5 - وحدثني عمي إسحاق بن إبراهيم، قال:
((انتظرت أبا عبد الله الواسطي -كاتب أحمد بن طولون- في داره، حتى رجع من عند أحمد بن طولون. فأوصل إليه بعض الحجاب ثبت من وقف بالباب، فرأى فيه إسماعيل بن أسباط فسأل عنه. فقيل له: ((وقف بالباب طويلا وانصرف)). فقال: ((إن هذا الرجل ممن عمر هذه المنزلة مدة طويلة، ولست أشك أن مجيئه لحاجة له، ومن الجميل أن أركب إليه فأقتضيه حوائجه، وأبلغ فيها محبته)). ثم ركب وسرت معه، حتى دخلنا دار إسماعيل بن أسباط -وهي التي ملكها الشير بعده-، فرأينا دارا عارية من الستور والفرش، وتأملنا من فيها من الحشم على حال سيئة. فاستقبله إسماعيل بالشكر والدعاء له، فقال له الواسطي: ((إنه لا فرق بينك الساعة عندي في المرتبة التي كنت فيها. ومن جمالنا فيما أفضى إلينا أن نحسن فيه خلافة من تقدمنا، وأن نراهم كالآباء المستحقين البر من أولادهم))، وسأله عن حاجته، فقال: ((أخبرك بها بعد أن أحدثك بشيء يدل على أن المعروف ينفع عند مستحقه من غير المستوجبين له)).
((كانت لي -أيدك الله- دار خيل نحو المنظر، وكنت أركب إليها في غداة الليلة التي أعاقر فيها إخواني. فركبت إليها يوما فألفيت في الصحراء، جمعا من العامة، وقد ضاقت بهم، ومعهم عامل المعونة. واستقبلتني امرأة قد هتكت #13# سترها، وكشفت شعرها، فقالت: ((يا سيدي! أخي ، وواحدي، وكافلي، يعرض على القتل الساعة!)). فعدلت إلى صاحب المعونة وسألته عن حال الناس، فقال: ((اجتمعنا لضرب خناق بالسوط))، فقلت له بحضرة الناس: ((ما حق هذا إلا الإحراق بالنار، وأنا أكتب فيه إلى السلطان))، فأعلن الجميع بالدعاء لي، وانصرفوا. فسألته البعثة بالخناق إلي، فوعدني بذلك في المساء. فلما صليت عشاء الآخرة أنفذ إلي منه شابا مكفهر الوجه لا تخفى قسوته، فقلت له: ((أما تستحي من الله وتخافه في طعمتك؟))، فقال: ((يا سيدي! أنا أشهد الله أني لا أعاود هذا الفعل أبدا))، فأوصيته بخير، وأضفت إليه من أخرجه عن البلد في حال ستر)).
((وأقمنا بعد ذلك سنين، وتقاصرت أمورنا وتغيرت أحوالنا بتقليد إسحاق بن تميم علينا. فلما بلحنا بما نطالب به، أشخصني وأخي أحمد إلى الحضرة، فطالبنا الوزير بما لفقه ابن تميم علينا، فشكونا إليه شدة اختلالنا، فقال: فلان!)) فوافاه رجل بمنزلة أثيرة عنده: غليظ الطبع، كريه الوجه، تتأمل الشر في سجاياه، فقال: ((استخرج من هذين مائة ألف دينار اليوم)).
فانتزعنا من بين يديه بفظاظة أيقنتنا بالهلكة، ثم صار بنا إلى حجرة له في دار الوزير، فسألنا عن بلدنا ونسبتنا، فلما سمع ((أسباط)) سكن فوره ورق قلبه، وقال: ((من تكونون من إسماعيل؟)) فقلت: ((أنا إسماعيل!)) فبكى وأنكب على رأسي ورجلي، وقال لي: ((يا سيدي أتعرفني؟)) قلت: ((لا))، قال: ((أنا الخناق الذي أطلقتني بمصر! ووالله ما خنقت أحدا بحمد الله بعد إطلاقي، ولكن شراسة طبعي عدلت بي عن الزهادة إلى ما دون الخنق، وهو استخراجي للوزير الأموال بالتعذيب، وقد وجد عندي فيه ما لم يجده عند غيري)). ثم طعن في تلك الحجرة فأخرج إلي صندوقا يحمله غلامان، فقال: ((في هذا من #14# المال والحلي ما نكتفي به، فقوموا بنا حتى نهرب لئلا يقع بكم باس)). فأعلمته أنا نخاف في الهرب تتبع الولد والأهل: فرجع إلى الوزير يبكي بين يديه ويحدثه محلنا -كان- وما أوليناه، فعجب الوزير من رقته علينا، لما وقف عليه من فظاظته، وكان -شهد الله- أقوى الأسباب في دفع المطالبة عنا .
((ثم سأل أبا عبد الله الواسطي -بعد هذا الحديث- حوائج وقع بها في مجلسه، ووكل بها متنجزا من خاصته، ولم تزل ألطافه تعتاده إلى أن توفي)).
Sayfa 12