وعكف الإفرنج بعد ذلك على الطرب والقصف، وأقاموا مراقص فجمع كربوغا صاحب الموصل عسكره، وسار فحل بمرج دابق، واجتمع إليه دقاق بن تتش صاحب دمشق المار ذكره، وجناح الدولة صاحب حمص وغيرهم من الأمراء، وحاصروا أنطاكية فعظم خوف الإفرنج، ولم تكن لهم أزودة وطلبوا من كربوغا الأمان، فلم ينالوه وأساء كربوغا السيرة في من معه، فخبثت نيتهم عليه وأضمروا له الغدر، فخرج الإفرنج واقتتلوا مع المسلمين ، فولى هؤلاء هاربين دون أن يضرب أحدهم بسيف ولا طعن برمح أو رمى بسهم، وانهزم كربوغا معهم، فظن الإفرنج ذلك مكيدة فلم يتتبعوا آثارهم بل قتلوا كثيرين ممن أدركوهم، وغنموا ما كان لديهم من الأقوات والسلاح، ولم يكن الإفرنج ملكوا القلعة، بل كان فيها حامية من المسلمين لما رأوا ما حل بعسكر كربوغا استسلموا إلى الإفرنج، وتنصر بعضهم وذهب بعضهم يروون ما رأوا من سطوة الإفرنج وصولتهم، فملك الرعب قلوب السوريين، ووجد الإفرنج حينئذ في أنطاكية الحربة التي طعن بها جنب المسيح وهو على الصليب، وتؤيد ذلك بآيات صنعها الله بواسطة الحربة أتينا على تفصيلها في تاريخنا المطول (مجلد 6 صفحة 23). (2) في مسير الإفرنج من أنطاكية إلى أورشليم
بعد أن استحوذ الإفرنج على أنطاكية فتحوا المعرة وحمص وشيزر، وسار غودفروا رئيسهم بالجيش من أنطاكية في أوائل آذار سنة 1099، فاجتازوا باللاذقية وجبلة وطرسوس فدانت لهم وخيموا حول عرقا وحاصروها، فأقبل عليهم وفد من قبل الخليفة الفاطمي بمصر يبلغهم أن عساكره استحوذت على أورشليم وفلسطين، ولا يستطيع أن يفتح أبواب أورشليم إلا لحجاج أعازل لا سلاح لهم، فرفعوا الحصار عن عرقا، وأسرعوا بالمسير إلى أورشليم فاجتازوا بجانب أطرابلس، وأراد واليها أن يعترض مرورهم فهزموه وأصحابه، وأقبل إليهم جمع من النصارى سكان لبنان وهدوهم إلى ثلاث طرق يسيرون بها إلى أورشليم إحداها على ساحل البحر، والثانية في وسط البلاد والثالثة بسورية المجوفة، فآثروا طريق الساحل لقربها من إسطول بيزا وجنوا الذي كان يمدهم في مسيرهم، فمروا بالبترون وجبيل، وكان نصارى لبنان يقدمون لهم الأزودة وكان الحبسى يخرجون من محابسهم، ويأتون إليهم داعين لهم، وعند مرورهم ببيروت وصيدا وصور قدم لهم المسلمون ما يحتاجون إليه؛ كيلا يسطوا عليهم، ولما انتهوا إلى عكا خرج إليهم واليها واعدا، ومقسما أنه يسلم إليهم المدينة متى فتحوا أورشليم فجاوزوها، وساروا إلى قيصرية فلسطين، وأقاموا بها أربعة أيام لعيد النصرة ، واستحوذوا على اللد والرملة في طريقهم.
ولما عرف المسلمون بدنوهم من أورشليم هاجوا، واجتمعوا من عدوتي الأردن ونابلس إلى أورشليم ونكلوا بطريقهم بالنصارى، ونهبوا الكنائس، وبلغ الإفرنج إلى بيت المقدس وكان قبلا لتتش والي سورية ملكه من يد الفاطميين أصحاب مصر، فاسترده الفاطميون منه واستنابوا فيه رجلا يعرف بافتخار الدولة، فحاصره الإفرنج نحو أربعين يوما وملكوا المدينة، ولبثوا أسبوعا يقتلون فيها المسلمين واعتصم جماعة منهم بمحراب داود وقاتلوا فيه ثلاثة أيام فبذل لهم الإفرنج الأمان، فخرجوا ليلا إلى عسقلان وأقاموا بها، وقتل الإفرنج خلقا كثيرا من المسلمين في الجامع الأقصى، وانتهبوا ما كان بالصخرة والجامع الأقصى من قناديل الذهب والفضة إلى غير ذلك من الغنائم، وكان ذلك سنة 1099، ووقع الخلف بين السلاطين السلجوقية، فتمكن الإفرنج من البلاد واختاروا ملكا لأورشليم غودفروا دوك لوران، فكان أول ملك من الإفرنج عليهم. (3) في ما كان في أيام غودفروا إلى وفاته
لما بلغ الخليفة الفاطمي بمصر ما أجراه الإفرنج على أهل القدس أرسل الأفضل أمير الجيوش إلى عسقلان، فأرسل يهدد الإفرنج، فأعادوا الرسول بالجواب وساروا في أثره فالتقاهم المصريون ولم يكونوا متأهبين للقتال، فهزمهم الإفرنج وقتلوا جماعة منهم، واستتر جماعة بشجر الجميز فأحرق الإفرنج بعض الشجر، فهلك من فيه وعاد الأفضل قائدهم إلى مصر، وضايق الإفرنج عسقلان فبذل لهم أهلها قطيعة من المال فعادوا إلى القدس.
وأرسل غودفروا تنكراد إلى الجليل، فاستحوذ على طبرية وعدة مدن على ضفتي الأردن ونصب حاكما فيها، وقدم بودوين كنت الرها أخو الملك غودفروا وبيومند أمير أنطاكية لزيارة أورشليم، ومعهما جم غفير فاغتنم غودفروا فرصة وجود الأمراء اللاتينيين بأورشليم ليسن نظاما لتدبير مملكته الحديثة، وجمع رجالا علماء وأتقياء لوضع هذا النظام على منهاج سنن الإفرنج، ومن هذا النظام أن يكون الملك في أورشليم واحدا يتصل إليه الملك بالإرث، ولو كان الوارث أنثى، وإن لم يكن وارث فلعلية الإكليروس ورؤساء أصحاب الإقطاعات أن يختاروا ملكا.
وكان غودفروا يأتي متواترا لنجدة تنكراد في حروبه مع أمراء الجليل، واتصل أحيانا بحملاته إلى ما وراء لبنان حتى دمشق وغزا حوران وعاد ظافرا، ولكن اعتراه مرض عند عوده من إحدى حملاته لازمه ثلاثة أسابيع ، فقضى مزودا بالأسرار المقدسة في 17 تموز سنة 1100 ودفن في كنيسة القبر المقدس. (4) في الملك بودين أخي غودفروا وبعض الأحداث في أيامه
بعد وفاة غودفروا اختار رؤساء الجنود والشعب بودوين أخاه ملكا على أورشليم، وكان أميرا في الرها فتخلى عن إمارتها لابن عمه بودوين دي بورج، وعند مسيره إلى أورشليم اعترض له في طريقه دقاق صاحب دمشق، وجناح الدولة صاحب حمص، والتقى الفريقان في معبر نهر الكلب، فانتصر بودوين عليهم، وخرج للقائه الشعب والإكليروس من أورشليم، وأدخلوه كنيسة القيامة باحتفاء عظيم.
ولم يلبث في أورشليم إلا أسبوعا وألب فرسانه ونخبة جنوده وسار نحو الخليل والبحر الميت، حتى انتهى إلى البرية، ولم يجد معارضا فعاد إلى أورشليم عاكفا على تدبير شئون ممكلته حتى كان يصرف كل يوم ساعات في فصل دعاوى مسوديه، ولم يكن ذلك يعوقه عن حملاته على بلاد المسلمين، وفتح أرسوف وقيصرية فلسطين، وحارب المصريين في سهول حيفا فانتصر عليهم نصرا مبينا، وبين كان مرافقا بعض الحجاج إلى يافا خرج عليه بعض أعدائه من عسقلان، وأصلوا عليه نار الحرب وليس معه إلا مائتا فارس وقليل من الرجالة فاقتحم القتال، وكان أعداؤه نحو عشرين ألفا، فأرغم أن يهرب إلى الرملة ولم يكن بها في مأمن، فهداه رجل مسلم إلى طريق خفي نجا به، وكان هذا الرجل زوج امرأة وجدها بودوين مطلوقة، فلطف بها وأقام لها جارية تخدمها وتسير معها بعد ولادتها إلى زوجها، فأراد هذا الرجل مكافأته عن صنعه إلى امرأته.
وعاد بودوين بسفينة إلى يافا وضوى إليه عسكر شديد، فهاجم أعداءه وبدد شملهم، وفي سنة 1104 استعان بودوين بالزائرين الذين أتوا من بنيزا وجنوا فافتتح عكا، فراع هذا الفتح المسلمين في دمشق وعسقلان ومصر، وظهر أسطول مصري تجاه يافا وزحف جيش من عسقلان إلى صحارى الرملة فهب الإفرنج لمناوأتهم، وخرج بودوين من يافا فأوقد نار الوغى عليهم، فقتل أمير عسقلان وخلق كثير، وغنم الإفرنج كثيرا من خيلهم وجمالهم ومالهم وعادوا إلى يافا، فيئس أصحاب الأسطول المصري من الفوز، وأقلعوا فسار بهم عاصف فغرق بعض سفنهم.
وقد حصر الإفرنج أطرابلس مرات من سنة 1102 إلى سنة 1110، حين سار برتران بن ديموند كنت سان جيل إلى المشرق ومعه سبعون سفينة من جنوا، فهاجم أولا جبيل فملكها ثم سار لحصار أطرابلس وأتى بودوين الملك يعاونه وضايقوا المدينة، فلم ينجدها أحد فاستسلم أهلها إلى الإفرنج بشرط أن يكونوا أحرارا، فمن شاء الخروج خرج بما يمكنه حمله، ومن شاء البقاء لزمه دفع الجزية، فأمست أطرابلس وعرقا وطرطوس وجبلة عملا من أعمال الإفرنج، وتولاه برتران بن ديموند كنت سان جيل خاضعا لملك أورشليم، وبعد ذلك جمع بودوين عساكره حول بيروت وحاصرها شهرين، فاستسلم أهلها إليه، وكان سيكور ابن ملك نورنج حضر إلى أورشليم بعشرة آلاف رجل من مملكته، فسار أسطول سيكور إلى صيدا، واحتاطها بودوين وكنت أطرابلس ستة أسابيع، فسلم أهلها مفاتيح مدينتهم إلى بودوين بشرط أن يخرج منها من أراد بما يمكنه حمله، فخرج منهم خمسة آلاف واستمر الباقون خاضعين لملك أورشليم.
Bilinmeyen sayfa