والتشمير للبيان، فعلى هذا نمضي مجتدين القلم، وأكبر الظن أنه لن يجود بجليل!
أما السؤال المذكور بكل هذا فهو: ترى هل من الخير أن تشاع الفنون في الناس وترسل بين أيديهم كافة، يتناولها منهم من شاء، وينقبض عنها من شاء؟ أو أن الخير في أن تكون حبسا على طائفة خاصة، لا يجوز أن يقتحم عليهم شأنهم فيفري فيها فريهم إلا لمن دلت الدلائل على كفايته وتهيئته للتجويد والإحسان، أو على التعبير العصري: هل الأفضل أن تجري الفنون على سنة «الديمقراطية»، أو أن تكون «أرستقراطية» لا يليها إلا طبقة معينة من الناس؟
لقد يتعاظم بعض القارئين أن ينبعث مثل هذا السؤال في هذا الزمن الذي تنتشر فيه «الديمقراطية» وتتبسط بكل قواها حتى تكاد تضغط آفاق العالم جميعا، لا يسلم عليها ما أقامت الأحقاب الطوال من الحدود، ولا ما رفعت التقاليد العاتية من الحواجز والسدود!
واللهم إن ما يتعاظمني من شأن هؤلاء لأعظم، فما كنت لأشير على الطبيعة برأي، أو أتقدم إليها بأمر، أو أسأل خلقا من الناس أن يكفوها عن غايتها، أو يعدلوا بها عن مذهبها، وأين أنا والناس جميعا من ذاك؟! إنما وجه السؤال إلى المفاضلة بين أن تصنع الطبيعة كيت، أو أن تعدل من نفسها إلى كيت، فالأمر لا يخرج عن أفق التمني على كل حال.
على أن الإنسان مهما يكن ضعيفا بإزاء عتو الطبيعة وشدة سطوتها، فإنه لا يعوزه لطف الاحتيال على التخفف من بعض أذاها، واستخراج الخير من أثناء شرورها، وتوجيهها في بعض مذاهبها إلى ما يجديه ويرفه عنه بقدر غير يسير، فإذا كان موضوع اليوم قد عقد للمفاضلة بين «ديمقراطية» الفنون و«أرستقراطيتها»، فما كانت النية في علاجه متجاوزة هذا المقدار.
احتكار الغناء
وبعد، فما حرك هذا السؤال في نفسي ولا أثاره كل هذه الثورة بي إلا ما يروعني هذه السنين من الكثرة الهائلة في عديد من يتكلفون الشعر، والشعر الغنائي على وجه خاص، والكثرة الهائلة في عديد من يتكلفون الغناء للجمهرة، ومن يصطنعون تلحين الأصوات!
وأكبر الظن أن أبناء هذا الجيل لا يستكثرون من ذلك ما أستكثر، ولا يروعهم منه ما يروعني، فلقد شهدنا جيلا قبل هذا كان نظم المقطوعات الغنائية فيه مقصورا على نفر من أعيان البيان أمثال إسماعيل باشا صبري، ومصطفى بك نجيب، ومحمود أفندي واصف، والشيخ الدرويش، وقليل غير هؤلاء، كما كان تلحين الأصوات يكاد يكون كذلك حكرة لعنق من الناس، فلم يكن يعالجه إلا الشيخ المسلوب، ومحمد أفندي عثمان، وعبده أفندي الحامولي، وإبراهيم أفندي القباني، وداود أفندي حسني،
1
فإذا كان وراء هؤلاء من يكابدون التلحين، فهم ولا ريب أقل من القليل.
ولقد عاش المرحومون الشيخ يوسف المنيلاوي، والشيخ محمد الشنتوري، ومحمد أفندي سالم، وعبد الحي أفندي حلمي ما عاشوا، لم يؤثر عن واحد منهم أنه لحن طوال حياته صوتا (دورا) واحدا، إذ كلهم من الأعلام المبرزين بين أصحاب الغناء!
وتعليل هذا ليس مما يحتاج إلى كد الأذهان، فإن هذا الجيل الذي شهدنا أطرافه إنما قام في أعقاب عصر كانت المهن جميعا - وخاصة في أمهات المدن - تقوم فيه على ضرب من ضروب الاحتكار، إذ كان لكل أصحاب مهنة عريف يدعونه «شيخ الطائفة»، فلا يدخل في العادة، أحد فيها يعالج منها ما يعالج أهلها إلا بإقرار هذا «شيخ الطائفة» وإجازته!
ولقد حدثني المرحوم محمد أفندي سالم، وكان من المعمرين، أنه أدرك أياما لم يكن يؤذن فيها لامرئ باعتلاء منصة (تخت) الغناء رئيسا إلا إذا اجتمعت مشيخة أصحاب الفن في حفل جامع، حتى إذا استمعوا لغنائه، وقدروا فيه الكفاية للمهنة، قاموا إليه فحزموه، وقربوا إليه ضغثا من البقدونس فأصاب منه ما شاء! وكان ذلك منهم إجازة له باحتراف المهنة، وأذانا بكفايته لغناء الجماهير! •••
لا أشك في أن هذا الكلام سيأخذ نظر القارئ لأول وهلة، فيبعث فيه الدهش، وقد يثير سخطه واشمئزازه جميعا، فليت شعري، كيف يزم تصرف الناس في أفشى المباحات، ويؤخذ بمخانقهم في أشيع ألوان الحريات بأقسى من هذا وأنكر وأشنع! حتى الغناء! والغناء - لو عرفت - إنما هو أفصح تعبير وأحلاه، عن أدق ما يعتلج في النفس وأخفاه، ولعمري ما كان هذا من شيمة الإنسان وحده، فلقد سبقه إليه الحيوان، وإليه سبقتهما الطبيعة جميعا، هذا القمري يشدو، وهذا الكروان يغرد، وهذا الحمام يسجع، وهذا العصفور يسقسق، بل هذه الطبيعة التي نخليها من الحس والإرادة، وإن لها هي الأخرى لترجمة عن شأنها أي ترجمة، وتعبيرا من الغناء والتصويت أي تعبير، فهذه الرياح تعزف، وهذه الرعود تزمزم وتقصف، وهذه الأمواج تجرجر، وهذا النبات ألا يطربك رفيفه، كلما حركه النسيم فحف حفيفه؟
أكل أولئك له أن يغني كيفما شاء، ويترجم عن ذات نفسه بالترجيع والجلجلة كلما أراد، اللهم إلا الإنسان، فما كان ليؤذن له فيه إلا بإجازة وترخيص؟
هذا من جهة الحق والنظر، أما من جهة الفعل والأثر، فلا شك في أن حصر الغناء للجمهرة في طائفة قليلة العدد، يقتضي حصر الاستماع إليه، والطرب عليه في طائفة قليلة العدد كذلك بالقياس إلى المجموع، وفي ذلك حرمان السواد لذة من أمتع اللذات المشروعة، وحيولة بينه وبين تهذيب ذوقه، وإرهاف حسه، طوعا لانقطاعه عن الاستماع إلى الغناء ألبتة، أو تروية أذنه بغناء لا يجري على أي عرق من هذا الفن الجميل!
ثم إن في قصر الخاصة وأشباه الخاصة على الاستماع إلى نفر معدود من جماعات المغنين، يدورون بأصواتهم في تلاحين قليلة بالضرورة، ما من شأنه إدخال الضجر عليهم، وبعث الملل فيهم.
ثم لا تنس أن في هذا الصنيع خنقا للمواهب في مهودها بما يقام من العواثير دون مباشرة الناجمين من أصحابها للمهنة، واستصعابهم لتكاليفها، وما يتداخلهم من الخوف والرهبة إذا تقدموا لمزاولتها.
ثم إن في إجازة الغناء من جماعة معينة، لها بالضرورة فن خاص، وذوق يجري في دائرة مشتركة، ما من شأنه كذلك أن يسد الطريق على كل مستحدث طريف، وبذلك يظل الفن محصورا في دائرة ضيقة، لا يكاد يتسع أو يرقى على الزمان!
فإذا أدهشك هذا الصنيع وفظع بك، فأنت لعمري في مقام النظر، وتقليب الفكر، ونظم قضايا المنطق وترسم أقيسته حق معذور. •••
فإذا نحن تحولنا من دائرة الفكر والنظر إلى أفق الواقع الذي يلامس الحس ويلابس الذوق، فليت شعري ماذا نجد؟
ألا إني لمحدث بلسان رجل أدرك العهدين، وتذوق الغنائين، فإذا أخطأتني الترجمة عن الواقع، فإنني صادق الترجمة عما أحس وما أجد، وما يحس معي وما يجد كثيرون.
قديم وجديد!
ذلك الغناء الذي كنا نسمع من الحامولي وعثمان وأضرابهما، وما برح يردده بعض المغنين، هذا الغناء على أنه يدور في أنغام محدودة، وتلاحين قليلة العدد، لقد كان يواتي أذواقنا، ويشيع الطرب فينا، ويفحص عن مطاوي نفوسنا، ويبعث فينا من الأريحية ما يستخف أرسخنا نفسا وأثبتنا توقرا!
لقد كنا نجد في هذا الغناء صورة بينة مما في نفوسنا، حتى لكان يخيل إلينا أنه صادر عنها لا وارد عليها، وكأننا نحن الذين لحنوه وصاغوه، فإذا لم يبلغ بنا الشعور هذا الموضع، خلنا أنه لو كان أفضى إلينا بتلحينه وصياغته لما أخرجناه وصورناه إلا هكذا، بل إن حسن السبك وقوة الصياغة لتذهب بنا إلى الشعور بأن هذا الذي نسمع إنما هو شيء من صياغة الطبيعة لا أثر فيه لصنعة الإنسان، فهو كذلك خلق وكذلك كان، وما كان لامرئ بتغيير فطرة الطبيعة يدان!
يتحول الملحن بك من نغمة إلى نغمة، ويعدل بك من فن إلى فن، ما تصيب أذنك عثرة، ولا تحس نبوة، بل إنك لتجد هذا التنقل مما تقضي به الطبيعة أيضا، وكثيرا ما تستشرف له نفسك قبل أن يبلغه حلق المغني؛ لقد كان هذا الغناء في الجملة، أشبه ما يكون بالجدول المتعطف المتأود، لا يعكر تأوده من صفائه، ولا يكف تعطفه من اطراد مائه، كان غناء تحسبه بسيطا ليسره وسلاسته، ومواتاته لطبيعة المصري، وفي هذا اليسر والسلاسة المقدرة كلها والفن أجمعه لو كان يدري السامعون!
أما الغناء الغالب في العصر - وأعني به الجديد - فلست أكتمك أنه أكثر شعوبا، وأرحب طروقا وأوسع دروبا، تنوعت أعلامه، وتعددت أنغامه، إلا أنه مطبوع بالطابع الغربي، لقد تروقني أنا المصري منه النبرة، ولقد تهزني فيه النغمة، على أنه سرعان ما يثب بأذني الوثبة الشديدة، ويطفر بحسي الطفرة الهائلة، فيمتلخ الطرب في نفسي من أصله امتلاخا، ويطير ذوقي كل مطير، ويبعثره كل مبعثر، حتى لا أراه يحتاج مني إلى جهد عنيف في الجمع والتلفيق!
وقد يقال: إن نبو هذا الضرب من التصويت على الآذان إنما يرجع إلى جدته وطرافته، فإذا هو دار على الزمان وتردد على الأسماع، ألفته الأذواق، واستراحت إليه النفوس وطربت عليه، شأن كل جديد مستحدث، وخاصة في هذه الفنون.
وأقول: إن جدته وغرابته على الأسماع قد يكون لهما، من هذه الناحية، بعض الأثر، ولكن لا يكون لهما وحدهما كل الأثر، وهذا عبده أفندي الحامولي رحمة الله عليه، لقد استحدث في الموسيقى المصرية جديدا، وأدخل عليها ما لا عهد للأذن المصرية به من قبل، ومع هذا فلم ينب جديده على سمع، ولا نشز طريفه على طبع، بل لقد تقبلته الناس، خاصتهم وعامتهم بأحسن القبول، وهشت له نفوسهم أيما هشاشة، وطربت به أيما طرب!
وقد يستدرك على هذا بأن ما جاء به الحامولي ليس غريبا على الموسيقى المصرية ولا هو عنها ببعيد، فإنه لم يعد فيما استعار موسيقى جيرتنا ومن كانت تسلكنا معهم أوثق العلائق من السوريين، والحلبيين، والأتراك!
وإذا نحن ترخصنا في إساغة مثل هذا الكلام، كررنا بالاعتراض بما صنع المرحوم الشيخ سيد درويش، فلقد تبسط في تلاحينه بالموسيقى المصرية إلى حد بعيد، فاستعار لها ما شاء الله من موسيقى السوريين والعراقيين والحلبيين والأتراك، وأدخل عليها صدرا جليلا من موسيقى الغربيين، فما نبت بصنيعه أذن ولا التوى على طبع، بل لقد أرضى وأعجب، ولذذ وأطرب، وبعث في النفوس من الأريحية ما لا يكاد يتعلق به وصف الواصفين!
وفي الحق إن جديد سيد درويش إذا كان لقي أول منحدره إلى السمع شيئا، فالذي يلقى كل جديد مما يشبه القلق بحكم العجب والاستغراب، على أنه ما لبث أن استراحت له الآذان، ورضيته الأذواق، وهفت إليه النفوس، وتداخلها الطرب عليه من جميع الأقطار، في حين أن هذا الذي نسمع اليوم من جديد الغناء، إذا صح هذا التعبير، لا يزداد على الترديد إلا نشوزا على الأذواق، وتعاصيا على الطباع!
كلمة الحق
فإذا طلبت كلمة الحق قلت لك: إن سيدا كان رجلا مفتنا حق مفتن، رحب الطبع، دقيق الذوق، مرهف الحس، نير النفس، تسنح له النبرة من الموسيقى الأجنبية، شرقية أو غربية، فيدرك أنها مما يمكن أن يوائم طبع المصري، ويتسق لذوقه، وسرعان ما يعالج بعض خلقها بالتسوية والتهذيب، ثم يدمجها في تلاحينه ما تحس هي ولا تحس لها وحشة في الغناء المصري ولا استغراب!
أما الغالب في هذا الذي نسمع الآن من ذلك «الجديد»، فليس أكثر من تلفيق وترقيع لا يقوم على أساس من الفن، ولا يجري على عرق من الذوق، ولا يجلي على النفس أية صورة من صور الجمال!
اللهم إن جهد الملحن من هؤلاء أن يتصيد النغمة الأجنبية، فيحشرها في موسيقانا حشرا، ويستكرهها عليها استكراها، واقعة ما وقعت من النظم الغنائي.
بل إني لست متزيدا ولا غاليا إذا زعمت أن بعض هؤلاء إذا استصعب عليه الصيد من النغم الأجنبي، اعتمد حلقة فلا يزال يلويه ويعثره حتى يخرج له شيئا نافرا نابيا، يصك الأسماع صكا، ويمخض النفوس مخضا، لأنه لا يفهم من «التجديد» إلا أنه الإتيان بالغريب «والسلام»!
والعجيب أن أكثر هذه التلاحين إنما يبتدئ وينتهي بصياح مزعج، هل سمعت - حفظك الله - نواح النائحات المصريات في أعقاب الجنائز؟! هذه أطراف الغناء، أما أثناؤه فتكسر وتخاذل وتزايل، وأنين وحشرجة كحشرجة المحتضر، دع التخنيث في الألفاظ والتطرية في الأناظيم، فلذلك حديث آخر إن شاء الله!
ديمقراطية الفنون
قلت لك في بعض هذا الحديث إن فن التلحين وصنعة الغناء للجمهرة إنما كانا محصورين في طائفة قليلة العدد، سواء من هؤلاء أو من هؤلاء، وقد وصفت لك بقدر ما طاوع القلم، براعتهم وقوة تلاحينهم، وهل أدل على براعتها وقوتها من ثباتها وترديدها في هذا العصر عصر «التجديد»، ما يخلق لها على الترداد قديم، ولا يبلى لها على التكرار أديم!
فهل لنا بعد هذا، أن نضيف إسفاف أكثر هذه التلاحين «العصرية» وفسولتها وغثاثتها، وعدم صلاحيتها للقيام، والبقاء على الأيام، إلى استباحة فن التلحين، حتى أصبح يعالجه من شاء، وينتحله من الناس من أراد؟ وبحسبك أن تسكن إلى «الراديو» بضعة أيام لتتعاظمك الكثرة الهائلة في عديد الملحنين في هذا الزمان، فإنك لا تكاد تسمع أغنية من فتى ناشئ أو من فتاة حدثة إلا أذن المذيع أنها من تلحينها أو من تلحينه، أو من تلحين فلان أو فلان أو فلان، من أسماء لا عهد لك بها من قبل، ولعله لا يكون لك عهد بها بعد الآن، حتى لقد تخيل إليك هذه الكثرة أن أهل مصر جميعا، رجالهم ونساءهم، سيصيرون عما قليل ملحنين !
أرستقراطية الفنون
وإذا صح أن العلة في كل هذه البلية التي تجني على الأذواق، وتكاد تحرمها الاستمتاع بالفن الرفيع، إنما هي في إطلاق فني التلحين والغناء يردهما ويعالجهما من هب ومن درج من الناس! أفترانا نذهب إلى القول بوجوب تقييدهما، بحيث يقصر علاجهما على الأكفاء القادرين؟
وبعد، فلقد تعلم أن هذا القصر والتقييد قبيح لما تقدم لك من الأسباب، على أنه لا حيلة فيه، ولا سبيل إليه في عرف هذا الزمان.
ولكنني أرجو ألا يذهب عنك أن الفن نفسه أرستقراطي، لكن بالطبع لا بالجعل، ذلك بأن الفن كما تعلم ابن الموهبة، والمواهب ليست من الحق المشاع لجميع الناس، إنما هي حبس على أولئك الذين يصطفيهم الله لها من الأفذاذ الأندرين من الناس، وهي وحدها التي تنادي على صاحبها وتدعو إليه، وتعلن في الأملاء عن كفايته وسداده ووجوب استئثاره، وتنفض عن صحيح الفن الزيوف، وتدع عن بابه الواغل
2
والدخيل، فالفن بطبعه حبس على أوليائه مهما كثر مدعوه، وعظم منتحلوه، ومهما برعت وسائلهم في التزييف والتدليس على الغافلين! وكذلك سلم بالكفايات الحق لأصحابها على طول الزمان.
وإذا كان يهولنا اليوم كثرة منتحلي فن التلحين وصنعة الغناء مما لا وزن لهم ولا كفاية، مع كثرة من يصغي إليهم ويطريهم، ويخلع كل فخم من الألقاب عليهم، فليس ذلك من أثر «الديمقراطية» الفنية كما يظن عند ابتداء النظر، بل إن ذلك واقع لأننا نعيش الآن عيشا غير طبيعي، وبعبارة أصرح؛ لأننا في ثورة اجتماعية تناولت أسبابنا جميعا، فما نرى من هذا إنما هو من الفوضى لا من الديمقراطية، والفوضى كما تعلم؛ هي استثناء وشذوذ ما له في الحياة الطبيعية قرار.
ولقد قلت في أثناء هذا الحديث: إن الإنسان لا يد له بتغيير ظواهر الطبيعة، ولكنه بلطف الحيلة يستطيع أن يخفف من أذاها، ويستخرج الخير من خلال شرورها، وكذلك يستطيع النقدة بألسنتهم وأقلامهم، أن يدلوا سواد الناس على مكان الحسن ومكان القبيح من هذا الذي نحن فيه، رفقا بأذواقهم ورحمة بهذا الفن الجميل!
المفتن أبو نواس1
ترى هل بلغ أبو نواس ما بلغ في شعراء العربية، وذهب له ما ذهب من ذكر وصيت لأنه قال في مدح الرشيد:
وأخفت أهل الشرك حتى إنه
لتخافك النطف التي لم تخلق؟
أو تراه أصاب هذا الحظ كله لأنه قال في مدح ابنه الأمين:
وإذا المطي بنا بلغن محمدا
فظهورهن على الرجال حرام؟
أو تراه حقا «ابن قوله»
2
في مدحته للعباس بن عبد الله بن أبي جعفر المنصور:
لا تسدين إلي عارفة
حتى أقوم بشكر ما سلفا؟
أو لعله قد دوى باسمه السهل والجبل لأنه قال كيت وكيت، فأتى في المديح والهجاء والرثاء، ووصف الجياد والنجاء، بألوان من المبالغات كثيرا ما كانت سبيل السيرورة، ومبعث النباهة وسطوع الصيت؟
اللهم لا! وإذا ظن أن من متقدمي الشعراء من رفع بعض النقدة بمثل هذا أقياسهم وأقدارهم، فثبت به ذكرهم على الأيام، فإن أبا نواس لم يخلد به، ولا كان قط مدينا له، وإن كان قد جاء منه بما لو ينته فيه كثير من أعلام البيان منتهاه!
الواقع أن أبا نواس كان من أولئك الأفذاذ الذين يشح الزمان بهم فلا ينتضح بأمثالهم إلا نطافا في أثناء الحقب الطوال، ولعل كلمة «فلان نسيج وحده» التي ينفضها أبناء العرب على المرء إذا عز أكفاؤه، لا تبلغ موضعها الحق من الجد والصدق والإشراف قدر ما تبلغ إذا أضيفت إلى هذا الرجل العظيم!
أبو نواس شاعر فحل، يرفعه نقدة البيان إلى الذروة، ويسلكونه في نظام جميل مع أشعر شعراء عصره، وقد يؤثرونه على بعضهم، ويرفعون منزلته عليهم، ما في هذا شك ولا كان يوما في مطرح الحوار بين أهل البصر بمنازع الكلام.
إذن فأبو نواس شاعر من أفحل شعراء العصر العباسي الأول، وقد أحله عند كثرة الناس هذا المحل أنه مدح فلم يتخلف عن أبلغ المادحين، ووصف فكان من أجود الواصفين، وضرب في سائر فنون الشعر فما ونى في شيء ولا قصر، بل لقد أرسل من سوابق القريض ما لا يتعلق بغباره، ولا يسهل ترسم آثاره، وما له لا يبلغ هذه المنزلة في الشعراء، وهذه قصيدته في مدح محمد الأمين: «يا دار ما فعلت بك الأيام».
والتي جاء فيها:
ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم
3
وأسمت سرح اللهو حيث أساموا
وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه
فإذا عصارة كل ذاك أثام •••
وإذا المطي بنا بلغن محمدا
فظهورهن على الرجال حرام
قربننا من خير من وطئ الحصى
فلها علينا حرمة وذمام
رفع الحجاب لنا فلاح لناظر
قمر تقطع دونه الأوهام
ملك إذا علقت يداك بحبله
لا يعتريك البؤس والإعدام
وهذه قصيدته التي يمدح بها العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر المنصور، وأولها:
أيها المنتاب من عفره
لست من ليلى ولا سمره
لا أذود الطير عن شجر
قد بلوت المر من ثمره
وهذه مدحته في الخصيب:
أجارة بيتينا أبوك غيور
وميسور ما يرجى لديك عسير •••
تقول التي عن بيتها خف مركبي
عزيز علينا أن نراك تسير
أما دون مصر للغنى متطلب
بلى إن أسباب الغنى لكثير
فقلت لها واستعجلتها بوادر
جرت فجرى في جريهن عبير
ذريني أكثر حاسديك برحلة
إلى بلد فيه الخصيب أمير
إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا
فأي فتى بعد الخصيب تزور
فتى يشتري حسن الثناء بماله
ويعلم أن الدائرات تدور
فما جازه جود ولا حل دونه
ولكن يصير الجود حيث يصير
فلم تر عيني سؤددا مثل سؤدد
يحل أبو نصر به ويسير
وتلك طواله وقصاره في مدح الرشيد، والأمين، والعباس بن عبيد الله، والفضل بن الربيع، وولديه العباس ومحمد، والخصيب بن عبد الحميد، وإبراهيم بن عبيد الله الحجبي، والحسين بن عيسى، وغير هؤلاء كثير.
ثم هذه مراثيه للرشيد، والأمين، وأستاذه والبة بن الحباب وسواهم.
وهذه قصائده ومقطوعاته في العتاب، والزهد، والطرد، والغزل، والوصف، وغير أولئك مما تستهلك الإلمامة به أضعاف القدر المقسوم لهذا المقال، دع أحاديث الخمر والمجون الآن، فسينعطف عليها بعد الكلام.
وبعد، فقد انعقد عند جمهرة الناس هذا الحظ من الشاعرية لأبي نواس بما يجول في عامة شعره من كرائم المعاني، وما تنقطع دون بعضه علائق القريض من معنى مبتكر يجري في لفظ شريف، قد بهج
4
دبجه، وأحكمت صياغته وألحم نسجه، وكذلك مضى الحكم على شاعريته كما مضى على شاعرية لداته من متقدمي الشعراء في ذلك العصر.
وفي رأيي أن شاعرية أبي نواس لم تتجل في حيث يظن هؤلاء، بل لعله إذا كان قد دخل عليها نقص، أو تطرق إليها شيء من الوهن، فمن هذه الناحية أصابه ما أصاب!
لقد كان أبو نواس رجلا موهوبا حقا وعبقريا حقا، كذلك طبعه الله وعلى هذا طواه، حتى لو جاهد نفسه على ألا يكون شاعرا ما استطاع مهما ألح في الجهاد، وهيهات أن يكون لامرئ بتغيير خلق الله يدان!
أبو نواس شاعر كما هو إنسان، وإنك إذا طلبت الرجل المفتن الكامل، قد ملك الفن عليه كل مذاهبه، وطالعه من جميع أقطاره، وجرى في أعراقه مجرى دمه، واعتلج معتلج العواطف في نفسه، فأمسى وهو لا يكاد يشعر إلا به، ولا يتذوق الأشياء إلا من حيث يذيقه، إنك إذا طلبت هذا المفتن التام، فأرجو أن تجده في هذا الشاعر أبي نواس.
أبو نواس شاعر بأبلغ ما تدل عليه هذه الكلمة وأدقه وأجمعه وأكفاه، هو رجل مرهف الحس، نافذ الشعور، خصب الذهن، صافي النفس، جوهري الطبع، وإن شئت قلت: إنه يكاد يكون في أصل خلقه مجموعة معان لولا أن تجسد بعضها فاستحال لحما وعظاما لظل سابحا بكل خلقه في مسابح الأرواح!
هو رجل يشعرك مرسل شعره بأن نظره كان ينفذ إلى صميم الأشياء، بل لقد يشعرك بأن الأشياء كانت تلطف له وتشف ليتناول من صميمهما ما يشاء، وسرعان ما يتنفس بهذا الذي أدرك شعرا إذا كف عنه القلم أو حبس دونه اللسان!
فإذا أنت طلبت أبا نواس المفتن فإياك أن تطلبه في قوله:
وأخفت أهل الشرك حتى إنه
لتخافك النطف التي لم تخلق
ولا في قوله:
وإذا المطي بنا بلغن محمدا
فظهورهن على الرجال حرام
ولا في قوله:
لا تسدين إلي عارفة
حتى أقوم بشكر ما سلفا
لا تطلبه في هذا ولا في نظائره مما يتكثر به غيره من الشعراء، فإنني أقسم لك بشاعرية أبي نواس على أنها ما جلت عليه قط مخافة نطف المشركين للرشيد! ولا كان صادق الحس إذ دعا ممدوحه إلى ألا يسدي إليه العارفة، فإنه ما اجتمع لنظم القصيدة كلها إلا لاستخراج الصلة، واصطياد هذه «العارفة»! ولا حرم ظهور تلك الإبل التي أبلغته الأمين، ولا كانت نفسه لتطيب منها بقلوص
5
واحد في غير نفع مادي! اللهم إنه في كل هذا الكلام لا يصدر عن طبع، ولا يعتلج له حس، ولا تترقرق به عاطفة، إن هو إلا التكلف في اصطياد المعاني، والصنعة في خلق الأخيلة، مباراة لشعراء العصر، واستخراجا لأموال الممدوحين، فبهذا كانت تستخرج منهم الأموال.
كان أبو نواس في جميع أسباب حياته شاعرا مفتنا إذ هو إلى ذلك رجل مستهتر، خلع مثانيه، وتحلل من كل ما يأخذ الناس به نفوسهم في هذا المجتمع، أو ما ندعوه نحن في عصرنا هذا «بالتقاليد»، فإذا رأيته يصف الخمر ويغلو في مدحها أشد الغلو، وإذا رأيته يرسل القريض في ألوان العبث، فلا يتحرج من قول ولا يتأثم من نكر، ويبتذل في هذا من نفسه للناس بما يضن به أدناهم مروءة على ذات نفسه، مهما يكن في سر من الناس، إذا رأيته كذلك فاعلم أنك في شعر أبي نواس المفتن حقا، والمرسل النفس حقا، والمنتضح الطبع حقا، أما إذا رأيته في ذلك الذي أغلى أقدار غيره من الشعراء من المديح وغير المديح، فاعلم أن الرجل قد خرج عن طبعه، واطرح شاعريته، وراح يتكلف القريض تكلفا، حتى إذا أصاب به رزقا، أقبل على نفسه واعتنق شاعريته الحق، ولا يزال في شأنه هذا حتى ينفذ زاده، ويرق عتاده، فلا يرى بدا من أن ينقلب إلى معالجة «المهنة»، وهكذا.
قال أبو نواس في إحدى مدائحه يصف الناقة:
ولقد تجوب بي الفلاة إذا
صام النهار وقالت العفر
6
شدنية رعت الحمى فأتت
ملء الحبال كأنها قصر
7
تثني على الحاذين ذا خصل
تعماله الشزران والخطر
8
أما إذا رفعته شامذة
فتقول رنق فوقها نسر
9
أما إذا وضعته عارضة
فتقول أرخي فوقها ستر
وتسف أحيانا فتحسبها
مترسما يقتاده إثر
فإذا قصرت لها الزمام سما
فوق المقادم ملطم حر
10
وقال يصف النياق التي حملته إلى ممدوحه:
إليك ابن مستن البطاح رمت بنا
مقابلة بين الجديل وشدقم
مهارى إذا أشرعن حر مفازة
كرعن جميعا في إناء مقسم
نفخن اللغام الجعد ثم ضربنه
على كل خيشوم نبيل المخطم
حدابير ما ينفك من حيث بركت
دم من أظل أم دم من مخدم
11
وقال غير هذا وهذا في وصف النياق، ولكم وقف في أشعاره بالديار، وبكى النؤي والأحجار، فنحى في قريضه منحى العرب السابقين، وأتى بالجزل من اللفظ، واستكثر من الغريب، بحيث لو أضيف أكثر هذا إلى بعض شعراء الجاهلية، ما تفطن إلى مواضع الصنعة فيه من النقدة إلا قليل، ومع هذا كله فلم يكن به الشاعر المفتن، وإن شئت التعبير الأدق قلت: إن أبا نواس لم يكن به أبا نواس؛ لأنه فيه حاك مترسم، لا يفضي بذات نفسه، ولا يترجم عن شيء من حسه، وما لي أجهد في مذاهب التدليل، وهذا قول أبي نواس نفسه في تهكمه وزرايته بهذا الضرب من الشعر يعد أصدق دليل: قال:
قل لمن يبكي على رسم درس
واقفا ما ضر لو كان جلس
تصف الربع ومن كان به
مثل سلمى ولبينى وخنس
اترك الربع وسلمى جانبا
واصطبح كرخية مثل القبس
وقال:
لا تبك رسما بجانب السند
ولا تجد بالدموع للجرد
ولا تعرج على معطلة
ولا أثاف حلت ولا وتد
ومل على مجلس إلى شرف
بالكرخ بين الحديق معتمد
إلخ ...
وقال:
دع الأطلال تسفيها الجنوب
وتبكي عهد جدتها الخطوب
وخل لراكب الوجناء أرضا
تحث بها النجيبة والنجيب
إلخ ...
وقال:
عاج الشقي على رسم يسائله
وعجت أسأل عن خمارة البلد
يبكي على طلل الماضين من أسد
لا در درك قل لي من بنو أسد
ومن تميم ومن قيس ولفهما
ليس الأعاريب عند الله من أحد
لا جف دمع الذي يبكي على حجر
ولا صفا قلب من يصبو إلى وتد
فإذا شئت بعض مذهبه في الحياة خالصا، فلعله يغنيك في هذا قوله:
ترك الصبوح علامة الإدبار
فاجعل قرارك منزل الخمار
لا تطلع الشمس المنيرة ضوأها
إلا وأنت فضيحة في الدار
لعله قد خرج لنا من كل ذلك أن أبا نواس إنما كان يجتمع اجتماعا لنظم تلك القصائد الفخمة التي يرفع بها كثرة النقدة شاعريته، وكان يلهب عصبه، ويشب ذهنه في صنع الأخيلة واختلاق فنون المعاني، ويذكي ذاكرته في التماس ما عسى أن يكون جاز به من غريب اللفظ ومجفوه، ليكتب له التقدم والتبريز على شعراء عصره، فمشاكلة شعر الجاهلية في عرف بعضهم، إنما كان السبيل إلى البراعة والتبريز.
ولقد يدل هذا منه ومن غيره على كفاية كافية، ولقد يدل على براعة في نظم الشعر بارعة، ولكنه لا يدل قط على أن مفتنا يترجم عن حسه هو، أو بعبارة أخرى، على أن عبقرية تلهم ومفتنا يستلهم، أو على أن عبقرية تأمر ومفتنا لا سعي له إلا في التدوين والتسجيل!
فإذا تطلعت إلى شاعرية أبي نواس، فالتمسها في معابثه ومباذله، والتمسها في كل ما يبعث شعوره من منظر بهيج، ومقام يذكي الحس ويهيج.
التمس شاعرية أبي نواس الحق حيث يصف آثار مجلس شراب:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا
بها أثر منهم جديد ودارس
مساحب من جر الزقاق على الثرى
وأضغاث ريحان جني ويابس
حبست بها صحبي وجددت عهدهم
وإني على أمثال تلك لحابس
تدور علينا الراح في عسجدية
حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها
مها تدريها بالقسي الفوارس
فللخمر ما زرت عليه جيوبهم
وللماء ما دارت عليه القلانس
وفي قوله يصف الخمر وساقيها:
إذا عب فيها شارب القوم خلته
يقبل في داج من الليل كوكبا
ترى حيث ما كانت من البيت مشرقا
وما لم تكن فيه من البيت مغربا
يدور بها ساق أغن ترى له
على مستدار الأذن صدغا معقربا
سقاهم ومناني بعينيه منية
فكانت إلى قلبي ألذ وأطيبا
وفي قوله في مثل ذلك:
نبهت ندماني الموفي بذمته
من بعد إتعاب كاسات وأقداح
فما حسا ثانيا أو بعض ثالثة
حتى استدار ورد الراح بالراح •••
وحسبي هذا القدر من الاستشهاد، وإلا هويت معه من النكر إلى قرار سحيق، أسأل الله أن يغفر لي ويغفر له.
ولقد نرى عامة شعره في هذا سهلا ميسرا حتى كأنه حديث من الحديث، وهذا الذي تنقطع دونه علائق القريض؛ على أئمة البيان قد عرفوا له هذا، وأجلوا به محله، ورفعوه إلى الذروة بين نظام الكلام.
وبعد، فقد طال المقال وما زال في النفس كلام عن أبي نواس كثير، وما دام الحديث عن مثل أبي نواس لا تستوفيه إلا الأسفار الضخام، فطول المقال وقصره لعمري في ذاك بمنزلة سواء، «والغمر فيه تستوي الأعماق»!
رجال ينبغي أن يذكروا1
ونقتصر اليوم على ذكر اثنين من هؤلاء الرجال، وهما المرحومان: الشيخ سلامة حجازي، ومحمد أفندي العقاد، ولسنا نعرض في هذا المقال للشيخ سلامة حجازي ممثلا، على معنى أن نبحث عن درجة كفايته من هذه الناحية، ولا أثره في التمثيل العربي، فلهذا مقام آخر، وإنما نعرض له باعتباره رجلا من رجال الموسيقى في هذا العصر الذي نعيش فيه.
وقبل أن نخوض في حديث الشيخ سلامة حجازي نذكر مع الأسف العظيم، أن تاريخ الموسيقى في مصر في العهد الذي انتهى بالحملة الفرنسية فولاية محمد علي مجهول تماما، فليس يدري أحد فيما نعلم، كيف كانت الموسيقى عند المصريين في ذلك الزمن، وكيف كانوا يؤدونها، والنغم التي كانت تتصرف فيها، ومن هم أشهر رجالها، فإن ذلك فيما نعلم، ما لم يستقصه أحد ولم يتتبعه!
ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن «النوتة» لم تكن في ذلك العصر معروفة للمصريين، فلم يتهيأ لهم أن يدونوا بها أغانيهم وترانيمهم ليتعرفها خلفهم، فذهبت كما ذهبت مع الأسف أغاني العرب وأصواتهم، وضاعت صنعة معبد وابن سريح ومخارق وابن عائشة وإبراهيم بن المهدي وإبراهيم الموصلي وابنه إسحق وغيرهم، ولم يعد يغني في معرفتها أن هذا الصوت لفلان من خفيف الرمل، وأن هذا كان لحنه من ثقيله، ولا نعرف كيف كان ما يجري في مجرى البنصر، ولا ما تتظاهر عليه السبابة والوسطى، إلخ. تلك المصطلحات التي تشيع في كتاب «الأغاني»، وكذلك انقطع علمنا تمام الانقطاع بأغاني العرب وتلاحينهم، وسنظل كذلك حتى يعثرنا الله «بحجر رشيد» آخر تحل به رموز الموسيقى العربية، كما حل شمبليون «بحجر رشيد» الأول رموز اللغة الهولغريفية!
نعم، لقد ظلت الموسيقى المصرية مجهولة تماما من العصر القديم إلى الحملة الفرنسية، فولاية محمد علي في جميع صورها وأشكالها وتلاحينها، برغم ما يحدثك به المقريزي وغيره من أن الخليفة الفاطمي كان يخرج في يوم وفاء النيل بالطبل الكبير، ويخرج في مهرجان كذا بالطبل الصغير، إلى أن كان الشيخ شهاب الدين صاحب كتاب «السفينة»، وقد فرغ من تأليفه من نحو تسعين سنة خلت، فجمع فيه طائفة جليلة مما كان يتغنى فيه عصره وقبيل عصره من الموشحات والموالي وغيرها، وكشف عن تلاحينها، وضبط أصواتها، ومذاهب النغم التي كانت تجري فيها، على أنه وإن لم يضبط شيئا منها «بالنوتة»، لأنه لم يكن يعرفها، إلا أن أكثرها معروف اليوم بالسماع والتلقي لقرب العهد، ولا زالت المصطلحات الفنية التي أوردها في سفينته معروفة عند كل من يجري من صنعة الغناء على عرق.
ومما لا ينبغي أن تفوت الإشارة إليه في هذا المقام أن بعض من هبطوا مصر حوالي ذلك العهد من علماء الإفرنج قد عنوا بضبط بعض ما سموه من الأغاني المصرية «بالنوتة»، ومنه الأذان.
ومهما يكن من شيء فإنه لا الشيخ شهاب الدين ولا هؤلاء الباحثون من الإفرنج دل أحد منهم على مبدأ تلك الأغاني، ولا كشف عن أول عهد مصر بتلك التلاحين التي هي أصل ما نتغنى فيه اليوم.
على أن مما لا يتقبل الشك أن الموسيقى التي انتهت إلى هذا العصر الذي نعيش فيه هي مزج من موسيقى أهل العراق والشام والترك، وإذا قلت الموسيقى العراقية أدخلت أثرا من الفارسية، وإذا قلت الموسيقى التركية، فقد ألممت بالرومية والفارسية أيضا، بل لقد تأثرت الموسيقى المصرية في هذه الأيام بالموسيقى الغربية، ولعل أكبر الفضل في اتساع موسيقانا باستعارتها كثيرا من تناغيم غيرنا في هذا العصر الحديث يرجع إلى رجلين: أولهما المرحوم عبده أفندي الحامولي، فقد أدخل عليها كثيرا من تلاحين أهل الشام وأهل حلب على الخصوص، كما أدخل عليها كثيرا من نغم الأتراك.
أما ثاني الرجلين فهو المرحوم الشيخ سيد درويش، فلقد خطا بالموسيقى المصرية خطوة موفقة نحو الموسيقى الغربية، وأقول خطوة موفقة لأنه كان حاذقا لبقا لم يصك جديده الأسماع، ولم ينشز طريفه على الطباع؛ على بعد ما بين أذواقنا وأذواق القوم، وشطح ما بين ما تستريح إليه آذاننا وما تستريح به آذانهم، وذلك على خلاف ما بيننا وبين أهل الشرق القريب من عراقيين وسوريين، ومن ترك ففرس، فإن الفرق بيننا وبينهم في هذا غير بعيد. •••
وبعد هذا أعود بك إلى الشيخ سلامة حجازي، فلقد زعمت في مقال متقدم
2
أن أول عهد مصر بالتمثيل في اللغة العربية إنما كان على أيدي الفرق التي انحدرت إلينا من بلاد الشام، ولقد كان من بينها واحدة يتولاها المرحوم الشيخ أحمد أبو خليل القباني، وكان رجلا جليل القدر، واسع العلم بأصول فن الغناء ومذاهبه وطروقه، وكان إلى هذا مرهف الذوق، إذا لحن صوتا جاد وبرع وأطرب، ولكنه لم يكن على حظ من كرم الصوت، بل لقد كان في صوته غنة، فكان يلحن للجماعة وينشد معهم، وأحيانا يناشدهم، فيبدع أيما إبداع، ويفتن بجودة التنغيم وبراعة الإيقاع.
ويريد المرحوم إسكندر أفندي فرح من أرباب الفرق التمثيلية أن يباريه، وهو إذا أجاد التمثيل فإنه لا حظ له من الغناء ولا من التلحين، فكيف حيلته في هذا؟ حيلته أن يعمد إلى فتى ذي صوت كريم فيزج به في فرقته ليباري به القباني، ويستدرج الناس إليه، فوفق إلى الشيخ سلامة حجازي، ولعله يومئذ كان يتغنى بالإنشاد على حلق الأذكار، وأشرك معه أول الأمر سيدة حسنة الصوت تدعى لبيبة، فكانا ينشدان معا، ثم تخلت لبيبة، وانفرد الشيخ سلامة بإنشاد القصائد التي ينظمها له مؤلفو الروايات أو معربوها متصلة بوقائع القصة، أو ينشد مع الجماعة تراتيل تتصل بالقصة أيضا، أو تلاحين يحيي بها في مفتتح التمثيل وفي مختتمه أولياء الأمر.
وبعد دهر غير قصير انفصل عن إسكندر فرح، وأنشأ باسمه فرقة خاصة لقيت نجاحا عظيما، وظل كذلك حتى أبطل الفالج نصفه في سوريا، فانقلب إلى مصر، ولم يكد يحس شيئا من النهضة حتى عاود التمثيل والغناء، وإن أنس لا أنس ليلة كان يمثل فيها، وهو على هذه الحال، في «تياترو» برنتانيا، وجاء الفصل الذي ينشد فيه النظارة، ويقبل من خلل الستور على المسرح، ونصفه - واحسرتاه - يجرجر نصفه، وينازعه على السير إلى أن يستوي لموقفه، ثم يغني ويجهد، والجمهور يصفق ويلح في الاستعادة، والرجل يمتح من رمقه، ويعصر ما أبقى الفالج فيه من دماء ، ويعود الجمهور إلى التصفيق والاستعادة، والرجل يحب أن يواتيه بما يرضيه، ولو أتى الجهد على نفسه، فكان من ذلك منظر مرعب، لا أقول تجلت فيه قسوة الكثرة من هؤلاء النظارة، ولكن أقول تجلت فيه الأنانية وإيثار نقع الغلة من الشوق إلى الطرب والتزود من هذا الصوت المولي للدهر الأطول، ولعل تلك الليلة كانت القاضية على حياة ذلك الشيخ المسكين!
ولقد كان الشيخ سلامة حجازي ربعة، قسم الوجه، حلو الصوت ناصعه، وكان صوته إلى هذا قويا يرتفع في غير كلفة إلى أقصى ما ترتفع إليه الأصوات، لا يختل ولا ينشر، ولا ينبو ولا يتسلخ، ولا يزداد على هذا إلا جلجلة وحلاوة، ولكنه إذا تدلى إلى القرار تقلص وتردد دون النفوذ إلى غايته، فكرم صوته وقوته إنما كانا في وسطه وأعاليه، أما أدانيه فلم يكن لها من ذاك حظ كثير.
وعلى كل حال، فإن جوهر الصوت وحده وحسن الإيقاع ليسا حقيقيين بأن يخلدا اسم رجل، لأن أثر ذلك مقصور على لذة الجلسة ومتعة الساعة، إنما الذي يخلده ويديم ذكره ما يستحدث في الفن ويترك فيه من الأثر، ولا شك في أن الشيخ سلامة قد استحدث في فنون الغناء جديدا، وذلك هو طريقة إنشاده القصائد التي كان ينظمها له مؤلفو القصص التمثيلية ومعربوها، وكانت طريقة خاصة لا هي تجري على طريقة الموشحة، ولا «الدور»، ولا الموالي، ولا الإنشاد على حلق الذكر، ولا الأذان ولا ترتيل القرآن، وهي إذا اتصلت ببعض هذه المذاهب التلحينية من بعض أقطارها، فإن لها لشخصيتها واستقلالها، وكان منزعها الغنائي إلى تصوير الحال التي يقف فيها المنشد من أحداث القصة، ويعبر عنها بتصوير النغم بأبلغ مما يعبر بنظم الكلام، وهذه عندي الكفاية الفنية التي ينبغي أن تثبت في هذا الباب للشيخ سلامة حجازي.
ولقد كانت تلاحين الشيخ سلامة ترجعها حناجر الشباب في كل مكان، إلى أن قامت الفرق التمثيلية الحديثة التي ترسمت آثار التمثيل الغربي، فأبطلت الغناء في المسارح، إلا أن تكون الرواية من نوع «الأوبرا»، على أن هذا النوع لم يصب بعد في التمثيل العربي أي حظ من النجاح، نقول حين بطل الغناء من التمثيل العربي تقلصت تلاحين الشيخ سلامة، وانقبض الناس عن محاكاته شيئا فشيئا، إلى أن زالت أو أطلت على الزوال، لولا أن إنشاده قد يعتري الأسماع حينا بعد حين على لسان الحاكي «الفونغراف»، وكذلك قضي على فن مع أننا في حاجة إلى فنون!
محمد العقاد
أما ثاني الرجلين وهو المرحوم محمد أفندي العقاد فكان - غير مدافع ولا مشارك - أقدر رجل وأبدعه، ضرب على القانون من نحو ستين سنة خلت إلى اليوم الذي قبض فيه.
والعقاد كذلك قسيم الوجه، وسيم الطلعة، والعجيب أن تحضرني الآن صورته، فإذا هو عظيم الشبه بالشيخ سلامة حجازي!
والعقاد نيف ولا شك على السبعين، إذا لم يكن قد أطل على الثمانين، فإذا أسقطت من هذه السن عشرين أو ما دون العشرين (وهي سنو التعليم) فثق بأنه قضى الباقي المستأثر بالزعامة والتقديم، والمنقطع النظير بين جميع الضاربين بالقانون.
وقبل أن أعرض لفن العقاد أقدم لك أن هذا الرجل - على ما تستدرج إليه مهنته من مقارفة ألوان من المعاصي بحكم السهر المتوالي، وحاجة مجالس الغناء إلى ما يذكي الحس، ويشد المتن، ويثير الشجن، ويطير الخيال - لم يذق الخمر قط، ولم ينقطع عن أداء حقوق العبادة قط، ولم يتنفس بالدخان في مجلس القرآن قط، وهو إلى هذا شديد الأدب، جم التواضع، عظيم التوافي للناس، كريم اللسان فيهم، لا ترى أنامله تجري على أوتار قانونه إلا وهو ضاحك أو مبتسم مهما كرثه من أحداث الزمن!
أما العقاد في فنه فقد رزق أولا تلك الموهبة الإلهية التي يختص الله بها من يشاء من عباده ما ندري لها تعليلا، ولا نفقه لمتنزلها تأويلا، وهي في جماعة الضراب على آلات الطرب ما يدعونه بحلاوة الأصابع، فلقد كانت أنامل العقاد بالغة من ذلك غاية الغاية.
وإنني ألفتك في هذا المقام إلى شيء حقيق بالالتفات، ذلك أنك ترى رجلين يوقعان لحنا على العود أو القانون، وكلاهما بمنزلة سواء في حذقه وتجويده ، بل في كل نبرة من نبراته، وغمزة من غمزاته، ومع هذا تجد لأحدهما من الحلاوة والتطريب والشجا ما لا تجده لصاحبه! وتلك هي الموهبة التي حدثتك عنها، والتي ظفرت بأعظم الحظوظ منها أنامل العقاد.
ويقع هذا الرجل من أول نشأته، في طريق نابغة الغناء في مصر عبده الحامولي، فيتخذه ويهذبه ويطبعه على محاكاته في توقيعه وتنغيمه، فيسايره العقاد ويرضى بالقانون مطمعه في مذاهب غنائه، حتى ما يستريح عبده إلى الغناء في الأعراس وفي مجالس الملوك والأمراء إلا إذا كان يسنده العقاد!
ولقد كنت تجد لصوت قانون العقاد من القوة والروعة والوضوح والنصاحة والحلاوة، وبراعة المطلع وسلامة المنزع وجلالة المقطع، ما لا يمكن أن تجده لقانون آخر، وإنك أثناء هذا كله لا تشعر - لولا أنك تمد بصرك - أن هناك أنامل تصك الأوتار صكا، ولكنك تشعر أن الأوتار تتنغم من تلقاء نفسها تنغما!
وهنا ينبغي أن تذكر لهذا الرجل مزيتان لعله لم يشركه فيهما غيره من محترفي التوقيع على القانون: أولاهما أن المغني إذا مد صوته ب «يا ليل، يا عين» أو بمواليه أو بمقطوعاته، فليس على صاحب القانون، إذا أمسك المغني إلا أن يطلق أنامله بما يشاء، ولكن في حدود النغمة التي فيها المغني، ليستمر مذهب الطرب في آذان السامعين، ولكيلا يلتوي على المغني نفسه ما كان فيه حين يعود إلى وصل الغناء، أما العقاد فقد انفرد من بينهم جميعا بأن يحكي كل ما جال به صوت المغني حرفا بحرف، ونبرة بنبرة، وغمزة بغمزة، مهما أطال ذلك وكثر فيه تصرفه، وتردد في أبواب النغم دخوله وخروجه، فكانت ذاكرة العقاد في هذا عجبا من العجب!
أما مزيته الثانية، فليس يخفى أن أوتار القانون ترتفع على السبعين، وهي إلى هذا مرهفة الحس، شديدة التأثر بالجو، محتاجة في كل تصرف إلى شد أو إرخاء، ولهذا كثيرا ما ترى صاحب القانون ينقطع عن الجماعة ليسوي بعض أوتاره، فاخترعوا لعلاج بعض هذا ما يدعونه «بالعرب» وهي قطع معدنية في شكل القروش تقوم تحت أوتار القانون، يحركها الضارب في تلك الأحوال فتغنيه عن طول الانقطاع للشد والإصلاح.
ومع هذا لقد أنف العقاد أن يدخل هذه «العرب» على قانونه، واستغنى عنها «بعفق» أنامل يسراه، فلا هو ينقطع وينحبس للعلاج والإصلاح، ولا هو يشد الأوتار بتلك القطع المعدنية تدخل على صوت القانون شيئا تحسه الآذان السليمة المرهفة، وإن غفلت عنه آذان سائر الناس.
ثم هذا العقاد الذي قضى زهرة الحياة مع سيد المغنين عبده الحامولي، لقد دعته ضرورات العيش بعده إلى أن يعمل مع غيره، ومنهم من لا يستطيع أن يغني إلا على حساب قانون العقاد، ومنهم من يستطيع أن يستقل بنفسه لولا أنه يريد زيادة الإحسان بقانون العقاد، وارتفاع الصيت بأن يقرن اسمه إلى اسمه إلا أنه لوحظ في مؤخرات سنيه أنه ما انفسح الموضع لتقسيمات العقاد، وتواثبت حاجات الطرب إلى إطالتها والتبسط فيها، إلا أقصر وأوجز وختم وهو يشهد استشراف الناس منه لكثير!
وعلم الله ما كان ليفعل هذا ضنا على الناس، ولا تقية جهد ونصب إنما كان يفعله مصانعة للمغني، وخيفة أن يعرض الناس عنه في طلب اطراد العقاد بقانونه إلى غاية المجلس.
وهذا فعل الحاجة، وقاتل الله الحاجة، فلقد طالما جنت من مفاخر الحياة ومتعها على كثير !
الشيخ سيد درويش1
سيداتي، سادتي
لقد فرضت لنفسي إجازة أستريح فيها من عناء أي عمل! على أن أعود إلى شأني في خلال شهر أكتوبر، إذا أذن الله ومد في العمر وبسط في العافية، ولكنني عوجلت بالدعوة إلى الحديث في هذه الليلة، ولقد كان في المعاذير مندوحة، لولا أن الحديث في صديقي المرحوم الشيخ سيد درويش، وللشيخ سيد درويش عندي مقام كريم.
وإذا كنت أحدثكم الليلة عن هذا الرجل، فما كان حديثي عن رواية راو أو نقل ناقل؛ إنما هو من رؤية راء وشهادة شاهد:
رجلان اثنان رأيتهما أول ما رأيتهما، فإذا كل منهما في مبدأ النظر من أصغر الناس وأخفهم في الميزان، ثم ما برح كل يوم يكبر في عيني ثم يكبر حتى يضيق به مدى النظر جميعا، وحتى أصبح وزنه وتقديره مما ينوء بكل وزن وكل تقدير!
هذان الرجلان الصغيران الكبيران، الدقيقان الجليلان، هما الشاب العالم الهندي ضياء الدين أحمد، والشاب الموسيقار المصري سيد درويش، وضياء الدين هذا هو الذي أحرز جائزة إسحق نيوتن ولما يزل في السادسة والعشرين!
ولندع ذلكم العالم الهندي الآن، ولنمض بالحديث في هذا الذي نحتفل اليوم بذكره:
في إحدى سني الحرب العامة كنت أقضي شطرا من الصيف في الإسكندرية، ولي صديق سري من أهل القاهرة يقضي الصيف كذلك هناك، فدعاني ذات عشية إلى داره، وأخبرني أنه سمع بشاب من أهل الإسكندرية يجيد الغناء، وأنه قد وصفه له فلان، وأحسن القول فيه، فأرسل في دعوته ليسمعنا شيئا، فانقبضت ووجمت، وكان لهذا مني سبب قوي، فقد رمينا في عامنا ذلكم بكثير ممن يتكلفون الغناء، هواة ومحترفين، وتقدمتهم ألوان المبالغات، فلم نخرج منهم إلا بصك الآذان وتعكير الأذواق، وهممت أكثر من مرة بالانصراف، وصديقي يمسكني، ويعالج تبرمي بفنون التبصير والتعليل!
شكله ودله
ثم أقبل علينا فلان هذا ومعه شيخ معمم، مستدير الوجه، أسمر اللون، مليح العينين، في أنفه شيء من الفطس، وفي فمه قليل من الفوه، وهو يميل إلى الطول، غير بادن الجسم وإن كان مكتنز اللحم ، نظيف الثوب، يتأنق في ثيابه برغم ما يبدو عليه من رقة الحال، وهو في الجملة مقبول الخلق والشكل، لا تنقبض النفس دونه، فإذا داخلته بالحديث وباسطته في السمر، تكشف لك عن عذوبة نفس، وظرف طبع، وخفة روح، وحضور ذهن، وإصابة في القول، وأدب إيماءة وخطاب، فسرعان ما تهفو نفسك إليه، وتحسها قد تهافتت من فورها عليه!
هذه هي الصورة التي جليت علي لسيد درويش في أول مجلس جمع بيني وبينه، ولكن بقي الغناء! ... ويا ويلي مما سألقى من هذا الغناء، أو على الصحيح من هذا العناء، وصدق من قال: من لسعته الحية خاف من الحبل!
سيداتي، سادتي
من حق هذا الشعور الذي جلوته عليكم، شعور الكراهية بظهر الغيب، لاستماع غناء هذا الرجل أن يلفت الذهن إلى أمرين حقيقين بالنظر والتدبير: (1)
أنه إذا ساغ للمرء أن يصانع في الضرورات، بل لقد يجب عليه ذلك في بعض الأحيان، فإنه لا ينبغي له مطلقا أن يصانع في الكماليات، فلقد تقضي عليه الضرورة بأن يتبلغ بكسرة الخبز اليابس ليدفع ألم الجوع، وقد يشرب الماء الآسن ليمسك عليه نفسه، أما أن يطلب الترفيه والتلذيذ فيقعد لسماع صوت ناشز على السمع، في صنعة نابية عن الطبع، فذلك ما لا يسوغ، لأن تركه خير من تناوله. (2)
أن الإنسان متعصب بالطبع، لقد تسبق إلى نفسه كراهة الشيء، لا لعلة واضحة، ولا لحجة ناصحة؛ بل لقد يدخل عليه هذا لمحض حدس أو سوء تقدير، فما يزال كارها له نافرا منه، حتى ما يطيق أن يسمع فيه قولا معروفا، ولو قد طرح تعصبه، وأقبل عليه مخلصا صادق الوزن نزيه الحكم، فلربما تغير رأيه فيه، فأحبه وآثره، وأنزله من هواه أكرم المنازل، وأغلب الظن أنه لو أخذ الناس نفوسهم بهذا في تناول الأشياء وبحثها والحكم عليها، لخف كثير من هذه الأحقاد المذهبية والحزبية المتفشية في جميع بلاد العالم في طول الزمان!
سيداتي، سادتي
دعي للشيخ بعود فجسه وأصلحه، وجعل يعزف عليه وأنا مشغول عن الإصغاء إليه بما ملكني من التبرم والتكره لما سنرجم به في ليلتنا من سمج الغناء، متجه بالرغبة إلى الله تعالى في ألا يطيل مدته، إذا لم يكتب لي من هذا المجلس الفرار.
ثم غنى الشيخ بصوت خشن مطلعه، إن لم يزدني بادئ الرأي يقينا بما قدرت، فقد أمسك علي بعض هذا اليقين، على أنني من باب المجاملة، التي جرت بها العادة، كنت أتكلف إظهار شيء من أمارات الاستجادة والاستحسان، وشهد الله ما بقلبي من هذه الاستجادة وذلك الاستحسان كثير ولا قليل!
ثم لم يرعني إلا أن يبعث انتباهي ما كان يصيب الرجل في تصرفه من فنون النغم، وهي على أنها طريفة جديدة، إلا أن طرافتها وجدتها لا تنبو بها عن السمع، ولا تخرج بها عن آفاق الذوق، فكنت أحيل الأمر على محض المصادفة، وهذا لقد يقع لكثير ممن لا كفاية لهم في صناعة الغناء ولا سداد.
ثم راح يرجع مقطوعة في تلحين يستوقف السمع بطرافته وحسن سبكه، فسألته عن ملحنها، فزعم أن ذلك من صنعته، فأوقع التعصب في نفسي أن الأمر لا يعدو إحدى اثنتين: فإما أن الرجل ينتحل ما ليس له، أو أنها كانت منه بيضة الديك كما يقولون.
ثم تفرقنا على موعد، فلما كانت الليلة الثانية رفع لي من الرجل قدر، وصح عندي أنه ممن يحسن الإقبال عليه والإصغاء إلى غنائه، ثم كانت ليلة ثالثة، فرابعة فخامسة، وهو في كل ليلة يزداد عندي قدرا على قدر، ويرجح وزنا على وزن، حتى لقد استطاع في بضع ليال أن يغزو كل تعصبي غزوا، ويقتاد كل سمعي وكل ذوقي لفنه الجليل أسيرا. •••
ولقد كنت ممن حسنوا للشيخ سيد التحول إلى القاهرة، ففيها متسع لقدره، فهي عاصمة البلاد، وفيها فحول المغنين وحذاق أهل الفن، وبعد لأي فعل، واتصل من فوره بنادي الموسيقى، وكان حضرة رئيسه قد سمعه من قبل في الإسكندرية، فقدره وأعجب بكفايته.
وعلى كل حال، فإذا كان سيد درويش يوم مهبطه القاهرة مقدورا فيها من خمسة نفر أو ستة، فلقد كان يومئذ مغمورا عند عامة أصحاب الغناء وأسبابه بوجه خاص، وعند جمهرة الناس بوجه عام!
ليت شعري: كم سنة كان ينبغي أن يقضي هذا الفتى في نضال وكفاح حتى يدرك حظه، ويرتفع صيته، ويسلم له مشيخة أهل الفن بمكان الإمامة، ويعقدوا له لواء الزعامة؟ وأنتم أدرى بأن خلال الغيرة والحسد والحقد قل أن تجد لها مرعى أخصب من صدور أصحاب الفنون، ولكن اسمعوا! اسمعوا!
لم يمض على مهبط هذا الفتى بضعة أشهر حتى رأيته يغني في «كازينو» البسفور ومن حوله أحذق العازفين وأجلهم في مصر قدرا، ووقف بين يدي «تخته» أئمة الفن من أقطاب نادي الموسيقى، وهو يغني صوتا (دورا) من تلحينه، ولعله كان من نظمه أيضا: يغني ويتصرف، ويعلو ويهبط، ويتيامن ويتياسر، ويخرج من فن إلى فن، ويتعطف من نغم إلى نغم، ويلم بالقديم، ثم يميل إلى ما أبدع من الحديث، وكل أولئك يفعله في خفة ولباقة وقوة صنعة وروعة أداء، وترى القوم وقد أمسكوا كلهم رهن بيانه، وطوع بنانه، وكأنه فيهم «دكتاتور» قد خلص له وجه السلطان كله، لا اعتراض لقوله، ولا تعقيب لإشارته، وما شاء الله كان!
أسلوبه وصنعته
سيداتي، سادتي
لا تنتظروا مني أن أحدثكم عن نشأة الرجل، وكيف درس فن النغم، وعمن أخذ، وكيف تهيأ له أن يجدد ويبتكر، وبماذا صارت له هذه العبقرية الفخمة، فذلك ما لا أعرف منه كثيرا، على أن الوقت المقسوم لي الليلة، أضيق من أن يسع لهذا القليل الذي أعرف، وكيفما كانت الحال، فالمواهب مغروزة في أصحابها، والعبقرية كامنة في نفوسهم، لا تحتاج في ظهورها وإيتائها آثارها الضخام إلا إلى قليل من التلقين والتوجيه والإرشاد، وما أحسبهم جاءوا سيدا بأقطاب أهل الفن من أعلى معاهد الموسيقى في العالم، حتى تمت له كل هذه البراعة، بل لقد أخذ الموسيقى عمن أخذ عنهم كثير غيره، فإذا كان هناك فرق بينه وبينهم، فإنه كان أقصر منهم مدة تعليم وتمرين، وقد تقدم وتأخروا، وبرع وجمدوا، ونبه وخملوا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم!
إذن فلنقصر الكلام على أسلوب الرجل وصنعته، وما أحدث من الأحداث في الموسيقى المصرية في هذا العصر الحاضر.
كان سيد درويش، عليه رحمة الله، متمكنا من فن الموسيقى أيما تمكن، واثقا من نفسه أيما ثقة، وأكبر آيات هذه الثقة بالنفس أنه تقدم إلى هذا التجديد، وهو لما يزل مغمورا منكور المحل، والتجديد ابتداع ومطالعة للجماهير بغير المألوف، وقل أن يعمد المرء إلى هذا قبل أن يذهب له في فنه صيت وذكر يتكئ عليهما في جديده، ويصد بهما صولة التعصب للقديم.
وليس كل خطر الرجل في أن يكون متمكنا في فنه، عالما بأصوله وفروعه، وليس كل خطر الموسيقى بنوع خاص، في أن تهديه كفايته وعظم مقدرته إلى أن يطلع على الناس بجديد فحسب، مهما كان هذا الجديد جاريا على أحكام الفن موصولا بأسبابه، بل إن الكفاية كل الكفاية، والبراعة حق البراعة أن لا ينشز جديده على الآذان ولا تصطك به الأذواق، وكذلك كان جديد سيد درويش، كما كان جديد عبده الحامولي من قبله، كلاهما أضاف إلى الموسيقى المصرية جديدا، وكلاهما تصرف فيها تصرفا طريفا، فما نبا سمع، ولا تعثر طبع، بل لكأن ما جاءا به إنما كان دسيسا في الطبع، كامنا في قرارة النفس، حتى لتحسب أن كل ما لهما فيه من فضل، إنما هو في مجرد الغوص عليه واستخراجه من مطاوي الطباع، وتجليته على الأسماع!
نعم لقد اتسعت الموسيقى المصرية وأثرت، وأصابت صدرا محمودا من موسيقات الأمم الأخرى شرقية وغربية، ولقد تم هذا الانقلاب الخطير، وإن شئنا قلنا تمت هذه الثورة الكبيرة دون أن تراق قطرة دم واحدة، تم ذلك كله بفضل ذلكم الرجل العظيم الذي نحتفل بذكراه اليوم.
ذلكم بأنه عرف كيف يتبسط بموسيقى قومه، وكيف يسلس لها ما أصاب من موسيقى غيرهم، فأساغته في يسر، حتى أصبح موسوما بالطابع المصري، لا نشوز فيه على سمع المصري ولا التواء!
سيداتي، سادتي
وبعد، فإن فن هذا الرجل، فوق ما له من القدرة القادرة على الاقتباس والابتكار، يمتاز بخلال أربع: أولاها القوة، فلا حظ في تلاحينه للتفكك ولا للانخذال، وثانيتها البراعة في التصرف، فهو يتنقل بسامعه من فن إلى فن، ويتحول به من نغم إلى نغم، في اتساق وانسجام، كأنه يتنزه في روضة نسقت أغصانها يد بستاني صناع، وثالثهما شيوع الطرب في تلاحينه، فمهما استحدث جديدا يوجب الإعجاب، فإنه بالغ الغاية، ولو عن طريق الشجا من الإطراب.
أما رابعة هذه الخلال، والحديث الآن متجه بنوع خاص إلى سادتنا الملحنين والمغنين، فهي الذوق، والذوق البارع النافذ، فما إن لحن سيد درويش فكان المعنى شديدا إلا قوى لحنه، ودعم ركنه، وشد بالصنعة متنه، فسمعت له مثل قعقعة النبال، إذا استحر القتال، أو مثل زئير الآساد إذا تحفزت للصيال، وإذا جنح الكلام إلى اللين كان لحنه أرق من نسج الطيف، وألطف من النسمة في سحرة الصيف، وما كان القول في بر الحبيب بوعده، ووفائه بعد طول جفائه وصده، إلا طبع الكلام، في أمرح الأنغام، حتى ليكاد الغناء يتمثل لك عصفورا يثب في الروض بين أغصانه، ويستقل ما شاء من ذرى أفنانه، وقد ينع بين يديه الثمر، وضحك من حوله الزهر، وما كان الحديث في التوسل والاستعطاف، إلا أتى بما يلين أقسى الكبود، ويكاد يقطر الماء من الحجر الجلمود، ولا كان في وصف القطيعة وما فعلت تباريح الهوى، إلا وخز الحشا، وأشاع الأسى، وأذكى الشجون، فتبادرت الدموع من الجفون، وهكذا! ...
وبعد، فالفن كله ذوق، والعلم كله ذوق، والحياة كلها ذوق، فمن أخطأه الذوق فقد أخطأه كل خير! (وهنا أورد المحاضر بعض الأمثلة على ما يقع أحيانا من قلة الذوق سواء في التلحين أو في الأداء.)
وأخيرا، فإذا كانت هناك جهود تبذل، صادقة ماضية حينا، ومهوشة متعثرة أحيانا، للترجمة بالموسيقى عما يعتلج في النفس من ألوان العواطف وما يتوارد على الذهن من شتى الخواطر، فإنني لم أر امرءا في عصرنا هذا كتب له من التوفيق في هذا الباب ما كتب لسيد درويش.
لقد كان هذا الرجل إلى ما رزق من تمام الذوق وصدق العاطفة مرهف الحس جدا، حتى تتمثل له دقائق المعاني في صور سوية تكاد ترى وتلمس فإذا هو اجتمع ليجريها نغما، حاول مخلصا جاهدا أن يصورها لك كما تصورها، فبلغ من ذلك في الغالب غاية ما يأذن به جهد التلحين والتنغيم.
ولست بهذا أزعم أن الموسيقى - وأعني الموسيقى المصرية التي أتذوقها - تترجم عن ألوان العواطف وفنون المعاني ترجمة البيان وما يدنو من ترجمة البيان، فإن إيماني ضعيف بهذا كل ضعف، وإنما أعني مجرد المشاكلة والمجانسة بين المعاني وبين ما يصاغ لها من فنون التلاحين.
وكيفما كانت الحال، فإن سيد درويش قد نجح نجاحا لم يبلغ أحد مبلغه في تلحين «الروايات» الاستعراضية، فقد هيأت الفرصة لبراعته في الحكاية عن حال الجماعات والطوئف المختلفة بألوان التناغيم، بحيث لو أرسلت بها الأصوات ساذجة باغمة لا تدل على معنى ولا تشير إلى غرض، لنمت وحدها على من تترجم عنهم، وتنتحل الغناء الذي ينبغي أن تلوكه ألسنتهم وتمط به حلوقهم!
وبعد، فإنني أقدر أنه لو قد فسح لهذا الشاب في الأجل، لكان أقدر أهل العصر على تلحين «الأوبرا» العربية، ولبلغنا من هذا منية لقد طالما تعلقت بها الآمال، واستشرف لها الخيال!
رحمه الله رحمة واسعة، وعزانا عنه العوض الصالح الكفء، وما ذلك على الله بعزيز!
ملحق في سيرة سيد درويش
يجمل بنا أن نورد هنا طرفا مما وقع للكاتب بعد ذلك عن نشأة سيد درويش ومجمل تاريخه، فأثبته في محاضرة ألقاها من محطة الإذاعة أيضا في السنة التالية:
نشأ سيد في مدينة الإسكندرية، ولما ترعرع مضى به أبوه إلى الكتاب، على عادة أوساط الناس، فتعلم القراءة والكتابة، وحفظ صدرا عظيما من القرآن الكريم، إذ لم يكن قد حفظه كله، ثم دفع إلى مدرسة أهلية، وأدعوها مدرسة على سبيل التجوز، فإنها من تلكم المعاهد التي لا ترتقي إلى المدارس المعتبرة، ولا تتدلى إلى أفق الكتاتيب، وتلك المدرسة كانت تدعى «شمس المدارس»، وتقوم في حارة الشمرلي الواقعة في دائرة قسم الجمرك، ويتولى إدارتها رجل يدعى عبد القادر أفندي الأيوبي.
وكان أستاذ الرياضة في هذه المدرسة رجلا يدعى نجيب أفندي عريان، وهو ممن كانوا ينشدون مع المرحوم الشيخ سلامة حجازي، فجعل يلقن التلاميذ أناشيد الشيخ «وسلاماته»، فكان من أشدهم إقبالا عليها ونشاطا في الترنيم بها، وأحرصهم على الدقة في أدائها هذا الفتى سيد درويش، ويصح فيه المثل العامي: «الديك الفصيح، يخرج من البيضة يصيح!»
وفي هذه الأثناء توفي والده فساءت حاله، وترك المدرسة، وراح يعالج حرفة النجارة، على أن العيش لم يطب له فيها فلم يلبث فيها طويلا، بل انصرف عنها وألف من فوره فرقة تعاونه على إنشاد المولد النبوي الشريف.
ثم جعل يغني في بعض المجالس الخاصة، وتعلم ضرب العود على رجل يدعى الشيخ حنفي، ثم أقبل على الغناء للجمهور فيما أسميه على سبيل التجوز «قهوة»، يعاونه الشيخ حنفي هذا ضربا على العود.
ثم تحول بفرقته إلى «قهوة» لنيوناني قريبة من المحطة، ثم انتقل إلى مقهى صريح يقع على البحر بالقرب من «شادر» البطيخ، وكان ذلك في سنة 1916 ثم انتقل إلى مقهى آخر كان يقع على ميدان المنشية الكبرى، وهو في كل تلك الأثناء يزيد عناية بالفن وتجويدا له، كما يزيد إقبال الجمهور عليه وإعجابه به ... لقد دلت هذا الفتى موهبته الكامنة، وهداه حسه المرهف الدقيق، إلى أن هذه الضروب التي تتغاير على سمعه من الغناء، والتي تتهاتف بها الحناجر في محيطه، لا تسمن ولا تغني، أو بعبارة أخرى إنها دون مطالب الفن الرفيع بكثير، لقد سمع سيد كما يسمع سائر الناس ألوانا من الموسيقى الغربية والتركية وغيرهما مما تتقلب فيه الحلوق في الشرق القريب والبعيد، ولا بد أن نبرات في بعض هذا الذي كان يسمع قد لذت لسمعه، وأصابت مدخلا بديعا إلى أطواء حسه، وحركت دفين الطرب في قرارة نفسه، ولا يجد لها أشباها فيما يسمع من إخوانه المصريين، وللرجل كما تعلمون أذن موسيقية، وله حس مرهف، وفيه ذوق تام دقيق.
إذن لقد بان له، على الجملة، أن في الموسيقى المصرية - على الحال التي شهدها - قصورا، وأنها تتخاذل عن الكثير مما ينعم الذوق، وينفذ بالحس، ويترجم عن شتى العواطف التي تعتلج في الصدور.
وليت شعري: كيف له بأن يواتي طلبته، ويحذق هذا الفن كما ينبغي أن يحذق، ومصر أضيق من أن تتسع لهمه أو تدنيه من مطمحه.
ولقد سافر في سنة 11 إلى الشام وأقام دهرا في حلب، وهناك أخذ عن أقطاب الموسيقى ما أذكى موهبته، ووسع في أقطار فنه، وقيل: إنه مضى إلى الآستانة في هذه الرحلة، وهذا ما لا أقطع به.
ولقد عاد الشيخ سيد درويش إلى مصر بعد أن تزود لشأنه أكرم زاد، وادرع للميدان بأمتن العدة وأحسن العتاد، وكان من أوالي بدعه في جد تلاحينه «دور: ياللي قوامك يعجبني» وقد صاغه من نغمة «النكريز»، وأكبر الظن أنه لم يكن لموسيقار مصري عهد بهذه النغمة من قبل، وقد أجاد سيد في تلحين هذا «الدور» وخلب وراع، فوق أنه طبعه على غير غرار معروف في مصر، وصاغه على غير مثال قديم فيها أو جديد!
وظل رحمه الله من ذلكم العهد يبتكر ويبتدع ويجدد، ويسلك بالموسيقى المصرية شعوبا، ويستحدث فيها طروقا، حتى كان لا تغيب شمس أو تشرق شمس إلا أتى بجديد، وطلع على الأسماع بطريف، وكله من الطراز الفاخر الثمين.
الشيخ أحمد ندا1
عزيز علي، وعزيز على من شهدوا من أهل مصر هذا الجيل، ومن شهدوا فيها أواسط الجيل الماضي أو أعقابه، عزيز علينا جميعا أن يرسل علينا نعي المرحوم المغفور له الشيخ أحمد ندا، وأنت دائما إذا ذكرت الشيخ ندا في هؤلاء، تمثلوا فيه شيئا جليلا عظيما، تمثلوا فيه عنصرا كبيرا مما تتسق به الحياة في مصر، وما تنتظم به ثروتها الأدبية، كذلك كان أحمد ندا، وكذلك يتمثله القائمون من هؤلاء في الحياة ما داموا في هذه الحياة.
ومن عجب أن يموت أحمد ندا في نفس اليوم الذي يموت فيه حافظ إبراهيم فيضرب هذا البلد في يوم واحد ضربتين قاسيتين حتى على أغنى البلاد وأحفلها بعظماء الرجال!
ومن أعجب هذا العجب أن هذين الرجلين، وإن اختلفت فنونهما وتفارقت في أبواب العظمة وسائلهما ، كانت تجمع بينهما خلة جليلة الخطر بعيدة الأثر، وهذه الخلة هي شعور كل منهما أبلغ الشعور بالكرامة في فنه، وأن أحدا منهما لا يطيق أن يبرعه أحد أو يسبقه إنسان، إذا استن الأقران في حلبة السباق!
نعم؛ وليرددها القارئ عني كما يشاء! ليست الموهبة وحدها هي التي ارتفعت بكلا الرجلين إلى هذا المكان، فلقد كان الشعور بالكرامة، ومواتاتها بغاية ما يترامى إليه العزم والقوة أثر جليل فيما بلغا من المنزلة وبعد الصيت في جمهرة النابغين.
ولنكسر القول هذا اليوم على الشيخ ندا، فلصديقي حافظ بعد كلام طويل.
كان الشيخ أحمد ندا عليه رحمة الله ربعة القوام، مكتنز اللحم وإن ترهل لحمه في غاية العمر بتراخي السنين، وكان وجهه أشبه بمربع متحيف من زواياه الأربع؛ على أنه كان قسيما حلو العينين ، حلو الفم على فوه فيه قليل، تضرب في بياض لونه صفرة لا أدري إن كانت من الخفة أو من مرض طارئ دخيل.
وكان إذا تحدث تفخم عليه اللفظ، فخرجت تاؤه بين التاء والطاء، وخرجت زايه بين الزاي والظاء، وسينه بين السين والصاد، وهو بعد حسن السمت، حسن الدل، متأنق الهندام، يكور عمامته على نسق خاص يترسمه فيه كثير من المعممين، وخاصة جماعة القراء.
وكان، أثابه الله، كأمثاله العظماء بالحق، جم التواضع، وافر الأدب، لا يذكر الناس - إن هو ذكرهم - إلا بالخير، عظيم التوافي لمن يعرفهم، طلاعا عليهم ما اعتراهم المكروه. •••
كان أبوه، ويدعى الشيخ أحمد ندا أيضا، مؤذنا في مسجد السيدة زينب رضي الله عنها، ولم يكن صوته - على ما انتهى إلينا من خبره - على حظ من الملاحة؛ ولكنه كان جهيرا قويا يبالغ من سمعوه في قوته وجهارته إلى الحد الذي لا يسيغ روايته الرجل المربئ، ولقد شهدنا الشيخ أحمد ابنه وسمعناه وعرفنا ما أوتي من قوة في الصوت لعلنا لم نسمع مثلها إلا من الأقل من القليل، إذن فقد زلت
2
له هذه الخلة بالميراث عن أبيه.
مات الشيخ أحمد ندا الكبير، وترك ولديه حامدا وأحمد فتيين، فوصل حامد وهو أسنهما، بمنصب أبيه، واتكأ أحمد في عيشه على ترتيل القرآن في مهم الناس من المناحات والأعراس ونحوها على سنة «الفقهاء» في هذه البلاد.
ويوم درج أحمد ندا في هذه السبيل كان المقدمون من حذاق القراء الذين طار صيتهم في البلاد كل مطار، هم الأشياخ الثلاثة محمود القيسوني، وحسين الصواف، وحنفي برعي، على أن أولهم لم يكن يؤجر على القراءة في أسباب الناس، لأنه كان المؤذن الخاص لولي الأمر، وإن كان يجامل أحيانا بالترتيل في بيوت من يؤثرهم من العظماء في مهمهم، فلم يكن في الميدان في الواقع من قراء الطبقة الأولى إلا السيد حسين الصواف والشيخ حنفي برعي، وسرعان ما وصل بهما القارئ النابت الشيخ أحمد ندا!
وأنت ترى من هذا أن ندا لم ينبه بعد خمول، ولم يطاوله الزمن في المواتاة بارتفاع الصيت، وكان إذا اجتمع ثلاثتهم للتلاوة تقدم السيد حسين الصواف لعلو سنه، ولحسبه ومنزلته في كرام الناس، ثم قفى على أثره الشيخ حنفي، ثم أحمد ندا لأنه أصغر الثلاثة في عدد السنين.
على أننا لم ندرك السيد الصواف إلا وهو في أعقاب العمر، فلم يتهيأ لنا أن ننعم بصوته، أو نتذوق فنه، إما لأن صوته كان قد علاه الشيب، أو لأننا نحن كنا أحداثا لا ندرك في هذا الباب ما يدرك الرجل التام؟ فكان الصراع لأول عهدنا دائم الشبوب بين الشيخ حنفي برعي وبين الشيخ أحمد ندا.
وكان الشيخ حنفي رحمه الله رجلا مكور الوجه، مكور الجسم، تحسبه إذا جلس إحدى القدور الراسيات، وكان على هذا حلو الصوت دقيقه، أشبه ما يكون بصوت العود يتلعب بأوتاره الحاذق الحسان، وكان إلى هذا على حظ من الفن عظيم، يقرأ على طريقته التي ابتكرها هو ابتكارا واحتذاها بعد كثيرون.
كان الصراع كما حدثتك بين الشيخين عنيفا دائما ما اجتمعا، فيكون الغلب لهذا مرة، ولهذا مرة، والسامعون هم الفائزون على كل حال، وكانت لهما مواسم يطلبها الناس من كل مكان، وكان أجلها وأفخرها في بيت المرحوم داود بك العيسوي في مولد الحسين بن علي رضي الله عنهما.
على أن الشيخ أحمد ندا ما زال يقوى ويشتد، ويبدع ويفتن، إذ الشيخ برعي ما برح يضعف ويهزل حتى أسلم سلاحه وخرج من الميدان بسلام. •••
نعود بعد هذا إلى صوت الشيخ أحمد ندا وفنه وطريقة أدائه:
لم يكن صوت الشيخ ندا حلوا بالمعنى الذي يدرك من أصوات مثل المرحومين الشيخ يوسف المنيلاوي وعبد الحي أفندي حلمي، ولا من مثل صوت الآنسة أم كلثوم وصالح أفندي عبد الحي، ولكن له جمالا من نوع خاص، فلقد كان قويا شديد القوة، يرتفع إلى ما تتقطع دونه علائق غيره من الأصوات وكان مع هذا عريضا بعيد العرض، حتى إذا جلجل وانصقل، صار أشبه في وضوحه وبعد عرضه بصفحة الأفق ساعة ينصدع عمود الصباح.
وعلى أن مثل هذا الصوت ، إن كانت له مشابه، مما يتعذر معه إحكام النبرة (العفق) سواء في بعض الترنيمة أو في غايتها، فإنه لم يك يلحق ندا في هذا الباب إلا الأقلون ممن رزقوا رقة الأصوات ولينها، ومن هنا تدرك قدر الموهبة التي أوتيها أحمد ندا في هذا الباب، فإن لم يكن الأمر فيه إلى الموهبة، فقدر ما كان يلقاه ذلك الرجل في هذا من عظيم العناء!
وقبل أن نجاوز هذا الموضع من صفات الرجل، نقرر أن صوته لم يكن له حظ كبير في قراراته، أو ما يسميه أهل الفن «بالأراضي»، بل كانت أرضوه واضحة الإقفار، حيث كانت ثرواته كلها في أثنائه «البدنية»، وفي أعاليه، فكان لهذا دائم الاتكاء عليهما في ترجيعه عامة ليله، فلا يتنزل إلى قراره إلا ليصيب راحة ضئيلة يستجم فيها، في الوقت نفسه، لوثبة يرتفع فيها إلى عنان السماء!
أما فنه، وهنا ألتفت بالكلام إلى الأستاذ التفتازاني، وقد كتب عن الشيخ ندا في «الأهرام» كلاما ذهب فيه، إن صدقت ذاكرتي الكليلة، إلى أنه رحمه الله كان يجري على عرق عظيم من العلم بفن الموسيقى، وهذا لا يشايع الواقع في كثير ولا قليل.
وقبل أن أخوض في هذه المسألة أقرر كما قررت من قبل في مناسبات كثيرة، أن الفن شيء، وأن العلم بالفن شيء آخر، فليس كل مفتن عالما بالفن وأصوله وقواعده، وليس كل عالم بالفن وأصوله وقواعده من المفتنين.
إنما ملكة الفن ترتكز في أصلها إلى الموهبة، أما العلم بالفن فمرجعه إلى الدرس والمذاكرة وطول النظر، وشتان ما بين هذا وهذا!
بعد هذا أصارحه غير متحرج ولا متحرف عن مكان الحق، ولا متنقص لقدر هذا الرجل الذي أتجرد اليوم لذكره إيثارا له وهتافا بفضله العظيم، أصارح صديقي الأستاذ بأن الشيخ أحمد ندا لم يكن على حظ جليل في علم الموسيقى، بل لعل علمه به لم يزد على إدراك أوليات النغم بما تلقف في صدر نشأته من لداته: هذا صبا، وهذا سيكاه، وهذا عراق، وهذا جركاه إلخ، أما أنه تلقى هذا العلم وحذقه أو عني عناية جليلة به، فهذا لم يقم عليه أي دليل؛ بل لقد أعلم ويعلم كثير غيري - وليس هذا لحسن الحظ بغاض من قدر الرجل ولا بمتحيف من عظمته العظيمة - لقد أعلم ويعلم كثير غيري غير ما تقول: فإن شئت الواقع، فالواقع أن أحمد ندا لم يكن عالما قط بالموسيقى، وإنما كان فنانا حق الفنان، وكان حسانا كل الحسان، كان من أولئك الأفذاذ الذين بعث الله في نفوسهم تلك الموهبة النيرة التي تشق وحدها في الفن طريقها فتعبد فيه سبلا، وتمهد له طروقا، وتخلق فيه أحداثا لم تكن خلقت من قبل، وهكذا كان الشيخ أحمد ندا، وهكذا أبدع في فن ترتيل القرآن بدعا لا عهد للناس بها من أول الزمان، ولن يزال يترسمها القارئون إلى بعيد من الزمان، فالشيخ ندا من أحد أولئك القلائل الذين لم يجد عليهم العلم بالفن وإنما أجدوا هم على الفن بما رزقوا من سلامة الفطر ودقة الإحساس، وتلك المواهب العظام!
وهؤلاء أشبه بالقمري إذا سجع وغرد، وبالجدول إذا تعطف في الروض وتأود، وبالبدر إذا استوى فأشرق نوره، وبالورد إذا تفتح فسطع عبيره، اسأل ما شئت من هؤلاء كيف صنع، وعمن أخذ وعلى يد من برع، وخبرني بعد هذا الجواب. •••
أما أسلوبه وطريقة أدائه، فلقد جعل من أول نشأته يحاكي الشيخ حنفي برعي ويستن سبيله، وينهج منهجه، وكذلك كان في عامة ترتيله، اللهم إلا ما كان يستحدثه ذوقه الخاص، وكان هذا قليلا بالإضافة إلى سائر شأنه، ولقد أدركناه نحن وهو في أسلوب أدائه على هذه الحال، وتأبى عليه كرامته الفنية إلا أن يحدث كل يوم حدثا في الصنعة من مبتكره هو ومن بدع ذوقه، يطرح بإزائه شيئا مما أخذ عن أستاذه الشيخ حنفي، حتى استوت شخصيته وأدركت، وتمت له صنعة جديدة فاخرة في فن القراءة والترتيل.
كان الشيخ ندا رجلا صائدا لا يخطئ سهمه ما سنحت له الرمية، ولقد كانت تعتريه «الحركة» في بعض ترتيله عفوا، ما اجتمع لها ولا أسلف لها تقديرا، إذ هي طريقة لم تجر من قبل على مثال فما يزال يكر عليها ويرددها في مختلف الآي حتى يحذقها ويضيفها إلى فنه السري الجليل!
ولقد كان يبدأ قراءته، وخاصة في نوبته الأولى، مضعوفا متخاذلا حتى ليكاد يكون ترنيمه ضربا من الحشرجة؛ وحتى يحضرك قول الشاعر:
إنك لو تسمع ألحانه
تلك اللواتي ليس يعدوها
لخلت من داخل حلقومه
موسوسا يخنق معتوها
وإنه أثناء هذا ليكثر من التسعل والتنحنح، ولا يزال يدور بصوته الأجش المهزوم على فنون النغم لعله يوافق في إحداها بعض الفرج، فيدركك اليأس كله من أن الرجل في ليلته تيك مستور، وكلما زاد صوته علاجا ومطاولة أقبل عليه هذا الصوت بشيء من المواتاة، وأحس منه سامعه بشيء من الانتعاش أشبه بما يحس العليل أحيانا في مرضته الأخيرة، وربما عاوده الانتكاس فعاود هو المراجعة وشدة المطاولة، ولا يزال على هذا حتى يستوي قارئا عاديا لا فضل له ولا امتياز على غيره من جمهرة القراء، حتى إذا أدى قسمه أخلى الميدان لقرنه فجال فيه ما شاء الله أن يجول، وصال على الشيخ ما شاء أن يصول!
فإذا جاءت نوبته الثانية واستوى في مجلس الترتيل، رأيت فيه فتاء وقوة لا عهد لك بهما من قبل، وخرج صوته مرنا واضحا ليس عليه من الصدأ إلا قليل، ويقرأ ثم يقرأ؛ على أنه لا يأخذ في قراءته سمتا واحدا؛ بل ما يبرح يترجح بين فنون النغم؛ ولكن تحيره هذه المرة ليس في التماس النغمة التي تعيذه وتعصمه، بل في التماس تلك التي تضنيه وتتعبه، إذ صوته في أثناء ذلك يقوى ويشتد، ويعلو ويصفو، حتى يصير أوضح من فرند سيف خرج لساعته من الصقال، وينطلق في طلب الصيد من ها هنا ومن ها هنا، ولا يريغ من النغم إلا الأوابد، فإذا أصاب قنيصته راح يلون لها الافتراس ألوانا، ويشكل لها الالتهام أشكالا، فما يدعها إلا «أعظما وجلودا»، وهو أثناء ذلك يقيم الناس ويقعدهم، ويطويهم وينشرهم، ويذيقهم المهول الرائع من الطرب والانبهار، وما شاء الله لا قوة إلا بالله !
وهو رجل جريء جدا في بابه، لم أر من يعدله في جراءته إلا أن يكون الأستاذ الشيخ علي محمود، وصل الله في عمره، فلقد كان الشيخ ندا رحمه الله يكون في أعلى طبقات الصوت إلى الحد الذي يعلق له السامع النفس، ما يظن أن وراءه لصائح مدى، إلا أن تتصدع الحنجرة أو ينفجر الوريد، ثم تتنظر له من جانب السماء نغمة جديدة، فسرعان ما يتجمع لها، فما يزال يمط صوته القوي الجريء إليها، ولقد تراوغه بادئ الرأي، فلا يبرح يتحرف لها متيامنا تارة ومتياسرا أخرى حتى إذا شكها زر حنجرته عليها، فخرجت له، على هذا الجهد كله، نبرة لينة حلوة، لا عسر فيها ولا كلفة، كأنما أصابها وهي تدف
3
على ظهر الأرض لا تحلق في عنان السماء؛ ولقد أبت عليه كرامته في تلك المواقف المهولة أن تزل به قدم، أو ينشز عليه ما أراغ من النغم!
ولو قد هيئ لك أن تسمعه في نوبة ثالثة، فتلك التي لا يتعلق بها وصف واصف، وسبحان الخلاق العظيم! •••
ولقد عاش الشيخ أحمد ندا، على هذا خمسين سنة أو تزيد قليلا أو تنقص قليلا، قضى منها سنين طوالا لا يكاد يستريح من السهر ليلة واحدة، ولقد يسهر الليلة في أسيوط، ويسهر التالية في المحلة الكبرى مثلا، فيجلجل في الثانية كما يصلصل في الأولى، ما ترى على صوته أثرا لضعف ولا انخذال!
وإذا كان تاريخ الغناء العربي قد أحصى نفرا ممن عمروا فيه مع القوة وسلامة الصوت من أمثال إسحاق الموصلي وابن جامع، فقد امتاز الشيخ ندا عن أولئك جميعا بأنه أمضى جميع تنغيمه بذلك الجهد الشنيع، فهو بلا شك رجل في التاريخ عظيم ولولا أن الحديث قد طال لذكرت كثيرا من مفاخره في لياليه؛ وإن من حقه على معاصريه أن يثبتوها له على وجه الزمان.
وإني لأختم هذا الكلام بتصحيح واقعة أيضا رواها السيد التفتازاني عن الفقيد فيما أبنه به في الأهرام، فلقد روى أن الشيخ أحمد ندا انقطع بضع سنين إلى الغناء، وترك ترتيل القرآن! والواقع وأنا في هذا شاهد رؤية، أن الرجل لم ينقطع قط عن ترتيل القرآن والتكسب به، ولكن أتى عليه وقت كان إذا ختم تلاوته في حفلة عرس أو نحوه، جاءوه بعواد فاستوى إليه وجعل يتغنى ببعض المقطوعات، وكثيرا ما كان يرجع أبياتا من الشعر أذكر أن أولها:
4
عمري عليك تشوقا
قضيته وعزيز صبري
على أنه كان يتغنى على طريقته في القراءة، فكان غناؤه سخيفا مضحكا، وإن غناء القراء لأشبه بشعر الكتاب، كما أن تلاوة المغنين أشبه بنثر الشعراء؛ ومهما يكن من شيء فإنه لم يلبث في هذه المحنة طويلا، فلقد ترك الغناء بتاتا وتوافر على تلاوة القرآن الكريم. •••
هذه كلمة حق أرسلها خالصة لوجه الله تعالى، وفاء لحق التاريخ أولا، ولحق الصحبة الطويلة والجوار السعيد ثانيا.
وإني أسأل الله تعالى أن يثيب الفقيد العظيم بقدر حسناته، وأن يعزي هذه البلاد عنه أحسن العزاء.
غني يا ...!1
وحيا الله ...، وحيا صوتها العذب الرخيم.
أفغناء هذا أم سجع هزار، وإنشاد هو أم ترجيع كنار، ويتردد في حلق غانية أم في قصبة من مزامير داوود، نفخت فيه القدرة لتشعر أهل الأرض نعيم أهل الخلود؟
غني يا ... غني، واشتدي في غنائك أو ليني ، وابغمي
2
في شدوك أو أبيني، أو حلقي بالصوت صياحا،
3
أو دفي به
4
وأسجحي إسجاحا،
5
ثم صولي به وتدفقي، أو تزيلي فيه وترفقي، وتجلي به على الأسماع مرسلة أجزاؤه مستوية أطرافه، أو ملتوية أصلابه متثنية أعطافه.
غني يا ... فهذي قلوب سامعيك طوع ترديدك وترنيمك، وهذي أحلامهم رهن ترجيعك وتنغيمك، فقد طالما عبث صوتك بالألباب، وهتك عن أخفى العواطف كل حجاب!
خبريني بعيشك، كيف تصنعين يا ... بالناس؟
أفتوة هذه ومراح، أم دعة هذه وارتياح؟ وسرور وبهجة، أم هم يصدع الكبد ويعصر المهجة؟ وغضب هذا أم رضى، ونعيم ذاك أم تلك نار الغضبى؟ وآنة تيك من تبريح الجوى، أم آهة تنفست بها ذكرى الصبابة والهوى؟ وسكر ما فيه الناس أم صحو، وفرح ما يجدون أم شجو؟ وسكون ما ترى وفتور، أم فورة تريك جبل النار كيف يثور؟ كل هذا من عبثك بالألباب يا فتنة.
غني يا ... غني، فلو تمثل صوتك إنسانا، لاستوى على عرش القلوب سلطانا!
أليس عنده الرفع والخفض، والبسط والقبض، والسعد والنحس، والوفر والبؤس، واللذة والألم، والصحة والسقم، والأنس والنعيم، والهم المقعد المقيم؟
إن صوتك يا ... لفتنة في الفتنة! أفرأيت كيف حلا للطباع، وعلمت كيف لذ للأسماع ووالله لو أدرك بالأنوف لكان وردا وياسمينا، أو أدرك بالأبصار لتمثل آسا ونسرينا،
6
أو لو كان يحس بالأفواه لصار في المذاق جلابا
7
مروقا، أو لو كان يمس بالأيدي لاستحال ديباجا
8
منمقا مزوقا! •••
غني يا ... واسجعي، واشدي يا حمامة هذا الوادي ورجعي، وإذا لم يكن في طوقك أن تسعدي هذه الحال، فحسبك أن تسعدي الذكرى وتنعمي الخيال!
طرب!1
قرائي الأعزاء
اللهم إن كنتم تريدونني على أن أحدثكم الليلة في العلم والأدب، أو في الصبر والجزع، أو في تقدم الصناعة وتحرك التجارة، أو في غير ذلك من هذه الأسباب الدائرة بين الناس، فإنني أكذبكم القول، فليس في نفسي الليلة من ذاك كثير ولا قليل، فإذا أخذتكم علي موجدة فردوها على ذلك المعنى، وليأخذ كل منكم بحقه من حلقه، فقد جلست أسمعه أمس، وما زلت من أمس ، كلما نهضت إلى القلم لأكتب لكم فيما آخذ من فنون القول، طن في أذني جرسه، وملكني رنينه من جميع أقطاري، فأعود لا أرى غير صورته، ولا أسمع غير صوته، ولا أفكر في شيء غيره!
إذن فلأكسر حديثي الليلة على هذا الطرب إن كنتم تريدون مني ألا أحدثكم إلا بما أجد: غنانا صالح، ولست أدري أكان مغنيا يرسل الصوت فيقع حقا في الآذان، أم ساحرا يتلعب بألبابنا فيخيل إلينا أنا في الجنان، نتمايل على النسيم بين الآس والريحان، ونسمع من شدو القماري على أيكها أبدع الأنغام وأروع الألحان.
حدثني يا فتى! أي روض جاز به صوتك قبل أن يبلغنا؟ وكم نسمة اختلطت به مما نفث فيه صب مشوق، وحمل عاشق من زفرات كبده إلى معشوق، حتى أخذ فينا كل هذا الأخذ ، وفعل بقلوبنا كل هاتيك الأفاعيل؟
آه: وفي آه لذة وألم، وفيها برء وسقم، وفي آه راحة وعناء، وفيها يأس وفيها رجاء!
أشاكر أنا أم شاك، وضاحك أنا أم باك، وراض أم غضبان، وسال أم ولهان، وناعم أم بائس، وراج أم آيس؟ لقد عزني أمري فسلوا صوته ونبئون!
يا ليل! ... وما عساك تبغي من الليل؟ لقد نام الخليون هنيئا لهم، وأمعنوا في المنام!
نعم، إن فيك يا ليل عيونا تسيل بالدم شئونها، وإن فيك يا ليل جراحات تفيض بالدمع عيونها، وكم فيك يا ليل من فؤاد تحلل نسما، وكم فيك يا ليل من أكباد تطايرت حمما، هذا عان يشكوك بثه وأساه، وهذا صب يبثك وجده وجواه، وهذا مشدوه لا يتخذ الرفيق إلا من بين كواكبك ونجومك، وتلك والهة لا تجد الأنس إلا في وحشتك ووجومك.
إن تحت الضلوع عواطف تئن من طول احتباسها، فأطلقها «يا ليل» تمزج أنفاسك بأنفاسها، أطلقها تملك الجو عليك طربا وشدوا، وتملأ هذا الهواء تحنانا وشجوا، ففي العواطف بلبل وكنار، وفيها يا ليل فاخت وهزار! أطلقها بالله يا ليل، لتغني الثريا، لتغني وتشكو وجدها لسهيل:
أبكي الذين أذاقوني مودتهم
حتى إذا أيقظوني للهوى رقدوا
واستنهضوني فلما قمت منتهضا
بثقل ما حملوني في الهوى قعدوا
لأخرجن من الدنيا وحبهم
بين الجوانح لم يشعر به أحد
يا عين، وقل يا عين حقيقة أردتها أم مجازا، ورجعها صبا غنيتها أم حجازا، فإنه:
هوى بتهامة وهوى بنجد
قد اعيتني التهائم والنجود
غن يا فتى غن، فالله أكرم من أن يثير هذا كله في صدور الناس ويحرمهم غناءك يا صالح!
الباب الخامس
في المداعبات والأفاكيه
النكتة المصرية في العصر الحديث1
سيداتي، سادتي
لقد استهللت كلامي معكم في الأسبوع الماضي بأنني كنت عقدت النية على أن أحدثكم حديثا فكها قصدا إلى ترفيهكم والتسلية عنكم، ثم انصرفت عن هذا لأنه غير لائق في ليلة مولد الرسول الأكرم
صلى الله عليه وسلم ، وقد كان عليه الصلاة والسلام يمزح ولا يقول إلا حقا، وأما نحن فنمزح وقل أن نقول في مزاحنا حقا، نسأل الله السلامة، من عقبى الحساب في يوم القيامة.
أحدثكم الليلة حديثا إذا هو بعد بعدا شاسعا عما سبق لي أن تناولته من الموضوعات في هذا الموقف، فهو داخل في جملته في تلكم الدائرة المرنة، التي تتسع لما تضيق به أوسع دائرة مرنة في العالم، ألا وهي دائرة الأدب، ومن ينكر أن هذا لون من الأدب، فهو امرؤ لا أحسبه يعرف الأدب.
موضوعي الليلة هو النكتة المصرية في العصر الحديث، فإذا فرغنا من القول في ذلك ألممنا بشخصية من الشخصيات التي حذقت هذا الفن، وبرعت فيه أيما براعة، وهي شخصية المرحوم إمام أفندي العبد.
وهنا أرجو أن ترخصوا لي في أن أتكلم، ما دعت الحاجة، بالعامية الخالصة، لأن النكتة إذا سبكت في العربية الخالصة فقد ينضب ماؤها، ويحول بهاؤها، وإنني لأذكر أنني قرأت للإمام الجاحظ شيئا في هذا المعنى، وأين نحن من إمام البيان غير مدافع، وأين بياننا من بيانه، وأين تجويد أقلامنا من عفو لسانه؟
سيداتي، سادتي
إذا أنا خصصت النكتة المصرية بالذكر، فذلك لأنني لا أعرف أمة من الأمم العربية الأخرى أحسنت هذا النوع أو برعت فيه براعة المصريين،
2
ولست بالضرورة أعني تلك النكتة البلدية القائمة على التلفيق بين صدر معنى من المعاني، وبين ألفاظ ثابتة لمعان أخر، فيخرج من هذا التلفيق صورة مضحكة بحكم المفارقة بين هذين الشقين، وهذا النوع يدعوه العامة «بالقافية»، ولأضرب لكم مثلا أو مثلين لتوضيح هذا الكلام، ففي «قافية» الغناء مثلا يقول الرجل لمناظره: إخوانك يشوفوك على المشنقة يزعقوا ويقولوا: اشمعنى؟ - كده العدل!
وفي «قافية» الجرائد يقول له: أنت مسميينك في البيت.
اشمعنى؟
البرص! وهكذا، فهذا هو التلفيق الذي عنيت.
لا أريد بالضرورة هذا اللون من النكتة، لأنه لا أثر فيه للذكاء، ولا مجال لسرعة الخاطر، هذا إلى أن حظه من التصوير غير جليل، وإلى أنه ثابت مدون محفوظ؛ يقال لكل من شارك فيه في كل مقام.
إنما أريد ذلك النوع الذي تلهمه دقة التفطن، وسرعة الخاطر، وحضور البديهة، والقدرة القادرة على لطف التصوير والتخيل، ولقد يكون للنكتة من هذا اللون مغزى بعيد قد تعيي إصابته على الرجل الحكيم، وقد يكون لها من قوة الأثر، ما لا يكون لمقالة الكاتب مهما أطال وأسهب، ولا لقصيدة الشاعر مهما أضفى وأسبغ.
سيداتي، سادتي
لعلكم عرفتم من هذا، أن البراعة في النكتة على هذا، تحتاج في المرء إلى خلال: منها الذكاء اللماح، وسرعة الخاطر، وقوة اللسن، وأعني بها هنا القدرة على دقة التصوير والتخييل باللسان، والعلم بأحوال الزمان والبيئة والأشخاص، وشيء من الجراءة، ولا أحب أن أقول: شيء من قلة الحياء، وأخيرا لا بد لها من خفة الروح، فلا خير في نكتة تجيء على لسان ثقيل.
والرجل الذي أوتي هذه المواهب يلحظ الانحراف مهما دق، في خلق المرء أو في خلقه، أو في بعض عمله أو حديثه، أو في أي شيء من الأشياء على جهة العموم، فسرعان ما يسوي له بخياله صورة مكبرة، مهما تبعد في شكلها عن الأصل، فهي متصلة به بسبب أو بأسباب، ولقد يخلق الحديث خلقا، ولكنه إنما يترجم به عن حال من يتندر عليه، ولقد تجيء النكتة في صورة جواب مسكت استنادا إلى حال واقعة، أو في شكل ملاحظة لطيفة، ولقد تجيء بالاشتقاق اللفظي، أو من تحريف اللفظ عن جهته، كما روي عن البابلي رحمه الله أنه سمع المغني يقول: «أهل السماح الملاح دول فين أراضيهم؟» فأجاب من فوره: «في البنك العقاري!» وقد تقع بالمقابلة والطباق، فقد اخترع رجل طريقة سهلة لترويق الماء، وكان البابلي يستثقل ظله، فقال: بقى يا إخواننا، الراجل ده يروق الميه ويعكر دمنا!
وعندي أن النكتة على العموم ضرب من التصوير «الكاريكاتوري» أو على الأصح، أن التصوير «الكاريكاتوري» ضرب من النكتة، لأن صاحب هذه يملك ما لا يملك المصور من الاسترسال في التصوير والتخييل، بالاشتقاق والتوليد، فلا يزال يقلب الصور ويلونها، ويخرجها واحدة بعد أخرى في أشكال وأوضاع مختلفة؟ حتى يأتي على جميع المعاني التي يحتملها المقام.
وهنا يجب أن يعرف أن النكتة قد تكون بارعة رائعة، حتى لتهز مجلس السمر هزا، بل لقد ترج البلد كله من الإعجاب والضحك رجا، ومع هذا إذا تناولها المتناول، بعد عام أو عامين أو أقل من ذلك أو أكثر، لم يجدها شيئا، ذلك بأن للظروف والأشخاص، والمناسبات والملابسات، أثرا قويا في براعة النكتة، فإذا حال شيء من ذلك وتغير، ضعف بقدره أثر الكلام، وإذا كان هذا مما يلحق الشعر الجيد، والنثر المصفى المتخير، فإنه في باب التطرف والتندر أظهر وأبين.
ولقد كانت البيئات الراقية، مصرية ومتمصرة، تحتفل للنكتة البارعة وتكلف بها، فإذا أعوزها من يتندر بين يدي المجلس، راحت تتناقل ما قال بالأمس فلان وما أعاد فلان.
وإياكم أن تظنوا أن من ذهب لهم في هذا الباب صيت وذكر، كانوا من جماعات المتبطلين أو الجهال، أو الذين يتعرضون بهذا لمعروف الناس - أستغفر الله - فلقد كان فيهم الأديب الكبير، والكاتب العظيم، والشاعر الفحل، والسري المليء، وفيهم من برعوا في أشرف المهن وأعودها بالكسب، وحسبكم أن تعرفوا أنه كان في الصدر من هؤلاء المرحومون: الدكتور بكير الحكيم، وحسن بك رضا المحامي، ورشاد بك القاضي فالمحامي، ومحمد بك رأفت الطبيب، والسيد محمد بك البابلي، وهو إمامهم غير مدافع ، والسيد محمد بك المويلحي، وحافظ بك إبراهيم، وساويرس بك ميخائيل المحامي، ونعمان باشا الأعصر، وخليل بك خير الدين، وكلاهما من الأعيان الموسرين.
على أنهم لم يتخذوا هذا ويصطنعوه، رغبة في إضحاك الناس، بل ليتضاحكوا هم به على الناس، والويل كل الويل لمن تزل به القدم بين أيدي هؤلاء، فإنهم يتطارحونه، مهما جل قدره، كما تتطارح الكرة بصوالج الجبارين من اللعباء، تولاهم الله برحمته ورضوانه، وشملهم بفضله وإحسانه.
إمام العبد
سيداتي، سادتي
الآن جاء دور الكلام على المرحوم إمام أفندي العبد، وهو ولا شك ممن كتبت لهم في هذا الفن البراعة والتبريز.
كان إمام «رحمه الله» زنجيا بمعنى الكلمة، (كما يقولون) لولا فصاحة لسانه، ولولا أنه ولد وعاش في مصر، ففطر على أخلاق أهلها، وأخذ بعادتهم وسائر أسبابهم، فلقد كان غليظ المشفرين ، أفطس الأنف، محمر الحدقتين، أملد العارضين، مفلفل شعر الرأس، أما لون جلده فأشد من فحمة الدجى سوادا.
وكان بعد هذا، ربعة إلى الطول، مكتنز اللحم، موفور القوة، لا أدري أين نشأ ولا كيف نشأ، إنما الذي أدريه أنه عالج الأدب، وأول ما عالج من فنونه نظم الزجل، فأجاد فيه أيما إجادة، ولكن طماحه دفع به إلى قرض الشعر، فمدح وهجا، وتغزل وفخر، وتصرف في كثير من فنون القريض، وما أحسبه بلغ في هذا جليلا.
على أنه كان جيد الإلقاء، جهير الصوت، إذا أنشد الجمهرة هز الناس ورجهم، وبعث بالتصفيق أكفهم، وأطلق بالهتاف حناجرهم، حتى إذا قرأ الناقد شعره من غده أنكر على نفسه، ما كان منه في أمسه، ولعل ذلك الأديب قد أصاب بعض الإصابة حين وصف شعر إمام بأنك تأخذه درا، وتلقيه حجرا.
وأذكر أنني كنت جالسا ذات عشية مع صديقي المرحوم حافظ بك إبراهيم فطلع علينا نفر من الشبان، فسألهم صاحبي من أين أقبلوا؟ قالوا: من حفلة المدرسة التحضيرية حيث سمعنا إماما ينشد قصيدة له لم ينظم الشعراء قط مثلها بلاغة وسحر بيان، قال فأنشدوني قالوا: وكيف لنا بحفظ شعر نسمعه لأول مرة؟ قال: فكيف عرفتم مبلغ القصيدة من البيان؟ قالوا: لأنه نال من آيات الاستجادة ومن التصفيق ما لم ينل غيره، وكانت في نفس حافظ بك ذلك اليوم لأمر ما موجدة على إمام، فقال: والله ما صفق الناس لبلاغة إمام ولا لجودة شعره، وإنما هو عبد «كان لما يعمر اللمبة كويس يقولوا له برافوا يا إمام!» فكيف بهم إذا رأوه ينشد شعرا؟
سيداتي، سادتي
قلت لكم: إن إماما كان ينشد الشعر، وإني لأحفظ له بيتين جيدين في حسن التعليل، تعليل ترهبه وانصرافه عن الزواج:
يا خليلا وأنت خير خليل
لا تلم راهبا بغير دليل
أنا ليل وكل حسناء شمس
فاجتماعي بها من المستحيل
وأحسبه لمح في هذا قول المعري، وإن كان قلب المعنى وعكس الآية، وذلك من البراعة على كل حال: قال أبو العلاء:
هي قالت لما رأت شيب رأسي
وأرادت تنكرا وازورارا
أنا بدر وقد بدا الصبح في رأ
سك والصبح يطرد الأقمارا
لست بدرا وإنما أنت شمس
لا ترى في الدجى وتبدو نهارا
يعتذر إمام من عدم زواجه بأن الشموس - يريد النساء الحسان - لا يجتمعن والليل - يريد سواد جلده.
قلت لكم: إن إماما كان زجالا من الطراز الأول، وليت الأستاذ بديع خيري أو الأستاذ رمزي نظيم، وكلاهما من كبار الزجالين، يعنى أحدهما أو كلاهما بأن يبعث عيون أزجال إمام وهو منهما بهذا كل حقيق.
سيداتي، سادتي
ليس من موضوعي على أي حال، البحث في شعر إمام ولا في زجله، وإنما عرضت لهذا لأجلو عليكم صورة واضحة من كفايات الرجل، أما موضوعي فهو إمام المتندر، أو بالعامية الصحيحة، إمام «القفاش».
كان إمام العبد رحمه الله خفيف الروح، حاضر البديهة، مرسل النكتة، لا يكاد يسكن عنها أو يفتر بياض نهاره وسواد ليله، «يقفش» لكل إنسان، ولكل شيء، فإذا لم يجد من «يقفش» له من الناس تحول بهذا إلى نفسه، وإلى خاصة أهله، ولقد كان من ذلك الصنف الولاد، يتناول المعنى الواحد، فلا يزال يجول فيه بالنادرة بعد النادرة، ويستقصيه بالنكتة بعد النكتة، في سرعة ولباقة عجيبتين ، حتى ليضحك الثكلى على حد تعبير الأقدمين! على أنه لم يكن في تطرفه وتندره بعيد المغازي، شأن بعض الذين أوردت أسماءهم عليكم، على أنه قد كانت له ميزة لا أحسب أن كثيرين قد شاركوه فيها، ألا وهي خلق الأحاديث الفكاهية من العدم، لقد يتندر بها على نفسه، أو يتطرف بها على غيره.
ومن المزايا التي ينبغي أن تذكر للرجل أنه كان عفا في مزاجه، لا يفحش ولا يقذع، ولا يتدسس إلى المكاره، بل لعل أشد الناس كان اغتباطا وضحكا من «قفش» إمام، من كان يتولاه «بالقفش» إمام!
سيداتي، سادتي
الآن أروي لكم طائفة من مجونيات إمام العبد في نوادره، لا في نكاته المختصرة، سواء مما شاهدته بنفسي، أو مما رواه لي هو بنفسه، وهنا أرجو أن تأذنوا لي بالتمهيد بين يدي بعض هذه النوادر بذكر بعض الأشخاص أو الملابسات التي اتصلت بها حتى تأخذ النكتة سمتها، وتقع من النفوس موقعها.
قالت الجهاد الغراء: «وهنا أورد المحاضر مرتجلا طائفة مما حضره من نوادر إمام المضحكة التي تدل على قدرته الفائقة على الاختراع والابتكار في هذا الباب، ولم ير تدوينها لأنها إن ظرفت في الحديث، فإنها قد تفتر أشد الفتور في الكتابة والتدوين.»
آداب العراك في الجيل الماضي1
سيداتي، سادتي
لقد أمسى من حقكم علي، بعد أن واليت الحديث في جد القول أسابيع طوالا، أن أعمد هذه الليلة إلى مفاكهتكم، والتحدث إليكم بما أحسب أنه لا يملكم ولا يضجركم، إلى ما لعل فيه بعض الفائدة بتجلية بعض نواحي التاريخ الحديث.
وموضوع حديثنا الليلة هو: «أدب العراك في مصر في الجيل الماضي»، والعرب كانوا يطلقون كلمة «أدب» في بعض إطلاقاتها على معنى القانون، فيريدون بأدب الشيء قواعده وتقاليده، وعلى هذا دعوا قانون الجدل والمحاورة، بعلم آداب البحث والمناظرة، كذلك أريد بأدب العراك، فلقد كان للعراك في مصر قوانين محترمة، وتقاليد مرعية!
وفن «الخناق» على تعبير أصحاب الشأن، في مصر قديم يكلف به أولاد البلد ويتباهون، إذ كان يعتبر ضربا من الفروسية، والسعيد السعيد من يذهب له في «الخناق» صيت وذكر في البلد، بل ربما شارك في هذا بعض أولاد «الذوات» فيشمرون ليوم النزال، ويتقلدون «الشوم» للحرب والقتال.
وليس يغيب عمن قرأ التاريخ الحديث منكم أن بونابرت حين بلغ بجيوشه إمبابة في طريقه إلى مصر، استنجد الأمراء المماليك بالأهلين، بعد إذ تخاذلت جنودهم، فخرج له أولاد الحسنية بعصيهم، ونازلوا الجيش الفرنسي فحصدتهم مدافعه مع الأسف الشديد حصدا!
وهؤلاء الأبطال يدعون «الفتوات» جمع فتوة، أو العصبجية جمع عصبجي، وكان في كل حي من أحياء القاهرة فتواته، فللحسنية فتواتها، وللسيدة فتواتها، وللخليفة فتواته، وهكذا، ولفتوات كل حي زعيمهم، والمتقدم في البطولة عليهم، لا يعصى أمره، ولا يخالف حكمه، وهو الذي يدعوهم إلى الصراع، ويدبر لهم الخطط، ويقودهم في المعارك الكبرى، فإذا كانت المعركة مما لا يرتفع إلى شأنه ، عقد لواء السرية لمن يختاره ممن قبله من الفتوات!
وكان لكل فتوة «مشاديد»، جمع «مشدود»، وهم من أنصاف الأبطال الذين ينتسبون إليه ويلوذون به، ويحتمون باسمه، والويل كل الويل لمن يعتدي عليهم، أو يعتريهم بالمكروه، فإن الاعتداء على أحد منهم يعتبر اعتداء على الفتوة نفسه، لما في ذلك من الغض من كرامته، والاستهانة بحمايته، وعلى هذا كان من أشد التحدي للفتوة أن يقال لمشدوده: ينعل ... على أبو اللي يشددلك! فسرعان ما تشب لظى الحرب، ويتواثب القرنان للطعن والضرب.
وكانت العداوات مستمرة بين بعض الأحياء وبين بعض، فلا يبيت الموتور منها إلا على تهيؤ لشفاء الحقد، والأخذ بالثأر، ولقد يتحالف الحيان على ثالث إذا جمعهما الحقد وضمهما الوتر!
وممن أدركنا عصرهم من أعلام فتوات الحسنية والعطوف: المرحومون عتريس، وحكورة، وكسلة، ومن كماة الخليفة: كم العري، والملط، ويوسف بن ستهم، ومن أقطاب الكبش وطيلون خاصة: بلحة، والفولي، أما أبطال السيدة فهم المرحومون: ممبوك، خليل بطيخة، الإن، وإءة، وكان رحمه الله أعمى، وعلي أبو ضب، وأظن أن هذا الأخير ما زال حيا، فقد رأيته من بضع سنين، وقد صلحت حاله، وهو يدير قهوة بلدية في ميدان زين العابدين.
وسلاح كل فتوة وعدته للحرب عصا أو عصي من «الشوم» يداور بينها في الخناقات، وترى كل واحد منهم شديد التتايه بعصاه، كثير الذكر لها والإشادة باسمها، نعم باسمها فلقد كانوا يطلقون عليها الأسماء، فمن العصي الحاجة فاطمة، ومنه الحاجة بمبه، وهكذا، وربما سقوها الزيت بتثبيت قمع مفتوح على طرفها الأعلى وملئه زيتا، وتركها على ذلك أياما حتى يتمشى في شعوبها ويشيع فيها، فتزداد قوة وصلابة على الطعان والضراب، وقد يزوق مقبضها بالحناء.
سيداتي، سادتي
لست بحاجة إلى القول بأن مظهر هذه البطولة هو، في جراءة القلب وقوة الساعد، والمهارة في الإصابة، واللياقة في اتقاء الضربة بالعصا أو بالتحرف عن مذهبها، وكل هذا يحتاج إلى كثير من التدريب والتمرين، ولكن الذي يحتاج إلى البيان هو لون خاص من البطولة، وهو الكفاية في احتمال أشد الضرب، وطول الصبر عليه واقعا حيث وقع من أعضاء الجسد، ولهذا النوع من البطولة قيمته وسداده وغناؤه إذا حمي الوطيس، فإن الفتوات ليقدمون هؤلاء الأبطال بين أيديهم ليتلقوا عنهم بأجسامهم أكبر كمية من الضرب، حتى يستطيعوا هم أن يصرفوا أجل همهم لإجالة العصى ذات اليمين وذات الشمال.
وكان علم الأعلام في هذا النوع من البطولة من فتوات السيدة هو خليل بطيخة عليه رحمة الله، فقل أن كان يخرج إلى «الخناقة» وهو يتقلد عصا، ولو تقلدها ما أحسن استعمالها، ولعلها كانت «تلخمه» في ميدان القتال، وإنما سلاحه كله، سلاحه الماضي هو جسمه القوي الصفيق!
ولقد رأيته بعيني وأنا غلام بعد منصرف الناس من الصلاة في جامع عمرو في يوم الجمعة اليتيمة، وقد اجتمع عليه وحده نفر من فتوات الخارطة وأبي السعود، في أيديهم عصيهم الغليظة، وما زالوا يتهاوون بها على جسمه بأشد ما فيهم من قوة وبأس، أما هو فقد دس رأسه في صدره، وأسرع فتكور على الأرض حتى صار أشبه بلقبه «بطيخة»، وجعل يتلوى تلوي الحية، حتى ظن النظارة أنه هالك لا محالة، ثم ما إن أقبل البوليس بعد فترة طويلة، وفر أولئك الفتوات عند مرآه شرقا وغربا، حتى بسط جسمه ووقف في أسرع من رد الطرف، وكأنه لم يكلم كلما، ولم ينله كثير ولا قليل من أسباب الإيجاع والإيلام! ومضى لشأنه وهو يتحدث عن بطولته، وعما يعد للأخذ بالثأر من أولئك الأعداء! •••
وكانت خير الفرص لشب «الخناقات» هي في الأعراس، حيث يحتفل بإقامة «خناقة» في النهار في زفة العروس، وأخرى في الليل في زفة «العريس».
أما معركة النهار فلم يكن خطبها جليلا، إذ لا يخرج لها الزعماء ولا المقدمون، بل يكتفون فيها بتعبئة أوساط الفتوات، فيخرجون إليها ومعهم بعض الغلمان، ويتوارون في زقاق أو منعطف، حتى إذا أقبل موكب العروس بعثوا أولا أولئك الغلمان، وفي يد كل منهم ما تيسر من عصا رفيعة، أو «زعزوعة قصب»، أو قبضة من الحصا، وهؤلاء الغلمة يدعون «جر الشكل»، فيقذفون المركبات بالحصى، ويتعرضون بالعصي لأحراس الموكب، حتى إذا صدهم هؤلاء وضربوهم، برزت الكتيبة من مكمنها وأدارت رحى القتال، بدعوى الثأر لهؤلاء الأطفال.
سيداتي، سادتي
إذا حدثتكم عن المعارك الجلى التي تدور إذا كان الليل في «زفات العرسان» فإنما أحدثكم عما كان يحدث في حي السيدة زينب والأحياء المحيطة به، ولعله صورة مما كان يحدث في سائر الأحياء.
كانت هذه المعارك تدبر من قبل ليلة العرس بأيام، فيعد لها الخصوم عدتهم من جهة، ويتأهب لها أولياء «العريس» وصحبه من جهة أخرى، بل لقد كان هؤلاء في كثير من الأحيان يدعون لها، ويغرون الخصوم بها، ويستدرجونهم إليها، لأن مما يعير به أهل العرس من ذلك الصنف من الناس أن تجوز «زفة عريسهم» الشوارع فلا يتعرض لها أحد بالمكروه، فذلك دليل على تهاونهم واستحقار شأنهم، وإخراجهم في الاعتبار عن أفق الرجال، فضلا عن الأبطال!
وكانت «زفة العريس»، واقعة حيث وقعت داره من آفاق ذلك الحي، لا بد أن تجوز بمسجد السلطان الحنفي والشيخ صالح أبي حديد، وهناك يقع الصدام والطعان، ويتهاوى «الشوم» على رءوس الأقران في هذا الميدان!
ولقد زعمت لكم أن أولياء العرس قد يدعون في كثير من الأحيان إلى العراك، ويستدرجون الخصوم إليه، وأكبر مظهر لهذه الدعوة هو أن يقدموا بين يدي الموكب ما يدعونه «بخاتم سليمان»، وهو عبارة عن قطع خشبية متخالفة أقطارها، بحيث تتخذ الشكل الهندسي الذي يطلق عليه في العرف «خاتم سليمان»، وكلها ثقوب محفورة على مسافات مضبوطة، تثبت فيها كعوب الشمع المضاء، ويحمل كل واحدة من طرفيها رجلان أو فتيان، وفي حمل هذه الخواتم السليمانية معنى التحدي للخصوم ودعوتهم إلى العراك!
وعلى قدر الرغبة في قوة العراك وشب القتال، يكون عدد تلك الخواتم، فمن الناس من يقدم الاثنين، ومنهم من يقدم الثلاثة، ومنهم من يضاعف هذا المقدار، إعلانا للسطوة وإيذانا بالرغبة في استحرار القتال! أما المستضعفون من الناس، فلا يقدمون شيئا من ذلك إيذانا بإيثار العافية، وطلب الدعة والأمان!
وكان نظام الموكب - موكب «زفة العريس» - يجري على الوجه الآتي، الطبل البلدي وبين يديه طائفة من الغلمان والفتيان، ثم الموسيقى الأهلية، إذا كان «العريس» على شيء من اليسار، ثم حملة خواتم سليمان، تضطرب من فوقها ألسنة الشموع، ثم جمهرة الفتوات يلوحون بعصيهم في الهواء، ثم حملة «الشمعدانات» في صفين متقابلين، ثم «العريس» يحيط به أصدق صحبه، وفي أيديهم الشموع والأزاهير، وقد تقف القافلة بين حين وآخر لاستماع من يغني القوم بالأغاني البلدية، فتراهم يحسنون الإصغاء، حتى إذا فرغ من نبرته عجوا بأصوات الاستحسان من نفس الطبقة التي يجري فيها الغناء، وهنا تسمع الصياح من كل جانب من نحو «يا ربنا والملايكة»! و«احنا الصبوات العتر»!
فإذا بلغت «الزفة» في مسراها ذلك الموضع، أعني الرقعة الواقعة بين مسجدي الحنفي والشيخ صالح، إذ الأعداء متربصون هناك، أذن المؤذن بنشوب القتال، وكانت أول عصا تهوي على رءوس الزمارين المساكين، فاكتسبوا هم الآخرون بطول التدريب والتمرين مهارة في اتقاء الضرب، وفي احتماله، وفي الفرار وتولية الأدبار؛ وكان أشدهم في هذا عناء هم الطبالين لما يثقلهم من حملهم، وكثيرا ما تتخرق طبولهم بضربة العصا، أو بقبضة يد من ضارب صناع!
ويزخر الميدان، ويتلاقى الأقران، ويستحر القتال والطعان، فلا ترى إلا عصيا تتهاوى على الأبدان، فتشق الرءوس شقا، وتدق الأصلاب دقا، وتخسف الأصداغ خسفا، وتقصف الأضلاع قصفا، والدماء تسيل حتى تجلل الثياب، وتفيض على الأرض بما يروي من غلة التراب، وهذه الدماء هي أوسمة الشرف يتحلى بها الكماة الأبطال، إذا رجعوا إلى معشرهم من معترك القتال.
ولقد تسمع الكمي وقد واجه عدوه وشرع عصاه، وتهيأ للوثاب وهو يصيح: وارايا ... وهو كلام قبيح لا يجوز رده على الآذان.
سيداتي، سادتي
لم يكن البوليس ليجرؤ، في غالب الأحيان، على اقتحام هذه الملاحم، أو يستطيع ضبط تلك المواقع، بل لقد كان يولي عنها فرارا، وهنا ينبغي أن يذكر أن أحدا من هؤلاء الفتوات أو أوليائهم لا يمكن ولو بجدع الأنف أن يتقدم بالشكوى إلى البوليس أو غير البوليس، ولو كان الضرب قد أتلفه وأرداه، بل لقد كان في ذلك العار ليس بعده عار، والشنار ليس وراءه شنار!
هذه كانت بعض مظاهر البطولة عند أولاد البلد في الجيل الماضي، وثم مظهر آخر من مظاهرها، وأعني به الحرب الجبلية، ولا يتسع الوقت لوصفها وعرض حديثها، ولعلنا نجرد لذلك محاضرة أخرى!
ومهما توصف هذه الحالة بالوحشية، أو الهمجية، أو الاحتفال للعدوان، والخروج على النظام، فلقد كانت بطولة لها قيمتها على كل حال!
ولسنا الآن بسبيل العوامل التي قضت على هذه البطولة عند أولاد البلد، ولكنا نسجل فقط أنها قضى عليها القضاء التام، ولم يبق من آثارها إلا مجرد ادعائها والتظاهر بها، فيما تسمعه من هؤلاء أولاد البلد أثناء «الشروع في الخناقات» من ألوان الوعيد والتهديد، بتهشيم الآناف، وتحطيم الأكتاف، وتكسير الرءوس، وإزهاق النفوس، فليس وراء هذا النفخ «المعر» شيء أبدا.
مشروع معركة!1
خرجت مصبح اليوم على عادتي، أطلب مثابة عملي في الجيزة، وما إن كدت أبلغ موقف «الباس»، وهو على بضع عشرات الأمتار من «كبري» عباس، حتى رأيت منظرا جميلا استدرج همي، وشغل كل نفسي، فإنني لحق مشوق إليه من زمان طويل!
فتيان أو شابان من «أولاد البلد»، قد تفصدت نفساهما بالشر، واحمرت من فورة الغيظ أحداقهما، وها أنذا أراهما يتواثبان للمعركة الحامية ، تشج فيها الرءوس، أو تخلع الأكتاف، أو تدق الأصلاب وتقد المتون.
لقد أوحشني حقا هذا الضرب من «الخناق» الوطني يتهشم فيه الضارب والمضروب جميعا، وناهيك بمن لا يتسلحون لمعاركهم، في النزال على وجه خاص بمسدس ولا بسكين، ولا بعصي ولا بحجر، وحسب الفتى من السلاح يده ورجله ورأسه، ففي الضرب «بالروسية» غنى للمقاتلين!
وتالله ما بي أي حب للشر، ولا أنا ممن يستريحون إلى شهود الأذى، وإني لأتألم أشد الألم إذا رأيت حيوانا يتألم فضلا عن إنسان، ولكن هذا اللون من العراك (الخناق) بين أبناء البلد، كان مظهرا من مظاهر الفتوة والبطولة في مصر، فعفي أثره من زمان بعيد، وهذا مع الأسف العظيم.
وقفت إذن مغتبطا مستبشرا بشبوب المعركة، وعودة ذلك التقليد المصري القديم، على أن وسطاء الخير أو وسطاء السوء من السابلة، أسرعوا فحالوا بين القرنين، وأمسك أربعة منهم بواحد، وأمسك ثلاثة بالآخر، وجعل كل جماعة يجذبون صاحبهم ليبعدوه عن خصمه، وهو يقاومهم أشد المقاومة، ويحاول الإفلات منهم ليثب إلى صاحبه، إذ هم يدافعونه عن هذا بكل ما يملكون من القوة.
يتوسل كل منهما إلى جماعته أن يطلقوه فلا تنفع الوسيلة، ويضرع إليهم فما تجدي الضراعة، يتوسل أحدهما إلى صحبه أن يطلقوه ليدغدغ رأسه، فيرجو الآخر صحبه أن يدعوه ليفقأ عينيه، فيحلف الأول بأنهم لو خلوا بينهما لبقر بطنه (فتح كرشه)، فيجيب الثاني حالفا أنهم لو تركوه لدق صلبه (يكسر وسطه)، وهكذا من نحو: «والله لو سبتوني عليه لأخليه كفته»، و«حياة النبي، بس سيبوني وأنا أخلي الدبان الأزرق ما يعرفلوش طريق جرة» إلى آخر هذا الوعيد المرعب المهول.
وفي الحق، لقد اشتد غيظي، وكظ الحنق صدري على هؤلاء الوسطاء المتطفلين، حتى لقد هممت بأن أزجرهم عن تطفلهم، وتعرضهم لحريات الناس على هذا الوجه المقيت، أما الواقع، إذا شئت الحق فإنهم يحولون بصنيعهم بيني وبين متعة تستشرف لها منى النفس كما زعمت لك من زمان بعيد.
على أنه لم يرعني، وأنا أتهيأ لهذا الزجر إلا أن يجهد بالجماعتين كلتيهما ، ويبدو الكلال والإعياء على الجميع، فتطلق إحداهما صاحبها، وتحذو الأخرى حذوها.
وتزاحف القرنان فاشتد خفقان قلبي، وتداركت أنفاسي، حتى سمعت فيها ما يشبه الزحير، وهرولت إلى أقرب جدار فاستعصمت به، ودرت ببصري ألتمس المهرب إذا دنا مني القرنان، أثناء الصيال في الميدان، والكر لإحكام الضرب والطعان، وجمعت كل ما شرد من نفسي لأشهد المعركة الحامية، وأرقب المعمعة الدامية، وهذه فرصة لا شك فيها، فما كنت من قبل جنديا، ولن أكون من بعد لإحدى الصحف مكاتبا حربيا، حتى يتهيأ لي أن أشهد موقعة، أو أخوض معمعة.
مشى كل من المقاتلين إلى قرنه، والشر تبدو نواجذه الحداد، حتى إذا كان كل منهما على متر من صاحبه وقف، وحلف لئن لاقاه ليصنعن به كيت وكيت! ثم استدار كل منهما وولى صاحبه قفاه ومضى لطيته! مغذا في التسيار، شأن الخائف أن يفوته القطار، أو كأنه على موعد من حبيب طال به الانتظار!
سلمت أمري لله، واستقبلت وجه الطريق في انتظار «الباس» ليبلغ بي مثابة عملي، فلم يرعني إلا أن أرى «الكبري» يتحرك ليفرج مجازا للسفن هابطة وصاعدة!
الله أكبر! إذن لقد كان مشروع هذا المعركة الهائلة مجرد «مناورة» لأسافر إلى مقر عملي عن طريق رأس الرجاء الصالح، لا عن طريق قناة السويس بعد أن استحكم اليأس، من المرور على «كبري» عباس!
التطفيل والطفيليون1
سيداتي، سادتي
بحسبنا ثلاث محاضرات متوالية، كلها في جد القول ومره، في زمت هذا الصيف ووقدة حره، فلنستروح هذه المرة بشيء من التفكيه، لنجعل الراحة لذلك الجد جماما، فنحن على هذا في الجد دائما، حتى إذا انحرفنا يوما إلى شيء من العبث أو ما يشبه العبث، فلنرفه به أنفسنا ونسلي عنها لنعود لشأننا ممدودي الأنفاس مشدوي المتون. وحديثنا الليلة مع هذا يجري في باب من أبواب الأدب العربي، ولا تعجبوا إذا كان من أحاديث الأدب القول في التطفيل والطفيليين! ولست أتجوز بهذا اللفظ فأطلب به المتطفلين في العلم أو في الأدب ونحو ذلك، إنما أقع باللفظة على الحقيقة، وهي تعرض المرء لطعام الناس من غير أن يدعى إليه، أما الداخل في شرابهم من غير دعوة كذلك، فيدعى الواغل، ومثلهما الدعي، وهو الداخل في نسب القوم وليس منهم.
والطفيليون نسبة إلى رجل يدعى «طفيل العرائس»، وقد زعموا أنه أولهم، فإليه كانت نسبتهم، ولكنني أحسب أن التطفيل قديم جدا قدم الشره في الإنسان وهوان نفسه عليه، وتطلعه إلى ما ليس له ولو كان طعاما، وتهافته عليه مشايعة لشهوة البطن، مهما ناله في ذلك من مكروه أدبي أو مادي، وربما كان عقد لواء الأولية في هذا الباب لهذا «طفيل العرائس» لأنه أول من احترفه، فلقد أصبح التطفيل حرفة مقررة مرسومة إلى وقت قريب، أو لأنه أول من شرع آدابه، واستفتح بلطف الحيلة أبوابه، وقعد قواعده وأصل أصوله، وفرع فروعه وفصل فصوله، ومن روائع حكمه، وجوامع كلمه، ما قال يوصي به صحبه: «إذا دخل أحدكم عرسا فلا يلتفت تلفت المريب ويتخير المجالس، وإن كان العرس كثير الزحام فليمض ولا ينظر في عيون الناس، ليظن أهل المرأة أنه من أهل الرجل، ويظن أهل الرجل أنه من أهل المرأة، فإن كان البواب غليظا وقاحا، فيبدأ به ويأمره وينهاه من غير أن يعنف عليه، ولكن بين النصيحة والإدلال.»
ولقد قلت لكم إن التطفيل قديم، ولكن أساليبه وطرائقه تتشكل وتتلون في كل عصر وفي كل إقليم، طوعا لما يجري من العرف والعادة وغير ذلك من الأسباب.
ولا أظن أننا في حاجة إلى القول بأن من أول ما يتصف به الطفيلي، هو الشره والطبع، وحدة الوجه ولؤم النفس، وهوانها على صاحبها وعلى الناس، فما يدفع إلى التطفيل إلا هذه الخلال، أما الصفات الأخرى التي يحتاج إليها الطفيلي والتي هي أهم وسائله، فمنها خفة الروح، فإن أعوزته فالتطرف بالقدر المستطاع، ومنها سعة الحيلة ولطف المدخل، ومنها حسن السمت ونظافة الثوب، ومنها حضور الذهن وتهيؤ البديهة، وقوة اللسن، وبراعة النكتة، فإذا اجتمع إلى هذا وهذا، إلمام بالأدب وبالسير، وإذا ضمت إليهما القدرة على ارتجال الشعر ما دعت مناسبات الطعام، فذلك والله الطفيلي التام.
سيداتي، سادتي
انظروا كيف يصنع الأدب! اللهم إني لزعيم بأن يجلو على الناس كل ما في هذا العالم من جميل وبديع، مما يتصل بالصور والمعاني جميعا، فإذا عزه الجمال في ظواهر الأشياء، راح يتدسس إلى بواطنها، فاحتال على استخراجه وجلاه على النفوس جلوا، ولربما مال إلى القبيح في ظاهره وفي باطنه معا، فسوى منه صورا لها جمالها ولطفها في باب التلميح والتفكيه، أليس البخل في الناس قبيحا جدا؟ ومع هذا يأبى الأدب إلا أن يجعل من البخل والبخلاء بابا من أوسع أبوابه، وأبلغها في إعجابه وإطرابه، سواء فيما صور من نوادر البخلاء وطرائفهم، أو فيما صورهم به فحول البلاغة في منثورهم ومنظومهم.
والتطفيل ولا شك أقبح من البخل وأكره وأرذل، ومع هذا لقد كان قسمه من الأدب كذلك.
والآن نقص عليكم طائفة من نوادر الطفيليين من المتقدمين، وما قالوا وما قيل فيهم، فإذا اتسع الوقت قفينا على ذلك ببعض نوادر من شهدنا من المحدثين:
مر طفيلي بالبصرة على قوم وعندهم وليمة، فاقتحم عليهم وأخذ مجلسه ممن دعي، فأنكره القوم وقالوا: لو تأنيت أو وقفت حتى يؤذن لك أو يبعث إليك؟ فقال: إنما اتخذت البيوت ليدخل فيها، ووضعت الموائد ليؤكل عليها، وما وجهت بهدية فأتوقع الدعوة، والحشمة قطيعة، وطرحها صلة، وقد جاء في الأثر: صل من قطعك، وأعط من حرمك وأنشد:
كل يوم أدور في عرصة الدا
ر أشم القتار شم الذباب
فإذا ما رأيت آثار عرس
أو دخان أو دعوة الأصحاب
لم أعرج دون التقحم لا أر
هب طعنا أو لكزة البواب
مستهينا بمن دخلت عليهم
غير مستأذن ولا هياب
فتراني ألف بالرغم منهم
كل ما قدموه لف العقاب
يقال: لف الرجل في الأكل، قبح فيه وأكثر منه خالطا بين صنوفه، ولف العقاب: أي كما يلف العقاب الصيد ويجعله تحت رجليه.
ومر طفيلي على قوم يأكلون، فقال ما تأكلون؟ فقالوا - من بغضهم له: سما، فأدخل يده في الطعام وقال: الحياة بعدكم حرام.
ومر طفيلي بقوم من الكتبة في مشربة لهم، فسلم ثم وضع يده يأكل معهم، قالوا له: أعرفت منا أحدا؟ قال: نعم، عرفت هذا، وأشار إلى الطعام.
وأظن أن من لم يقرأ منكم عن أشعب فقد سمع بصدر من نوادره، فقد كان - رحمه الله - من أطبع الطفيليين وأشرهم، حتى لقد قيل له ما بلغ من طمعك؟ قال: لم أنظر إلى اثنين يتساران إلا ظننتهما يأمران لي بشيء.
ووقفت مرة على رجل يعمل طبقا فقال له: أسألك بالله إلا ما زدت في سعته طوقا أو طوقين! فقال له: وما معناك في ذلك؟ قال: لعل يهدى إلي فيه شيء!
ومن ظريف بدائهه أنه ساوم رجلا في قوس عربية، فسأله فيها دينارا، فقال أشعب: والله لو أنها إذا رمي بها طائر في جو السماء وقع مشويا بين رغيفين ما أعطيتك بها دينارا! •••
وقيل له يوما ما تقول في ثردة مغمورة بالزبد مشققة باللحم، قال: فأضرب كم؟ قيل له: بل تأكلها من غير ضرب! قال: هذا ما لا يكون! ولكن كم الضرب فأتقدم على بصيرة؟!
ومن أظرف اعتذارات الطفيليين قول شاعرهم:
نحن قوم إذا دعينا أجبنا
ومتى ننس يدعنا التطفيل
ونقل علنا دعينا فغبنا
وأتانا فلم يجدنا الرسول
وأتى طفيلي طعاما لم يدع إليه، فقيل له من دعاك؟ فأنشأ:
دعوت نفسي حين لم تدعني
فالحمد لي لا لك في الدعوة
وكان ذا أحسن من موعد
مخلفه يدعو إلى الجفوة
أفرأيتم أصقع وأصفق وجها من هذا الذي يؤثر الدخول في طعام الناس من غير دعوة على أن يدعى إليه، بحجة أنه ربما تخلف عن الإجابة فوقعت الجفوة بينه وبين داعيه!
ودخل طفيلي في طعام رجل فقال له من أرسل إليك فأنشأ:
أزوركم لا أكافيكم بجفوتكم
إن المحب إذا ما لم يزر زارا
ومن أحسن ما قرأته في وصف طفيلي قول الشاعر:
لو قيل في الشام مطمورة
والهند أو أقصى بلاد الثغور
وأنت في مصر لوافيتها
يا عالم الغيب بما في القدور
سيداتي، سادتي
لم تقتصر مهمة الأدب على تقييد نوادر هؤلاء الذين امتحنوا بهذا الشذوذ الخلقي، وقص ما كان منهم من طرائف ونكت، وما تطرف به أصحاب البدائه عليهم، بل لقد حركت هذه الخلال فيهم ملكات الشعراء والكتاب، فجاءوا في هذا برائع الوصف وبارع التشبيه، مما زاد البيان ثروة، بل لقد بسطت في الأخيلة فأعظمت الصغير من النوادر، وأجلت الدقيق من الحوادث، بل ربما اخترعتها اختراعا، واختلقت القول فيها اختلاقا، وهذه نوادر البخلاء في كتاب الجاحظ ما أحسب كثيرا منها إلا منشأ مصنوعا.
ومن أبدع ما قرأت في نوادر الطفيليين، مما لا أظنه إلا حديثا مصنوعا، هذه الحكاية التي أترجمها لكم بلغتي الضعيفة، فلقد مضى على قراءتي لها دهر طويل، ولما بيت النية على هذا الحديث، بحثت عنها فيما كنت أقدر لها من المظان فلم أصبها مع الأسف الشديد، وهي في أصلها مكتوبة بلغة بارعة لا يتعلق بغبارها هذا البيان، وسأنتهز هذه الفرصة، حين يعرض ذكر ألوان الطعام، فأبدل ما لا نعلم من السكباجة والطهباجة والمضيرة، بما نعرف من الصحاف الدائرة في مصر الآن:
حدث رجل من أهل الكوفة أو البصرة (لا أذكر) قال: كنت امرأ واسع النعمة عريض الغنى، ثم تغير لي الدهر وألحت علي السنون، حتى لم يبق في يدي ما أتجمل به بين أهلي ومعشري، فانحدرت إلى بغداد، إن لم أدرك الغنى فلا يراني على هذه الحال من كان يراني في يسري وأبهتي، وبينا أنا واقف على بعض مداخلها حيران لا أدري لي فيها مذهبا، إذ جاز بي رجل حسن البزة، فما إن رآني حتى وقف يتأملني، ثم تقدم إلي فسلم وسلمت، فقال: لعلك غريب حدرتك السنون إلى هذا البلد في طلب الرزق، ما تعرف هنا خطة ولا تعرف أحدا؟ قلت: بلى قال: فهل لك في أن تأكل أزكى الطعام وتلبس أفخر الثياب، وتأخذ مالا يعود بما يجتمع منه على شملك، إذا رجعت إلى أهلك؟ قلت: وأصنع ماذا، في كل هذا؟ قال: حسبك أن تكون طيعا أمينا، قلت: لقد رضيت، وما لي لا أكون كذلك؟ قال: الشرط أملك، فتعال معي ، وتبعته فما زال يخرج بي من طريق إلى طريق، وينفذ من درب إلى درب، حتى أفضينا إلى دار عالية البناء رحبة الفناء فدخلها وأنا وراءه، ثم أفضى بي إلى حجرة فسيحة حسنة الرياش، جلس إلى جانبيها مشيخة من الناس، لهم هيئة حسنة، وجلس في الصدر شيخ أعمى عليه مطرف، وهو أكبرهم عمامة، فتقدمني صاحبي إليه وأسر في أذنه كلاما، فدعا بي، فسلمت وسلم القوم، وقال لي ذلك الشيخ، وعرفت أنه كبيرهم: هل علمت شرطنا ورضيت به؟ قلت بلى يرحمك الله؛ قال: إذن فاعلم أنك قد توجه إلى الوليمة فتقتحم على القوم طعامهم بلطف حيلتك وحسن مدخلك، فكل ما شاء الله لك أن تأكل، فإذا أصبت غفلة من العيون، فدس في أطواء ثوبك كل ما يتهيأ لك دسه من اللحم والحلوى، وإذا وصلك رب الصنيع بمال قل أو كثر، فعليك أن تجيء بالمال وبالطعام، فيقسم هذا وهذا بين الجماعة لكل سهم، وللشيخ (يعني نفسه) سهمان، وهذا شأن إخوانك جميعا، قلت: أفعل إن شاء الله ولا فضل لي فيه، بل الفضل أجمعه إليكم، وقاسمتهم على هذا، فجعل الشيخ يعلمني وينصح لي بما لم أجد ما أحتاج معه إلى مزيد، ثم دعا لي بخير.
ولما نزلت الشمس للمغيب، أفرغوا على كل منا طيلسانا وعمموه عمامة كبيرة، وزودوه بما أمسى له به هيأة وسمت، ثم جعل الشيخ يفرقنا في ولائم الليلة، وألزمني رجلا من الجماعة ليعرفني الطريق، ويفرخ عني ما عسى أن أجد أول الأمر من الهيبة والتحشم، وليريني كيف يكون التجمل لهذا الأمر والتلطف فيه.
ومضينا لوجهنا فأصبنا من فاخر الطعام ما شاء التطفيل أن نصيب، ثم عدنا بما دسسنا من الطعام وما أفدنا من الدراهم إلى الجماعة، حتى إذا عاد سائرهم ونفضوا ما حملوا تقسموه، وأخذت قسمي، وادخرت فضل الطعام لغدي.
وما زلت على هذه الحال حتى عرفت خطط بغداد ودروبها، والمتبسطين على الطعام من أجوادها، وتمت لي البراعة في هذا الأمر، وأصبحت لا أحتاج فيه إلى رديف، فحسنت حالي، وكثر المال في يدي، فاكتريت دارا لي أنام فيها، وفيها أقضي وقت فراغي.
ثم بدا لي أن أبعث في طلب أهلي وعيالي، فما مثل هذا العيش عيش، ولا وراء ما أنا فيه من النعمة نعمة!
وذات عشية أذن الشيخ في القوم بأن لا ولائم الليلة في المدينة، فمن شاء قام إلى بيته، فبدا لي أن أتفرج صدرا من ليلي في أرجاء بغداد، وما برحت سائرا يزلقني طريق إلى طريق، ويستدرجني درب إلى درب، حتى رأيتني في ظاهر البلد، وإذا عرس يرد عليه الناس زرافات وشتى، فاختلطت بهم ودخلت الدار معهم، وآكلتهم وشاربتهم، ونفحني رب الصنيع بدينار، فوسوس لي الشيطان أن أستأثر به وأكتم صحبي أمر هذه الوليمة، فما جاءتهم عيونهم عنها بخير.
ومضيت إلى الجماعة من غدي، فما رأوني حتى وقفوا صفا، وقد احمرت أحداقهم ، ورجفت شفاههم، وقال قائل منهم: أين كنت ليلة أمس؟ قلت: طلبت داري من ساعة فارقتكم ولازمتها حتى الساعة، فجذبني أولهم إليه وشم راحتي، وقال بل كنت في وليمة وأكلت «ديكا روميا»، وصفعني صفعة شديدة ودفعني إلى الذي يليه، فشم راحتي وقال: وأكلت بعده «بامياء مرصوصة»، وصفعني صفعة أطارت صوابي، ودفعني إلى الذي يليه، فصنع صنعه، وقال: وأكلت «كستليته» مشوية، وصفعني صفعة كادت والله تسل خيط نخاعي، وقال الرابع: وأكلت كيت، وهكذا ما أخطأ - والذي نفسي بيده - واحد منهم قط فيما تشمم وحزر، ثم انتهيت إلى الشيخ المكفوف، فشم باطن يدي وقال: وأخذت دينارا؛ وصفعني صفعة لو وزن بها كل ما نالني في ليلتي لرجحت به، وما زالوا بي صفعا بالأكف، وركلا بالأرجل حتى ألقوا بي في ظاهر الدار لا أعي شيئا!
سيداتي، سادتي
هذه نادرة من نوادر الطفيليين، إذا لم تكن وقعت كما رويت، وكانت من تلفيق الخيال، فهي ولا شك تعطينا فكرة ولو تقريبية، عن احتراف مهنة التطفيل ذلك العصر في بغداد، ومهارة أصحابه فيه.
ولولا انقضاء الوقت المقسوم لي لحدثتكم عن بعض من شهدنا من الطفيليين في العصر الحديث، وأعني أولئك الذين انقرضوا بانقراض ما يدعوه المصريون «بالأفراح»، ثم أخذنا بالحديث عن المتطفلين في الوقت الحاضر، أعني الطفيليين «المودرن».
ولعل لنا إلى هؤلاء وهؤلاء كرة إن شاء الله.
التطفيل والطفيليون1 في الجيل
الماضي
كنت قد أذعت من محطة الراديو في شهر أغسطس من سنة 1934 حديثا عن التطفيل وقدامى الطفيليين، وأوردت فيه طائفة من ملحهم ونوادرهم، وما قيل فيهم، وما قالوا هم في أنفسهم، ومواتاة بدائههم في لطف احتجاجهم لاقتحامهم على الناس موائدهم، وتهافتهم على طعامهم من غير دعوة إليه، وتعرضهم في هذا لألوان المكروه من الشتم والسب، والطرد والضرب إلخ.
ووعدت في غاية الحديث أن أجرد «محاضرة» للطفيليين في الجيل الماضي، وقد عنيت الطفيليين المحترفين، وهؤلاء قد انقرضوا وخلا وجه مصر منهم، بذهاب العادة التي كانت شائعة في هذه البلاد إلى زمن قريب، وهي إقامة الأعراس (الأفراح) وما إليها مما كان المصريون يتنافسون فيه، ويتكاثرون به في المناسبات المختلفة من نحو العودة من الحج، وختان الولد، وولادة البكر من البنين وغير ذلك.
وكانوا يدعون بالمغنين ومشهوري قراء القرآن العظيم، ومرتلي مولد النبي الأكرم
صلى الله عليه وسلم ، كل على قدر حاله وجهد ثروته، فمنهم من يدعون بالمرحوم عبده أفندي الحامولي، أو المرحوم الشيخ يوسف المنيلاوي، أو يدعونهما معا، وهؤلاء خاصة الخاصة من طبقة «الذوات»، أما المرحوم محمد أفندي عثمان فكان من قسم أوساط الناس، حيث لا يقام على سرادقاتهم حرس ولا حجاب، ولا شرط يدفعون الناس عن الأبواب، وبهذا كان عثمان مغني الشعب حقا، وما تقول فيه تجريه على المرحومين: محمد أفندي سالم، والشيخ محمد الشنتوري، وإبراهيم أفندي القباني، وأحمد أفندي فريد، والسيد أحمد صابر، كانت طبقة «أولاد البلد» القح، وأعني بهم طائفة المقدمين، ورؤساء الصناع (المعلمين)، ومهرتهم لا يعدلون بالسيد أحمد صابر مغنيا آخر.
ولقد كان لهذا الرجل في غنائه أسلوب خاص به، لا يذهب به مذهب عبده ولا عثمان، ولا من يقلدون هذا، ولا من يشتعبون طريق ذاك، هو أسلوب بلدي بحت، يتفخم فيه اللفظ، حتى تشتبه تاؤه بطائه، وتختلط سينه بصاده، ويمتد فيه النفس ويطول الصوت، وهو في طريقه ما يزال يرق في زجله وترجيعه، ويلين في ترديده وتسجيعه، ويتخافت حتى تحسبه هتاف الهاتف يهمس به جانب الوادي البعيد في الليل البهيم، ثم يجلجل ويقصف كأنه النفير أقبل يوقظ النيام، وينذرهم الحادث الجسام!
وكيفما كان الأمر، فإن صابرا كان أقدر المغنين على مشايعة أحاسيس هؤلاء (أولاد البلد)، وتحريك الوادع المستلقي من عواطفهم، وكثرتهم - كما تعلم أو لا تعلم - كانت من أرباب «الكيوف»!
وكانت الصحف السائرة في البلد قليلا، ومطالعتها تكاد تكون حبسا على الخاصة، وفوق هذا فليس الناس كلهم يعلنون في الصحف عن أعراسهم ولا عمن يغني مدعويهم، فكان يقوم بمهمة النشر هذه «باعة اللب»، ينتشرون من مطلع النهار في أحياء القاهرة، فيؤذنون فيمن يعرفونهم من هواة الغناء والتطريب، أن الشيخ يوسف الليلة في دار فلان بحي كذا، ومحمد عثمان في دار فلان بحي كذا إلخ، وسرعان ما تذيع هذه الأخبار فلا يدخل الأصيل إلا وقد ملأت جميع الأسماع.
وكان الهواة إنما يطلبون هذه «الأفراح»، كل على حسب هواه وصغوه، بعد العشاء الآخرة، أي بعد أن ترفع موائد الطعام وينتظم مجلس الغناء، أما قبل ذلك فلا يغشى موضع الصنيع إلا المدعوون وإلا الطفيليون.
وهؤلاء الطفيليون كانوا معروفين للنقدة سواء من أصحاب الصنع
2
أو من المدعوين، من لم يعرف منهم بحيلته ونسبه عرف بسيماه ودله: أما جماعات الفراشين، فكانوا يعرفونهم جميعا، لكثرة اختلافهم إلى الموائد، وترددهم على الطعام في الأعراس والمواسم، وكثيرا ما يدلون أصحاب الصنيع عليهم، ويلفتونهم إلى مواضعهم.
وهنا ينبغي أن أقول لك: إن «أولاد البلد» تشيع فيهم خلة الجود بالطعام، فتراهم حيثما كانوا يدعون إليه، ويتبسطون عليه، يدعون إليه (ولو تجملا) ساقط الآفاق، واللائح في عرض الطريق، وقد يلحون في الدعوة وقد يعزمون.
3
إذا عرفت هذا، وقرنت إليه تلك الخلة التي هي مزج من الخجل والضعف، أدركت أن هؤلاء الطفيليين، أو (الطبابين)، على اصطلاح «أولاد البلد» أنفسهم، لم يكونوا يجدون مشقة في غشيان صنعهم، والاقتحام على موائدهم على وجه عام ، ولكن المشقة كلها عليهم، والحرج أجمعه على أصحاب العرس، هو في أن يتسلل هؤلاء «الطبابون» إلى الموائد الخاصة التي أعدت لجباه القوم وأعيانهم.
وفاتني أن أذكر لك أن الطعام كان يقرب على أخونة (صواني) متعددة، يرص حول كل واحد منها من ثمانية نفر إلى اثني عشر، وتختلف ألوانها باختلاف درجات المدعوين، وأفخرها ما يصدر بالحمل (القوزي)، أو «الديك الرومي»، ويسلك فيه الحمام والفراريج وأطايب اللحم تطهى على أشكال، وتقرب «المسبكات» من ألوان الخضر، ويستكثر فيه من صنوف الحلوى، ويخص أخيرا بالفاكهة، ودون هذا يصدر بالضلع، وهكذا إلى أن تقتصر مطالع الموائد على المزعة من اللحم، لا يملؤ نصيب الآكل منها الكف ولا ينتفخ به الشدق، وهذه الموائد المعدودة لعامة الناس.
وهنا يشجر الخلاف بين «الطباب» وبين صاحب الصنيع، فهذا «الطباب» لا ينحدر طرفه ولا يتقاصر هم بطنه عن أفخر الطعام وأدسمه وأجزله ما عرف موضعه، ودنا محله، وعليه يسيل لعابه، وله تتفتح لهوته، وإليه تهيج شهوة بطنه، فكيف الصبر عنه، وكيف الرضا بما دونه؟
أما صاحب الصنيع، فإنما احتفل للمائدة ما احتفل، وبذل في التأنق في الطعام ما بذل، إيثارا لمن «شرفوه» من أصحاب الوجاهة والمنزلة في الناس بالجاه والمنصب، ومبالغة في إكرامهم، واستخراج الإعجاب والثناء منهم، فهو بالضرورة يكره أن يدس بينهم من لا يشاكل أقدارهم، ولا يطاول أخطارهم، فكيف بمن خلق ثوبه، وشاه سمته، وهان موضعه، وكيف به فوق هذا، إذا ملكه النهم، وغلب عليه القرم،
4
فاطرح التحشم، وجعل يقبح في أكله، ويعطو بكلتا راحتيه، ويصول في باطن الصفحة بجميع يده، ويزدرد الطعام ازدرادا، ويلتقمه التقاما، حتى لا يكاد يمس فكه، أو يصافح ضرسه، بل إنه ليمر مر البرق على شدقه، في مهواه إلى حلقه!
ويثور ثائر رب الدار إذا رأى «الطباب» دسيسا على خاصة المدعوين، سواء أمعنوا في الطعام، أم كانوا في انتظار الطعام، فسرعان ما ينصب عليه، ويجذبه بضبعيه، وربما زم عنقه بكلتا يديه، ثم جعل يجره جرا، إذا الرجل قد أرسخ رجله على الأرض، أو لف ساقه على رجل دكة أو نضد،
5
وتشبثت يداه بكرسي ثقيل أو بعضادة باب، وبطنه أثناء ذلك يرتفع مع أيدي الآكلين ويهبط، وينقبض مع راحهم وينبسط، حتى إذا جهد برب الدار استنفر لزحزحته الأهل والخدم والفراشين، فلا يزالون به دفعا ولكزا بالأيدي، وركلا بالأرجل، وهو يقاوم ويجاهد، حتى إذا خارت قوته، وانخذل متنه، ونفد جهده، حملوه فألقوه في ظاهر الباب، أو نفضوه عن ساحة العرس نفض التراب. فلا يلبث أن يجمع شمله، ويتسلل في لباقة وخفة، ويرتصد للمائدة نفسها، فإذا أصاب غرة من أهل الدار، عاد فانصب عليها، وإلا عدل إلى مائدة أخرى تكافئها أو تقل يسيرا عنها، وربما عاوده أولياء العرس بالطرد والضرب فلا يثنيه ذلك عن المعاودة وهكذا، وكأنه في شأنه هذا يتمثل بقول الشاعر بعد أن وجه الكلام فيه على البطن بدل النفس:
لأبلغ عذرا أو أصيب غنيمة
ومبلغ «بطن» عذره منك منجح!
و«الطباب» - وقاك الله شر البطنة - لا يقنع بالوجبة على المائدة، بل إنه ما يكاد يرفع يده عن غاية الطعام، حتى يهرول في التماس مائدة أخرى في العرس نفسه، أو في عرس غيره، من حيث قدر المدخل، وغفلة الأعين وجودة الطعام، حتى لقد يوالي بين ست وجبات أو سبع في ليلة واحدة، ما يثقله بشم،
6
ولا ترهقه كظة ولا يضيق له كظم،
7
كأن معدته نحتت من حجر أو قدت من حديد، وحق فيها: «يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد»؟! ...
ثم إنه لا يكتفي بكل ما يدس في جوفه، ويقذف في بطنه، بل إنه لدائب جاهد، ما أصاب الغرة وأمن الرقبة، في أن يدس في جيبه كل ما تيسر له من اللحمان والمحاشي والحلوى والفاكهة، وقد يراه على هذا بعض مؤاكليه فلا يتعرضون له من رحمة أو من حياء! •••
وبعد، فهذا كان شأن عامة الطفيليين أو (الطبابين) في الجيل الماضي، على أنه كان لخاصتهم شأن لعله أكرم من هذا الشأن، فإذا تحريت الدقة في التعبير قلت لعله أقل هوانا، وأضعف امتهانا.
وفي «الطبابين» أيضا خاصة، كما في سائر طبقات الناس خاصة، وخاصة «الطبابين» هم جباههم وعرفاؤهم وسراتهم، وناهيك بالنديم، الظريف، المحاضر السري، الوجيه، الجميل السمت والفاخر البزة، المرحوم الشيخ حسن غندر، والشيخ حسن غندر حقيق بأن يؤثر وحده بمقال طويل، فللرجل في مفاخر التطفيل تاريخ حفيل.
الشيخ حسن غندر
وما أدراك ما الشيخ حسن غندر؟ لقد كان الشيخ غندر من مباهج مصر، وآية يتيه بها ذلك العصر على كل عصر، نعم لقد كان المفرد العلم في «فن» التطفيل، وهيهات يجود الزمان بمثله «فإن الزمان بمثله لبخيل»!
كان رحمه الله، طويل القامة، ليس بالبدين ولا بالهزيل، مستطيل الوجه، شديد حمرته، لو نضا عنه عمامته لخلته من أبناء التاميز، تدور حوله لحية دقيقة بيضاء، لا أثر في شعراتها لسواد، أزرق العينين، رقيق الحاجبين، مقوس الأنف، ولعلك في غير حاجة إلى من يزعم لك أنه لم يكن دقيق الفم، وكيف يتصور له هذا، وفمه هو سبيله إلى ذهاب صيته، وشيوع ذكره، وخلود اسمه؟!
وكان ضخم الصوت، إذا تحدث أحسست أن صوته إنما يجيء من أقصى حلقه!
ثم لقد كان حسن السمت، نظيف الثوب، فاخر البزة، لا يلبس القباء إلا من صنع الحمصاني، ولا يفصل الثياب إلا عند أشهر الخياطين، فإذا كان الصيف وضع عليه الجبة من الحرير المتموج (موريه) المعروف عند أولاد البلد «بالألاج».
وترى في إصبعه خاتما كبيرا من الماس النقي، فإذا اقتحم به مهرجان العرس وتساقطت عليه أضواء الثريات، تموجت من حوله ألوان الطيف، وبرقت من أقطاره أشعة تكاد تخطف الأبصار!
وبعد، فلقد كان إلى هذا التأنق والتجمل، عذب الروح، فكه الحديث حسن المحاضرة، حلو المنادمة، حاضر النكتة، عالما بأخبار الناس، محيطا بصفاتهم وأسبابهم وشمائلهم، يحدثك عن أجوادهم وبخلائهم، ومن يهش للأضياف منهم، ويتبسط على طعامه معهم، ومن يغلق دون الضيف بابه، ويقيم عليه إذا حضر الغداء أحراسه وحجابه، ومن يخفت نشيش
1
اللحم حتى لا يسمعه الجار، ويكتم ريح القتار
2
فلا تشمه القطة، ويضل بلطف حيلته النمل عن موضع السكر في البيت.
وإنه ليحدث عن عادة كل عين من أعيان البلد في طعامه وشرابه، ويعرف ما يؤثر من ألوان الطعام وما يكره، وكم يقرب إليه من الصحاف في غدائه وفي عشائه، ووظيفة مطبخه من اللحم والطير في كل يوم، وكيف يطهي له طاهيه، وأي الألوان يحذقه ويجود فيه، وما الذي يعالجه بالسمن، والذي يعالجه بالزيت أو الخل، وماذا يشوى منه وما يقلى، وما تذكى له النار وما تخبى، وما يكمخ منه ويتبل،
3
وما يعجل بالطهي وما ينظر حتى يذبل إلخ، حتى ليخيل إليك أن بصيرة هذا الرجل تقتحم كل بيت، وتنفذ إلى كل مطبخ، وأن عينه تسلك كل قدر، وأنفه يجول في كل برمة!
وهو إذ يحدثك في هذا ترى شدقه دائم الاختلاج، وشفتيه لا تفتران عن التحلب، شأن من ألح عليه الجوع، وهو يرى أشهى الطعام بين يديه، ولكن لا سبيل له ألبتة إليه!
ولقد يجول الشيخ غندر في غير حديث الطعام، فيبدع في حديثه، ويلون في سمره، ويفتن في إيراد النكتة كلما دعت مناسبات الكلام، وبهذه الخلال فيه كان أثيرا عند كثرة الخاصة، محببا إلى نفوسهم، يشتهون مجالسته بقدر ما يشتهي هو مؤاكلتهم والاستواء إلى موائدهم، حتى إذا انتظمهم الخوان في عرس أو نحوه، لم يتبرموا بتدسسه - في سر من رب الدار - بينهم، بل ربما فسحوا له وكفوا سطوة رب الدار عنه، وأنت خبير بأن هؤلاء في العادة، إنما يجيبون دعوة الداعي لإرضائه، وإظهار الاحتفال لشأنه، لا ليصيبوا عنده دسما، ولا ليشبعوا من طعامه نهما، فلا بأس عليهم بأن يختار هذا الطفيلي الظريف الطعام دونهم، ويملكه كله عنهم، بل إن تقبيحه في طعامه، وشهودهم لافتراسه والتقامه، لمما يعجبهم ويدخل السرور عليهم!
وكيفما كان الأمر، فإن هذا الرجل ما يزال إنسانا وديعا أنيس المحضر، ظريف المجلس، حتى يحضر الطعام، فإذا حضر جن جنونه، وثار ثائره، وخيف بوادره، وتغير خلقه، وتنكرت صورته، وأمسى منظره مفزعا مرعبا، ولو قد رأيته وهو يفري الفري، ويلتهم اليابس والطري، لخلت أن كل شيء فيه قد استحال فما : فهو يأكل بفمه، ويأكل بعينه، ويأكل بأنفه، لا تراه يلوك لقمة أو يحرك للمضغ ضرسا، بل إنه ليكورها ثم يقذف بها في حلقه، فتكاد تسمع رنينها في قرارة بطنه، فإذا فرغ من شأنه - وما بيده أن يفرغ - لبث يتلمظ ساعة، ثم ارتد إنسانا وادعا ظريفا يلون السمر، ويفنن الحديث تفنينا. •••
وبعد، فسترى من هذا الرجل في أسباب تطفيله العجب العاجب: لقد كانت له ضيعة في ضواحي القاهرة لا تقل عن مائة وسبعين فدانا، وكانت له بنيات (منازل ودكاكين) في قلب المدينة يجبي ريعها، وقد أتلف هذه الثروة الضخمة، وأتى عليها تمزيقا وتبديدا، حتى خرج في مؤخرات أيامه عنها كلها، كما خرج بالموت عن الدنيا كلها!
لم يكن الشيخ غندر مقامرا ولا مضاربا، ولم يكن سكيرا ولا طلب نساء، ولم يدخل في «مقاولة» أو يجازف في تجارة، ولم يداخل طوال حياته سببا من الأسباب التي تأتي في العادة، على رءوس أموال الناس! إذن فاحزر، وما أراك بعد بقادر!
لقد أتلف الرجل ثروته كلها، وأتى عليها جميعها في سبيل التطفيل وحده لا في أي سبيل آخر!
أليس من أعجب العجب أن يتلف امرؤ جلائل الأموال في سبيل الإصابة من طعام الناس بالمجان؟ وأي شيء يكون التطفيل غير الارتصاد لإصابة جيد الطعام بالمجان؟
إذن فإليك السبب، وإذا عرف السبب، بطل - كما يقولون - العجب!
لقد استمكنت شهوة التطفيل من الرجل، حتى استحالت فيه طبيعة وغريزة وجبلة، فأمسى يطلبها لذاتها متجردة من أي اعتبار آخر، إنه شهوان إلى طعام الناس، يسقط عليه، ويقتحم له مهما يصبه في سبيله من المشقة حتى في إتلاف الأموال!
ولقد كان في مصر طوائف من أولاد «الذوات» المسرفين المستهترين بألوان المنكرات، ولقد تصفر أيديهم في بعض الأحيان، بضن الوالدين، أو بتعجيل الإتلاف لوظيفة الشهر أو لذخيرة العام، أو بغير ذلك من أسباب العسر، فكيف لهم بالمال؟
لقد عرفوا الشيخ غندرا، وأدركوا مدى هم البطن فيه، وهداهم الرأي إلى استغلاله من هذه الناحية، فإذا أعوزوا واحتاجوا إلى المال، بعثوا في طلب حمل «قوزي» أو ديك رومي، ودفعوه إلى طاهي أحدهم، وأوصوه بأن يحسن إنضاجه، وبأن يطهي ألوانا أخرى من شهي الطعام وفاخر الحلوى، ثم دسوا على الشيخ حسن من يخبره الخبر، ويستوصيه بألا يفشي للجماعة سره، فيهرول من فوره إليهم، حتى إذا طلع عليهم تنكروا له، وربما ردوه بالقول الغليظ، وهو يستعطفهم ويتوسل إليهم، وربما تركهم في إصرار وانسل إلى المطبخ، حتى إذا رأى ما رأى وشم ما شم، انقلب إليهم وقد زاغ بصره، وتقلصت شفته، وجعلت أسنانه تقضقض قضقضة المقرور، ثم عاد يتوسل ويتدلل، فيباديه بعض القوم بأنه حلف بكل مؤثمة من الأيمان ألا يقرب الطعام إلا إذا أقرضه عشرين جنيها أو ثلاثين لغاية الشهر، فيسرع إلى داره، إذا لم تكن حاضرة في جيبه، ويجيء بها ما تنقص قرشا واحدا، وهو الذي يحتمل أجر المركبة إذا كانت المسافة مما يستدعي اتخاذ المركبات، وربما ورطوه في ضمانة أو نحوها من وجوه الالتزامات، ففعل نزولا على حكم البطن العاتي الجبار، وهكذا ...!
ولقد ترامى هذا إلى غيرهم من «أولاد البلد» فحذوا في استخراج الأموال منه حذوهم، حتى أفلس الرجل وأمحل ولصقت يده بالتراب! •••
هذا ما كان من أمر الشيخ حسن غندر في طعامه، أما ما كان من أمر شرابه، فلقد كان لبطنه فيه كذلك عبقرية وجبروت.
وإني أبادر فأؤكد لك أنني لا أعني بالشراب الخمر، فإن الرجل لم يكن يذوقها قط، فلقد كان رحمه الله، شديد التأثم، حريصا على دينه من هذه الناحية، إنما أعني بالشراب ما احلولى طعمه، وساغ في الشرع حكمه، وإن كان لا يرى حرجا من منادمة جماعات الشاربين.
وإني أكتفي في هذا الباب، بذكر نادرة واحدة من نوادره، نتم بها الكلام، لتكون «مسك الختام»:
في ذات عشية سقط الشيخ غندر على «فلان بك»، وكان غفر الله له، من أبناء «الذوات» الموسرين، المتهترين بالشراب، وهو كذلك من أولاد النكتة أصحاب البدائة، وكان الشيخ غندر أثيرا عنده، يستمتع بلطف حديثه، كما يستمتع برؤيته في ثورة نهمه.
وقبل أن يمضي إلى مباءات سكره وعبثه، استصحب الشيخ إلى بعض المطاعم المشهورة، وحكمه فيها يشتهي، حتى إذا بلغ كفاياته من الطعام ومن الحلوى والفاكهة أيضا، وناهيك بكفايات الشيخ غندر، انكفأ به إلى بعض الحانات الكبيرة، ودعا لنفسه بخمر مما يشرب في الكئوس الدقاق، ودعا للشيخ بكوب من «الشربات»، فجاء الغلام بكأس الخمر، وجاء معه بكوب كبير جدا من «الشربات»، وما كاد صاحبنا يفرغ الخمر في حلقه في جرعة، حتى رأى الشيخ يصب كوبه الضخم في بعض جرعة، ثم دعا بالغلام وسأله كأسا له أخرى، وهنا تقدم الشيخ حسن وقال للغلام: أريد يا بني أن تأتيني هذه المرة بشراب الورد، فإنه طيب الرائحة لذيذ الطعم، ثم طلب صاحبنا الثالثة، فأسرع الشيخ وقال للغلام: أما هذه المرة فعلي بشراب اللوز (الصومادة)، فإنه يصلح المعدة ويبرد من حرارة القلب، ثم دعا صاحبنا بكأس رابعة، فقال الشيخ للغلام: علي هذه المرة يا بني بشراب البنفسج (الفيوليت)، فإنه بديع النكهة ساحر المذاق!
ثم رأى صاحبنا - على عادة المستهترين من أصحاب الشراب - أن يتحول إلى حان آخر، فدعا لنفسه بخمر، ودعا الشيخ لنفسه كذلك «بشربات»، وظلا يتحولان معا من حان إلى حان، يشرب صاحبنا خمرا ويشرب الشيخ بإزائه «شربات» حتى كاد ينصدع عمود الصبح، ثم انقلبا إلى الدور، فإذا هذا قد أصاب اثنين وعشرين كأسا من الخمر، وإذا الشيخ غندر قد والى بإزائه بين اثنين وعشرين كوبا من، «الشربات»!
الباعة الجوالون1 ومساحو الأحذية
سيداتي، سادتي
لعلكم كنتم تتوقعون مني في اليلة أن أتم لكم حديث الأسبوع الماضي، بل لقد استحثني على هذا كثير ممن لهم فتيان ما برحوا في مطلع الشباب، ولكنني، والحمد لله أكره الأثرة لنفسي، ولا أحبها في غيري، وذلك الحديث فوق ما فيه من جفاف أو ما يشبه الجفاف، فإنه مما يعني مباشرة طبقة خاصة من الناس، وإنني لم أنس وعدي لكم أن أداول بين فنون الأحاديث، ففي التلوين والتغيير كما قلت، راحة واستجمام، وأعدكم وعدا صادقا أن أتم ذلك الحديث في نوبة أخرى إن شاء الله .
سأحاضركم الليلة في موضوع لا يمكن أن يرد لأحد منكم على خاطر، وإني لأتحدى من شاء منكم أن يحزر، فإن أصاب فله عندي عشرة جنيهات إزاء جنيه واحد إذا أخطأه الحظ، وهو مخطئه لا محالة.
سيداتي، سادتي
لقد تحديتكم جميعا، وتعرضت لمخاطرة من شاء منكم، في حين لا أعهد في نفسي بعض هذه الجرأة، وليس من عادتي المخاطرة أبدا، والواقع أنه لم يبعثني على هذا ويشجعني عليه إلا أنني أتناول موضوعا لا يمكن أن يخطر ببال أحد، لأنه من التفه والسخف في الحضيض الأوهد، وأنا واثق بأنني حين أباديكم بعنوان هذا الموضوع سيأخذكم العجب، ويتملككم الدهش.
إي والله يا سادة، إني لمحدثكم الليلة عن البياعيين «السريحة»، وعن «البويجية» وكنت والله أحب أن أقرن بهاتين الطائفتين ثالثة الأثافي ألا وهي طائفة سادتنا الشحاذين، ولكن الوقت أضيق من أن يحتمل هذا كله، فللسادة الشحاذين وحدهم حديث طويل، ولعلنا نلم به في فرصة أخرى، إذا أذنوا هم لنا بساعة من النهار أو الليل واحدة، نتدبر فيها أمرهم، ونتقصى بعض سعيهم.
إذن سأحدثكم الليلة عن الباعة المترفقين بأبدانهم المضطربين في السبل ببياعاتهم.
سيداتي، سادتي
أرجو ألا تتابعوا أوهامكم، فهي ولا شك، تكذبكم إذا مثلت لكم هذا الموضوع بهذا المكان من التفه والسخف، وإني لأرغم أنها مسألة ذات خطر كبير، بل لقد أستطيع أن أزعم أنها من مشاكلنا الاجتماعية التي ينبغي أن تتظاهر الجهود على حلها وتوليها بالعلاج، كلنا يفكر في غلاء القمح، وكلنا يتدبر في هبوط أسعار القطن، وكلنا يجزع إذا عرض الحديث في أزمة الديون العقارية، وكلنا مشغول بكيت وكيت من المشكلات التي تستهلك تفكيرنا وجهدنا وتفيض بها الأنهار الطوال في صحفنا، مع أن تلك الأزمات مهما بلغ من بعيد أثرها وعظيم ضررها، فإنها وقتية سيحلها الزمان إذا لم تحلها جهود العاملين، أما هذه فالقضاء الحتم علينا أبد الآبدين، ودهر الداهرين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين!
البدار البدار! النجدة النجدة! يا مفكري الأمة، يا جماعة العاملين فيها، يا معشر المتحدثين عليها: هيا هيا أنقذوا البلاد، وأريحوا العباد؛، فقد بلغ السيل الزبى، وجاوز الحزام الطبيين!
اللهم ارفع مقتك وغضبك عنا، لقد كتب على سكان المدن في هذه البلاد الحرمان الأبدي السرمدي من الراحة والدعة، والأمن على الأموال والأعصاب.
أنى جلست فأذى، وأنى سعيت فكيد، وأنى اضطربت فعناء، وأنى توجهت فبلاء فوقه بلاء وتحته بلاء!
تهافت مستمر، وإلحاح لا ينقطع، وشخوص متواردة متتابعة متتالية، لا يكاد ينفذ بينها الهواء، وأصوات منكرة عالية لا تسكن ولا تفتر، ولا ترق ولا تهدأ، وكذب لا تعتريه مذقة من الصدق أبدا، وأيمان كلها غموس، لولا حلم الله وإمهاله لأعميت العيون، وصمت الآذان، وبترت السوق، وقصمت الظهور، وجدعت الأنوف، وعجلت مواقع الحتوف.
ولنتكلم عن الباعة أولا، ولنبدأ من حديثهم بخراب الذمة، والغش وقلة الحياة - أستغفر الله - بل انعدام الحياء، أما الغش والكذب والحلف بالباطل، فهذه خلة مشتركة بينهم جميعا لم أر في حياتي من سلم منها إلى الآن، يعرض الواحد منهم عليك السلعة، فتسأله عن ثمنها، فيجيبك بأنه ريال مثلا، فتعمد إلى مقابلة الكيد بالكيد، فتعرض عليه فيها أربعة قروش، فيظهر لك الغيظ والسخط على هذا الوكس، فتصر فيحلف بالطلاق والعتاق، وبالعين والعافية، والولد (ولا يعدمه) وينذر الحج إلى بيت الله ماشيا، أنها «واقفة عليه» في الجملة بثمانية عشر قرشا صاغا، فهو يبيعها لك برأس المال، لأنك «مش غريب»، وهو «لسه ما استفتحش» فتصمم، فيعرض ستة عشر، ثم يتدلى إلى أربعة عشر، ثم إلى عشرة، ثم ينذرك الإنذار الأخير بأنه لن يبيعها بما دون الثمانية، فتشيع عنه بوجهك، فيولي مسرعا حتى يغيب عن نظرك، ما لم تبادر فتتبعه بندائك، ثم ما يلبث أن يعود فيقول لك: «وبستة ما تخدش؟» فتسكت! فيقول لك: «طيب عاوز كام واحدة؟» وهكذا يأبى كل واحد منهم إلا أن يحقق في كل لحظة قول الشاعر:
وأكذب ما يكون أبو المثنى
إذا آلى يمينا بالطلاق
ثم إنه يغش غشا مفضوحا قذرا وقد يغش «زبونا من زبائنه» الثابتين الذين يعاملونه فيجدون عليه كل يوم، وقد يكون هذا الغش في نوع البضاعة، كأن يبدل سلعة بأخرى في أثناء غدوه بالمساومة ورواحه، أو أن يصيب الغرة من المشتري فيدس له الفاسد العطب، أو أن يؤكد له أن صديقه فلانا اشترى بسعر كذا كذبا وبهتانا، وهو يعلم أنه ملاقيه في غده إن لم يلقه في يومه، وقد لا يزيد الخطب كله على دراهم قليلة، ثم يكون من أثر هذا الانتفاع الحقير المحرم أن يخسرك ويخسر معك كل جلسائك بالاختفاء عن مجلسك الشهور الطوال، بل السنين ذات العدد.
وأنا مسمعكم نموذجا مما جرى لي من هذا القبيل، وأقول نموذجا لأن هذه أشياء لا يدركها عد، ولا يحيط بها حصر (وهنا أورد المحاضر طائفة من النوادر العجيبة التي وقعت له مع هؤلاء الباعة.)
أما قلة الذوق فحدث عنها ولا حرج: يراك أحدهم وأنت تتناول طعامك في أفخر مطعم، وبين يديك أشهى الأطعمة، فيمد يديه من الشباك، بالبنيكة التي يحمل عليها بياعته، حتى يحك بها ذقنك، ويصيح في وجهك: «البيض والجبنة والكحك الشامي»؛ آمنت بالله! وقد تكون في جماعة من أصدقائك في مكان محجوز من محل عام، وقد تكونون منهمكين في أدق الحديث، وقد حمي بينكم الجدل واشتد، وقد يكون معكم من يغنيكم بالصوت الكريم الحنان وقد أرهفتم آذانكم وعلقتم أنفاسكم، وجمعتم كل إحساسكم للسمع، فلا يروعكم إلا عتل يقتحم عليكم المجلس، ويظل يصيح: «الفستق الحموي، الفستق الطازة!» فلا يسع المتحدث إلا أن يسكت، والشادي إلا أن يقطع الغناء، ولكنه هو لا ينقطع عن الصياح والنداء، ويرى هذا كله فلا يمسك، ولا تخجله تلك النظرات الشزراء، ولكن ما الحيلة، والعين بصيرة، والرجل قصيرة!
وثالث يراك منهمكا، في طعامك والدهن يسيل من يديك كلتيهما، فيمد يده بورقة «اليانصيب» حتى تحول بينك وبين طعامك، وحتى تكاد أصبعه تفقأ العين «آدي اللي فضلت، السحب النهاردة، اللي تكسب ميتين جنيه!» يا سيدي أنا عائذ بالنبي! وكيف لي بأن أدس يدي في جيبي، وهي على هذه الحالة، لأستخرج الثمن؟
وعلى ذكر «اليانصيب» أذكر لكم أنني كل يوم في مغداي ومراحي أشهد عملاقا صعيديا، تكاد مساحته تقاس «بالقصبة» طولا وعرضا، يستطيع وحده أن يشق مصرفا ويطهر ترعة، وقد أوتي قفا يتحير النظر في ضواحيه، ما رأيته مرة إلا أحسست كفي تنازعني إليه؛ لو ألف من نفسه فقط «منسرا» لقطع الطريق بين القاهرة والأقصر، وأصبحنا لا نبلغ أسوان، إلا عن طريق بور سودان، ولو أن الهر هتلر استولى عليه لكفاه كل من يحذر من خصوم حكمه، ووفر عليه العناء في تأليف فرق للهجوم وأخرى للدفاع، وأعفاه من المئونة في القمصان الزرقاء والحمراء!
أتعرفون بماذا «يسرح» هذا الكون العظيم عامة نهاره؟
إنه يجول كله بثلاث ورقات «يا نصيب»، إحداها «إسلام»، والثانية «رومي»، والثالثة لا أدري!
أرأيتم كيدا أشد من هذا الكيد، وبلاء يعدل كل هذا البلاء؟
سيداتي، سادتي
بحسبنا اليوم هذا القدر في جماعات الباعة المضطربين ببياعاتهم في الطرق، ولنعد الآن إلى طائفة ماسحي الأحذية، وما أدراكم ما ماسحو الأحذية؟ ولا جزى الله خيرا ذلكم الذي اخترع هذه الأحذية الإفرنجية، حتى أغرتنا بأن نستبدل بها نعالنا البلدية، أعني «المراكيب» الحمر.
ورعى الله أيام «المراكيب» الحمر وأيام قصبة رضوان، ولو بقيت لأغنتنا عن رؤية تلك الوجوه في هذا الزمان! (وهنا أورد المحاضر طائفة مما وقع له من النوادر مع ماسحي الأحذية، وبها انتهت المحاضرة.)
إلحاح ...!1
لا أحسب أن الله تعالى بعث خلقا من خلقه أشد إلحاحا من حمالي (شيالي) محطة منيا القمح، ولا أشد إلحافا من ماسحي الأحذية في منيا القمح، تكون في المحطة صاعدا أو هابطا، مسافرا أو مودعا أو مرتاضا، فيتهافت عليك من أولئك الحمالين من لا يحصون كثرة: هذا يحمل الخريطة (الشنطة) الكبيرة، وهذا يحمل الخريطة الصغيرة، وهذا ينتزع منك المعطف (البالطو)، وهذا يسل منك الشمسية، فإن لم تكن فالعصا إلخ، فإن لم يكن معك شيء من ذلك تحككوا بك وجسوا بأكتافهم صدرك وجانبيك معا، فعلة خفية (بوليس سري) يرتاب في أنك تدس في مطاوي الثياب «كوكايين» أو هارويين، لعلهم يصيبون «محفظة جيب» فيحملوها عنك إلى القطار حملا، فإذا أيسوا من هذه الناحية أيضا، سألوك أن «يقطعوا لك التذكرة»، فإذا أسعدك الحظ وكانت معك «تذكرة» ذهاب وإياب، سبقك اثنان منهم ففتحا لك باب المركبة ووقفا على طريقك في انتظار «الأجرة»!
أما ماسحو الأحذية هناك، فهم أشره وأطبع، وهم أنكى وأوجع، لقد تضع رجلك اليمنى على سلم القطار، والقطار على جناح السير، وتتعلق يداك بمقابض الباب، وتتهيأ لرفع رجلك اليسرى، وفي هذه اللحظة يلكز المساح ساقك اليمنى بصندوقه، ويهيب بك «بويه»!
فإذا جرى عليك القدر بالجلوس إلى المقهى القائم بإزاء المحطة في انتظار صديق مواعدك أو مركبة توافيك، فاللهم اشهد قسوة الإنسان على الإنسان: يثب إليك «البويجي» إذ أنت لم تأخذ بعد قرارك، فيطوح في وجهك بصندوقه حتى يمس أحيانا أرنبة أنفك، فتعتذر إليه فلا يسيغ لك عذرا، وتتشفع إليه فلا يقبل في نعلك شفاعة، بل إنه ليجلس على الأرض ويجذب - برغمك - رجلك فإذا ركلته بها جذب الثانية، فإذا أنت بين اثنتين لا ثالثة لهما: إما الرضا بهذه «المسحة»، وإما الانتهاء إلى «المركز» في جناية أو جنحة!
وقد اتصل بي أخيرا والعهدة على الراوي، لا علي أنا، أن مساحي الأحذية في منيا القمح قد ألفوا هم الآخرون من بينهم فرقا، كل فرقة ثلاثة: اثنان منهم يحملان «فلقة»، فإذا وقع للمقهى إنسان، أسرعا «فمداه»، وأقبل الثالث يمسح له الحذاء، وكان هذا لزائر منيا القمح نعم الجزاء!
يا لطيف!1
تعلم أن رمضان يقظان الليل نائم النهار، يجمد الناس وتفتر الحركة في نهاره ويسهرون ليله، ويقضونه في وجوه السمر، ولهذا تؤخر الحكومة مواعيد افتتاح الدواوين والمصالح والمحاكم والمدارس، ولهذا تعطل المعاهد الدينية طوال الشهر المبارك، لأنه إذا كان قدر على الناس أن يسهروا عامة ليلهم في رمضان، فليس من المستطاع أن ينشطوا في الصباح الباكر لقضاء مصالحهم ومعالجة أسبابهم، على أنك فوق هذا، تجد سائر الأعمال جامدة راكدة في نهار رمضان، بحكم صيام الصائمين، واختلال أمزجتهم، وفتور أعضائهم من جهة، وبحكم قضاء الليل في السهر، وحاجة الناس إلى التزود من النوم في النهار من جهة أخرى، إلا أن إخواننا الباعة وسادتنا الشحاذين لم يسلموا إلى الآن بقضاء الله، ولا بقضاء الطبيعة، ولا بقضاء العادة، ولا بقضاء الحكومة، ولا بقضاء أمزجة الناس، وإنك لتقضي ليلك كله في السهر إلى الساعة الثالثة بعد نصف الليل أو الرابعة أو الخامسة، ويكون من حق الطبيعة، ومن حق بدنك عليك، ومن حق العمل الذي تعالجه أن تنام، على الأقل، إلى الساعة الثامنة أو التاسعة أو العاشرة، وإلا انهد جسمك، واختلت أعصابك، وفسد عليك شأنك كله
فتصور يا سيدي أنك نمت خلال تلك الساعات، فلم يرعك إلا النداء القوي المزعج يبعثك من أحلى رقداتك في الساعة السادسة: «ونبيض النحاس، ونبيض النحاس»؛ أو: «البدارى السمان»؛ أو غير ذلك مما يحمله أولئك الباعة المترفقون بأبدانهم المضطربون بسلعهم، وإني لأسمع صرخة الرجل منهم فأجزم بأنه لا يعرض سلعته على أهل الأرض، ولكنه إنما يعرضها على سكان الملأ الأعلى، حتى إنك لتكون في ضجعتك الهانئة بعد قضاء ليلك الأطول، فإذا بك قد هببت من نومك وأنت تظن أن الحرب قد نشبت، أو أن النار قد أكلت أثاث بيتك، أو أن سقوف الدار قد خرت على عيالك، فإذا الخطب كله أن بائعا ينادي «البدارى السمان» أو أن شحاذا يصيح: «من فطر صايم له أجر دايم هنيالك يا فاعل الخير»، والناس إنما يشترون صغار الفراريج ليطهوها لإفطارهم إذا نزلت الشمس للمغيب، ولا أدري لماذا يسشترونها في فجر يومهم، اللهم إلا أن يكون قد دخل في وهم أولئك الباعة أنها ستكبر عند «الزباين» وتسمن، حتى إذا دخل وقت الغروب استحالت «عتاقي» وأمست «بيجاوي». •••
أما أمر الشحاذين فأعجب وأغرب «من فطر صايم له أجر دايم إلخ» وذلك من منتصف الساعة السادسة صباحا، أي أن على الأمة أن تسهر، بحكم طبيعة رمضان، إلى الساعة الثالثة أو الرابعة أو الخامسة صباحا، ولكن عليها في الوقت نفسه أن تهب من منتصف الساعة السادسة، وتشمر عن سواعدها وتنشط في «تقشير البصل»، وإنضاج «التقلية»، وخرط «الملوخية»، و«تقميع البامية»، و«تحمير البطاطس»، و«فلفلة الأرز» و«دق الكفتة» و«تسوية الكنافة»، و«قلي السمك البربون»، و«نقع الخشاف» للسادة الشحاذين!
نعم يجب على الأمة كلها أن تنثر أيديها من كل عمل إلا ما يجب عليها من معالجة الطعام وتهيئته لسادتها الشحاذين، حتى إذا حان وقت الإفطار قربت إليهم كل ما ساغ من لحوم طرية، وأطعمة شهية، وفواكه جنية!
وبعد فإن على الحكومة أن تختار بين أمرين: إما منع الشحاذين وحسم الباعة من أن يصيحوا ويهتفوا في رمضان قبل الساعة التاسعة على الأقل، حتى تستطيع الأمة أن تريح بدنها وتستجم لأعمالها، وإما أن تأمر بإلغاء شهر رمضان بتاتا، لتوفر الأمة جهودها على الباعة والشحاذين، بحيث «تنخمد» من الساعة التاسعة مساء ليتهيأ لها أن تهب من الفجر «لتشتري البدارى السمان»، أو «لتبيض النحاس»، ولتهيئ أشهى الطعام وأجنى الفاكهة لسادتها «الشحاذين» وعلى الحكومة السلام، وعلى الأمة هجر المنام وترك الصيام!
الشحاذون ...!1
لا أعرف أن الدنيا تجمع طائفة من الناس أشد أثرة، ولا أورم أنوفا، ولا أعظم غرورا، ولا أبلغ تتايها على صرف الأيام من سادتنا الشحاذين المصريين! وأقول سادتنا الشحاذين لا على حكم التأدب ولا على جهة التهكم، كما يتبادر إلى ذهنك بادي الرأي! بل لأنه الحق الذي لا شك فيه، فهم سادتنا حقا، ونحن مواليهم حقا، فإن كان ما زال يختلج في نفسك الريب، فاسمع هذه القصة:
من يوم نجمت وجرت علي تكاليف العيش، وأنا أحيي ليالي رمضان بالسهر إلى السحور؛ وإلى أن ينجلي عمود الصبح، أسمع القرآن الكريم في دار أبي، وأجلس مع إخوتي وزوارنا للسمر، ولقد أمضي إلى مسجد السيدة زينب قبيل الفجر لأسمع من الشيخ أحمد ندا سورة طه، يرجعها صوته الفاخر ترجيعا، حتى يخيل إليك أن جبريل عليه السلام إنما يتنزل بها من جديد، فإذا أذن الشيخ بعد هذا بالفجر وقمنا لصلاته، جلسنا إلى حلقة أستاذنا الشيخ محمد أبي راشد فتلقينا علما طريفا تنبسط له النفس، ولا يطاول فيه الفهم، من قصص الأنبياء وكرامات الأولياء ونوادر الصالحين.
وإنني لأرى أنني قد أطلت عليك، وما بعثني إلا أن أثبت أن سهر ليالي رمضان أصبح عندي عادة جرت مني الآن مجرى الطبع.
ولقد كنت قاضيا في الزقازيق سنة 1925، ودخل علينا رمضان المعظم ونحن في صميم الشتاء، وأنا أقطن (وأنف منشورات الحقانية راغم) في القاهرة، ويبعث الله السماء، في ليلة عندي في مصبحها مجلس قضاء، ويتجاوز الطين والماء الطبيين، وبخاصة في أحيائنا «الوطنية»، وأنام تلك الليلة وأنا على شرف من الساعة الرابعة.
ويبعثني أهلي عند انتصاف الساعة السادسة، والجيب أصفر من أن يفيض بأجرة مركبة أو سيارة إذا رضي سائقها بخوض هذا الغمر، في هذه الساعة، إلى حي «البغالة»، فلم تبق هناك وسيلة إلا طلب الترام، والأمر لله!
وأتدلى من داري لم أترو من النوم بعد طول السهر إلا ساعة ونصف الساعة، فأجمع بين يدي أطراف ثيابي، وأزمها مع رزمة من «دوسيهات» القضايا، وأتحامل على هد القوى وتداعي النفس، فأعارك الماء، وأصاول الوحل، وأتحسس في الحلك للتحرف عن البركة، واتقاء العثرة في التلعة، والذهن فوق هذا مذعور بما سألقى في اليوم الأطول من ركوب الترام إلى المحطة، ومن ركوب القطار إلى الزقازيق، ثم من محطتها إلى المحكمة، ثم من معالجة القضايا الكثيرة، ومن مهاترة أصحاب الدعاوى، ومن كيد بعض إخواننا المحامين، وطول جدالهم فيما لا يجدي، طلبا للخروج من العهدة أمام موكليهم، ولو على حساب الحق والكرامة وحرمة مجلس القضاء!
في كل هذا العذاب الذي لا يمكن أن يقدره إلا من عاناه، بلغت بسلامة الله محطة الترام في ميدان السيدة زينب، وتمثلنا جماعة كثيرة في انتظار قدوم أول قطار، وبينا نحن على هذا إذا يد قاسية تزم كتفي، وإذا صوت نكير يصك سمعي حتى كادت تتفرق له نفسي: «فطور العواجز عليك يا رب! من فطر صايم، له أجر دايم، هنيالك يا فاعل الخير!» فانثنيت إلى هذا الوحش وقلت له: أفحسبت أيها الرجل أنني أنام الساعة 4 بعد نصف الليل، وأهب من نومي ، وأصحر لكل هذا البرد، وأشق بهذا الجسم العليل ما شققت من الغمر، وأخوض ما خضت من الوحل، أفحسبت أنني أعاني كل هذا لأهيئ لك فطورك؟!
ثم تعال نتحاسب: إننا الآن على اثنتي عشرة ساعة من وقت الإفطار.
فبأي حق تقتضي «الأمة» أن تهب من الساعة السادسة صباحا، وفي رمضان، لتهيئ لك فطورك، لا يحين أذانه إلا في السادسة مساء! ... فكان جواب الخنزير: «واشمعنى يعني الفقرا مالهمش نفس لخرين يفطروا زي الأغنياء ما يفطروا؟»، فقلت له: يا سيدي، إن طهاة الأمراء، والوزراء، وكبار الحكام، وأعيان الأغنياء، لا يأخذون في عملهم، في شهر رمضان، قبل الساعة الثانية بعد الظهر أفلا تحب من «الأمة» أن تنتظمك على الأقل، في سلك الأمراء والوزراء وكبار الحكام، فتتفضل عليها بطلب طعام الإفطار ابتداء من الساعة الثانية مثلا؟
وهنا أقبل القطار فخالفته إليه، فراح يسبني ويشتمني بكل ما حشى أدب مثله فمه! وما سألني أولا، ولا سبني ثانيا إلا لأنه يقرر ذلك الحق علي، أو على الصحيح، يقرره على الجمهور.
أرأيت بعد أثرة أبلغ من هذه الأثرة، وغرورا أشد من هذا الغرور؟!
ومما يذكر في هذا الباب أن صديقنا المرحوم رفيق بك العظم كانت قد علت به السن، وألحت عليه العلل، وهو من يوم نشأته مضعوف هزيل، مرهف الأعصاب، وقد امتحن فوق هذا كله بالأرق، وكان في مؤخرات أيامه يسكن «عمارة البابلي» من أحياء السيدة زينب، ويدخل في فراشه في الساعة التاسعة، فيظل يتطاول إلى النوم ويستدرجه بألوان التكلف والتصنع إلى ما بعد الساعة الثانية صباحا.
وبينا هو ذات ليلة يستدرج النوم، والأرق يدافعه حتى دخل في ذلك البرزخ الممدود بين النوم واليقظة (السنة)، تلك الرقعة التي تتراءى لك فيها الأحلام، وتعي في الوقت نفسه ما يدور حولك من الكلام، بيناه على تلك الحال ينتظر الدخول في النوم التام، إذا هاتف يهتف من جانب الطريق بصوت كأنه قصف الهد، أو زمزمة الرعد: «رغيف عيش وصحن طبيخ لله!»، وإذا الرجل يهب من سنته على أظافره، وإذا الحدث يعجله عن اتخاذ حذائه، فيجمز حافيا على السلم، حتى إذا خرج إلى الطريق أهاب «بمولانا الشحاذ»: «يخرب بيتك! من اللي بيصحا دلوقت الساعة اثنين بعد نص الليل ويسخن لك الطبيخ؟ قول إدوني رغيف عيش وحتة جبنة، أو شوية زيتون، أو حتة مربة، يبقى شيء معقول!» وتركه وصعد ليتصيد نومه من جديد!
وإن من يغشى حي المنيرة والإنشاء ليرى سائلا أعمى لعله من أصل مغربي وهو ينطلق من الصباح الباكر في رمضان هاتفا: «يا رب طالب منك رغيف عيش نفطر به»، فإذا نزلت الشمس للمغيب وأفطر الصائم، استحال هتافه إلى: «يا رب طالب منك رغيف عيش نتسحر به»!
ولعل الذي يبعثه في طلب السحور، في اللحظة التي يرفع فيها يده عن طعام الإفطار، هو حاجته إلى معالجة التخمة، والخلاص من الكظة، بعد طول الخضم والقضم، فليس أعون على هذا من الرياضة بالمشي والطواف على الدور ، ورفع الصوت بطلب رغيف للسحور!
تلك بعض مظاهر الأثرة في سادتنا الشحاذين، وسأقص عليك طرفا منها في مقام آخر إن شاء الله.
ابن العم ...!1
لي صديق مرهف الأعصاب حاضر الغضب، بقدر ما هو طيب القلب، خفيف الروح، فكه الحديث، لقيته أمس فإذا هو ظاهر الحنق حتى ليكاد يتميز من الغيظ، فسألته عما به، فقال اسمع يا سيدي:
لي قريب ثقيل الظل، غليظ الطبع، شره النفس، إذا عرضت له حاجة كان أشد إلحافا من ذباب، صبه القدر علي أمس فقال لي: إن لي إلى فلان (من كبار الموظفين) حاجة (وسماها)، ولا يشفع لي عنده غيرك، فقم بنا إليه، فأردت مطاولته فقلت: سأمضي إليه إن شاء الله في أول فرصة، فقال: بل الأمر من هذا أعجل، ولا بد من ذهابك اليوم! فقلت: إذن أمضي إليه اليوم بعد أن أعالج بعض العمل، قال بل تقوم الآن، لأن المسألة سيبت فيها غدا، قلت إذن أمضي الآن، وتهيأت للقيام وأقبلت عليه بتحية الوداع، فقال: رجلي مع رجلك! ... فانطلقنا، والأمر لله، حتى إذا صرنا إلى باب ذلك الموظف، دفعت رقعة الزيارة إلى حاجبه، فقال لي صاحبي: أثبت اسمي مع اسمك حتى أحضر شفاعتك! ... قلت أوتتخونني؟ قال: كلا! ولكن ليطمئن قلبي.
وأذن لكلينا، وبسطت حاجة قريبي بين يدي ذلك الموظف، وسألته أن يقضيها إذا كان على حق كما يقول، فوعد الرجل أن يفعل، وتهيأت للقيام، فزر قريبي على عينه وأومأ إلى أن زد في الرجاء، فعاودت صاحبي فكرر الوعد في دعة واطمئنان، ولما هممت بالقيام عاد فغمز بعينيه فعاودت الإلحاح، وعاود الرجل ترديد الوعد، وما زلنا على هذا حتى ظهر عليه البرم، فراح يرفع طرفه إلى ساعة الحائط مرة، ويشيعه فيما احتشد بين يديه من الأوراق مرة أخرى (يريد أن يقول لنا حسبكم فانصرفوا مأذونين)، فجمعت كل ما في من عزم ونهضت ولم أكد، لأن عين قريبي كادت بنظرتها الحادة تثبتني في موضعي أبد الآبدين ودهر الداهرين، وانطلقنا وأنا أجره جرا!
وحانت ساعة الفراق ليمضي كل منا إلى وجهه، فشد على يدي، وكرش وجهه، وزر على عينيه، وقال لي، وهو يكاد ينشج بالبكاء: والنبي ...! - ماذا تريد أيضا؟ - والنبي ...! - قل يا أخي: ماذا تريد أن أصنع؟! - والنبي ...! - قل يا أخي: ماذا تبغي مني بعد ذلك، فقد كدت تذهب بعقلي ...؟! - والنبي ...! - آه! لقد فهمت، تزيد أن أعمل عملا يكره الرجل إكراها على قضاء حاجتك! - نعم!
كان بعض صغار الفلاحين وأشباههم إذا وقعت على الرجل منهم مظلمة لا يجد النصفة منها عند صغار الحكام، استكتب بشأنها «عرضحالا» وارتصد لصاحب الشأن الأعلى من كبار الولاة، حتى إذا جاز بمركبته، ألقى بنفسه تحت سنابك الخيل، وبذلك يلفت إليه الوالي، فيتلقى «عرضحاله» ويصغي إلى مظلمته، وينظر في شأنه، وليس لدينا يا ابن العم إلا هذه الطريقة! فقال لي: وكيف ذلك؟ قلت: دعني اليوم أسوي في مسألتك «عرضحالا»، وتجيئني من غدك في الصباح الباكر، حيث نرصد صاحبنا قرب ديوانه، حتى إذا طامنت سيارته من سرعتها ألقيت بنفسي وفي يدي «العريضة» تحت عجلاتها، فلا أصاب بأكثر من كسر بسيط في الساق، أو اختلاف في بعض الأضلاع يسير، أو شج لا خطر له في الرأس، ولكن الأمر على كل حال، سيتعاظم الرجل ويروعه كل مروع، فيجعل بقضاء حاجتك!
فقال: بارك الله فيك يا ابن العم، ولا حرمنا همتك، وهذا هو الظن بك والعشم فيك! وتواعدنا على أن يجيئني من غده في الساعة السابعة صباحا.
وأقبل علي صاحبي وقال: أفتدري ماذا حدث اليوم؟ قلت: ماذا؟ قال: بينا أنا في سريري متدثرا احتماء من البرد القارس إذ جاءتني الخادم تقول لي: إن ابن عمك في انتظارك، وهو يتعجل نزولك إليه لتمضيا إلى الميعاد الذي اتفقتما عليه أمس! •••
أرأيت يا أخي أشره من ذلك الرجل وأطبع، وأبرد وأصقع، وأسمج وأثقل، وأصفق وأرزل.
فقلت له: أعانك الله!
ظرف ...!
فلان المهندس البدين، الغليظ الوجه، المنتفخ الشدق، الأزرق الجلد، الدقيق الجبين، النكير الصوت، لقد جفت فيه الأقلام وطويت الصحف، وشهد الله وملائكته والناس أجمعون أنه ثقيل الظل، شديد الوطأة على النفس، وإذا طلع عليك أحسست بغمز على القلب، ووخز في الحشا، وهو على هذا كثير الانصباب على الناس، شديد التهافت على مجالسهم، لا يرى جماعة ممن ابتلاهم القدر بمعرفته إلا جاء بكرسي وزج بنفسه فيهم، لا يجلس بكل ثقله على الأرض ولكن يجلس على أرواحهم، ثم يظل ثابتا في المجلس لا يبرح ولا يتحلحل، ولا يقوم لحاجة، ولا تصرفه ضرورة، ولا يعجله أي شأن من شئون الدنيا جميعها.
ثم هو لا يدع حديثا إلا خاض فيه، ولا شأنا من شئونهم إلا أمعن في تفقده وتقليبه، ولا أمرا من أمورهم إلا استخرج خافيه، ونبش بالسؤال حاضره وماضيه، فإذا انتفض واحد عن المجلس لبعض شأنه أقبل عليه يسائله: لماذا يمضي وأين يمضي؟ وما طريقه وما غايته؟ وناقشه فيما تعود به هذه الغاية من خير وشر ونفع وضر، وإذا رأى واحدا يلبس حلة جديدة «فتح» له محضر تحقيق في «قماشها» أولا، وفي لونها ثانيا، وفي تفصيلها ثالثا، وفي ثمنها رابعا إلخ، وإذا رأى اثنين يتساران دس رأسه بينهما ودخل معهما في نجواهما.
ومن أحدث نوادره وأطرفها أنه كان ضاغطا (كابسا) يوما على بعض أولئك الصحاب المساكين، فجاء عامل البريد ودفع إلى أحدهم خطابا، وفيما كان الرجل يعالج شق الغلاف عنه، كان صاحبنا يسرع في إخراج «نظارته» فيمسحها بمنديله، ثم يضعها على عينيه استعدادا ... لقراءة «الجواب»!
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن سيدنا محمدا رسول الله!
إلى الحكومة
الغوث الغوث! النجدة النجدة!
ليست لي والحمد لله ضياع فأستفيد بتوافر المياه من مشروعات الري الكبرى، ولا باستصلاح الأرضين بمشروعات الصرف الكبرى والصغرى.
ولسيت من صغار الفلاحين فأطمع في أن يسهم لي في توزيع أرض الحكومة في الفيوم أو سخا أو في السنطة.
ولست من العمال حتى أبسط الأمل في مسكن يؤويني ويخفف عني من كراء البيت، فوق أنني بفضل الله أثوي إلى منزل أملكه.
ولست أسكن الريف حتى أفرح بردم البرك والمستنقعات خلاصا من أذى البعوض، وما يجر الماء الآسن من أمراض وأسقام، وعلى الجملة فإنني ما قلبت فكري في هذه المشروعات، فرأيت لي بالذات حظا في شيء منها كثيرا كان أو قليلا، على أنني أغتبط بالطبع كل الاغتباط بكل ما يدخل على أبناء وطني من النعمة، ويعود عليهم بأسباب الرفاهية، ولكنني مع هذا إنسان أيضا، لا يمكن أن ينسيني النفع العام الشعور بألم الضرر الخاص.
ذلك أنني من يوم شاعت في البلد سيارات الأجرة (التاكسات) أوثرها على مركبات الخيل، لأسباب لا محل لبسطها في هذا المقام، وأهمها الاقتصاد في الوقت، وأمن الشجار، في غاية «المشوار» إلخ، وعلى ذكر هذا فقد تدليت العام الماضي من الديوان في يوم شديد القيظ، فلم يصادفني في طريقي إلا مركبة، فقلت في نفسي «نأخذها» والسلام! واستويت إليها وأنا لقس النفس، مجهود الجسم! مرهف الأعصاب، فتدلى الحوذي عن كرسيه ومشى في رفق، فانتزع المخلاة من فم أحد الجوادين، وزرها وعاد بها كذلك، فألقاها في مداس قدمه من العربة، ثم عاد فألجم الجواد وسوى شكيمته، وعدل إلى الثاني فصنع به ما صنع بالأول، كل هذا في تؤدة وبطء وعظيم اطمئنان، إذ أنا ترتفع حرارتي ويتدارك نفسي ويسرع نبضي، ثم تمكن من كرسيه وتناول وسطه وأهوى به على الجواد الأيمن فانثنى إلى الأيسر، وهذا انثنى إلى المركبة، والمركبة ثابتة في موضعها، فأهوى الحوذي بالسوط على الأيسر، فانثنيا كلاهما إلى الجانب الأيمن، ولما ضاق ذرعي وهممت بالنزول، وثبت الحوذي إلى الأرض، وجر الجوادين معا من خطامهما فانجرا، ولا أطيل عليك أكثر مما أطلت: سارت العربة ثم سارت وسارت، فلم تكد تبلغ شيئا حتى خيل إلي أنني إنما أركب ظلا يتقلص، تحسبه ثابتا وهو في الواقع متحرك، وحتى خيل إلي من بطء المسير، وطول المدة، وضيق النفس، أنني قادم من الصين لا من شارع الفلكي.
ووصلنا بسلامة الله إلى ميدان السيدة زينب، فحق قول العامة: «طولة العمر تبلغ الأمل»، وإذا «الترام» يجوز وبيننا وبينه نحو أربعة أمتار، فلم يرعني إلا والحوذي يجذب إليه أعنة الخيل ليوقفها، فعجبت من فعله وقلت له في ذلك، فقال : حتى يجوز «الترام»، فأهبت به أن امض أيها الرجل، فحين نبلغ موضع القطار يكون قد بلغ هو السبتية إن شاء الله!
أنا حر في أن أركب مركبة أو سيارة أو «تراما» أو حمارا مكارا (سكة)، أو أن أمشي على رجلي، هذا حق ثابت لي لا ينازعني عليه أحد، ولكن «عم» الأسطى خليل لا يسلم لي بهذا الحق، ولا يدع لي هذه الحرية، وإليك الحديث:
الأسطى خليل هذا كان حوذيا عندنا من أكثر من خمس وعشرين سنة، ولعله لم يلبث أكثر من ستة أشهر، ثم أراحنا الله منه وابتلى به سوانا، ثم صار أمره إلى مركبة أجرة، فثبت له علي بهذه الأشهر الملعونة حق! ولكنه حق غريب جدا لم يدعه أحد على أحد، أتدري ما هذا الحق؟ هو أنني لا بد أن أركب مركبته متى شاء هو، وفي أي وقت شاء وله في ذلك وقائع تخرج المرء عن جلده، من ذلك أنه يعلم أنني كنت أجلس في صحابي ولداتي في مقهى في شارع خيرت، نقضي شطرا من الليل في الحديث والسمر، فإذا كان هو «فاضي»، أسرع فجاء إلى المقهى، ووقف بمركبته بإزائي، واتكأ على يمينه، ومد وجهه إلي، حتى تكاد لحيته الطويلة تصل إلى جبيني، وحدد في نظره، ونطق صنيعه كله بفصيح العبارة: أن قم فاركب، وقد لا أكون استويت إلى مجلسي إلا من بضع دقائق، فلا أرى لي حيلة إلا أن أقوم فأتحول إلى أحد مجالس المقهى على الشارع الثاني، فيبعث خيله ويتحول هو الآخر حتى يقف بإزائي، ما يريم ولا يتحلحل، فلا ينقذني منه إلا أن أسلم لله أمري، فأركب معه ليعود بي إلى الدار، لأنني إن مضيت إلى مكان آخر، تبعني بمركبته وظل ثابتا بإزاء مجلسي حتى أركب أيضا، وإما أن أمضي في مجلسي وأنا من الغيظ والحنق على حال لا يعلمها إلا الله تعالى!
وهكذا ما لقيني في طريق إلا اعترضني، وسألني أن أركب معه، ولا رآني في «الترام» إلا وقف بإزائي، ومن أحدث نوادره معي أنني في صباح يوم صفا أديمه، واعتل نسيمه، رأيت أن أشخص إلى الديوان سعيا على قدمي، وفعلت مغتبطا مبتهج النفس، حتى إذا كنت بإزاء وزارة الحربية، إذا بالأسطى خليل يطلع علي «بخيله ورجله»، ويناديني: «آجي أوصلك للديوان؟»، فهاجني الرجل وحرك حفيظتي وخبث نفسي، وكدر صفوي، وأفسد علي يومي، وقلت له وأنا أكاد أتميز من الغيظ: أجئت أيها الرجل من بيتي في أقصى شارع زين العابدين إلى هنا في التماس عربة تبلغني هذه الستين مترا؟ أتظن أنني طول هذا المدى لم أصب مركبة واحدة؟ حقا إنك بارد، ومضيت لطيتي، ولا حول ولا قوة إلا بالله! •••
فإذا لم يكن إدخال هذا الحوذي المؤذي في مشروعات الردم،
1
فلنتوجه بالعياذ إلى قلم المرور، وإلا فقد طابت الهجرة حتى يقضي فيه القضاء، ويريحني الله من كل هذا البلاء!
عشاء!
قهوة اللواء، وإن شئت فبار اللواء، وإلا فمطعم اللواء، هو ناد أو شبه ناد لا يكاد يتغشاه في النهار إلا جماعات من أرباب الأعمال، فإذا كان الليل فجماعة من أهل الفضل والأدب، يجتمعون للأسمار وتبادل ألوان المفاكهات، ويتصل بهذه القهوة مطعم كامل الآلة، وقد حدثني صديق يختلف إلى هذا الموضع قال: كنا ليلة أمس جلوسا مع الصحب نأخذ في حديثنا وسمرنا، فإذا رجل من هؤلاء الذين يصبهم القدر على رواد القهوات: منتفخ الشدق، حاد الوجه، يتأبط أداته في الحياة، وما أداته إلا رزمة من الجرائد الجديدة والمجلات القديمة، يدعي بحملها العلم والأدب والفلسفة والسياسة «وكل شيء»! وسلم في تظرف مكروه وأدب مبتذل، وجر له كرسيا وحشر نفسه في الزمرة حشرا، ومن باب ما يدعونه «باللياقة» صفق أحدنا فجاء الغلام، فأومأنا إلى «الأفندي»، وسألناه عما يطلب «سادة، أو بسكر شوية»، وقد جرت العادة بأن يعتذر ضيف القهوة أولا، فإذا ألح المزور فقهوة أو شاي مثلا، فإذا كانت الألفة متمكنة، «فكازوزة»، أو ما يقرب ثمنه من ثمن الكازوزة، مما لا يعدو الثلاثة القروش أو الأربعة على أضفى تقدير، بعد هذا أتعرف ماذا طلب صاحبنا الذي لا نعرفه؟ لقد طلب واحد ... عشاء
dinner !
قرحة البطن!
باديتك في مستهل هذه «اليوميات» بأنني لا أترحم في يومي إلا عن الخاطر الذي يشغلني فيه، والإحساس الذي يملكني، ولو خرج كلاما فارغا، وعلى هذا أثبت لك اليوم كلاما كما أثبته من قبل في كثير من هذه «اليوميات».
على أنني هذه المرة لم أكن أكثر من ناموس (سكرتير) يدون حديث غيره، وإليك الحديث:
لي صديق من القضاة خفيف الروح، حسن المحاضرة، حاضر النكتة، جلس إلي أمس وجعلنا نسمر على العادة، وفي بعض المجلس أطرق إطراقة طويلة، ثم أنغض رأسه فجاءة وقال لي: اسمع يا فلان، يقول العامة إن «قرحة» البطن تظل عند العاقل أربعين سنة، فكيف بالمجنون؟ فقلت له: وما الذي يحضرك هذا الآن؟ قال: نقلت من عشر سنوات إلى محكمة (وسمى حاضرة أحد المراكز)، ولي في هذا المركز صديق عزيز من كبار الأعيان، وله حراقة (ذهبية) لا يسكنها أحد، وهي راسية في ظاهر المدينة، وتقع من سرتها على أكثر من ميل، فدعاني شكر الله له، إلى أن آوي إليها حتى أصيب لي مثوى، وكان للحراقة خادم كسلان العقل، كسلان الجسم، وفي ذات عشية رماني الباب بقريب لصاحب الحراقة طويل جدا ، عريض جدا، لا تكاد تتمثله إذا أشعت عينيك في هيولاه جملة واحدة! إنما لك أن تتمثله بالمفرق (القطاعي)، فإذا دنا منك سمعت له زخيرا من كثرة اكتناز الشحم! وما أحصي أنه جلس إلي قط إلا رأيته وقد شرد عينيه، وأقبل يتدفق بألوان الأسئلة يصبها على سمعي صبا، حتى أراني وكأنما فتحت علي خلية نحل لا أنحرف عن واحدة حتى تثور بي ثمانون، فهو يلهث بالأسئلة، وأنا ألهث وراءه بالأجوبة ولكنه يجري أمامي بسرعة «رولزريس» وأنا وراءه، في سرعة «عربة كارو»، حتى ليكون في السؤال الثامن والستين بعد المائة، وأنا «ملخوم» في جواب السؤال الرابع عشر! «إزي صحتك؟ - بتفصل هدومك عند مين؟ - أبوك مجوز كام؟ - تحب ألمانيا أكتر ولا أمريكا أكثر؟ - رياض باشا ترك كام فدان؟ - إلا ليه البن اليمني الأيام دي وحش؟ - النهاردة حر ولا برد؟ - إلا الإنجليز وشهم أحمر ليه؟ - الشيخ أحمد ندا أحسن ولا المزيكة الميري؟ - ما بيرقوكش ليه؟ - الحاجة السويسية ماتت ولا لسه عايشة؟ - الحكومة بتشتري الورق بتاعها منين؟ - أمك لما تموت، ناوي تعمل الميتم ثلاث أيام؟ - قريت المقطم النهاردة؟ - إذا ربنا غناك تشتري أوتومبيل ولا لأ؟ - إيه رأيك في الحرب؟ - ناوي تجوز ابنك لما يكبر؟ - كوبري الزمالك بيفتحوه إمته؟ - إلا لو واحد اتعدى عليك في الجلسة تعمل له إيه؟ - الساعة كام؟ - أم سيدي أبو السعود كان اسمها إيه؟!» إلخ إلخ. •••
قلت لك إن الباب رماني به في أحد الأمسية فقال لي: أتأذن لي في المبيت في الحراقة الليلة؟ فقلت له تفضل، ففي غرفها متسع لنا كلينا، وقضينا السهرة في الأسئلة اللازمة وما تيسر من الأجوبة، وقمنا لنومنا، حتى إذا أصبحنا استدعيت الخادم ليجيئنا بفطورنا، وفي هذا الخادم كما قلت لك بلادة، حتى ليقضي في المجيء بالفطور من السوق أكثر من الساعة ونصف الساعة، فسألت صاحبنا عما يشتهي، فاعتذر بأنه ليس من عادته أن يفطر، فراجعته فأبى، فعزمت عليه إلا أفطر معي، فجدد العزيمة على الإباء شاكرا مثنيا، لقد غلبني إذ ذاك على أمري فلم يبق لي بد من أن أطلب إلى الخادم أن يجيئني بالقدر الذي يكفيني ويكفيه فضله، فمضى وغاب ما شاء الله أن يغيب، ثم أذن الله أن يعود بالطعام ويقوم على إنضاجه، وكنت قمت لبعض شأني، ثم عدت وإذا صاحبنا في حلته الكاملة في طريقه إلى الشاطئ، حتى إذا لقيني أقبل يودعني، فدعوته (من باب التكريم) ليفطر معي، فشكر واعتذر بأن له مهما يعجله عن اللبث، ومضى عني مهرولا، ولم يرعني - وقد أطلت على بهو الحراقة - إلا أن أرى الصحاف قد لعقت لعقا فلم يبق فيها فضلة للغسل، وإذا فتات من الخبز لا تكبر على ما يعلق بسن الخلال! فدعوت الخادم وسألته عن الطعام فأجاب: لقد أتى عليه صاحبك! فقلت له: ألم يبق لي ولك شيئا؟! قال كلا، لم يبق لك ولا لي شيئا!
وكان وقت الجلسة قد أفد، فمضيت أقضي على الطوى بين الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
ثم أقبل علي صاحبي وقال: تعرف يا فلان أنني لست من أهل البطنة، ولا أنا ممن يحتفلون للطعام أو ممن يهمهم التأنق فيه، وتعرف أنني لا أصيب منه إلا بالقدر الذي يمسك النفس ويدفع إلحاح الجوع، وتعرف فوق هذا أنني مضعوف ممعود، أتجنب من الطعام غليظه ما استطعت، ولا أتكثر من الدسم خوف الكظة والبشم، تعرف هذا كله، ومع هذا فإنني أقسم لك أنني ما ذكرت هذه الواقعة إلا ثارت نفسي واضطرمت أعصابي، وعلا الحقد في صدري، حتى لكأن تلك الحادثة وقعت لساعتها، وقد مضى عليها الآن عشر سنين، وإنك لتستطيع أن تصدق قول الشاعر: «لا بد للمحزون أن يسلى»، وأن تصدق قول كثير:
فقلت لها يا عز كل مصيبة
إذا وطنت يوما لها النفس ذلت
تستطيع أن تصدقهما في دعوى التسلي بالزمان عن كل بلية، والعزاء بكر السنين عن كل رزية، إلا عن مثل هذه الفعلة، فهي أعصى على الزمان، وأصلب من أن يبليها الجديدان! •••
فاللهم يا من وصل شهوة الطعام ببعض الناس هذا الوصل، وأكدها هذا التأكيد، ارحم كل شهوان بطين، من ضيافة مثل هذا الحبر السمين!
تنمر ...؟
لاحظت ظاهرة غريبة، لا أدري إذا كان الأطباء والباحثون في أحوال النفس قد فطنوا لها أو لم يفطنوا، ولا أدري إذا كان قد تقصاها منهم أحد، وترسم عللها وأسبابها، وكيف تؤثر تلك الأسباب في خلق بعض الناس هذا التأثير وتصوره هذا التصوير وتنكره هذا التنكير، ثم إنني لا أدري إذا كان أحد هؤلاء الباحثين المتقصين قد نشر في هذا بحثا في العربية أو في أية لغة من لغات العالم؟ ... اللهم إنني لا أدري شيئا من هذا ألبتة، على أنني أنتظر من أصحاب المعرفة رأيا أتهدى به إلى الصواب:
شهدت في طول حياتي ثلاثة من الناس لم أشهد غيرهم على الحال التي سأذكرها لك، والعجب أن ثلاثتهم يشتركون في دعة النفس، وطيبة القلب، وارتياح الأعصاب، ما يزال هذا شأن كل منهم وطبعه وجبلته حتى يستوي للطعام، وما إن يأخذ فيه حتى تراه وقد تبدل خلقا غير خلقه، واتخذ صورة غير صورته، فإذا وجهه قد احتقن احتقانا شديدا، وإذا أوداجه قد انتفخت انتفاخا عظيما، وإذا أجفانه قد انفرجت إلى حد التقلص، وإذا حدقتاه قد اتسعتا في محجريهما حتى كادتا تستهلكان بياض العينين جميعا، وقد لمعت عيناه لمعانا يخيف ويروع، ودلت ملامحه على أقسى ضروب الشراسة ومحاولة الفتك والافتراس، وجعل يزحر زحيرا عاليا أشبه بهمهمة الفهود، وبزئير الأسود، حتى ما تشك في أنك إنما تؤاكل نمرا لا إنسانا، بل لقد يوسوس لك هذا المنظر المرعب بأنك في النهاية مأكول لا آكل!
وقد توفي واحد من هؤلاء الثلاثة، وبقي اثنان، بسط الله لهما في صدور الأعوام، ولقاهما أجزل الطعام، بما يواتي غريزة الافتراس والالتهام، وكتب لمؤاكليهما الأمن والسلام، آمين!
غرام ...!
صديقي «فلان» تعشق في شباب سنه إحدى بنات جيرانه، وقد غلبت عليه وذهبت بقلبه كل مذهب، ولما برحت به آلامه، وفضحته في الهوى أسقامه، أدركتها رقة له ورحمة به استحالتا من بعد حبا، وهو رجل يتذوق الأدب، ويحفظ من مصطفى الشعر صدرا، فكان إذا ذكرها وهو فينا أقبل يروي لنا أحسن ما قال قيس المجنون في ليلى، وأرق ما أرسل قيس بن ذريح من الغزل في لبنى، وأحلى ما قال جميل في بثينة، وأبدع ما شبب كثير في عزة، وكلما لحقه الوله عليها بكى واشتد نشيجه، فيواسيه صدقانه من جميل القول بما يطامن لوعته، ويكفكف دمعته.
وقد بانت لهذا العاشق الولهان خصوصية عجيبة جدا: ذلك أنه لوحظ عليه أنه كلما حدث تهاجر بينه وبين «معشوقته»، راح يلتمس السلو كله في الطعام، فيلحق الأكلة بالأكلة، ويتبع الوجبة الوجبة، إلى أن تعود إلى صلته فيعود إلى الإقلال والتخفيف! وعلى قدر شدة الصرم والإلحاح في الهجر يكون الدسم، وعلى قدر فتوره وضعفه يكون اختيار الأرفق من الألوان!
ولقد جزت يوما بشارع خيرت في طريقي إلى الدار، وكان ذلك بعد انتصاف الليل، فإذا صاحبنا مستو على منضدة في دكان الحاج عبد الرحمن (الحاتي)، وبين يديه صحفة تحمل ستة أرطال أو خمسة على الأقل من اللحم السمين، وهو يفترسها افتراسا، والدمع منهل على خديه، فأدركت لساعتي أن قد تمت القطيعة ولم يبق إلى اللقاء سبيل! فأقبلت عليه أعزيه وأصبره، وهو ينزف من الدمع من عينه، بقدر ما ينزف من اللحم في شدقه، فعذرت الرجل وانصرفت عنه وأنا أدعو الله تعالى أن يرأف بحاله، ويلقيه حسن العزاء!
ويسرف المسكين على نفسه في هذا حتى كاد يكسر عيشه على القضم والخضم، إلى أن بدن واسترخت كرشه، ودعا بالطبيب وأظهره على داخل شأنه، ولما استصعب عليه علاجه، سأل أهله أن ينأوا به عن القاهرة (مثوى الحبيبة) ويعزوه، ويختلفوا عليه بألوان السلوى، لعله ينسى فتصلح حاله، وتعود إليه نحافته وهزاله!
من خلق الله! ...
يظهر أن عند بعض الناس كثيرا أو قليلا من الشك في أنهم موجودون، أو على الأقل إنهم يشكون في أنهم من ضمن الناس، فهم دائبون جاهدون كل يوم، بل كل ساعة، في جمع الأدلة على إثبات وجودهم، أو على إثبات أنهم ناس من الناس، ومن هؤلاء المساكين شاب حدرت له الظروف مالا جليلا يهيئ له العيش في أخفض العيش، والتقلب فيما شاء من النعم، إذ كان الإنسان إنما يطلب إكرام نفسه وتنعيمها لإيتاء لذائذها، لا ليثبت بمظاهر الترف وجوده، أو إنسانيته عند الناس!
هذا شاب غير بائن الطول، ولا مفرط لا البدانة، وإن كان مكتنز اللحم متوافر الشحم، ركب على جسده وجه شاحب غليظ، لا ترى فيه ضاحية يستريح فيها النظر، وقد ميزته الطبيعة بعينين حادتين واسعتين تملؤهما أحداقهما، على أنك تراهما ثابتتين في محاجرهما، لا تنحرفان إلى اليمين، ولا تعدلان إلى الشمال، حتى لكأنهما في صورة منقوشة لا في وجه إنسان، وإلى هنا لا أجد على الرجل بأسا، فإنه وإنني وإن صديقي الأستاذ توفيق فرغلي، ومحمد بك رشدي غير مسئولين عن أننا خرجنا كذلك للحياة! أما الباقي فصاحبنا عنه جد مسئول.
لقد أرسل سالفيه حتى حاذتا سفلى شفتيه، ورفع طرفي شاربيه حتى شارفا أعلى وجنتيه، وبالغ في تزيين هذا الشارب وتنسيقه، حتى ما ترى فيه شعرة تميل عن صفها، أو تنحرف عن موقفها، كأنما هو «قره قول شرف» يفتشه قائد عظيم! وقد نصب على رأسه «طربوشا» طويلا استهلك أصله جبينه الدقيق، أما «زره» فقد تأنق في ترجيله وإرسال خيوطه بنسب معينة تزداد كلما تدلت انفراجا، وقد ركب على عينه اليسرى «مونوكل» مؤطرا بالذهب، ودس في فمه «سيجارا» طويلا غليظا، ولست تراه إلا ثانيا معطفه على ذراعه اليسرى ولو نزلت درجة الحرارة عن 5 تحت الصفر، وإن مما يطير نومي أحيانا أنني لم أهتد بعد إلى الوقت الذي يتخذ فيه هذا المعطف كما يتخذه سائر الناس! فإذا التفت رأيته يلتفت جميعا، كأن ما بين رأسه وكتفيه كتلة من الخشب لا تلين ولا تنثني، وذلك كله خيفة اختلال «القيافة» باختلال شعر الشارب؛ أو اضطراب خيوط «الزر»!
وإني أؤكد لك أنني حين رأيته لأول مرة حسبته فارا من لوح «سينما»!
وقد جمعني وإياه يوما شيطان من شياطين الإنس، وما انتظمنا المجلس حتى قال لي: «أقدم لك صديقي الفيلسوف الكبير فلان بك، أفلا تعرفه أو لم تسمع عنه؟ فقلت تشرفنا، فقال: حسبه فخرا أنه صاحب نظرية «الانعكاسات اللافطرية» فأدركت أن الخبيث يريد أن يعبث! فقلت: وهل يجرؤ أحد على أن يقول في هذا بعد الذي قال أوجست كنت؟ على أنه لم يخرج له من هذه القضية كثير ولا قليل، فقال صاحبي: بل اهتدى إلى ما لم يهتد إليه أوجست كنت؛ بل لقد وفق بين رأي القائلين «بالإبداع التناسبي»، وبين رأي الذاهبين إلى حماية التجارة، فقلت له: إذن لقد خالف رأي لامارتين، فأجاب بل لقد كسره تكسيرا، وأفضنا في هذا، وجلنا في الفلسفة والعلم والآداب استظهارا لتلك النظرية، وهو يوافقنا بالإيماء، ويسرد معنا أسماء لا أدري من أين حفظها، ثم جعل يتقبل منا الإعجاب بتلك العبقرية الفخمة.
ثم قام في رفق وانجلى لوجهه ... وقد ذهب عني أن أقول لك إنه طوال المجلس ، لا يستقر دقيقة واحدة حتى يقوم لبعض شأنه ثم يعود مستمهلا، ولقد تفقدته فإذا هو يمضي إلى المرآة لإصلاح ما عسى أن تكون الكلمة قد ثنت من شعر شاربه، وما عسى أن تكون الإيماءة قد خلخلت من رباط رقبته! أو حرفت من «زر» طربوشه!
ولقد عرفته بعد ذلك واستقصيت أخباره، وتقريت آثاره، فاجتمع لي منها أنه رجل شغف بأن يكون في أولاد «الذوات» فهو يأخذ إخذهم، ويتشبه بهم في شكلهم ودلهم، وفي مشيتهم، وطعامهم، وشرابهم، ولهوهم، وعبثهم، وسائر أطوارهم، فهو يسمع أن ابن فلان باشا «يفصل» الثياب عند ديليا، فيطلب ديليا ويسأله أن «يفصل» له «بدلة» كالتي فصلها أخيرا لفلان، ثم يسمع أن الأمير فلانا «يفصل» عند سيفاد، فيمضي من فوره إلى سيفاد، ويسأله ما سأل ديليا أمس، ثم يرى في إصبع فلان بك خاتما من الزمرد، فلا يزال يتحرى ويستخبر حتى يهتدي إلى الجوهري الذي باعه فيشتري مثله، ويرى فلانا بك يدخن السيجار، فيدور يبحث ويستقصي حتى يهتدي إلى أغلى السيجار، فلا يفارق بعدها فمه أبدا، وما هو «بخرمان»، ولا هو ممن يتذوقون الدخان! •••
ثم هو رجل «شيك» فتراه يطلب جروبي القديم الساعة 10 من صباح كل يوم، فلا يزال هناك حتى الساعة الواحدة، ثم يركب سيارته إلى «سان جمس» فيتغدى، ولكن ماذا يتغدى؟ ما دلته تحرياته على أن فلانا طلبه أمس، ثم في تمام الساعة الخامسة يكون في جروبي الجديد، وهناك شباب من أبناء «الذوات» متعلمون يخوضون أحيانا في العلم والأدب والفلسفة، فهو يأخذ معهم فيأخذون معه أيضا على النحو الذي رأيت، فإذا كانت الساعة الحادية عشرة، استوى في «الكازينو ديباري»، فدار يبحث عن أي الغانيات راقت الليلة الماضية فلانا بك، أو التي تحدث عنها فلان بك، فأسرع فدعا بها وطلب لها أغلى الشراب! وقرب إليها أفخر الألطاف.
ومن أظرف ما سمعته في هذا الباب ما حدثني به شاب ممن يغشون هذه الأماكن قال: دخلت المكان الفلاني فرأيت منظرا عجيبا، رأيت أبرع الفتيات هناك جمالا، مستوية على منضدة، وبين يديها أفخر الشراب وأنضر الزهر وأبدع التحف، وفلان (يعني صاحبنا) جالس بجوارها وقد ولاها ظهره، أما وجهه كله فإلى الباب، فوقفت وقفة طويلة لعلي أراه ينثني ناحيتها فلم يفعل، فدرت حتى وقفت بإزائها، وسألتها هامسا بالتليانية عن شأنها مع هذا الرجل، فأجابت ضاحكة ساخرة: إننا على هذه الحال من ساعة ونصف! •••
وبعد ففي الناس كثير إذا لم يبلغوا مبلغ هذا الرجل كله، فهم على كل حال لا يعيشون لأنفسهم ولكنهم يعيشون للناس؛، لأنهم شاكون في وجودهم أو في إنسانيتهم، فهم جاهدون دائما في أن يثبتوا وجودهم أو يثبتوا أنهم من الناس. •••
بعد كتابة هذا الكلام وجمع حروفه (على رأي المقطم الأغر)، انتهى إلي أن الرجل مع الأسف، قد لحقه الفقر، وحلت به الفاقة، وركبته الديون، فباع السيارة وكل ما أحرز من كرائم الجواهر ونفيس الآثار، من صنع «كريجر» في باريس وميل في لندن، وسكن في الخارطة الجديدة بعد الزمالك ولم يحتفظ من آثار «العز» إلا بسيجار واحد «يركبه» في فمه ليخوض به في دير الطين، بعد التخطر في شارع المناخ وشارع عماد الدين!
ما شاء الله! ...
أرى شابا لا أعرف له عملا إلا الطواف بمتون القهوات، والوقوف على من يعرف من الناس، والتحدث إليهم في الأسباب الدائرة في البلد، فإذا حدث حدث في الهندسة، وكان لإسماعيل سري باشا رأي فيه، وقف بك وطرح عليك الأمر، وكرش وجهه ومط بوزه، وقال في استخفاف واستهزاء: «لم يبق علينا إلا أن يتكلم إسماعيل سري في الهندسة!» فإذا كان الحديث في الطب، وأثر عن علي بك إبراهيم عمل جراحي له خطر، قال لك في تلك الصورة: «لقد هزلت حتى إن علي إبراهيم يتعرض لإجراء عملية جراحية!» فإذا كان الأمر في القانون، وكان لبدوي باشا رأي مأثور قال لك: «ما شاء الله، حتى عبد الحميد بدوي هو الآخر يتكلم في القانون!» وإذا كان الحديث في الأدب وكان للدكتور طه حسين فيه مقال قال لك: «لقد طابت الهجرة من هذا البلد، لم يبق علينا إلا أن طه حسين يتكلم في الأدب؟!» ثم يهز كتفه ويوليك قفاه، ولعله أكرم على الله وعلى الناس من وجهه، وينطلق عنك المسكين وهو يظن أنه قد قضى حق العلم أولا، وحق الوطن ثانيا، وحق التعالي على هؤلاء الذين يسلكهم إجماع الناس في نوابع الدنيا، وتدسى بعد ذلك في فراشه، ولا يكاد يتسع ما بين الأرض والسماء لعبقريته الهائلة!
لست أجد أية غضاضة على العالم في أن يفسح لمثل هذا المسكين في سعادته تيك، ما دام أذاه لا يتجاوز ذلك التصور، وخير أن يبقى في «القسم الخارجي» من أن يجشم الحكومة نفقات طعامه وكسوته وملاحظته في إحدى «السرايات» القائمة في أقصى العباسية!
غرور ...!1
إذا لم تكن رأيت عبد الحميد بدوي، أو علي إبراهيم، أو أحمد أمين، أو أحمد شوقي، أو غيرهم من هؤلاء الذين يدوي بعبقرياتهم السهل والجبل، لتمثلوا لك على صور غير صور سائر الناس، وحسبت لهم حديثا غير أحاديث سائر الناس، وأنهم يأخذون في أسبابهم في غير ما يأخذ سائر الناس، وأن فيهم من الزهو، والذهاب بالنفس، والتتايه على الخلق ما يملكهم عن مجالس الناس، إلا أن يتشرفوا عليها تشرفا، فإذا أنت رأيتهم، وهيئ لك أن تعرفهم وتجلس إليهم، رأيتهم مثلنا في كل شيء، لا يمتازون إلا بالتواضع، وطيب الخلق، وضبط اللسان عما لا يعني من شئون الناس!
وإنك مع هذا لقد ترى شابا أخذ نفسه من الأناقة بأعظم مأخذ، وقد وضع على يسرى عينيه «المونكل»، ورشق بين شفتيه طرف «سيجار» كجذع النخلة وثنى معطفه على ذراعه اليسرى، وجعل يتخطر في الطريق، تكاد تتمزق من حوله الدنيا بما يضعفها من صلف ومخيلة، فإذا جاز بك لا يراك كفؤا لأن يرسل عليك نظره كله، أو نصفه أو ربعه! إنما هي اللمحة الخاطفة يتفضل بها عليك لتعود على معارف وجهه بآثار التتايه والعجب من أن الطبيعة ترسل مثلك إلى الأرض، حتى ليخيل إليك أنه موفد من قبل المريخ «ليفتش» على عالم الأرض، ثم يعود فيقدم تقريره بما ينبغي لهذا العالم المسكين من ضروب الإصلاح!
وتعود إليه نفسه فلا تقع منه إلا على فتى غر جاهل مفتون، سائل الخلق، متزايل الشمائل، لا أثر له في الدنيا إلا أنه مستهلك لا فضل له ألبتة في إنتاج في أية ناحية من نواحي الحياة!
رجل غريب!1
أعرف رجلا من أولاد الأعيان أزل له الإرث ثروة جليلة، فما برحت يده تجول فيه بالسفه حتى كادت تأتي على آخرها؛ ولعله بعد قليل ينقل اسمه من «جدول» سادتنا الأغنياء، إلى «جدول» إخواننا الأدباء!
وإني لأخاطر على أن ذهنك يدور الآن في التماس كل أسباب السرف في الدنيا، لعله يحرز أيها الذي يستهلك ثروة صاحبنا، ويقم ماله، في هذه السرعة قما.
وإني لأخاطر ثانيا على أنك لن تقع على السبب الصحيح حتى ينحدر نظرك إلى صميم هذا المقال.
ولا تحسبن الرجل من أهل المكارم يتفقد العافين، ومن تغير لهم الدهر فيجري عليهم الأرزاق، ويصلهم بكريم الصلات.
ولا تحسبن الرجل متبذخا في عيشه يلبس الحرير والديباج، ويركب الجياد الفارهة والسيارات الفخمة، ويسكن القصور يفتحها لصدقانه، والوافدين عليه فيتبسطون على طعامه، ويقلبون أعطافهم في نعمه، فما رأيته قط إلا في ثوب خلق، ولا شهدته قط إلا راجلا أو «مترما» على رأي الأستاذ الخضري، ولو كره الأستاذ السكندري، ولا أعلم أنه سكن في غير بير المش! أو كفر الزغاري أو درب الوطاويط! ثم هو لا يستريح من الناس إلى صاحب، ولا يأنس بخليل.
ولا تحسبنه مقامرا، ولا مضاربا، ولا مستهترا بشراب، ولا ممن يتخذون الخليلات فيسخون بكرائم الأموال في حليهن وأسباب زينتهن، ولو أتى هذا على كل ما ملكت أيمانهم من جليل الأموال.
وأخيرا فلا تحسبنه معتوها يتغفله الشطار، فيستخرجون ماله بوجوه «النصب» وأسباب الحيل، لا تحسبنه شيئا من ذلك، ولا تظنن أن ثروته تبتذل في مثل هذه الوجوه المأثورة عن تعساء الوارثين ...!
كل خطب الرجل أنه يحب القضايا ويكلف بها كلفا شديدا، ولست أبالغ إذا قلت لك إن غرامه بالقضايا وبالتقاضي يرجح على غرام المجنون بليلى، وابن ذريح بلبنى، وروميو بجولييت.
هو مغرم بالقضايا غراما يسيل الكبد، ويمزق شغاف القلب تمزيقا، يحب القضاء ويحب التقاضي، ويحب المحاكم ويحب المحامين، ويحب المنازعات ويحب الخصوم أيضا، ويا ويل الأرض منه والسماء إذا لم يجد مدخلا لخصومة، ولم يصب مدرجا إلى المحكمة، ولم يلف وسيلة يشاغب بها الناس أو يشاغبه بها الناس! فإذا طلع عليه نهار وليس له فيه قضية فوا حر قلباه! فما الصب كشحه كاشح في هواه، ولا «المجنون» وقد ملك عنه العاذل ليلاه، بأشد منه حرقة ولا أفدح وجدا.
وهو رجل لا يصبر على الأذى، ولا ينزل على الضيم، ولا يسلم نفسه لطوارق الأيام، ففتق له العقل أن يتخذ ذخيرة من القضايا
stock
يكفي بها الإعواز ويتقي بها - وقاك الله - شر الحاجة، فجد واجتهد حتى أجد ثمانمائة قضية دفعة واحدة، فرقها على ألوان المحاكم: أهلية وشرعية ومختلطة، جزئية وكلية واستئنافا أعلى، وفرض كذلك نصيبا لمحاكم الأخطاط، والمحاكم القنصلية، ولم ينس المجالس الملية، بحيث يستمتع كل يوم ب 10-15 قضية إذا حسبت حساب «التأجيلات»، وبحيث إنه - لا سمح الله - كلما انتهت قضية صنع بدلها قضية، حتى تظل الثمانمائة وافرة لا تكلم على الأيام!
وإنك لتراه خارجا من محكمة الأزبكية، مسرعا يطلب محكمة مصر الكلية، ثم ينكفئ منها إلى المحكمة الشرعية، فإذا كانت الساعة الحادية عشرة، «استقل» قطار «بورسعيد» إلى محكمة بنها، فإذا يسر الله ونظرت قضيته أو قضاياه سريعا أدرك القطار المفتخر ليحضر قضاياه في طنطا، «والبركة» في المحامين في حضور باقي المحاكم لتولي سائر قضايا اليوم، هذا رزقه في «الماتينيه»، أما في «السواريه» فهو من الساعة الثالثة بعد الظهر مغذ في طلب مكاتب المحامين: أهليين وشرعيين ومختلطين، فيظل يحاورهم ويناقشهم في قضايا الغد حتى يفرغ منهم أو يفرغوا منه بانقضاء المواعيد، ثم يمضي ومن خلفه غلاماه يحملان خريطتين مشحونتين بالأوراق، فيطلب أحد المقاهي الهادئة، فيستوي في ركن منه إلى منضدة، ويقبل على أوراقه يهيئ دفعا فرعيا في هذه القضية، وقضية استرداد لهذا الحجز، وطلب رد لهذا القاضي، وإشكالا في هذا الحكم، ودفعا بعدم اختصاص تلك المحكمة إلخ إلخ إلخ.
وأنت في هذا كله لا تراه إلا طربا طرب العقاد حتى حين يسيل في «تقاسيمه» فيستثير المرح والإعجاب! •••
ولقد لقيته مرة في فترة العطلة القضائية، فرأيته متخاذلا لقس النفس، فقلت له: كيف حالك يا فلان؟ فقال: «زي الزفت!» قلت له: ولماذا؟ فقال: «الحالة نايمة ولا فيش شغل!»
وصادفته في القطار يوما في طريقي إلى «بورسعيد»، فلما جزنا محطة منيا القمح، وقعت عينه على محكمتها «الجميلة» الواقعة على بحر مويس، فسألني عن ذلك البناء، فقلت له: إنه المحكمة الأهلية، فتغزل في موقعها قليلا ثم قال «والله الواحد حقه يشتري له هنا قد فدان ولا نصف فدان»، فقلت له: «وما حاجتك إلى هذا ولك في بلدك مئات الفدادين؟» فقال: «علشان الواحد يبقى ييجي ويتسلى بكام قضية هنا!» •••
هذا رجل، وهذا غرام، وتلك ثروة، فسبحان من قسم العقول، وسبحان من قسم الحظوظ!
ناظر وقف جده ...!
أقسم لكم، يا معشر القراء، بالله العظيم، وبنبيه الكريم، وبحق زمزم والحطيم، أن هذا الذي أرويه لكم حق يقين، لم تشبه مبالغة، ولا تداخله تندر، ولا عولج من التخييل، بكثير ولا قليل!
وقعت لي أمس رقعة زيارة (كارت فيزيت)، وقد طبع عليها:
فلان الفلاني
ناظر وقف جده
وليس لدي على هذا بحمد الله أي تعليق!
إقناع معدة ...!
أعرف شابا من ذوي البيوتات ذكيا غنيا، يضطرب دخله بين الثمانية الآلاف والاثني عشر ألف جنيه في كل عام «عدا وظيفته التي يجريها عليه المنصب في كل شهر»، وهو فوق هذا ظريف حاضر النكتة، وأنه ليعرف كيف يصوغها بالقلم كما يحذق إطلاقها باللسان.
وإذا أنت لابسته واطلعت على دخيلة شأنه حير رأيك فيه، فما تدري أهو أكرم الناس أم أبخل الناس؟
والواقع أن مما يغلط فيه سواد الناس، ظنهم أن البخيل من لا يجود بالمال، ومن تغلب عليه عادة الشح به، وشدة الحرص عليه، وأن السفيه من لا يعتد بالمال، ومن يبادر إلى إتلافه ما وقع إلى يده، وقد دلت المشاهدة على أن هذا على إطلاقه غير صحيح، فإنك لتجد في الناس من يحرص على الدانق، ويضن حتى في موضع المروءة بالسحتوت، وتجده نفسه لا يكترث بالآلاف، ويعمد في غير حاجة، إلى السرف والإتلاف، وذلك شأن صاحبنا الذي أومأنا إليه في مستهل هذا الكلام: ولقد يعلم أن من عماله على ضياعه من يفتلذ من غلاتها الآلاف فلا يكرثه الأمر ولا يعنيه، ولقد يولم لأصحابه، بل لمن لا ترتبطه بهم الصداقة القوية، فيقرب إليهم أشهى الطعام، وأفخر الشراب، ويسمعهم أحذق المغنين، وقد يدعو لهم بفاخر الطرف وغالي الألطاف، ثم تراه في غده يشح بالدرهم، ولو سئله لتغير وجهه وتقلصت شفتاه، وظهر عليه من الكزازة والكيص ما لا يرضى به لنفسه أحد في الدنيا، ولقد يكون في المجلس المونق، يغمره لطف الحديث أو حلو الغناء، فينتفض عنه فجاءة زاعما أنه قائم لبعض شأنه «وما به من حاجة»، ولكنه إنما يطلب مرافق الدار أو المقهى ليشعل سيجارة، خيفة أن يفتح في المجلس علبة سجايره، فيتورط في الميل بها على من إلى يمينه أو من إلى يساره!
ومن عجيب شأنه في حسابه أنه قدر لنفقته اليومية الخاصة قدرا لا يعدوه أبدا، فجعل لسجايره عشرة قروش مثلا، ولنزهته عشرين، ولعشائه خمسة عشر إلخ، فإذا اختل حسابه بالزيادة في أحد هذه الأبواب، التمس القصد في غيره والتعويض من سواه، وراح يجري ألوان التعديل في أبواب «الميزانية»، حتى لا يزيد الخارج في النهاية درهما واحدا، فإذا ازدادت نفقة الطعام قرشين مثلا عوضها من باب «البنزين»، فرد السيارة من مطلع شارع الهرم، وإذا زادت نفقة السجاير قرشا مثلا، أسرع إلى «التليفون» فأمر الخدم أن يطفئوا نور الدار، ولا يطلقوا إلا مصباحا واحدا، وإذا تورط في عشرين قرشا لم تدخل في حسابه، اعتل على أحد الخدم فطرده ثلاثة أيام أو أربعة ثم أعاده، وهكذا.
ومن أظرف نوادره في هذا الباب أنه اعتاد العشاء في أحد المطاعم، وكان فيها «حات»، وكانت وجبته في كل ليلة رطلا من الكباب، فلوحظ عليه ذات عشية أنه دعا بنصف رطل فقط، وتبين بعد ذلك أنه تورط في عشرة قروش لم تكن في حسابه، فأراد أن يعوضها «خصما» على «بند» العشاء، فأتى على نصف الرطل، ولكن المسكين لم يشبع، لأن معدته لا تزال تتطلع إلى مزيد!
وهنا تستطيع أن تتمثل أبدع حوار جرى بين إنسان وبين معدته: هو يحاول إقناعها بالحجة الكلامية، بأنها قد شبعت وهي ترد عليه بالحجة الفعلية إنها ما برحت جوعى، فيكر عليها بالدليل العقلي أنها قد أخذت قسطها، واستوفت من الطعام حقها، ويستشهد على دعواه بفلان وفلان ممن لهم في نصف الرطل أو في ربعه مقنع! فتدمغه بتهييج الشهوة وتفتيح اللهوة، وسيلان اللعاب على ما يضطرب به الخدم من صحاف «الكفتة» والكباب، فيباديها بأنها ما دامت قد انحرفت عن سبيل القناعة، وتمردت على رأي الجماعة، فإنه مضطر إلى أن يردها إلى حدود الطاعة، بإنزالها على المخمصة وتعذيبها بطول المجاعة!
فتجيبه في عزة واستكبار، وعزم لا يطاوله وعيد ولا إنذار: إذن أهد حيلك، وأؤرق ليلك، وآخذك عن نفسك، فما تدري أفي يقظة أنت أم في منام، وحقيقة ما ينتظر لك من ألوان الطعام، أم هي أضغاث أحلام! •••
ولما أعنتته بطول نشوزها على رأيه ، وشدة تمردها على حكمه، جمع كل عزمه، وشد مجامع أعصابه، وتنحنح وتسعل، ثم استمكن من كرسيه، وأعلن في صراحة وحزم، أنه قد شبع والحمد لله!
ولكي يضع معدته أمام الأمر الواقع كما يقولون، دعا بفنجان قهوة «سادة» وشربه ولعق ما ترسب في قراره! وجعل يتشاغل بالحديث عن المقيم المقعد من أمر تلك المعدة، عليها خيبة الله!
ثم أطرق إطراقة طويلة لم يدر حاضروه ما علتها، ثم بان أنه يحاول المعدة ويصاولها، ويصابرها ويطاولها، وما زالت حجتها عليه تقوى وتشتد، وسطوتها به تقسو وتحتد، وما زال عزمه أمامها يضعف ويتخاذل، ويسترخي ويتزايل، ويظل على هذا قرابة عشر دقائق، ثم إذا هو يهب فجاءة ويصفق، حتى إذا أقبل الخادم، عاجله بطلب ... «واحد رز»!
ويحسن أن أقول لك: إن ثمن صفحة الرز في ذلك المطعم هو قرش صاغ واحد ولله في خلقه شئون!
ملحق ...
ومما يتصل بهذا الباب، ويضم إلى هذا الجنس، حديث «فلان بك» رحمه الله، وكان معروفا بسعة العلم، وشدة العقل، وكان شديد البخل، قاسيا في الضن على النفس، وقد ألحق في شباب سنه بخدمة الحكومة ويده لاصقة بالتراب من شدة الفقر، فكان يدخر وظيفته الشهرية كلها إلا ما يكفي لشراء رغيف «وطعميتين» كل يوم، وأما الثياب فلا يكفي لتغييرها أن تحول، أو يلحقها النصول، أو أن تبلى خيوطها، أو أن تتخرق عروضها، فهو لا يتركها بل هي التي تتركه حين يدركها الفناء، فتطاير عنه تطاير الهباء، وعاش كذلك يجمع الدرهم إلى الدرهم، ويضم المليم إلى المليم، حتى اجتمع له في غاية عمره نحو أربعمائة فدان من أجود أطيان الدنيا، وحوالي عشرة آلاف الجنيه، أرضخها للوارث نقدا وعدا.
وليس شيء من كل هذا بعجيب، إنما العجيب ما استكشف من خلاله في مؤخرات سني حياته، ذلك أنه ظهر - بحكم إحدى المصادفات، وللمصادفات أبلغ الفضل فيما يجري في هذا العالم من وجوه المستكشفات - أقول ظهر أن الرجل لم يكن يحب المال ولا يحفل به، ولا يعنيه أن يجتمع له منه كثير ولا قليل ، ذلك أن كل هم الرجل وكل خلته أنه لا يحب المتاع، ولا يطيق التقلب في النعمة، فإذا أكل أصاب أيسر ما يمسك الحوباء، وإذا لبس ففي ستر الجسم بالخلق غناء، وإذا استصبح تغنى بالزيت، وإذا أوى استغنى بالكوخ عن البيت، فهو إذا جمع بعد ذلك المال، فليس يجمعه لحب فيه أو شهوة إليه، وإنما يجمعه لأنه لا يجد له مفيضا عن الكفاف وهو غاية مناه!
قلت لك إن هذه الخلة قد استكشفت في أخريات سنيه، وذلك أن بعض من يحملهم لاحظوا بعد طول ما أعتروا به من ضيق الحياة وشظف العيش في كنفه، أنه لا يضن عليهم بشيء مما يطلبون من الأموال، بالغة ما بلغت، على شرط أن يستأثروا بالمتاع بها وحدهم، فلا يشركوه في طعامهم، ولا في شرابهم، ولا يفرغوا عليه مثل أرديتهم، ولا يرقدوه على مثل فرشهم، ولا يدخلوا عليه شيئا من رفاهيتهم ولين عيشهم! •••
بقيت هنالك مشكلة، وهي أنهم يحبون أن يستصبحوا بالكهرباء، وهو لا يطيق أن يطلق النظر على ضوئها، فكيف الحيلة في هذا الإشكال؟ لقد ظلت المشادة دهرا بين الطرفين، حتى عرض هو حلا معقولا: ذلك أن يستأجر لهم دارا في حي المنيرة ذات غرف وأبهاء، ليزينوها بما شاءوا من ثريات الكهرباء، على أن يدعوه في مثواه ببير المش، يستصبح بالزيت ويفترش القش! •••
في الحق إن المؤلفين في علم الأخلاق في حاجة إلى مراجعة كتبهم لاستقصاء مثل هذه الأحوال، وضبط الكلام فيما تدل عليه من الغرائز والخلال.
اقتصاد سياسي! ...
«فلان بك»، عليه رحمة الله، قضى ولم يتشرف بعد على الخمسين، وكان يعيش في هذه الدنيا فردا، فلا أم ولا أب، ولا زوج ولا ولد ولا خادم، وكان واسع الغنى وافر المال، على أنه قد حبس ما في يديه من النقدين على إقراض المحتاجين، ولا يقرض منهم إلا موظفي الحكومة، فيخرج الجنيه بريال يستحق في أول يوم من الشهر القابل، سواء أأقرضه في أول يوم من الحاضر أم في 15 أم في 27 منه، ثم هو لا يعقد السلفة إلا إذا أخذ توكيلا من الموظف المقترض بقبض راتبه عنه، فإذا فضل منه بعد استيفاء القرضة شيء رده إلى صاحبه، وكان في ذلك، والحق يقال، أمينا شريفا.
وأعرف موظفا مستهترا كان في وزارة «...» وألحت عليه الحاجة إلى العبث في يوم 22 من الشهر، وسأل صاحبنا قرضا بخمسة جنيهات يؤدى، على العادة في أول الشهر التالي ستة، فتثاقل عليه، وكلما ألح صاحب الحاجة ازداد صاحبنا تعللا، وأخيرا وبعد طول مفاوضات ومساومات، عقد القرض بالشروط الآتية:
بند 1:
مبلغ القرض خمسة جنيهات مصرية تدفع ستة في أول يوم من الشهر التالي من ماهية الطرف الأول بمقتضى توكيل منه للطرف الثاني.
بند 2:
يشترك الطرفان في إنفاق هذا المبلغ في اللهو والعبث في الأماكن التي يعينها الطرف الثاني بدون معارضة من الطرف الأول.
بند 3:
للطرف الثاني الحرية المطلقة في إنفاق المبلغ كله في ليلة واحدة أو أكثر.
بند 4:
أمانة الصندوق من حق الطرف الثاني.
ونفذ العقد بجميع شروطه من المتعاقدين معا. •••
ولهذا «البك» رحمة الله عليه، رقعة واسعة في أحد أطراف مدينة القاهرة، ولا أعينها لكيلا أعينه، ويقع في وسطها تل مرتفع يصعد إليه بدروب من جميع أقطاره، وقد بنى عليه مئات من البييتات، اتخذ سكناها رعيل من النساء اللائي جرى عليهن القدر باتخاذ أتعس المهن، وقد أطر هذه الرقعة الواسعة من جانبيها اللذين يقعان على شارعين حافلين بما لا يحصى من الدكاكين، وأرصد كل واحدة منها لصاحب مهنة خاصة.
فالدكاكين رقم كذا ورقم كذا لا يؤجرها إلا لمزينين، والدكان رقم كذا لكواء، ورقم كذا لقصاب (جزار)، ورقم كذا لخضري، وأخرى لبقال، وغيرها لبدال، وغيرها لحات، وسواها لطباخ، وغيرها لفوال، ولسمكري، ولحداد، ولخياط، وهكذا مما يستوفي مطالب الناس في أسباب معايشهم، ولو قد خلت دكان من هذه الدكاكين، فجاء صاحب حرفة أخرى ما أمكنه منها، ولو أضعف له كراءها ثلاثة أضعاف.
فإذا كان الصباح انطلق إلى دكان اللبان أو الفوال، ووقف بصاحبها وناداه: يا حج أحمد، أو يا عم مصطفى: هات الأجرة «وفي لسانه لثغة تخرج الراء بين الراء والطاء»، فيجيبه الرجل: «يا فتاح يا عليم، رايح أجيب لك الأجرة دلوقت منين؟ إحنا لسه استفتحنا يا سعادة البيه؟»، فيحتد «البك» ويصيح في وجهه: إذن تحول «يالله عزل»، فلا يزال الرجل يستعطفه ويترضاه، حتى يستدرجه إلى منضدة، ويقدم له اللبن الحليب وطبق القشطة، أو الفول المدمس معالجا بالزبد، وما يبرح يبالغ في إلطافه وإيناسه حتى ينطلق راضيا بتأجيل كراء الدكان أياما أخر، ثم يميل إلى صاحب المقهى فيصنع معه ما صنع بالأول، وتنتهي المسألة بتأجيل الأجرة بعد تقديم «كنكة» قهوة «بسكر شوية»، ونرجيلة، حتى إذا بلغ من ذلك حظه، قام فعدل إلى الحلاق فطالبه بالأجرة، وانتهى المشكل بحلق رأسه أو إحفاء لحيته، وتطييبه وتعطيره!
فإذا انحرفت الشمس عن كبد السماء، انخرط إلى «الحاتي» فطالبه بكراء الدكان، فيعتذر بضيق ذات اليد «ووقوف السوق» فيكرر عليه، في حدة وحزم، طلب الأجرة أو التحول (العزال) من غده، والرجل يطامنه ويستعتبه حتى يرضى بالاستواء إلى إحدى المناضد، فما هو إلا أن يجد بين يديه رطلا من الكباب وآخر من «النيفة»، وألوانا من الكوامخ والمشهيات، فإذا أصاب من ذلك كفايته، مضى إلى الحلواني، فانتهى الأمر بقطعتين من الفطير وثلاث من «الهريسة»، ثم قام إلى الفاكهاني، فأصاب ببركة تأجيل دفع الأجرة ما شاء من تفاح وموز وعنب.
فإذا كان المساء أعاد الكرة، ولكن على غير من اعتراهم في نهاره، وللكواء يوم في غسل الثياب وكيها، وإذا انصدعت أنابيب المياه في البيت أو فسدت صنابيرها، فهناك السباك، وهناك الزجاج لما يتكسر من زجاج الشبابيك، والنجار لإصلاح ما يتصدع من الأبواب، وهكذا! ...
فإذا أراد الشراب في إحدى لياليه طلب حانة أنستي أو بندلي، وهما من سكانه أيضا، وصنع مع الأروام ما يصنع بأبناء البلد.
ولعله إذا كانت ليالي الجمع صعد إلى أعلى التل فاقتضى سكانه المساكين الأجرة أو ... «العزال» ...!
رحمه الله رحمة واسعة؛ وعزى «الاقتصاد السياسي» فيه أحسن عزاء!
في البخل! ...
قرأت كتاب «البخلاء» للإمام الجاحظ أكثر من مرة، ومما وقع لي فيه أنه ما من رجل مبخل، إلا يحتج للشح والتوفر على الجمع، بالضن بالولد على الفقر، وترك ما يدفع عنهم الحاجة والابتذال في طلب القوت.
ولقد دمغ الجاحظ احتجاجهم هذا بحجة رائعة، وتلك أن الخصيان (الأغوات) جميعا يشيع فيهم الشح، وتغلب عليهم شهوة الجمع والادخار، والضن على النفس بالدانق والسحتوت، وليس لأحد منهم ولد، ولا يمكن أن يكون له ولد! فلمن يكنز الأموال؟ ولمن يضيق على نفسه في حياته، ليوسع عليهم ويرفه عنهم بعد مماته؟
الواقع أن شهوة الحرص وجمع المال، هي في نفسها عند البخيل لذة لا يكاد يعدلها شيء من لذائذ الدنيا، هي في نفسها لذة غير موصولة بعلة، ولا ممدودة بسبب؛، لأن الإنسان إنما يحب ولده لأنه يحب نفسه، وولده بعض نفسه، ولا يعقل أن يؤثر الفرع على الأصل، أو يرجح البعض على الكل !
والبخيل يقتر على نفسه وعلى ولده معا، وقد يكون عنده من جليل الأموال ما إن وسع منها على نفسه وعلى عياله معا، لبقي منها بعد موته، ما يتضمن لهم العيش في السعة، والتقلب في النعمة، ومع ذلك فإنه لا يفعل، بل تراه يتعمد الحرمان لنفسه ولأولاده، ويثبت لحقدهم عليه، وتعجلهم لأجله، ليستمتعوا بالنعمة إذا هو اندس في التراب، وأضحى أكيل الدواب!
على أنني وقعت على لون من البخل، لعلك كنت تراه غريبا، وأحسبك الآن تراه غير غريب: فلقد جرت سنة البخلاء على أن يقتروا على أنفسهم وعلى عيالهم معا، فإذا كان لولد أحدهم شيء من السطوة عليه استخرج منه الأموال، فأخرجها له مرغما مغلوبا، لا إيثارا للولد، وبقي هو في شحه على نفسه، ارتكابا لأخف الضررين «التوسيع على النفس وعلى الولد معا»!
أما النوع الذي وقعت عليه من البخل، وتحسبه غير مألوف، فلقد كان لي صاحب علت به السن، ورزق الضدين (الغنى والعيلة)، فقد اجتمع له من زوجاته الثلاث، ما لا يقل عن اثني عشر ولدا، ولا بد له رضي أو كره، من أن يحملهم، وكان رحمه الله رجلا شديد الحرص عظيم الطمع، يجمع الدانق على الدانق، ويرص المليم على المليم، ولا يكاد كيسه يتفصد إلا في بناء دار أو شراء ضيعة، ولكنه كان يخالف سنة البخلاء في خلة واحدة: ذلك بأنهم، كما تعرف، يقترون على أولادهم وعلى أنفسهم معا، ولكن هذا إنما كان تقتيره موجها على عياله وحدهم، أما نفسه فكان لا يحقن فيها شهوة، وبخاصة شهوة الطعام، بل لقد كان يبلغها من هذا غاية مناها!
وكان رحمه الله إذا سافر ركب من القطار في الدرجة الأولى، أما أولاده فيشحنهم في «الترسو» أو ما دون «الترسو» لو كان له دون! وإذا لبس فمن «تفصيل» ديليا أو فستا، أما بنوه فعليه أرخص القماش، وعلى أمهاتهم «التفصيل»! وإذا نام افترش الحرير، وتوسد ريش النعام، أما البنون، ففي «الكليم» متسع للجميع!
أما الطعام، وما أدراك ما الطعام! فالخبز أولا يصنع في البيت كل أسبوع، على ألا ينفى من الطحين إلا النخالة، وسائره للعجين! وأما الإدام فهيهات للحم أن يزور داره «العامرة»، فلقد أخذ بنيه في هذا الموضع بالورع وجلا عليهم الحكمة في الحديث الشريف: «نعم الإدام الخل»، فللغداء الكوامخ (السلطات) أشكالا وألوانا، و«لأم الفلافل» وأخواتها من الخوان المقام الكريم!
وأما العشاء، فله فيه صنع بديع!
يدخل وقت العشاء، فإذا صاحبنا قد سلف وأعد بعدد الأولاد ملاليم.
فإذا اجتمعوا إليه مستشرفين لعشائهم، قال لهم: «اللي ياخد مليم ما يتعشاش؛ واللي يتعشى ما ياخدش مليم! مين اللي ياخد مليم؟»، ويدفع أحدهم فيقول: «أنا!» وعلى حكم غريزة التقليد في الغلمان، يسرعون فيتصايحون: «أنا! أنا! أنا!»، فيدفع إلى كل منهم مليمه، وكفاه الله مئونة العشاء! أعني عشاء الأطفال!
وبعد، فللفطور قصة أخرى: ذلك بأنه زعم للزيات القائم على رأس الشارع، أن لديه حملا يربيه ويحب أن يسمنه، ويجزل لحمه وشحمه، وليس يعقد له ذلك ويسرع فيه أفضل من خلاصة
1 (تصافي) قدر الفول يطعمها في الصباح، فيحتفظ له الرجل «بخلاصة» قدر العصر، ويعبث إليه بها في الصباح الباكر، والأولاد بعد نيام، فيفرغها في صحفة كبيرة، ويعالجها بقدر من الخل، ويصفف حولها كسر الخبز التي أفضلها الأولاد في غداء أمسهم، حتى إذا هبوا من النوم، وأحشاؤهم تتنزى من شدة الجوع، فتواثبوا إلى الطعام، صاح فيهم: «اللي عاوز يفطر يجيب المليم!»، فلا يسع كلا منهم إلا أن يطرحه إليه، مواتاة لإلحاح البطن، وإيثارا للعافية، فسرعان ما تعود تلك الملاليم إلى عشها، وتعتصم بوكرها! •••
أما هو نفسه، فإنه يخرج في الصباح من داره على الطوى، فيميل في طريقه إلى الديوان على دكان لبان، فيصيب فيه ما شاء الله أن يصيب من الحليب، أو اللبن الخاثر (الزبادي)، أو «القشطة»، وقد يميل إلى «حلواني»، فيصيب عنده ما شاء الله أن يصيب من لبن وشاي، وفطائر مدحوة، وأخرى بالفستق والزبيب محشوة، إلخ إلخ، فإذا فرغ من عمله في الديوان، عرج في مقفله إلى الدار، على الحاتي أو على غيره من المطاعم الفاخرة ، فأوصى وتخير، وتبسط على الطعام، حتى إذا سد شهوته، وكظ لهوته، انكفأ إلى البيت راضيا هانئا.
أما العشاء، فإنه يصيب في البيت قبل أن يتدلى إلى السهرة، وذلك أن يبعث الخادم، في سر من بنيه، فيأتيه بقدر كفايته من خفيف الطعام وفاخره، ولا ينسى أن يأتي معه بنصف أقة عنب، أو بزوعة (شقة) بطيخ، أو ثلاث كمثريات، أو غير ذلك من فاكهة الأوان، حتى إذا دسها له في غرفته الخاصة، قام إلى الباب فأحكم رتاجه، وجلس مطمئنا إلى العشاء!
ومن أظرف ما يذكر هنا أن الأولاد، وبخاصة صغارهم، كانوا يرتصدون لهذه الساعة، حتى إذا اجتمع أبوهم للعشاء، تواثبوا إلى الباب «ليتفرجوا عليه» من الثقب، فترى هذا يتوسل إلى أخيه أن يخلي بينه وبين الثقب، وهذا تراه يثب وثبا، ويدفع صاحب النوبة دفعا، وكانت تكون جلبة وصياح وعويل، والأب ممعن في طعامه، لا يعنى بأن يسأل عما وراء الباب! •••
وفي يوم موته رحمه الله، لم ينتظر هؤلاء الأولاد حتى يقسموا التركة، ويهتدوا إلى اسم المصرف الذي يكنز فيه «المرحوم» ماله، بل لقد كنت ترى أحدهم يهرول في الطريق وعلى رأسه «شباك»، والثاني وعلى كتفه مصراع باب ، وثالثا يحمل بين يديه طستا، ورابعا يحمل مقطفا ملئ بالصنابير (الحنفيات) وهكذا! ...
فهل هذا أيضا كان يجمع للولد ليعصمهم من الفقر، ويكف عنهم عادية الدهر؟!
أصحاب اللقط والتعويض!
تلقيت أمس الكتاب الآتي:
حضرة محرر اليوميات
أرجو إن سمحت، أن تنشر خطابي هذا وتتفضل بالإجابة عما عزب عن علمي، وتحير في تعليله فهمي، ولك الأجر والثواب، من الكريم الوهاب:
روى لنا التاريخ أن السلطان «سليم» كافأه الله بما يستحق، لما تم له فتح مصر واعتزم القفول إلى بلاده، فيما جمع أمهر الصناع وأحذقهم، ممن لا تزال آثارهم في المساجد، والأسبلة، والرباطات (التكايا)، وما حوت المتاحف، ناطقة بما بلغت مصر من علو الكعب، والبراعة البارعة في مختلف الفنون والصناعات، وبلغت عدة هؤلاء المفتنين والصناع في رواية بعض المؤرخين عشرة آلاف، وزاد بعضهم عليها، ونقص بعضهم منها، وأشد المؤرخين قصدا من قدرهم بألف، وعلى كل حال فقد انحطت الصناعة على أثر ذلك في مصر واضمحل منها كثير.
على أننا، لأول عهدنا بالحياة، شاهدنا كثيرا من الصناعات البلدية تعالج كلا منها طوائف من الناس، ويتخذ كل أرباب حرفة، وبخاصة في القاهرة، رقعة معينة، فصناع القرب مثلا في القربية، وصناع الأحذية البلدية (المراكيب) في السروجية، وصناع الشمع في السكرية، وخراطو الخشب تحت الربع، والقرادون (القرداتية) في حوش بردق، «والأدباتية» والحواة في «عشش الترجمان»، والشحاذون في عرب اليسار إلخ إلخ.
وما برحت هذه الحرف تنقبض وتضمحل رويدا رويدا، بما يهجم عليها من مصنوعات الغرب وأسبابه، فحلت «السيارة» محل البغل، ومياه الصنابير (الحنفيات) محل قربة السقاء، و«السينما» محل خيال الظل، وموسيقى الأروام التي يطوفون بها المقاهي، محل جوقة «ألا يا بدر لم أنظر مثالك»، واللاعبون من أولئك بالكمان محل «رمز» إلخ إلخ.
ولم يبق ثابتا قويا على الأيام إلا طائفة الشحاذين «والبركة فيهم»!
وكل هذا لسوء الحظ معقول مقبول، ما دامت سنة الكون واحدة لا تتبدل ولا تتحول، وهي بقاء الأنسب، وعدم ثبات الضعيف أمام القوي.
ولكن الذي لا يعرف سببه، ولا تفهم علته، زوال مهنتين قويتين كانت تحتكر كلا منهما أسرة واحدة! والأسرتان كلتاهما كانتا تسكنان حارة اليهود.
وفاتني أن أذكر لك أن هاتين المهنتين كانتا تدران الرزق على أصحابهما، فكانوا يعيشون في أوسع عيش، ويتقلبون في أنضر نعمة، ألا وهما طائفة «الملاقياتية»، وطائفة «التعويضجية»، وكذلك يدعون في عرف العارفين.
وأفراد الطائفة الأولى، كانوا يخرجون بعيد انصداع الفجر، فيتقسمون بينهم مناطق حي الأزبكية: هذا يطلب ميدان إبراهيم باشا، وهذا يطلب شارع «وجه البركة»، وهذا شارع «كلوت بك» إلخ، فإذا بلغ الواحد منهم أول المنطقة مشى وئيدا، وهو متكفئ يحدد نظره في الأرض، ويتفقد كل دقيق على ظهرها، حتى إذا انتهى إلى آخر المنطقة، عاد في خط مواز للخط الذي قدم منه، ولا يزال كذلك رائحا غاديا في خطوط متساوية، فعل الحراث في الأرض، وكلما أصاب لقطة من كيس أو دينار أو درهم أو حلية، أسرع فالتقطها ودسها في جيبه، ثم عاد إلى داره يعيش أخفض العيش، بفضل هذا الغنم الذي لم يجشمه إلا ما رأيت!
أما «التعويضجية» وكفاك الله السوء، وعصمك من المكروه، فهم أكثر من إخوانهم مالا، وأوسع نعمة، وربما رأيت فيهم من يلبس الحرير، ويتختم باليواقيت، ومن يحوز السيارة، ويقتني خيل السباق، ذلك أن مهنتهم الاستهداف - بقدر ما - للأخطار، والتعرض لألوان من الأذى، ليقتضي المكلوم على ما حل به التعويضات، فتراه يقف على سلم الترام مثلا، حتى إذا أغذ السير قفز منه إلى الجهة المعارضة فشدخ رأسه، أو رض كتفه، وإذا أبصر بسيارة مقبلة تغفل سائقها فسنح «لرفرفها» فخمش ساقه، وإذا أصاب جماعة يلعبون «بالبليارد» جلس خلف أيسرهم حالا، وحرر عينه لكعب العصى «الأستيكة» وهي مرتدة عن مضربها، وهكذا، وإما الصلح بعد هذا، وإلا فالقضاء لطلب التعويض!
فما علة انقراض هاتين المهنتين؟ إنني في انتظار الجواب.
وتفضل ... (م) «اليوميات» أؤكد لك يا سيدي أنني لا علم لي بشيء مما ذكرت، على أنني سأبحث الأمر وأجيبك بكل ما أحصل من العلم فيما سألت، على أنني من الآن ألفت نظر جمعية تنشيط الصناعات الوطنية إلى هاتين المهنتين، فلعل فيهما مرتزقا لهؤلاء الذين ضاق بهم العيش فركنوا إلى التبطل، أو نشطوا إلى الاتجار في السموم الكاوية من الكوكايين والهاروين، وموعدنا إن شاء الله بالبيان قريب.
رزق ...!1
وكان
صلى الله عليه وسلم
يمزح ولا يقول إلا حقا، وسأمزح أيضا ولا أقول إن شاء الله إلا حقا، وكيف أتفرج من همي بمثل هذا؟ ولا أحسب القراء إلا أطلب مني لمثل هذا الفرج!
على أنني لا أكون مصورا في هذه المرة، إنما أنا ناقل فقط، فليس لي فضل إذا راقتك هذه الصورة، وليست علي تبعة إذا هي عدلت منك عن موضع الإعجاب: من عشرين سنة مضت كان في مصر رجل صاحب نجوم، وعلم بالكف، وزجر الطير، والسحر، والعيافة، وتسخير الجن، واستخراج كنوز الأرض، وكانت له جريدة جليلة تضرب هذه المباحث، وتشق الطرق بين يدي طلاب الغنى، وأصحاب المنى، فما تترك مرضا إلا تصف له علاجا، ولا تذكر من أغراض الدنيا غرضا إلا تدل فيه أحسن حيلة، وتهدي إليه بأنجح وسيلة، ولكن العلم أمانة!
ولعلوم الغيب أسرار لا يضطلع بها إلا الراسخون من أصحاب الأقدام، فكيف تريدون ابتذالها للدهماء من سواد القراء؟ الحق أن الخطب في هذه المسألة سهل، فإذا وصلنا إلى مواطن السر أغنى الرمز والإشارة، عن التصريح بالعبارة فإذا وصفت الجريدة علاج الصرع وإخراج «إخواننا»، ذكرت لك عقارا أو بضعة عقاقير معروفة تشتريها من العطار بنصف قرش، على أنها لا تنجع في العلاج إلا إذا أضيف إليها نصف أوقية من «السرواق»، وعليك أنت أن تطلبه ولو في جزائر واق الواق!
وإذا هي علمتك استحضار الجن وصرفها، جلت عليك آية مبينة، ودعاء واضحا «وقسما مفهوما»، ولكن هيهات أن تقبل عليك الجن، وإذا هي أقبلت فهيهات أن تنصرف عنك إلا إذا تلوث «القسم» الأعظم، وهو سر تقد دونه الغلاصم وتقطع البلاعيم!
أما فتح مغاليق الأرض، واستخراج ما فيها من معاليق الجوهر والدر والمرجان، والجونة التي تحتوي خاتم سليمان، فعليك أولا أن تتوضأ بنحي من اللبن، ثم تصلي لغير القبلة، وتهمهم بكيت وكيت، ثم تحرق الجاوي بعد أن تبله بماء الورد البلدي، ثم لن ينصدع بطن الأرض عن كنزك الموعود حتى 57 - 34 - 825 - يانا ... ف ... ك ... يا طانورش ... يا شمهورش ... يا عولص ... يا ابن بولص ... - 11 ... 345 ... وفي الناس الصرعى وفيهم الزمنى، وفيهم من ركبته العفاريت الحمر، وفيهم من أعياه طلب الغنى، وفيهم من ألحت على قلبه الصبابة والهوى، وهل لمثل هؤلاء صبر على مطاولة الدهر في حل هذه الرموز، لتسقط ما حجبت السماء من غيب وما أجنت الأرض من كنوز؟
لا والله ودار الشيخ أقرب، وأجره أسهل وألين.
وكان في مصر فتى يعالج ما كان يعالجه بعض أصحاب الصحف الأسبوعية في ذلك الحين، وطوعت له نفسه أن يشخص إلى الآستانة، لعله يفيد ببعض العبث السياسي مالا، وما كاد يهم هناك بشأنه حتى تناوله المرعب الذكر فهيم باشا «السرخفية»، وزج به في الطابق، فلبث في السجن بضع سنين لا يرى الشمس، لا يحس النسيم، ثم تهيأت له فرصة للفرار، ففر على باخرة كان علاجه للخدمة فيها أجرة سفره عليها، ودخل مصر بسلامة الله آمنا، وعاد إلى مهنته القديمة، فأخرج جريدة أسبوعية، لم تكد تجدي عليه كثيرا من الرزق ولا قليلا، وجعل يتحدث فيها عن «دار السعادة»، وجيش «دار السعادة»، وأسطول «دار السعادة»، والمناصب التي تقلب فيها، وما له عند رجالها من جاه وصوت إلخ إلخ.
كما جعل يتصيد ضعاف الأحلام من طلاب رتب «دار السعادة»، ويدخل في نفوسهم أن له فيها من الوسائل والأسباب، ما يواتيه بكل ما شاء من الأوسمة والألقاب، وأنه كان وسيلة فلان إلى رتبة «الرومللي بيكلر بك»، وفلان إلى رتبة «البالا»، وفلان إلى «العثماني المرصع»، ويستخرج منهم كل ما قدر على استخراجه على هذا الحساب.
وأخيرا اجتمع مع صاحبنا المنجم، وعقدا محالفة دفاعية هجومية كانت آية في اللطف والإبداع، فقد اتفقا على أن يتظاهرا بالخصومة، ويتباديا بالعداوة، وأن يلون كل واحد منهما لصاحبه الشتم والسب والإقذاع، ولكن على الطريقة الآتية: تخرج صحيفة المنجم فإذا فيها: «إن فلانا يدعي أنه كان أقرب المقربين في دار السعادة، وأن له فيها جاها لا يتسع له جاه، وسلطانا لا يعلو عليه سلطان، وأنه تقلد أرفع مناصب الدولة وتولى أعلى مراكزها! ... ووالله ما عرفنا له جاها يداني جاه صاحب الدولة عزت باشا العابد، ولا سمعنا بأن له كلمة نافذة إلا عند الصدر الأعظم، والسيد أبي الهدى الصيادي، وتحسين باشا باشكاتب المابين، وأمثال هؤلاء، ولا علمنا أنه تقلد من مناصب الدولة إلا أنه كان رئيسا لمحكمة التمييز، فمستشارا لوزارة المعارف، فعضوا في مجلس شورى الدولة، فسفيرا للدولة في برلين، وأي شيء هذا كله؟ فإذا لم يرعو هذا الدعي عن تبجحه، فسيكون لنا معه شأن يخزيه، إذ يندم ولات حين مندم!»
وتخرج بعد يومين جريدة صاحبنا «السياسي» فإذا فيها حملة شعواء على صاحبه المنجم من الطراز الآتي: «إن جريدتنا تترفع عن مجاراة رجل منجم فلكي في بذاءته وقلة حيائه، ولنفرض أننا لم نتقلد من مناصب الدولة إلا ما ذكر، فما الذي تقلده هو من المناصب؟ نظن أنه تقلد علم الفلك، وصفة دوران السيارات، ومجال الكواكب، واستخراج الغيوب، وقراءة الكفوف، ومداواة الأمراض المستعصية بالطرق الشائنة، ونحن نمسك القلم الآن، وننذره عدم العودة إلى هذه الوقاحات، وإلا فنحن غير مسئولين عن كشف مخبآته، وإظهار سوءاته، ومن أنذر فقد أعذر، والسلام!»
وتخرج صحيفة «المنجم» على رأس الأسبوع فإذا فيها «يهددنا صاحب جريدة ... بكشف مخبآتنا، فليكشفها فنحن لا نخشى أمثاله، ولكن ليقل لنا هو عما يخدع به الأغرار والمفتونين؟ يدعي هذا الدعي أنه يأتي للناس برتب الدولة وأوسمتها، ما شاء الله؛ فهل يستطيع أن يأتي بأكثر من رتبة «بالا»، أو «رومللي بيكلر بيك»، أو المجيدي الأول، أو العثماني الثاني، وأي شيء كل هذا؟ وفي استطاعة مثل ناظم باشا أو عزت العابد باشا، أو باشكاتب المابين، أو حتى السيد أبي الهدى أن يأتي بمثله، فإن كان يدعي في دار السعادة جاها حقا، فليجئ لأي كان برتبة الوزارة أو بنيشان الامتياز المرصع، ونحن ننصح لكل من يستهويهم هذا الرجل من طلاب هذين الإنعامين ألا يصدقوه، وقد أديت حق النصيحة، «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله».»
وتخرج صحيفة صاحبنا «السياسي» بعد يومين، فإذا هو لم يبق لصاحبه من فنون الشتم ولم يذر: «مكانك أيها الرجل، وإلا بلغنا عنك النيابة، فما زلت تغش المساكين وتخدعهم: تدعي أنك تبرئ من العمى، فهل لك أن تدلنا على حادثة واحدة أبرأت فيها أكمه واحدا؟
2
وتقول إنك تخرج العفاريت، سلمنا! فهل تستطيع أن تسخر الجن أيضا؟ وإذا سخرتهم، فهل تقدر على التصرف في سلطان الجن والأزرق؟ فإن أجبت بالإيجاب، فأنت غاش كذاب! ثم تدعي أنك تستخرج الكنوز، فخبرنا كم كنزا فتحته في هذا الشهر؟ إن زعمت أنها أكثر من أربعة، فأنت والله مزور نصاب، ثم هل تجرؤ أن تصرح بأنك فتحت كنزا لأحد قبل أن تبهظه بنفقات البخور، وأجور من تستخدمهم من أعوانك في سهر الليالي للقراءة والسحر، وفي مراقبة النجوم، لمعرفة الوقت المعلوم، وقد يقتضي ذلك الخمسين والستين جنيها، تنحتونها من الرجل نحتا، وتأكلونها حراما وسحتا؟
ثم لا تستحي من أن تعالج أهل الصبابة والهوى، وتبرد ما في صدورهم من نيران الحب والجوى، ولا تستخذي من أن تكتب الرقى لمهجورهم، فما هي إلا لمحة حتى يذل بين يديه من أرهقه بطول الصد والدلال، فإن لم يسعده سحرك بشخصه أسعده بطيف الخيال!
أين الشرف أين المروءة؟ أين الدين يا حماة الدين؟ وكيف تسكتون عن هذا الوسواس الخناس، الذي يوسوس في صدور الناس، من الجنة والناس؟
فهنيئا لك وحدك يا رجل ما أنت فيه من ذلة وهوان، ولن تكون عاقبة فتنتك للعالمين إلا الهلاك والخسران!» ا.ه.
وهنيئا بعد هذا للرجلين كليهما بمن يحتشد إليهما من طلاب الغنى والجاه والعافية من السقم، والتقلب عفوا في جميع وجوه النعم!
وهل تستطيع أن تقطع عن الأرض أسباب «النصب» والاحتيال، إلا إذا أخليت وجهها من المشعوذين وسواد الأغفال؟
ولن يستطيع العالم أن يبلغ هذا ولو بعد حين، وسيبقى أبدا «رزق الهبل على المجانين»!
ولع! ...
لبعض الناس ولع غريب بهتاف الصحف بهم وترديدها لأسمائهم، فهم دائبو الجهد في اختلاق المناسبات مهما تفهت، ليحملوا عليها أسماءهم إلى الجرائد، وإني لأعرف رجلا أتلف ثروة ضخمة في سبيل بسط الثناء عليه، وترديد اسمه على متون الصحف، كما أعرف موظفين لا شأن لمناصبهم في الحكومة ولا خطر، لقد يسافر أحدهم في غير حاجة، لتنشر له الصحف خبر عودته «بالسلامة» وأنه: «ذهب توا إلى مكتبه بوزارة «كذا» أو بمصلحة «كذا»»، تشبها بما يكتب عن كبار الحكام! والله يعلم أنه ما ذهب «توا» إلا إلى إدارات الجرائد لتزف إلى جمهرة القراء بشرى عودته الميمونة!
وأغرب ما رأيت في هذا الباب أنني مضيت في إحدى الليالي لزيارة صديق لي يتولى رياسة التحرير في جريدة كبيرة فلم أجده، فاستويت إلى مكتبه لأثبت له رقعة بحضوري لزيارته، وبث الأشواق التي جرت العادة ببثها، والله يعلم إن كانت مما يطوي القلب أو مما ينشر اللسان! وإذا رجل في حدود الأربعين يلبس قباء أرسل عليه معطفا استرسل إلى كعبه، وعلى رأسه طربوش متواضع جدا، وكان جاء لينشر في الجريدة إعلانا يتعلق «بدائرة» مولاه، فلما فرغ من شأنه التمس غرفة رئيس التحرير فدلوه عليها، فأقبل علي في خشوع وشدة تظرف، وجرى بيننا بحضرة بعض المحررين هذا الحديث: - السلام عليكم ورحمة الله وبركاته! - وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وأزكى تحياته! - محسوبك فلان ناظر زراعة سعادة فلان باشا. - تشرفنا! - بس من فضلك ... - من فضلي ماذا؟ - من فضلك يعني ... - من فضلك أنت، ماذا تريد من فضلي؟ - بس تسمح «تنشرني» في الجرنال! - أنشرك بأي مناسبة؟ - يعني تقول فلان! - أقول فلان ما له؟ - يعني تكتب فلان! - يا سيدي، فلان هذا مبتدأ، وكل مبتدأ لا بد له من خبر، فنحن إذ نذكر فلانا، لا بد أن نقول شيئا جرى له أو جرى عليه، فكيف تحب أن نقول؟ - تقول: فلان جاء عندنا في الإدارة. - كل يوم يختلف إلى الإدارة خمسمائة رجل، فلا ينشر عن واحد منهم في الجريدة كلمة واحدة! - أمال إيه الطريقة عشان أنكتب؟ - ذكر الناس في الصحف إنما يكون لمناسبة كوقوع حادث، أو القيام بعمل عام أو خاص له بعض الشأن، كإقامة حفلة عرس، أو مأتم لا سمح الله، ونحو ذلك، فهل عزمت على الزواج؟ - أنا متزوج. - ألك ولد أقدمت على تزويجه فننشر لك نبأ عرسه أو خطبته؟ - ولدي ما يزال صغيرا. - إذن فاختنه واحتفل بختانه. - سبق أن ختنته من مدة طويلة! - لم يبق يا صحبي إلا أن تمرض وننشر خبر مرضك وإبلالك! - وحياة النبي يا بيه إن «أشيتي عيانه»! - فما شكاتك؟ - يعني ما فيش مروة زي زمان! - إنما أريد المرض الذي يلزم الفراش، ويستدعي الطبيب، ويبعث القلق في الأهل والأصدقاء! - طيب وأعمل ازاي في الحكاية دي ...؟ (وقد أطلقها في قلق وحيرة وانكسار)؟ - قلت لي كيف تصنع؟ وإني لأدلك على السبيل: ما عليك إلا أن تمضي من هنا قدما إلى البلد، فتتقدم إلى أهلك بأن يحموا لك الفرن، فتظل قاعدا بإزائه حتى تتفصد عرقا، ثم تستحم من فورك بماء بارد، ونحن ولله الحمد في صميم الشتاء، فتأخذك الحمى يومين أو ثلاثة، وتبرأ بعدها فنسوق للقراء خبر مرضك، ونزف إليهم البشرى بشفائك!
فبسط الرجل كلتا يديه، وأدار وجهه إلى السماء، وأقبل يدعو جاهدا: «الله يخليك، الله يعمر بيتك»!
وانطلق إلى حيث يخرب بيته هو!
شفاه الله إن كان حيا، ورحمه الله إن كان في الأموات، وغفر لي في الحالين.
والولع بالذكر في الصحف فنون ...!
عبقرية!
جلست اليوم إلى جماعة من أصحابي ومعهم «فلان» من رجال التربية والتعليم، وجرى الحديث في أمثل الطرق لتربية الأولاد وإعدادهم للحياة، وراح كل منهم يدلي برأيه وتجاريبه في هذا الباب، وما أخذ به بنيه الكبار، وما أضمره لطفله الصغار، فقلت بنوبتي: لقد ذقت الأمرين في تعليم الأولاد، حتى عزمت إذا وصل الله في أجلي وأجل محمد أصغر أولادي حتى يبلغ السادسة، أن أسلكه في كلية «فكتوريا» برمل الإسكندرية، فلقد نصح لي بذلك من لا أشك في صدق تجاربهم، فابتدرني هذا المر، الفاضل بنصيحة غالية حقا، نافعة حقا، وهي أن ألحق طفلي في تلك الكلية بالقسم الداخلي! ...
ولقد صكت هذه «النصيحة» جهاز عصبي؛ على أنني كتمت عجبي، وتظاهرت بالتطامن، وتسريح الفكر الوادع، وقلت له: لقد أشرت يا سيد بالرأي، فإنني إذا لم أفعل وجد الغلام بعض المشقة في الشخوص إلى الإسكندرية سحرة كل يوم، والعودة منها قرابة منتصف الليل! ... فأقبل علي في ابتسامة الذاهب بجودة رأيه، الشاعر بتقدير الناس له وقال: «مش كده ولا إيه؟!»
فرحت أزف إليه أبلغ الهناء، على تسعر هذا الذكاء، فتفضل بقبول الشكر، في شيء من التواضع ... ولا فخر!
مفتش عموم ...!
اعترضني اليوم في مقفلي من الديوان شاب أنيق الملبس، لعله طالب في إحدى المدارس العالية، أو في السنين الأخيرة من التعليم الثانوي، وقال لي: «يا عم» كم الساعة الآن؟ فطالعت ساعتي وقلت له: الساعة 2 وسبع دقائق، فحسر كمه الأيسر، فانكشف عن ساعة يد ذهبية، ونظر فيها وقال: لا! لا! ساعتك مؤخرة أربع دقائق؛ ثم خلى بيني وبين الطريق؛ وانطلق لطيته! •••
وبعد أن أجلت ظني في شأنه، أدركت أنه ربما كان ... «مفتش عموم الساعات»!
الغرام المجاني!
هناك في ميادين العتبة الخضراء، والخازندار، والسيدة زينب، وباب الخلق، وغيرها من المواطن التي يكثر فيها الصاعدون إلى مركبات الترام، والهابطون منها، في هذه المواطن ترى طائفة من الشبان ماثلين دائما، وقد رجل كل منهم شعره، وأمال طربوشه، وحمر شفتيه، وصقل عارضيه وحذاءه، وتأنق في سائر ثيابه، ودلى طرف منديل حريري على نهده الأيسر، وراح يتمشى على الطوار «الرصيف» في لين وتكسر، حتى ما ندري حقيقة شأنه: هو فتى متأنث، أم آنسة متفتية؟! ولا يزال ذلك شأنه حتى يقبل القطار، فإذا انحدرت منه سيدة أو فتاة عذراء عليها مسحة من جمال، أسرع فتراءى لها وهو يصف خيوط «زره» ويسوي شعر حاجبيه؛ ويضبط ربطة عنقه، وتأخذ السيدة أو الفتاة سمتها، فيمشي وراءها، فإذا تيامنت تيامن، وإذا تياسرت تياسر خلفها، حتى لتحسبه من بعض ظلها، وهو يتمتم بكلام غير واضح ولا مفهوم، حتى إذا أمن غفلة العيون، أسرع حتى حاذاها وعرض عليها نزهة في الجزيرة، أو حدائق القبة مثلا، فلا يكون شأن الحرائر دائما مع هؤلاء العشاق إلا السكوت المطلق، أو سوء الرد بالسب والشتم، ومع ذلك فهيهات أن ينثني «صاحبنا» أو يتداخله شيء من الحياء أو القنوط، بل ما يزال على ذلك حتى يبلغها الدار التي تطلبها، ولا يرجع إلا أن تصك مصراع الباب في وجهه صكة يسمع لها دوي كهدة الهدم، ويعود إلى «الموقف» الذي اختاره لهواه، وتعاهده لغزله، وفصد صبابته، وهكذا ما يزال هذا شأنه وديدنه من الساعة الثامنة صباحا إلى ما بعد الساعة التاسعة مساء!
ولعله، لكيلا يضيع ساعة الهجير في الانقلاب إلى البيت للغداء، إن كان لمثل هذا بيت، يدس من الصباح الباكر غداءه في جيبه فيجرد «للهوى» عامة نهاره وليله!
وإنك لو فتشت نفوس هؤلاء وامتحنت عقلياتهم، لخرج لك من بحثك شيء عجيب: ذلك أنك تحسب أنهم يؤمنون إيمانا وثيقا، ويعتقدون اعتقادا راسخا أن جميع نساء القطر المصري وساكناته مباحات مبذولات الأعراض لهم، اللهم إلا البغايا فقط، فهؤلاء وحدهن العفيفات الشريفات المصونات، اللائي ينبغي إذا طلعن عليهم أن يطأطئوا رءوسهم، ويغضوا أبصارهم، ويعقدوا ألسنتهم!
وذلك الظن يخرج لك من أنك تراهم لا يتبعون إلا محتشمة في طريقها، متوقرة لا تتثنى ولا تتخلع، ولا ترسل على الناس نظرا حادا، أما المائعة المترجحة في مشيتها، المفتنة في إبداء زينتها، الدائمة التلفت إلى يمينها ويسارها، المثبتة نظرها في كل من لقيها، فهذه يولونها ظهورهم، لأنها لا مطمع لهم فيها ولا أمل!
والواقع أنك يا سيدي فيما استنتجت من شأن هؤلاء جد مخطئ، ولو أردت أن تقع من أمرهم على الصواب، فاعمد إلى أي واحد منهم، وفتش بأية وسيلة جيوبه، فلن تظفر فيها إلا بثلاثة قروش «تعريفة» على الأكثر، وصورة فتاة رائعة الجمال استلها من علبة دخان، وكتاب خطه بيده لنفسه، على لسان فتاة تكاشفه بهواها، وتصف ما لحقها عليه من الوله، «وكان الله بالسر عليما».
وهذا الخطاب وتلك الصورة هما كل أداته وعدته في مهمه، وهما كل وسيلته في الإعلان عن نفسه، وأنه ملتقى الأنظار، وقبلة القلوب الولهى عند أصحابه المغفلين!
لهذا لا تراه يتقدم إلى بغي! أو نصف بغي، لأنها ستجيبه إلى طلبه، وهو يعلم أنه صفر الكف خالي الوفاض! ولو قد تشجعت سيدة ممن يتبعهن، ويضايق أنفاسهن، فسألته أن يجيء بمركبة أو بسيارة «تكس»، ليخرجا للنزهة التي يدعو إليها ويلح فيها، لرأيته قد دار على كعبه وطار على جناحي نعامة! •••
ولهؤلاء الغلمان صفاقة عجيبة، وفتنة بالنفس مدهشة، وهذا شيء تشهده كل يوم في شوارع القاهرة وميادينها، فإن الرجل المحترم ليكون في مركبته أو سيارته مع زوجته أو أخته أو بنته، وتقف بهما في بعض الطريق لأي عارض، فلا يستحي الغلام من هؤلاء أن يقف في مقابلة السيدة، ويحد فيها عينا ما يختلج لها جفن إلا بالغمزات، وإظهار التصابي، وترى دعوته واضحة صريحة، بحركاته الكثيرة المضحكة، إلى أن تستأذن السيدة أو الفتاة زوجها أو أخاها أو أباها، في النزول إلى «حضرته» لتروي غلتها من غرامها بهذا العاشق «السريح»!
ولقد شهدت بنفسي في هذا الباب حادثا ظريفا: ذلك أنني ركبت الترام يوما من المحطة التي أمام المدرسة السنية، وصعدت سيدة جميلة واضحة النبل والغنى والحشمة، وأخذت مجلسها في المكان المحرر للسيدات، وما إن رآها «الكمساري» حتى لجأ إلى الوقوف بباب «الحريم»، وجعل يفتل شاربه، وتارة يميل طربوشه، وأخرى يسوي رداءه الأصفر «الرسمي»، وحينا يثبت «النمرة» النحاسية في موضعها من عنقه، إذ عيناه وحاجباه أثناء ذلك لا تفتر عن التلعب وشدة التحرك والاختلاج!
ولا يترك هذا الموقف ولا يتحول عنه إلا إذا وقف القطار، وما هو إلا أن ينفخ في زمارته حتى يثبت إلى موقفه، فيصلح من ثيابه ما كرشت منها حركة النزول والصعود، ثم يعود إلى شأنه مع تلك السيدة، وظل على هذا لا «يصرف لراكب تذكرة»، ولا يبالي من هبط ومن صعد، حتى بلغ القطار ميدان الأزهار، فثار لهذه الحال ثائر بعض الركاب، وإن سر آخرون بما وفر عليهم من قروشهم، فوثب إليه من بين الركب رجل غيور من الظرفاء، وصكه على صدغه بجمع يده، وقال له: يا ابن ال ... هب هذه السيدة وقعت في شرك غرامك، وسألتك النزول معها لنزهة تقضيان فيها حقوق الغرام! فلمن تدفع الآن هذا الخرج المعلق في رقبتك بحمائله؟ وأي فم يقوم مقام فمك لهذه الزمارة التي في يدك؟! فكان اغتباط وكان ضحك! •••
فإذا بحثت بعد ذلك عما يبعث هؤلاء الفتيان على كل هذا، مع ما فيه من كد لا فائدة فيه، وعناء لا رجاء وراءه، إلى ما فيه من الهوان وشدة الابتذال، والتعرض للأذى بالشتم، أو الضرب، أو السجن، فلا ترى الأمر كله يعدو أن يكون هواية (غية) حمقاء لا أكثر ولا أقل، أو كما قال المثل العامي: «اليد البطالة نجسة.»
وصدق من قال: «أصحاب العقول في راحة!»
بطولة! ...1
(1)
وإنها عندي، لبطولة حق لا تقل قدرا ولا خطرا عن أية بطولة في أي سبيل آخر، وإن صاحبها «البطل» لحقيق من نفسه بالزهو والتتايه، وإنه لحقيق من الناس بأجل الإعظام وأبعد الإعجاب!
قلت لك إنها بطولة «عندي» لأنها كذلك في الواقع، ولك أنت أن تخرجها عن دائرة البطولة، ولك أن تضعها من الخلال حيث شئت، ولك أن تجري عليها ما تشاء من الأحكام، ولكن الذي ليس لك، والذي لا آذن لك به أن تدخل بيني وبين رأيي ومعتقدي، فتضيف إلي ما تشاء، وتنفي عني ما تشاء، وأظن أن هذا أقسى ما عرفت طبائع الاستبداد من العصف بحرية الآراء!
لك أن تقول إن مذهبي في هذا فاسد، وإن رأيي قبيح، وإن سوء التفكير أزلقني في الأمر إلى الضلالة، أما أن تزعم أن ذلك ليس من رأيي، وأنني أسر الخلاف له في أطواء نفسي، فذلك ما لا أحسبه مما كان في الزمان، ولا أحسبه مما يكون، فليس يعلم ما تسر القلوب إلا علام الغيوب!
وهؤلاء «الأبطال» أحبهم وأجلهم، وتكاد تتعلق نفسي من شدة الإعجاب بهم كلما رأيتهم، وسمح لي الزمان بالجلوس إليهم، وإن الزمان بمثل هؤلاء لجد بخيل!
هؤلاء هم أبطال «الحديث»، وللحديث - لو عرفت - أبطال كما للحروب أبطال، وللسياسة أبطال، وللآراء في العلم والأدب والاجتماع أبطال.
على أن هؤلاء «الأبطال» وإن اشتعبوا مذاهب البطولة، وتفرقت عبقرياتهم في مناحيها، فإنه تجمعهم طائفة من الخلال الكريمة، ما تكاد ترى لأحد منهم فضلا فيها على أحد، ومن هذه الخلال فرط الأدب، وشدة التواضع، ولين الجانب ومنها حسن التوافي للناس، والإقبال على مجالسهم حيث كانوا ومؤانستهم، والتسلية بفاخر الحديث عنهم، ولو لم تجر الصداقة بينهم وبينهم على أي عرق، فبحسبهم من كل هذا الكرم «المعرفة» المجردة والسلام!
ومن هذه الخلال الظرف، فإن أعوز ففي التظرف المتسع، ولقد يكون من هذا التظرف لفت الغافل عن «الحديث»، وتنبيه المشغول عنه بشأن آخر، ولقد يكون هذا اللفت والتنبيه بالكلام اللين من نحو: «واخد بالك يا سيدي» و«خليك معنا من فضلك!»، ولقد يكون باللكزة الرفيقة في الخاصرة أو في ثنايا الضلوع ! وكثيرا ما يمتد هذا الكرم إلى جهد النفس في إنشاط المتثاقل، وإضحاك العابس، وإدخال العجب على المتغافل!
وإن مدينة في مصر، وإن حاضرة من حواضرها، بل إن قرية من صميم ريفها، لا تخلو من بطل من هؤلاء أو من أبطال، وأنت خبير بأن البطولة من المقولات بالتشكيك، على تعبير أصحاب المنطق، فهي على ذلك مما يتفاوت في الناس كثرة وقلة، وقوة وضعفا، فلو قدرت النهاية العظمى بمائة درجة مثلا، فإنك واجد من غير شك من قد أحرزها وأصابها، كما تجد من تقاصر حظه إلى الثمانين، ومن تدلى إلى الستين، ومن استرخى وهو دون العشرين، على أنك لا تستطيع بأي حال، إلا أن تسلكه في جماعة الأبطال!
ومهما يكن من شيء، فإنك تستطيع أن تقسم على العموم هؤلاء «الأبطال» إلى قسمين: إخصائيين ومطلقين، أما الإخصائيون فقد توافر كل منهم على فن هذه البطولة، وترى من بين هؤلاء الإخصائيين من برعوا في بطولة الفروسة وقراع الأهوال، في البحار والجبال والأدغال، وصراع كل صائل من السباع والجوارح والأغوال!
ومنهم الإخصائي في فن الغرام، واصطياد كل شاردة من الآرام، وما يمنعه؟ وله من جفنيه أشراك، هيهات ما لآبدة منها فكاك، وإن له من لحظه لما يستنزل إليه الأراوي العصم، من صياصي الجبال الشم، فإذا جاءك أن غادة في الأرض قد تعذرت عليه في خدر، أو اعتصمت دونه وراء ستر، فإنك عنده حقيق بالرحمة والرثاء، لما تجهل من حقائق أحوال النساء.
وما له يجهد في طلبهن ويسعى، وما له يكد في استدراجهن ويشقى، وها هن أولياء يعترضنه كل يوم مواكب، ويتهاوين بين يديه كواكب؟ ولو كتب لك يوما أن تشهد مورد بريده في الصباح وفي المساء، لتعاظمك ما ترى من أحمال ثقال، وقد اجتمعت من الكتب الخفاف، وكلها موشى الحوافي منمنم الأطراف، وإن منها إلا ما يضوع شذاه، حتى ليكاد يسكر بطيب رياه: هذه تخطب وده، وهذه تشكو قلاه وصده، وتلك تحكي ما صنع الهوى، وأخرى تصف ما برحت بها برح الجوى، وخامسة لها عند الغرام مظلمة، فهي لا تسأل إلا العدل والمرحمة، وسادسة قد عز عليها الوصال، وشفها طول التجني والدلال، فأضحت لا تطمع في أكثر من نظرة إلى ذلك الجمال!
فإذا ما راجعت هذا الجبار العاتي، وسألته شيئا من الرقة لهؤلاء الوالهات المتدلهات، والعطف عليهن، ولو من قبيل «جبر الخواطر»، وفيهن أغلى الدرر، من بنات أعظم الأسر، ومن لم يقلبن الأعطاف إلا في النعيم، ولم يلابسن في أسباب العيش إلا كل جميل وثمين وكريم، وكلهن بحمد الله أحلى من البدر، وأشهى إلى النفس من ليلة القدر: لقد تراجعه في هذا فسرعان ما تثور ثوائره، وتقسو عليك بوادره، فيلقاك في هياجه، بأشد حدته وأحد احتجاجه، فيقول لك مثلا: حقا لقد قست القلوب وتحجرت، حتى أصبحت الرحمة لا تجد إليها سبيلا!، وهل جاءك يا سيدي أنني من بعض الحجارة أو من بعض الحديد؟ وإن الحجارة لتتفتت وإن الحديد ليذوب! وكيف حيلتي في كل هذه الجيوش التي لا يلحقها عدد، ولا ينقطع لها على الدهر مدد؟ وهل قلت لهن أحببن وتولهن، واعشقن وتدلهن؟ وترى هل خلا وجه الأرض من الرجال، فلم يبق غير «أخيك» هدفا لصبابة ربات الحجال؟
وهنا أردت يا سيدي أم لم ترد، تحس عاطفة قوية نحو هذا «البطل»، هي عاطفة الرحمة والإشفاق، حتى إنك لتفكر، إن كنت من أهل السلطان أو من المتصلين بأصحاب السلطان، في السعي لدى وزارة الأشغال لتدخل في مشروعات الري والصرف الجديدة، إنشاء قدر كبير من الترع والمصارف، ليتحول إليها جانب من هذا الغرام الطاغي، وإلا ساءت الحال، وحق على البلاد الوبال!
ولقد تبادى صاحبك بالاستراحة إلى عذره، فسرعان ما يسجو طرفه، وتشيع حمرة الخجل في وجهه، ويجيبك في لهجة تحسها مزجا من الفرح والشعور بالانتصار: «مش كده ولا إيه؟» كان الله في عون هذا «البطل» المسكين، وأمده من حوله وطوله بما يستطيع معه النهوض بأعبائه الجسام!
ومن هؤلاء «الأبطال» الإخصائيون أيضا في الجياد، وفي حذق فن الجياد، وفي اقتناء كرائم الجياد، مما يفوق في صفته ما خلا من أخبار عاد، وما لم يركب مثله عنترة بن شداد، وما لم تعهد مثله العرب والأعجام، وما لم يتعلق بوصفه شعر البحتري ولا أبو تمام! وإن عنده من كرائم الجياد لما يلحق البرق إذا برق، ويسبق السلك إذا خفق! •••
ومنهم كذلك أبطال الطعام، ولهؤلاء من الخبرة بالطعام، وقوة تذوقه، وعظم تجويده، والتأنق فيه، وحسن تخيره، وانتقاء أطايبه، ما لا ينفذ إلى مكنون سره، ولا يحيط بظاهر أمره، إلا من رزق الموهبة، فلفن الطعام - لو تعلمون - مواهب لقد ترفع أصحابها إلى جبابرة الأبطال!
ولربما أقبل عليك «البطل» من هؤلاء يسألك ويمتحنك، ويدلك على قدرك في هذا، أو على الصحيح ليبعث فيك الحسرة على ما فاتك من أسعد حظوظ الحياة، وراح يلقي عليك درسا سابغا فيما يحسن أن يزيد بقله، وما يجمل أن يكثر زيته ويقل خله، وما يصهر في الشمس قبل قليه، وما يطمر في «الدمس» قبل شيه، وما يترك للندى بعد غليه، وما يحشى زبيبا ولوزا، وما ترصع حواشيه صنوبرا وجوزا، وما يكمخ سكره في بصله، وما يخلط عسله بخردله، إلخ، ثم جعل يقص عليك ما أصاب في غدائه، فتلا عليك، بظهر الغيب، قائمة طويلة لو كتبت لعاني النظر فيها سفرا طويلا، ولو تهيأ لجراح أن يبقر بطنه لساعته، لكشف المبضع عن أفخر معرض لأفخر الأطعمة في العالم! •••
وهناك بطولات وبطولات في غير هاتيك الفنون.
ولقد طال هذا الحديث، فحسبنا هذا القدر اليوم، على أن نتم الحديث، في «الأبطال» المطلقين، وفي إيراد صدر من نوادر هؤلاء جميعا، وذلك في العدد القادم إذا أحياني الله!
بطولة (2)
رأيت في العدد الماضي من «المصور» بعض صفة سادتنا الإخصائيين هؤلاء «الأبطال»، وعرفت كذلك بعض الفروع التي تخصص فيها كل منهم والآن نحدثك عن الأبطال «المطلقين» أو «العموميين»، وهؤلاء الذين لا تتوافر بطولتهم على فن، ولا تقتصر على فرع، ولا تنتهي من أسباب الدنيا عند حد، فهي تتناول كل شيء، ولا ينشز عنها في جميع مظاهر الحياة شيء.
ولعلك رأيت أو سمعت بمحل «سلفريدج» مثلا في لندرة، ففيه مكتب للسياحة، وفيه مكان لبيع جميع صحف العالم، وفيه مطعم فاخر، وبهو (صالة) لتناول الشاي، ومكان للمطالعة، وآخر لبيع جميع المأكولات، ومخزن كبير لبيع الأثاث القديم، و«صالونات» فاخرة للحلاقة، للرجال والسيدات، وغير ذلك كثير، فإذا أعوزك شيء مما ليس عنده، وافاك به عجلا ولو كان في أقصى أطراف المعمورة، ومثل هذا المحل في بلاد الغرب كثير!
أما أنا فلم أشخص طوال حياتي إلى أوروبا، ولا إلى أمريكا، ولا أستراليا، ولم أشهد حتى بيت المقدس، ولا الصخرة المقدسة، ولا المبكى الشريف الذي تدور حوله كل هذه المعارك بين المسلمين وبين من صبهم وعد بلفور عليهم من الصهيونيين!
ولكن أرجوك يا سيدي القارئ أن تصدقني إذا زعمت لك أنني سافرت إلى بنها، وأعني بنها العسل، وكان هذا السفر من نحو ثلاثين سنة خلت.
وكتب لي يومئذ أن أشهد فيها متجر المرحوم إبراهيم باشا عبده (سر) تجارها، يومئذ، فإذا هو أشبه بسوق عظيمة رفعت من بين خاناتها ودكاكينها الحدود والحوائل، ومن هذا المتجر تشتري الحرير، و«الباتستا»، والبياض، ومنه تشتري الفحم، والجير، والإسمنت، ومنه تشتري المصوغات الذهبية والفضية، كما تشتري الحديد والخشب والطوب الأحمر!
ثم إنك لواجد فيه حاجتك من الجوارب و«الفانلات»، والقفازات، كما أنت واجد فيه مطالبك من النظارات، وساعات الجيوب، وساعات الحائط أيضا! ولا تنس السرر وأصناف الأثاث (الموبليا) وأصص (قصاري) الزهور!
ثم هناك تجد آنية النحاس على اختلاف أشكالها وأحجامها، كما تجد أصناف العطارة من أولها إلى آخرها، وهناك السمن والعسل، وهناك الزيت والخل والبصل، وهناك كل ما شئت من أدوات المائدة وفراجين (فرش) الحلاقة، والحلوى، و«الشربات»، و«الكازوزة» والطرابيش، والأحذية، وحلل (بدل) السيدات والرجال والأولاد! وهناك الورق والأقلام والمحابر والمفكرات والكراسات والدفاتر.
هناك كل شيء، ولا شيء إلا وهو هناك!
وتسألني: أكان هذا الضرب من المتاجر في بلادنا مصر؟
وأجيب: نعم، وكان في بنها؛ وكان، كما زعمت لك، من نحو الثلاثين من الأعوام.
وموضع الشاهد في هذا أن صاحبنا «البطل» المطلق أو العمومي، لا يقل عن مثل هذا المتجر الضخم العظيم كفاية ولا غنى ولا مواتاة، ولا إسعافا «للزبائن» بما يريدون من جميع الطلبات!
تذكر أمامه الفروسية في الحرب، فيذكر لك ما أبلى فيها من كر وفر، وكيف سداده في البراز والنزال، وكيف يحمل وحده على الجمع الكثيف من الأبطال، ولا تسل كيف يصنع في هذه الحملة، من قط الرءوس وبري الرقاب «بالجملة»؟
فإذا كان الحديث في النساء وغرام النساء، أسرع فحمد الله تعالى على أن المرحوم «فالنتينو» قد مات وأكله الدود، وإلا لكان الآن في التماس النظرة على رصيف سيدي أبي السعود!
وقل مثل هذا وأبلغ منه إذا كان الحديث في جياد الخيل أو في الطعام والشراب، أو في الأثاث والثياب، أو في الصيد والقنص، أو في الحجل والرقص، أو في الموسيقى وفنون النغم، أو في تنسيق الحدائق وتربية الطير والنعم، وادخل فيما شئت أن تدخل فيه، فإنه «ببطولته» ولا شك موافيه، حتى لو عرضت لكنس الدار وغسل «الحلل»، لجلى عليك من نفسه في هذا بطلا أي بطل! •••
وبعد، فإنني أتشرف الآن بأن أقص عليك طائفة يسيرة من أحداث بطولات هؤلاء «الأبطال»، سواء أكانوا من الإخصائيين، أم من الشائعة بطولتهم الجبارة في جميع شعب الحياة.
ولعلك لم تنس أنه قد سبق لي أن وصفتهم بكرم الخلق والتواضع، وشدة التوافي للناس، حتى لمن لا تربطهم بهم إلا «المعرفة» البسيطة في أضيق الحدود والآن فاسمع أعانني وأعانك الله: لقد تكون جالسا في مقهى عام كالنيوبار، أو الإسبلنددبار، أو بار اللواء، أو في جروبي قديمه وجديده، أو ليمونيا الحلواني في القاهرة، أو في فرعه في مصر الجديدة، فلا يروعك إلا أن يطلع على مدخل المقهى «بطل» من هؤلاء الأبطال، ثم تراه قد ثبت في موقفه لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يتزحزح ذات اليمين ولا ذات الشمال، ولا يتحرك منه إلا عنق كاللولب، يتجه إلى هنا ثم يتجه إلى هنا، صنع مروحة الكهربا المتحركة، وقد أرسل «البطل» نظرا حديدا يدور بالضرورة مع رأسه حيثما دار، فلا يزال ينقد الجالسين نقدا، ويفحصهم فردا فردا، فإذا أصاب فيهم بعد طول التفقد والاختبار صديقا أو شبه صديق، ولو كان جالسا فيمن لا يعرفهم - أعني البطل - ولم يرهم من قبل، أسرع فأهوى إليهم «كجملود صخر حطه السيل من عل!»، وبادر فسلم على صديقه أو «بحيث» صديقه في شوق ولهفة، ثم استدار فسلم على أصحابه في تأدب وتظرف، قد تزينهما بعض الضحكات الناعمات!
فإن لم يصب صديقا ولا شبه صديق، «فالمعارف» بفضل الله كثير؛ ومهما يكن من أمر، فإن أدبه وتواضعه ليأبيان عليه إلا أن يمد يده فيمهد له بين الجماعة كرسيا، ولو غفلوا هم عن دعوته، أو تجافى بهم سوء الأدب عن أن يبادروا فيفسحوا له في مجلسهم موضعا، وكذلك تكون مكارم الأخلاق!
ويهبط «الجرسون» ليسأل «البيك» حاجته، فيسرع «البطل» إلى الحلف بأنه لا يستطيع أن يتناول القهوة لأنها تسهد ليله، وتطير نومه، أما «الجاتو»، وأما «الكريم بالفواكه»، وأما ما يؤكل على وجه العموم فلا حظ له فيه، فقد أفرط في غدائه حتى أدركه البشم، ووقاك الله غائلة التخم، فإن كان ولا بد من شيء والأمر لله، فإنه يفضل «الكازوزة» لعلها تسلك من مجرى النفس، ما انسد بكثرة الطعام وما احتبس. •••
ولعل القوم كانوا في حديث يهمهم ويشغلهم فقطعه صاحبنا عليهم، والآن لا بأس عليهم من معاودته، بعد إذ قرت الجنوب، وجاء «الجرسون» بالمشروب، على أن صاحبنا أرفق بهم وأكرم من أن يدعهم حيارى في إيثاره «الكازوزة» على سائر ما يطلب، مما يؤكل وما يشرب، فيصيح فيهم، وقد يهز صاحب النوبة في الحديث، وهذا ليلفتهم إليه، ويعطف استماعهم عليه: تسألونني السر في إيثاري «الكازوزة» على سائر ما يقدم هنا، ولكم كل الحق، وإذا عرف السبب، بطل العجب! وكل ما في الأمر أن الله حباني بطاه لم يسمع في الزمان بمثله، وأين منه محمود القره وغير محمود القره،
1
وحين زار مصر جلالة ملك إيطاليا وتغدى عندي سرا، رجاني في أن يرسل إلي رئيس طهاته في رومة ليتمرن على يدي هذا «الولد» في طهي بعض الأطعمة التي أعجبت جلالته، وصدقوني إذا قلت لكم إنه كان من بينها «الاسباجتي»!
ويصيح الجميع في نفس واحد: «الاسباجتي؟!»
فيجيب «البطل»: نعم يا سادتي، وهذا موضع العجب، وذلك سر لا يعلمه إلا الكنت دي بليانو،
2
وسعيد باشا ذو الفقار، و«أخوكم» بالضرورة.
ولا أحب أن أطيل عليكم، فقد جلسنا للغداء فإذا حمل «قوزي» محمر لم تقربه النار، بل لقد طمره اللئيم في الرمل حتى نضج وتورد بحرارة الشمس، ووالله! وما لكم علي يمين! إن شرائح لحمه ما تكاد تقترب منها الأنامل حتى تزحف هي إليها زحفا، فإذا انحدر اللحم إلى الحلق تحلل فيه وسال من نفسه، ما أعوزه قضم ولا هرس، ولا جهدت في علاجه سن ولا ضرس!
ويأذن الله أن ترفع أنقاض هذا الحمل، فإذا ديك رومي قد حشي بالسمان المحشو بالبرغل، أما فرشه فالرز الأحمر، فيه البندق والجوز والزبيب والصنوبر.
وهنا ترى «البطل» المسكين وقد جحظت عيناه، واتسعت حدقتاه، واحتقن وجهه، وانتفخت أوداجه، وسال لعابه، وأصبح شدقه كالطبل المشدود، وترى له إلى هذا اختلاجا عصبيا، هل رأيت النمر وقد تهيأ للافتراس، وكشف عن الأنياب والأضراس؟!
ثم يدخل بك «البطل» في باب السمك، حتى إذا خض بك لجج البحار، وأراك القروص وموسى والمرجان والبوري والوقار، عطف بك على قسم الخضر حتى أتى على جميع أسواق الخضار! فإذا شاء الرحمن وبلغ الركب غاية السفر في هذه الرحلة، فوصل سالما إلى صفحة الخبيزة أو الرجلة، انعطف بالجماعة إلى معرض الحلوى، فعنده للحلوى معرض لا يتسع لمساحته التصور ولا يرتقي إلى حلاوته الخيال.
ثم يتحول بك إلى قسم الفاكهة، وهنا يتجلى تواضعه فلا يعرض عليك إلا عشرة ألوان أو اثني عشر لونا مما صف على مائدته في غدائه، ولقد تسأل عن هذا الزهد والإقلال، فيكون الجواب الحاضر: «بقي كلام في سرك! أخوك مالوش تقل على الفاكهة!» •••
ولقد يعد لك خمسين أو ستين صحفة من صحاف اللحم والطير، والسمك والخصر، والحلوى، وهي جملة ما تغدى به في يومه، ومع هذا لا يفوته أن يقف على رأس كل صحفة، فيصف لك كيف طبخت وكيف طهيت، وكيف قليت وكيف شويت، وبماذا تبلت وبماذا حشيت، وماذا عولجت به من فنون الصنع، حتى تم لها كل هذا البدع! - هذا أيها الإخوان، هو السر في إيثاري «الكازوزة»، ألست معذورا؟
فيجيبه الجميع: معذور، والله ألف معذور!
ولعل خبيثا ممن لا يحبون الصدق، ولا يستريحون إلى كلمة الحق، يقول له: والله يا أخي لو شربت مع هذا الخواجة «إسباتس» كله لكنت معذورا.
فيكون الرد: «مش كده ولا إيه؟ ليلتكم سعيدة لأن عندي ميعادا مهما!» •••
وينصرف «البطل» لعله يلقى بعض الأقوام، فيفتح لهواتهم بالحديث فيما أصاب في غدائه من ألوان الطعام! ...
بطولة (3)
واليوم يأذن الله «بالحديث في الأبطال» المطلقين أو الأبطال العموميين وهؤلاء كما عرفت، الذين ليس لهم في «البطولة» اختصاص معين، والذين تشيع عبقرياتهم الجبارة في كل أسباب الحياة والموت معا، فهي تتناول كل شيء، ولا يتعاصى عليها في الدنيا شيء!
ولقد أوردنا عليك في حديث الأسبوع الماضي بعض نماذج (عينات) من المحلات التجارية في أوروبا وفي مصر، تكاد تسعف الإنسان بجميع حاجاته في مطالب الحياة، إن لم يكن مما عندها فإنها تستدركه من غيرها، أما هؤلاء «الأبطال» فأبلغ استعدادا، وأوفر عدة وعتادا، فإنك ما يكاد يجري على بالك خاطر، أو تسنح لذهنك شاردة حتى من خيال ووهم، إلا كان من حاضر جراب العبقرية لها أصل وفصل، واسم ولقب، وحيلة ونسب، وحديث يلذ ويشوق، وسمر يصفو ويروق!
خض فيما شئت من المعاني، واعرض لما تريد أن تعرض له من الحديث في القديم والجديد، والطريف والتليد، وما روى القصاص من غرائب الأخبار، وما يزعم الرحالون من عجائب البحار، فإن «البطل» لمعجلك عن إتمام حديثك بما وقع له هو بذاته في هذا الشأن، مما قد يشيب لهوله الولدان، ومما لم يكن يصدق أن مثله مما يقع في الزمان، فلا شيء في مفاخر الدنيا أخطأ سبله، ولا شيء من عجائب الأرض والسماء إلا وقع له!
ولقد يعرض الكلام في العلم والعلماء ، فيبادر بمطالعتك بما كان منه في مؤتمر «استكهلم» الذي ألقت إليه أمم الأرض جمعاء، بمن فيها من أفذاذ العلماء وقد أجمعوا في غاية الأمر على الرأي في قضية (نظرية) علمية طريفة، وما كادوا يفرغون من هذا، وينعمون بالاستراحة إلى نتيجة المسعى، حتى نهض هو ففند هذا الرأي تفنيدا، وبدد تلك «النظرية» تبديدا، بعد ما أشبع أشياعها تهكما وتنديدا، ولا تسل عما لقي «البطل» من تصفيق يصم الآذان، وهتاف تجاوبت صداه الآفاق من كل مكان، ولا تسل عما عقد له بعد هذا من أكاليل الفخر، وكيف حمله العلماء ليجوزوا به تحت أقواس النصر!
ولقد يلتفت المجلس إلى الحديث في الموسيقى، فسرعان ما يستدير له «كاللولب»، ويهز المسكين رأسه في أناة، وقد أرسل جفنيه، وأشعرك حاله بما يزحم ذهنه من خواطر عنيفة، ثم يرسل آهة شديدة، يخيل إليك أن كبده تسيل فيها على حلقه، ثم يقبل عليك يحدثك بما عانى في بعض المؤتمرات الموسيقية العالمية في مسألة «الأوزان»، وما كافح أقطاب الموسيقى في قضية ضبط الأوزان، وكيف تجادل الجماعة في نظريته وتحاوروا، وكيف تألبوا عليه وتآمروا، ثم كيف نصره الله فردا عليهم فأطاعوا في النهاية وسمعوا، وذلوا لحكمه وخضعوا! •••
ولقد يجيء الكلام في الخيل، واقتناء كرائم الخيل، فسرعان ما يحدثك عن زوج من الجياد أتى به من بلاد المجر بعد طول تفقد واختيار، وبعد امتحان واستخبار، ولم يجشمه في ثمنه ونفقاته إلى الإسكندرية أكثر من 1978 جنيها مصريا! فقط «يا بلاش» فراضه على جر «الفيتون» الكبير، ولقد حدث أنه كان يسوقه بنفسه ذات يوم، فاعترضته في بعض الطريق سكة حديد حلوان، وكانت بوابة «المزلقان» مقفلة لمرور القطار، فلم يرعه إلا أن يرى نفسه وخيله و(فيتونه) في العدوة الأخرى من شريط سكة الحديد! فلقد عز على الجياد الانتظار، والأمر أيسر ما يكون بوثبة واحدة لا جهد فيها ولا إقلاق ولا إزعاج.
ولقد بدا له يوما أن يجول به في ساحة عابدين، فلم يرعه إلا أن يسمع من التصفيق ما يشبه الهمس، ورفع رأسه إلى القصر، فإذا ولي الأمر الأسبق واقف على الطنف يصفق ويومئ بالتحية، ويظهر أعظم دلائل الإعجاب!
وبعد أن يقص على «البطل» هذه القصة البديعة يأتي حفظه الله، إلا أن يجلو علي صورة طريفة يمثل لي بها «ترت» جياده، إذا هو شد على لجمها كي تمشي الهوينا ولا تطير بين الأرض والسماء، و«الترت» هذا بضم التاء الأولى والراء، يليهما تاء مشددة، هو في عرف هواة الخيل وساستها، الحركة المنظمة التي يرفع بها الجواد رجله، ثم يعود فيضرب بحافره وجه الأرض.
وهنا أشعر أن وجه صاحبي قد استطال حتى أشبه وجوه الجياد، وأرى أذنيه قد تدلتا حتى كادت تصيب أطرافها معقد الفكين، وأرى وجهه قد تربد، وعينيه قد احمرت أحداقهما، كأنه مقبل والعياذ بالله على شر كبير، وإني لأحس فكيه تقضقضان قضقضة المقرور، ثم ما هو إلا أن يثب في الغرفة فيتخطر جيئة وذهابا، وهو يثني ساقه كلما رفعها عن الأرض حتى يضرب بكعب رجله أعلى فخذه، حتى إذا أتى على «شوطه» ارتد إنسانا، ورأيت عليه من دلائل الفخار، ما هو جدير بأن يخلد له على وجه الأدهار، ما عاقب الليل النهار! •••
ولقد يدخل المجلس بالحديث في الصيد والطرد، ومعاناة الأهوال، في مقارعة الفيلة والأوعال، فيسرع «البطل» أيضا، وأعني به هذا الذي كان منه كل ما مر بك من الكلام، فيقول: بينا نحن في الصيد والقنص في إحدى الغابات المهولة، وهنا أرى واجبا علي أن أنبهك، يا سيدي القارئ، إلى أنه ليس من اللياقة، ولا من الذوق، ولا من أدب الإصغاء إلى الحديث، أن تعترضه بالسؤال عن موضع هذه الغابة، وهل يكون في الهند، أو في أواسط أفريقيا، أو في جنوب أمريكا، أو في بلاد المجر، أو في حديقة الأزبكية إلخ، فإنه ليس لك عليه، إلا أنها غابة مأهولة بسباع الوحش والطير، من أسود ونمور، ووعول وفيلة، وأيائل وقردة، وبواشق وصقور، وبوار ونسور! ... ليس لك إلا أن تعلم أنها غابة حافلة بكل أولئك، ولتقع هذه الغابة بعد ذلك من أرض الله حيث تشاء!
ويتم «البطل» الحديث، فإذا به قد انفرد ذات يوم عن الرفقة من الصادة وإذا أسد ضار يخرج عليه يمشي نحوه «مترفقا من تيهه»، ويتفقد صاحبنا «المسدس» فإذا رصاصاته قد نفدت كلها ما بقيت منها واحدة، فكيف العمل والأمر خطير والخطب جلل؟
لخير أن يبادر الأسد بالوثبة، ويعاجله بالهجمة، فيتناول بيسراه أسفل صدغه، أي صدغ الأسد، عند معقد الفكين، ويضغطها ضغطة شديدة ينفغر بها فمه، ولا يستطيع له بعد ذلك تحريكا، ثم يسرع فيدسس يمناه في جوفه حتى تصل إلى قرارته، ثم يجذبه من أسفله جذبة عنيفة حتى يخرج ذيله من فمه، أفرأيت كيف يقلب الجورب بأيسر جهد اليد؟ وكذلك أضحى الأسد ظاهره باطنه، وباطنه ظاهره، كما أضحى رأسه في مكان ذيله، وذيله في موضع رأسه؟!
ثم لقد يتلطف فيسأل الجماعة أن يزوروه في داره يوما ليطلعهم على هذا المنظر العجيب! •••
وبعد، فلو عرض الحديث لكنس الدار، أو لغسل «الحلل»، أو لجلاء «عساكر السرير»، أو لتمزيق الورق، أو لكيفية تجفيف العرق، لما عزه أن يجلو عليك «بطولة» له فيها، يعضدها بمختلف الشواهد، وينظم لها ألوان الغرائب عقودا وقلائد! •••
أما الغرام وأحاديث الغرام، فذلك ما سارت به الأخبار، وروته عن صحفها الرهبان في الأديار، ولست أطيل الحديث عليك يا سيدي القارئ، فلو قد ذهب ذاهب إلى استقصاء ما وقع في هذا الباب «لبطل» واحد من هؤلاء «الأبطال»، لما وسعته الأسفار الضخام، ولاستهلك تدوينه الشهور والأعوام، وعلى ذلك فقد عزمت على ألا أروي لك إلا نادرة واحدة من تلك النوادر، ولك أن تقيس عليها آلاف الآلاف، مما يقع لهم في كل ليل وكل نهار، على توالي الأزمان وتعاقب الأدهار:
كنت جالسا ذات عشية على حاشية أحد المقاهي، فصب علي القدر «بطلا» من جبابرة هؤلاء «الأبطال»، وما كاد يستوي إلى مجلسه من المنضدة ويسترجع نفسه من جهد السير، حتى قال لي: لقد حدث في ليلة أمس يا فلان شيء عجيب!
قلت: وكيف كان ذلك جعلت فداك؟
قال: بينا أنا جالس هنا وقد انحرف عقرب الساعة عن العاشرة، إذ جاء غلام من ماسحي الأحذية، وأسر إلي أن هناك من ينتظرني في منعطف الحارة، ثم تركني ومضى مهرولا فتبعته، فإذا سيارة من طراز «إسبانيوسويس»، وبابها مفتوح، وقد قبض على «أكرته» الفضية «جروم» فتى كأنما صيغ من خالص الجوهر، وإذا صوت كأنه صوت كروان تحمله نسمة من نسمات السحر، وسمعت كلمة «ادخل»! فرفعت بصري فإذا جوف السيارة يضيء ولكن من غير سراج، فأدرت بصري الحائر، فإذا مبعث الضوء وجه يتألق تألق البدر، ليلة انتصاف الشهر! - ادخل! ادخل سريعا! - لعل في الأمر خطأ يا سيدتي؟ - ليس هناك خطأ، ألست فلانا؟! - نعم يا سيدتي! - إذن فأنت طلبتي، ولست أنا ممن يخدع على هواه!
وما كدت أظهر التثاقل والتمنع حتى جذبتني من يدي، وجعل «الجروم» والسائق يتظاهران كلاهما على دفعي من خلفي، وسرعان ما أغلق الباب، وأخذ كل من السائق و(الجروم) مجلسه في أسرع من رد الطرف، وطارت بنا السيارة كل مطار، حتى صارت بنا إلى غاية شارع الهرم، ثم انحرفت بنا في طريق الصحراء، وتدلى السائق وصاحبه، فعصبا عيني بمنديل حريري موشى الحواشي بالذهب، فارتعت وأخذ مني الذعر كل مأخذ، فأفرخت روعي، وحلفت لي بكل محرجة من الأيمان أنه لا يراد بي مكروه أبدا، وما زالت بي تلاطفني وتؤانسني حتى تطامنت وثابت لي نفسي.
وسرنا على هذا ساعة، ثم أحسست السيارة قد وقفت، وسمعت صرير بوابة تفتح، فنجوزها ثم تغلق، وبعد دقائق جزنا على هذا ببوابة أخرى، ثم بعد دقائق جزنا بثالثة، وأنا أشعر أثناء ذلك كله أننا نخوض حدائق غناء، تتضوع أزهارها، وتتغنى أطيارها، وأسمع لخلجانها آذيا وهديرا، ولجداولها مضمضة وخريرا، ثم وقفت السيارة وتدلى عنها الركب، وقادتني السيدة بيدها الناعمة فصعدنا أولا بضع سلاليم، ثم سارت بي قليلا وتقدمت إلى الخدم فرفعوا العصابة عن عيني، فإذا بي في بهو لا يتصور العقل سعة جنباته.
ثم جعل يصف لي ما حلي به من دمى وتماثيل وصور وتهاويل، ومنها ما نحت من المرمر، ومنها ما رصعت أطرافه بالدر والجوهر، مما لم يرد مثله عن الإيوان، أو عن قصر غمدان.
ثم مضت به إلى الطابق العلوي، ولا تنس أن الخصيان والجواري (البيض طبعا) وقوف صفين على طول الطريق، في أيديهم الشموع والمجامر تضوع بفتيت العنبر، وبالمسك الأذفر، حتى يأذن الله وينتهي المسير بإيوان، وإذا فيه أربعمائة فتاة كلهن أحلى من البدر، وأنضر من الزهر، وأبدع من الدهر إذا أقبل الدهر، وإذا هتاف يصم الآذان، وتصفيق يرج الإيوان، وإذا صاحبتي تصيح صياح مؤذن جاهد في الأذان: «لقد كسبت الرهان، فقد جئتكن بفلان!»
وتعزف الموسيقى وكل العازفات من الكواعب الأتراب، ولا تسل عن تهافت الفتيات عليه وتباريهن فيه إذا كان الرقص، وكان هصر القدود، أو كان عصر الخدود! •••
فإذا أنكرت علي، يا سيدي القارئ، إيماني بهذه «البطولة»، وإعجابي بهؤلاء «الأبطال»، فأنت امرؤ لا حظ لك في تذوق الشعر ولا في تقدير قدر الخيال!
غواة؟
فإذا أباها علينا صديقنا الأستاذ صادق عنبر قلنا هواة، وأمرنا لله!
الواقع أن بعض إخواننا الموظفين هواة، أو على الصحيح عند العامة غواة، شديدو الكلف «بالغية»، وليس يقع هواهم على شيء مما يتكلفه الناس في هذا الباب، من حذق تصوير ، أو حفر، أو تجويد ضرب على عود أو قانون، أو تربية الأزهار وتوليدها وتلوينها، أو الملاعبة بالحمام، والاشتغال بنطاح الكباش، ومهارشة الديكة، أو. أو. إلخ، فإن هواهم أو «غيتهم» إلى شيء آخر، أفتدري ما هذا الشيء؟ هو الكلام في «الحركة». فإذا كانوا من سلك القضاء كان الكلام في «الحركة» القضائية، وإذا كانوا من رجال الإدارة، فالكلام في «الحركة» الإدارية، وإنه لهوى يملك عليهم عواطفهم، ويستهلك أوقاتهم، فيطغى على لذائذهم جميعا.
وإنهم ليتعاهدون مكانا من فندق، أو موضعا في مقهى، أو منظرة في دار إذا كانوا في الريف. فإذا فرغوا من أعمالهم انتظم مجلسهم، وبدأ الكلام في «الحركة»، وميعاد صدور «الحركة». وراح كل يروي ما اتصل به من ذلك فمن قائل إنها ستصدر بعد ثلاثة أيام، ويسند هذا إلى خبر ثقة في وزارة الحقانية فيبتدره ثان بأنها لا تكون إلا بعد شهر على الأقل، ويحتج لهذا ثالث بأن هناك إشكالا فيمن يختار للمنصب الفلاني ...
ويدور الجدل والحوار في هذا ساعة أو ساعتين ... فإذا فرغوا منه أقبلوا يتفقدون من «عليهم الدور» في الحركة المقبلة. ومن هم الذين سيقع لهم الحظ فيها، فيجري الكلام في الترشيح للمناصب الخالية، وفيمن يخلف كل من يفارق منصبه إلى أعلى منه، وفيمن عليهم الدور للدرجة الأولى في القضاء ثم من عليهم الدور للدرجة الأولى في النيابة، ثم فيمن عليهم الدور للنقل إلى محكمة مصر. ومن ذا الذي سينقل إلى قنا. ومن ذا الذي سيندب للجنة المراقبة. ولا يزال يدافع الرجم والتخمين بالرجم والتخمين، وترتفع الأصواب بالتماس العلل، والاحتجاج للرأي، حتى ينتصف الليل أو يكاد، وينفض المجلس وينطلق كل إلى مثواه، فإذا كان أصيل اليوم الثاني، عادوا إلى مجالسهم، واستأنفوا شأنهم، وأعادوا ما بدأوه في أمسهم، لا يخوضون لحظة واحدة في غير حديثهم، فإذا كان يوم عطلة، عقدوا فيه جلسة «ماتينيه» للكلام في الحركة أيضا، وإنك لا تسمع أحدا منهم طول حياته يلوك بيتا من الشعر، أو يقلب لسانه في سبب من أسباب الحياة، أو يتجرى عليه نادرة ظريفة، أو طرفة تنتعش بها النفس، أو ملحة تملأ الشدق بالضحك! ولا تراه يوما يغشى مجلس غناء أو تمثيل، أو نحو هذا مما يطلبه الناس للرياضة والتفرج من كد العمل! ... إنما لذة العيش وقرة العين، ومتعة الحياة وأنسها وبهجتها، كل أولئك في الكلام على «الحركة» وحدها. حتى إذا غشى واحد من هؤلاء الهواة مجلس آخرين من إخوانهم، ممن لا يكرثهم أمر «الحركة»، ولا يقتلون وقتهم في الحديث عنها؛ لأنهم لا يشغلون وقت فراغهم إلا بما يشغله به سائر المتعلمين، من حوار في مسألة علمية، أو حديث في الأدب، أو جدال في المسائل العامة، أو رواية حادثة غريبة، أو إرسال نكتة بارعة، أقول إذ غشى واحد من أولئك مجلس جماعة من هؤلاء رأيته غريبا بينهم، منقبضا عن شأنهم، غافلا عن حديثهم، حتى لتحسبنه لا يعرف لغتهم ! وإنه ليهم المرة بعد المرة بتوجيه مجلسهم إلى الكلام في «الحركة»، فإذا لم يسترسلوا معه فيه تسلل عن المجلس بسلام!
وإن أنس لا أنس أنني وصديقا لي، دخلنا «كازينو» الشاطبي أصيل يوم من أيام الصيف، فإذا الناس فيه متشرفون على الشاطئ يستقبلون الهواء، ويمتعون الأنظار بجمال البحر هناك، وإذا «فلان» جالس وحده وقد ولى البحر ظهره، فمال علي صاحبي (وهو من القضاة أيضا)، وقال لي: أتعرف لماذا يجلس «فلان» هكذا؟ قلت لا! قال: إنه يرتصد لأي قاض ليتكلم معه في «الحركة» المقبلة! فاعدل بنا عن طريقه، لا أمتعه الله بهذا الكلام!
والعجب العاجب أنك قد تسأل جمعهم عمن يرقب نصيبه منهم في تلك «الحركة»، فيجيبونك كلهم «لسه ما جاش علينا الدور»! ولقد سألت واحدا من هذا الضرب مرة: متى ترقى يا فلان؟ فدس يده في جيبه واستخرج كشفا طويلا فنظر فيه وقال: «فاضل قدامي 73 واحدا»!
وإنك لتصيب هذا الضرب من الموظفين في كل وزارة، وفي كل مصلحة تقريبا، وبحسبك أن تطوف بالأماكن العامة وقت الغروب لترى للمتحدثين في «الحركة» من موظفي كل منها مجلسا معقودا.
ولعل لإخواننا هؤلاء بعض العذر أو كله، فإنهم إنما يتقرون مستقبلهم، ويتعجلون الأيام لينتهوا منها إلى عليا المناصب، ولكن ما عذر هؤلاء الذين أفضي إليك بحديثهم؟
من جيراننا كان المرحوم أحمد ثابت بك، (والد صديقنا الأستاذ الدكتور محجوب ثابت)، وكان أوجه من في تلك الرقعة من رجال الإدارة المحالين إلى المعاش، فكانت داره مثابة إخوانه المحالين على المعاش، تنتظمهم «المنظرة» في الشتاء، وتنعقد حلقتهم على باب الدار في الصيف، وفيهم من قوست السنون ظهره، وفيهم من كف بصره، وفيهم من أبطل الفالج نصفه، وإنهم ليعقدون مجلسهم من الساعة التاسعة صباحا حتى يقوموا لغدائهم، ثم يستأنفوا شأنه إذا جاء العصر، فلا يبرحون إلا إذا تنصف الليل، وعلى صاحب الدار الإكرام لهم بالقهوة «السادة»! والقهوة «بسكر شوية»، أو السوبياء والليموناده في الصيف، أو القرفة أو الخلنجان إذا كان الشتاء، أما حديثهم كله في مصبحهم وممساهم، وفي غدوهم وآصالهم، فمن لون واحد، هو الكلام في الحركة الإدارية، ودار ثابت بك على مذهبي في غدوي ورواحي، وما جزت بهم مرة من يوم نشأت إلا سمعت قائلهم: وعبد الغني شاكر؟ فيبادره آخر: في ميت غمر، وخليل نايل في قنا، وحدايه؟ في طنطا، وقطري؟ في أسيوط، وعبد العزيز يحيى؟ في بلبيس، وإبراهيم نبيه؟ إلخ، إلخ لقد حفظت، في صدر سني، وعلى الرغم مني، أسماء جميع المديرين، ووكلاء المديريات، والمحافظين، والحكمدارين ومأموري المراكز، ومواضعهم وما كان وما يكون من تردد كل منهم بين مختلف المناصب في مختلف المواطن!
ولولا أن ألوى الردى بالمرحوم ثابت بك لكان الهتاف الآن بأسماء صادق يونس، وعبد السلام الشاذلي، وأحمد فهمي حسين، وأحمد زكي مصطفى إلخ ... وسبحان من أودع كل قلب ما شغله!
فن الوظيفة؟
تدور في هذه الأيام كلمة «الفن»، تنفض نفضا على كل من له عرق في تصوير أو نحت أو غناء أو تمثيل، إذ هناك «فن» أدق وأبرع، وأجدى على «الفنان» وأنفع، ومع هذا لم يعرض له النقدة، ولا هتفوا به في مقالاتهم، وإن شئت أن تعرفه، فهو «فن الوظيفة».
و«فن الوظيفة»هذا - شرح الله صدرك، وأطال عمرك ، ورفع في المناصب قدرك - فن واسع الأطراف، رحب الأكناف، مؤصل الأصول، مفصل الفصول، مقعد القواعد، مبسط الأمثلة والشواهد، لا يحذقه الفتى إلا بعد الجهد وشدة المطاولة، وسهر الليالي في التفكير والتدبير، وتمرين الأعضاء في كيفية القعود والقيام، والسكوت والكلام، والدخول والخروج، والهبوط والعروج، والتشييع والاستقبال، والخنوع والاستبسال، والانقباض والتبسيط، والرضا والتسخط، وإرهاف الأنف حتى يشم الريح على أميال، ويدرك مدى تحول الجو من حال إلى حال.
وهذا «الفن» الجليل لا يكفي في تحصيله والتبريز فيه كل هذا؛ بل لا بد من التهيؤ والاستعداد، وأن يكون للمرء طبيعة وموهبة، شأن سائر الفنون الجميلة!
ومن أولى مزايا هذا «الفن» الجليل تخليد «الوظيفة» للفنان على الزمان، ولو عصفت أحداث السياسة بلداته جميعا! ومنها الوثب في الدرجات مثنى وثلاث ورباع، وخماس وسداس وسباع.
وإني لأعرف طائفة من هؤلاء «الفنانين » مهد لهم «الفن» الدرج كله، فتناولوه وثابا في كل وزارات: عدلي، وثروت، ونسيم، ويحيى، وسعد، وزيور، وعدلي، والنحاس، ومحمد محمود، حتى بلغوا القنة بدقة الفن وحده، ناعمين بثقة الجميع، ولا إيمان لهم بواحد من الجميع!
ألا حيا الله هذه الهمم، وحيا معها تلك الذمم!
امتحان! ...1
أنكد أيامي في القضاء الشرعي، هي تلك الأيام التي قضيتها في محكمة «كذا» الجزئية التابعة لمحكمة «كذا» الكلية، ولهذه المحكمة رئيس وافر الذكاء شديد المكر، وفيها نائب وقاض لا أصفهما إلا بما جرى بيني وبينهما في هذا الحديث.
في يوم أيوم تلقيت كتابا من «الرياسة» بندبي إلى «الكلية» لتكملة «الهيئة» لجلسة امتحان المأذونين، وفي اليوم «الموعود» مضيت كارها، ورأيت ألا أضيع الوقت سدى، فأنشأت وأنا في الطريق أضع الأسئلة التي تطلبها لائحة المأذونين، سواء في الفقه الحنفي، أم في الأحكام النظامية للزواج والطلاق، أو في الحساب، أو الإملاء، أو الخط، وسويت كل سؤال على صورة حادثة مما يعرض للمأذونين في مهنتهم كلما دعوا إلى زواج أو إلى طلاق.
وبلغت المحكمة فإذا حجرتها الكبرى تموج بحضرات المتقدمين للامتحان، وقد كبوا على الأرض كبا، وأعني الأرض نفسها لأنها متجردة ليس عليها بساط ولا حصير، وهم بين متربع، وبين مقع، وبين معتمد على كعبيه وقد تعلق سائره، وبين جالس على إحدى ركبتيه، وفي يمين كل منهم قلم، وفي يساره كاغد وبين يديه دواة من فخار، وفي صدر الحجرة دكة انحط عليها صاحبا الفضيلة النائب والقاضي، والجميع جاثمون في انتظاري، فاتخذت لي بين الشيخين مجلسا، وأومأت إليهما فتجمعت رءوسنا نحن الثلاثة، وقلت لهما هامسا: لقد هيأت أسئلة الامتحان، فإذا راقت لكما ألقيتها على المشايخ، وبذلك يتهيأ لي أن أعود إلى محكمتي في الحال، ففيها عمل كثير يحتاج إلى طول علاج، فقالا: هات ما أعددت؛ فتلوته عليهما؛ فهبا في نفس واحد:
لا، لا! وهتف النائب عن يميني: نحن لا نوافق، فرجع القاضي عن شمالي: أبدا أبدا! وهمس النائب: «إحنا ما نخرجوش عن اللائحة»، فردد القاضي، بعد أن رفع كلتا يديه حتى حاذتا فوديه، وأهوى بهما على فخذيه: «لا لا، ما نقدرشي نخرج عن اللائحة»، فحقنت غيظي وقلت لهما في رفق: فما حكم اللائحة في ذاك؟ فدعا النائب باللائحة فجاء بها الحاجب ودفعها إليه، ففرها حتى وقع منها على الفصل الذي تجري فيه أحكام الامتحان، وتلا ما معناه: يؤدي طالب المأذونية امتحانا في أحكام الزواج والطلاق وما يتعلق بهما شرعا ونظاما، وفي الإملاء والحساب والخط، ثم أقبل علي وقال: أرح نفسك، فقد وضعنا أسئلة تنطبق على أحكام اللائحة تمام الانطباق، قلت: فهاتها.
فتلا علي ما يأتي:
السؤال الأول:
ما هو الفقه على مذهب أبي حنيفة؟
السؤال الثاني:
ما هي الأحكام النظامية للزواج والطلاق؟
السؤال الثالث:
ما هو الحساب؟
السؤال الرابع:
ما هو الإملاء؟
السؤال الخامس:
ما هو الخط؟
وهنا لم تعد جدران صدري تقوى على حقن الغيظ، فانفجر انفجارا وصحت فيهما: ما الخط؟ أجيبا أنتما عن هذا السؤال! فأجابا في نفس واحد، لا نخرج عن اللائحة، لا نخرج عن اللائحة! فقلت لهما: «وإني لأول مرة أفشي سر مداولة» إنني غير موافق، فصاحا: ولكن الأمر تم بالأغلبية، فقلت لهما: إذن فامضغا هذه الأغلبية، وتركتهما ونهضت من فوري أطلب وزير الحقانية لأتغداهما قبل أن يتعشياني، وكان صاحب الدولة المغفور له عبد الخالق ثروت باشا، وقصصت عليه القصة، فضحك رحمه الله حتى انكشف ناجذه.
ولم يصارحني برأي، على أنني قد اطمأننت إلى أنني لن يمسني سوء من أثر فعلي، وأحمد الله تعالى أن أحد هذين الشيخين قد خرج بالسن، ولا أدري ماذا صنع الله بالآخر، وأمثالهما - لا أكثر الله من أمثالهما - في القضاء غير كثير.
وهنا مسألة يجب أن تثار وأن يبت فيها بالرأي: إذا مالت أغلبية القضاة إلى حكم واضح الشذوذ أو ظاهر السخف، فهل يحق للقلة أن تنسحب ضنا بكرامتها على الابتذال، أو يجب عليها الخضوع لحكم الكثرة طوعا لظاهر نص القوانين؟ اللهم إن كان الثاني فيا ويل الأقليات من الأكثريات!
ولعل لي عودة إلى بعض ما عانيت من هؤلاء في محنة القضاء!
يا خسارة! ...
لي صديق شاب أحرز إحدى الشهادات العليا من بضع سنين، وظل يسعى إلى «وظيفة» حتى اهتدى من نحو شهر إلى «وظيفة» لا يدركها إلا إذا جاز إليها «امتحان مسابقة»، فأكب المسكين على الكتب، وما بقي عنده من «مذكرات» أساتذته، وراح يجهد نفسه في مراجعة ما تلقاه من فنون العلم، ودام على هذا قرابة شهر، وكلما قابلته وسألته في شأنه أدخل الطمأنينة على نفسي بما راجع من مسائل العلم وما استذكر وما حصل، حتى أضحى أمله في السبق إلى «الوظيفة» معقودا والحمد لله!
ولقد لقيني أمس فإذا هو مغيظ محنق، يشكو الزمان ويلوم صرف الدهر! لماذا؟ لأنه قد وفق إلى «وظيفة» أخرى سيعين فيها بغير امتحان، ففيم كان جهده وتعبه في مراجعة الكتب، واستظهار ما عمي عليه من مسائل العلم، وراح يلعن الدهر الذي لم يسق إليه هذه «الوظيفة» الجديدة قبل أن يصنع ما صنع!
فأجبته من فوري «يا خسارة!»، فأومأ برأسه يؤمن على توجعي لحاله في لوعة وحسرة! وانطلق مشيعا بضراعتي إلى الله تعالى أن يعوض عليه ولو بجهل ما علم، ونسيان ما استذكر! والله على كل شيء قدير!
بين القاضي والمأمور
كان قد وقع خلاف في الرأي في مجلس ببا الحسبي بين القاضي الشرعي ومأمور المركز أثناء نظر إحدى القضايا، ثم استحال الجدل إلى مهاترة، فمشاتمة، فاشتباك بالأيدي، وقد كان الضرب الذي كاله المأمور لصاحبه قاسيا مؤلما، ولولا لطف الله، ودخول الحاضرين بينهما، لكانت فيها نفس القاضي المسكين. وقد كتب المؤلف هذه الكلمة عقب الحادث، ونشرها في «الأهرام» في يونية سنة 1916.
سبقت «الأهرام» إلى ذكر تلك الحادثة الجلية التي وقعت في مجلس ببا الحسبي بين فضيلة القاضي الشرعي وحضرة مأمور المركز.
ونحن لا نجزع من تهاتر اثنين ولا من تضاربهما، فإن جرائد البوليس وجداول المحاكم، تحتفل كل يوم بما لا يحصى عديده من حوادث السب والقذف، والطعن والقتل، ولكن جزعنا أن قاضيا تأدب بأدب الشرع، وقرأ المنطق، ودرس آداب البحث والمناظرة؛ ومأمورا أخذ القانون، وولته الحكومة القيام على الأمن، وتنفيذ الأحكام، وصيانة الآداب - يجمع بينهما مجلس الحكم والولاية، ويتفرغان للنظر في شئون الأيتام، ومصالح العاجزين عن تدبير أموالهم، ليقضيا فيها بحكم الله - فإذا اختلفا على رأي، وافترقا في النظر إلى مصلحة، حصرا على إيراد الحجة، وعييا عن تأييد الرأي بقوة الدليل، ولم يطلبا من وسائل الفلج وأساليب الإقناع إلا التلاحي بالألسن، والتصافح بالأكف، والتضارب بالعصي، والترامح بالأرجل، ونعوذ بالله.
يقعد المأمور في صدر المجلس الحسبي، والقاضي عن يمينه، والأعضاء الأعيان عن يساره، والجند والحجاب، آخذون مذاهب الأبواب، ولا أقل من ثلاثة نفر أو أربعة من عمد البلاد ووجوهها، وفدوا لبعض شأنهم في المركز - ولو لمحض بث الشوق إلى «البك» المأمور.
ولو أجلت طرفك قليلا لوقع في زاوية الغرفة على جناب مفتش البنك الزراعي، وهو مقبل بالحديث على حضرة المعاون حتى يأذن الله بالفراغ من تلك الجلسة، أما الصراف فمشغول بالتسلل بين الكراسي والمكاتب، وطلب الطريق إلى «سعادة» المأمور، ولو من فوق رءوس الأطفال، أو من دون آباط الرجال، فلا يكاد ينفلت من مأزق إلا إلى مأزق.
وفي بهرة القاعة «أم القصر»، وقد تعلق الثلاثة الأيتام بذيلها، وإلى جانبها حماتها أم الفقيد وأخواه، وأمامهم شيخ البلد والشاهدان، ومن خلفهم أهل القرابة غير الوارثين، ووراء الجميع جمع من الحجاب، يدفعون أصحاب القضية الثانية بالأيدي والمناكب إلى ما بين يدي الباب، حتى إذا فرغ المجلس مما بين يديه أخذ ينظر في شأنهم، «فلا يرسل الساق إلا ممسكا ساقا».
وفي بهو «المركز» من الأيامى والأيتام، والأوصياء والقوام، وذوي القربى ومشيخة البلاد وغيرهم من المعدلين، والمزكين، والشرط والعسس، والأصحاب والأتراب، عدد الرمل والحصى والتراب.
في هذا المشهد الجليل، والموقف العظيم الحفيل، اختلف الشيخ والمأمور، فتحاورا وتناظرا، فدل الشيخ بشرف المنصب وتاه بجلالة الموضع، واعتز بحرمة الشرع الكريم، واستطال المأمور بأبهة الرياسة، وباهى ببسطة النفوذ، وكاثر بمن حوله من الحرس والجند، حتى إذا نفذ ما أعداه من المكاثرة والمفاخرة وما فتح عليهما في فنون المجادلة والمهاترة، وثارت الحمية في النفوس، وتوثبت الحفيظة في الصدور، عقدت الألسن عن السب والشتم، وتحركت الأيدي بالضرب واللطم، وجعلت العصي تتهاوى على الرءوس والمناكب، كما تتهاوى في الليل البهيم الكواكب، والناس في أمر مختلط: فمن جندي يتهيأ للقتال، ويتحفز للنزال، ومن خود يطلبن الأبواب، وفتيان ينظرون لمن يكون الظفر والغلاب، ومن شيخ يضج، وعجوز تعج، وطفل مذعور، وغلام يصفق من الطرب والسرور.
أما حاجب المحكمة، فقد «اختفى من الأثاث في البرم»، وانتهت المعركة ببطش المأمور بفضيلة القاضي الذي خر صريعا، بعد أن صدعت ساقه، وخمشت أشداقه، وكسرت ذراعه، واختلفت أضلاعه، وكذلك ظهرت القوة على جلال الفضل، وعقد لها لواء النصر في المعركة الأولى، ولا يدري إلا الله لمن يكون الغلب في المعركة الثانية، بين يدي النيابة إن شاء الله!
تفرق الجميع، ونفر الناس إلى بلادهم قانعين بسلامة الإياب!
أما حديث الموقعة، فتسمعه مفخما مجسما من شهود الرؤية، سواء في مجامع الشيوخ على المصطبة، أو الشبان في الحقل (الغيط)، أو الفتيان في البيدر (الجرن)، أو النساء على المورد (الموردة)، أو الأطفال على سيف الترعة، ويا له من حديث، حديث تضارب الحكام، في مجلس الولاية والأحكام. •••
وبعد فإنه لا غناء للقاضي الشرعي عن حضور المجلس الحسبي كل أسبوع مرة لأنه عضو فيه، بل لأنه الذي يقيم - بحكم موضعه - من يجتمع الرأي على إقامته من الأوصياء والقوام، فما عسى أن يصنع القضاة بعد الآن وقد سن مجلس ببا الحسبي سنة جديدة في تبادل الآراء وتداول الأفكار، وهم كما يعلم الناس قاطبة قوم نحاف الأجسام، رقاق العظام، لا حيلة لهم عند الخصام، ولا سداد لهم في موقف المقارعة والصدام، أما المأمورون فهم جند أو أشباه جند، صلابة عود، وقوة ساعد، وشدة منة، وقد ازدادوا بطول الرياضة والتمرين بأسا عند مقارنة الأقران، وصولة في يوم الكريهة والطعان!
الرأي عندي أنه ما دامت الحكومة مبقية على القضاة، وما دام يجتمع في المجلس الحسبي مثل قاضي ببا ومأمورها، فلا مندوحة لها عن اختيار واحدة من ثلاث:
فإما أن تختار القضاة الشرعيين من خريجي المدرسة الحربية، حتى تتكافأ القوتان، في فنون الضرب والطعان!
وإما أن تأمر بألا يعقد المجلس الحسبي إلا إذا استوثق الأعضاء من كتاف المأمور، فلا يصل شره إليهم، ولا تضر صولته عليهم!
والثالثة أن تخرج للقضاة الشرعيين، بدل الأوسمة التي تطبعها لهم، دروعا تقيهم بأس المأمور وأذاه، وتعصمهم من كفه وعصاه؛ وإلا فالتخلف عن الحضور، أخف من كف المأمور، والدخول في مجلس التأديب، أهون من الدخول في هذا المعترك، والوقوع في هذا الشرك!
يوم ويوم! ...
جازت بي أصيل اليوم زفة لجهاز عروس، تتقدمها الموسيقى العادية، فالمؤنس (موسيقى القرب)، يليهما عنق من الشبان والفتيان: هذا باسط على راحتيه ديباجة مزركشة، وهذا حامل غطاء مرقشا، وثالث «صينية» نحاس مكتفة بالفضة، ورابع آنية زجاج مموهة بالذهب، وخامس علبة من الجلد انتظمت ثلاثة أكواب مفضضة الكعوب، وسادس شاهر حذاء حريريا ... وتاسع طاس حمام صيغ من الفضة الخالصة ... إلخ ... إلخ.
ثم يلي هؤلاء قطار من عربات «الكارو» لا يكاد يدرك الطرف آخره: هذه تحمل حشية (مرتبة) وغطاء سرير، وهذه تحمل طنفسة وكرسي خيزران، وثالثة بسط عليها لحاف مزخرف وثلاث وسائد مدبجة الأطراف، ورابعة عليها «دولاب» يتوجه بثلاثة أبواب من البللور، وخامسة تظهرها «كنبة» و«فوتيان» منجدة ثلاثتها بحرير أرجواني، وسادسة تحمل سائر «الطقم» من كراسي و«كنصول» ومناضد، وهكذا حتى يأذن الله ويجيء دور آنية النحاس من أباريق، وطسوت غسل الثياب، وطسوت الحمام، ومن حلل ومغارف ومصاف ... إلخ ... إلخ ...! •••
وهذا ما يكون من أمر يوم الجهاز عند هذا الضرب من الناس، أما ما يكون من أمر يوم «العزال» فلا أكثر من عربة واحدة لحمل هذا كله، مزيدا عليه ما لا يدخل في جهاز العروس من «الماجور» و«الشالية» والزير وحمالته، وطاحونة البن، وأقفاص الفراريج والحمام وغير ذلك، يركم ذلك كله بعضه فوق بعض، حتى ليخيل إليك من عظم ارتفاعه، أن سراته تحك قرن الشمس!
أعوذ بالله! ...
على طريقي إلى الدار «حانوت» والعياذ بالله تعالى، نضدت فيه خشب الموتى ودكك الغسل تنضيدا بديعا، وسجيت على بعضها نماذج الأكفان الزاهية الألوان من «شاهي» للرجال، و(كريب جورجيت) لموتى العرائس، ولم يعد ينقص هذا «الحانوت» الطريف إلا أن تقام على بابه «فترينة» تزين بأسباب الموت وحوائجه.
ويجلس على بابه كل يوم من الصباح الباكر عماله الكرام، ومن «غاسلين وحمالين، ومنشدين»، وهم يتوسمون وجه كل غاد ورائح، لعل القدر يسعدهم بمرزوء في أحد بنيه، أو في أمه أو في أبيه.
وجزت بهم مصبح يوم وعيناي تنتضحان بالدمع من أثر رمد، فأتلعوا إلي أعناقهم، ورأيت البشر يشيع في وجوههم، وسرعان ما تحركوا جذلين للقائي، وهم يدعون الله في أنفسهم أن يجعل «استفتاحي لبن!» فصحت فيهم: استريحوا يا أولاد ال ... فما بي والله بكاء، ولكنه الرمد، وكلنا والحمد لله بخير وعافية، وقطع الله أرزاقكم ولا أدخل النعمة عليكم أبدا ...!
أوكازيون!
تلقيت من بعض معارفي هذا الكتاب:
حضرة ...
قرأت ما كتبته عن «الحانوت» الواقع على طريق دارك، وغيظك من نشاط هذه «الطائفة»، واجتهادها في عملها، وإعلانها عن بضاعتها بعرض حوائج الموت مرتبة منظمة مزينة إلخ ...
وإني مصارحك يا سيدي بأن المصريين مهما افتنوا في هذا الباب، فما كانوا ببالغين فيه شأو الإفرنج، فلقد وقعت ليدي في ربيع العام الماضي جريدة إفرنجية تصدر في القاهرة، وفيها الإعلان الآتية ترجمته صادرا من محل «حانوتي» مشهور:
إعلان
نتشرف بأن نعلن حضرات زبائننا الكرام بأنه نظرا لقرب حلول موسم الصيف، وبدء ظهور الأوبئة وانتشار الحميات، قد أجرينا تخفيضا هائلا في الأسعار، فضلا عن أننا قد استحضرنا من أوروبا عربات فخمة من جميع الأحجام للرجال والسيدات والأولاد، وصناديق مذهبة ومفضضة، ومحلاة بأدق النقوش وأبدعها، كما استحضرنا كميات وافرة من «الكورونات» وغيرها، ومن يشرف ير ما يسره!
فما قولك في هذا الإعلان.
المخلص (ن) «حاشية» نسخة الجريدة ما زالت تحت يدي، وإني على استعداد لإرسالها إليكم إذا شئتم وتقبلوا ... (ن) «اليوميات» أما نسخة الجريدة فلا حاجة بي إليها يا سيدي «ن»، لأنني لم أعتزم الموت إلى الآن، على أنه إذا جرى القدر على نفسي أو - لا أذن على أحد ممن أحملهم - فإننا لن نعامل في هذا إلا إخواننا المصريين، ومهما يكن من شيء، فالمهم في الموضوع أن نعرف أثر هذا الإعلان اللطيف المشوق في إقبال الجمهور على ذلك الحانوت الشهير! ... ولعله يتم صنيعه في موسم العام القادم - إن شاء الله - فيخرج لعملائه «لوترية» تعطي من يسعده الحظ منهم بالنمرة الرابحة، الحق في التجهيز والدفن مجانا!
في الخدمة! ...
لقيني اليوم في الترام لحاد (تربي) مشهور أعرفه، فسلم وسلمت، وأقبلت عليه أحييه، بما جرت به عادة الناس، وأسأله عن شأنه، فقال لي يرد التحية في لهجة تشف عن الصدق والإخلاص: «إحنا في الخدمة!»، فقلت له: الله يحفظك؛ فأجاب من فوره كذلك في إخلاص ولهفة: «ربنا لا يحرمنا منك!» •••
وبعد، فما أحسب أن دعوة في هذه الدنيا محققة الإجابة قدر هذه الدعوة، «فإنا لله وإنا إليه راجعون»!
شعراؤنا والندابات!1
الحمد لله، لقد أصبح عندنا «طقم» شعراء لا يقل استعدادا ولا سرعة إجابة في المهمات عن «موسيقى حسب الله» تمشي في «الزفف» كما تمشي في «الجنائز»، وتعزف دائما - على حسب الأحوال - بالمطرب والمحزن من الألحان!
أمسى «طقم» الشعراء من ضروريات الحياة عندنا، يخف للدعوة وينشط للشعر هناء لكل معرس ، وترحيبا بكل قادم، وتكريما لكل مولع بالظهور، ورثاء لكل ميت، ولا يبعد أن تتسع غدا هذه المهنة فيحل شعراؤنا محل جماعة «شوبش» في «صبيحة» العرس، و«صلوا عليه سعيد» بين يدي موكب «المطاهر»!
ولعل شعراءنا المجيدين يتخذون لهم محلا مختارا حتى يكونوا تحت طلب «الزبون» في كل وقت، فلا يتبعوا أصحاب «الأفراح» ولا أهل الموت في التماسهم، وطول البحث عنهم، وهم مخيرون بين أن يتخذوا لهذا الغرض قهوة «الآلاتية» بشارع محمد علي، أو حانوت السيد مصطفى علي بالسيدة زينب، ما داموا مطلوبين دائما للأعراس كما هم مطلوبون للمآتم، على أنه سيأتي - وقد يكون قريبا جدا - ذلك الوقت الذي يكلف صاحب «المهم» الفراش بإحضار «طقم» شعراء، كما يستحضر عادة «طقم» الموسيقى، و«طقم» المولوية، وحملة المباخر والقماقم إلخ.
لقد مات كثير ممن لا شأن لهم ولا جليل خطر في هذه الحياة، بل لقد كان بعضهم ممن تعف عنهم كل فضيلة، وتكبر عليهم أحقر المزايا، ولم تتعلق منى أهليهم ولا أصدقائهم بأن يعقدوا لهم يوما للرثاء، ومع ذلك بادر «طقم» الشعراء أنفسهم فأعلنوا بلسانهم الدعوة إلى يوم الأربعين لاستماع مراثي فلان وفلان، وفي بعض الأحيان اضطلع هؤلاء «الشعراء» بما تقتضيه «الحفلة» من النفقات، حتى يسمعوا الناس أشعارهم، ويتباروا في إعلان بلاغاتهم!
والعجب العاجب - ولا يتعاظمنك الأمر أيها القارئ - أن بعض إخواننا الشعراء غلبوا جماعة «الموالدية» أمثال الشيخ الحمزاوي، والشيخ سطوحي، والشيخ الزربي، إذ أصبحوا يؤجرون عددا من المرتزقة ليرفعوا الأصوات بالهتاف لهم كلما أنشدوا، ويبروا أيديهم من التصفيق كلما انحطوا إلى موضع قافية، ولو كانت الحفلة حفلة رثاء لميت وتفجع على راحل!
لقد أصبح وجه الشبه شديدا جدا بين طائفة من شعرائنا وطائفة «الندابات» في مصر، وهل جاءك أيها القارئ العزيز نبأ السيدات: حطبة، وحنطورة،
2
وأم إمام، وبتبت، ودجدجة ...؟
إنهن لا ينقصن عن شعرائنا بديهة ولا حضور قول، وأكثرهن كذلك تشتغل نائحة في المآتم و«عالمة» في «الأفراح»، يشعن الطرب في هذه، بقدر ما يبعثن الشجن والأسى، ويثرن الدمع مدرارا في تلك ، إنهن في عامة الشعب قد يكن أبلغ تأثيرا وأعلى مكانة من بعض شعرائنا في أشباه خاصته!
لقد دعين إلى مناحة المرحومية: منبوك، وكسلة، وبلحة، وإأه، وخليل بطيخة، وغيرهم وغيرهم من «عتر» البلد و«صبواتها»، ويا طالما هيجن من زفرات، وأجرين من عبرات، وبعثن الأكف تشبع الخدود لطما، واستنفرن الأظافير تفري الصدور لدما، وكم دققن الرءوس دقا، وشققن الجيوب شقا.
وإذا كان شعراؤنا لا يعدون في وصف كل ميت بأنه أجمل من القمر، وأعلم من الجاحظ، وأشعر من زهير، وأكتب من ابن المقفع، وأبلغ فلسفة من ابن سينا، حتى لا نكاد نميز ميتا عن ميت - فإن في «الندابات» قصدا في القول، وتحريا في «الندب» لما هو أشكل بكل ميت!
ولقد توفي في صدر هذا الأسبوع المغفور له المعلم دقدق الجزار، فكان مما قلن فيه:
اسم الله عليك يا خويه يا خطرة الباشة
يا محلي أورطك - يا عيني - في حبكة اللاسة
اسم الله عليك يا خويه يا خطرة اليمني
يا محلي دراعك - يا شلبي - في الشاهي اللبني.
والشيء بالشيء يذكر، فلقد اتصل بنا ممن لا يشك في روايته، أن المحلات التجارية الكبرى، رأت أن تتخذ من «الندابات» أحسن ركلام عند من يغشين المناحات من السيدات، لذلك تراهن ينتهزن الفرصة في موت إحدى العذارى فيقلن فيما يندبن مثلا:
يا للي ما لحقتيش تتهني يا حلوة يا للي ما لحقتيش تتمتعي يا عروسة! يا للي ملحقش أبوك يفرح بك يا شبة، ولا يجهزك من محل فلان، يا للي ما وعيتيش لما يشتريلك الطقم اللاكيه اللي على الشمال والواحد داخل يا حلوة، ياللي ما ستنتيش لما يجيب لك من «الكريب دي شين» الموضة اللي جه الجمعة دي بس يا ختي، يا للي خطفك الخطاف قبل «الكازيون» اللي فيه الحاجة هناك بتراب الفلوس يا عروسة!
ياللي ... ياللي ... حتى تستوفي «الكتالوج»، وتستقصي أسعار «الأكازيون» عن آخره.
وما يدرينا، فلعل تجارنا واصلون غدا إلى أن يأجروا بعض شعرائنا ليصنعوا لهم «ركلاما» عن بضائعهم و«موداتهم» في حفلات الأربعين ، فينشدوا مثلا فيما ينشدون من أبيات الرثاء والتأبين:
كم زرت قصرك والإعجاب يدفعني
لوصف كل طريف فيه مجلوب
رأيت فيه بساطا جل ناسجه
من خير ما يحتوي دكان شلهوب
3
دكان شلهوب يستهوي النفوس بما
يضم من تحف في حسن ترتيب •••
رأيته في قميص الخز مزدهيا
مما يقدم «برنار»
4
لأمجاد
وفوقه «بدلة» من خير ما صنعت
أيدي المجيدين من صناع «سيفاد»
5
عند العقارى ذا تلقاه منبسطا
وذاك في الطابق العلوي بمرصاد •••
ولقد تخرمك المنية قبلما
تهنا بما جلبوا إليك وأطنبوا
لجهاز عرسك كل غال قيم
جادوا به فمفضض ومذهب
من عند سمعان الشهير وبعضه
من شيكريل أعز ما يتطلب
وبهذا يخدم شعراؤنا الأوطان، بما يسبقون فيه الأمريكان، من التفنن في وسائل الإعلان!
Bilinmeyen sayfa