لقد كان حالما وقد خذلت الحياة أحلامه، ولم أعرف بعد إن كان الحلم مرضا أم أن الحقيقة لا ترى إلا عبر الحلم، كثيرة هي الأشياء التي لا أعرفها، وما أعرفه تماما أن رامز كان هنا عندما جئت أول مرة.
أول الأمر أطلعني على مشروعه في المصحة، وكان عبارة عن تأسيس نقابة تكفل حقوق المجانين، هزأت بالفكرة في سري رغم أنها راقت لي، بل وأثارت اهتمامي لأعرف أكثر شخصية رامز، ربما من باب الفضول وربما من باب التعرف على هذا المجنون.
حدثني عن سلمى، قال إنها كانت تشاركه مشروعه وفكرته عن الحياة، قال إنها تجسر على فعل وقول ما لا يجسر عليه أعقل العقلاء، قال إنها قتلت، أما عنايات فقد قالت حينها إنها انتحرت، قالت إن سلمى صعدت إلى أعلى المصحة وألقت بنفسها، الكل كان يبكيها، أما رامز فلم يبك، أصر على جموده وقوله: «سلمى قتلت .. حتى لو انتحرت، فثمة قاتل ما.»
ودون فواصل أو ترتيب منطقي لقصته راح يحدثني عن المجانين هنا، كان يحب مصطلح مجنون كثيرا، بل ويومن بأن المجانين وحدهم من يلامسون أذيال الحقيقة، أولئك المجانين الذين فرض عليهم أن يعيشوا حياة عادية في عالم غير عادي، هكذا يقول، وقد بذلوا في سبيل ذلك شتى وسائل القمع، نعم لقد قالها بوضوح، قال: «القمع». وقد حدثني كيف تتهرأ أجسادهم لفرط الحبوب المهدئة ولكن لم يهدأ أحد، كان رامز يعرف جيدا أن الحياة العادية الرتيبة المنشودة من قبل إدارة المصحة ليست أكثر من خطة للقبول بالمعاناة.
كان يومن أن فساد هذا العالم ينصب على المقهورين وحدهم، وأن الحياة في عالم كهذا لا يمكن لها أن تنجب أناسا عاديين إلا بالتخدير؛ فالمجانين برأيه هم أولئك الذين لم تستجب عقولهم وأجسادهم للتخدير الحياتي اليومي، فوضعوهم في مصحة ليقدموا لهم جرعات أقسى وأكثر عنفا. «سلمى لم تطق رتابة الحياة.» قال لي وأردف باكيا: «سلمى تعجز عن الصمت، فباحت بما يجري، فقتلوها محاولين إسكاتها بإسقاطها عن سطوح المصحة.»
اسمعني جيدا، فأنا أقول لك ما حدث، أرجوك أن تصغي لما أقوله .. لم يعجبهم أن يتعثر رامز بالحقيقة، أو فلأقل إنه وجد لنفسه حقيقة ما يعيش لأجلها. وكان لا بد من علاجه فجربوا معه وسائل أخرى، وكان كل يوم يعود إلى هذه الغرفة منهكا دون أن أعرف ماذا يفعلون به، سألته مرة عن ذلك، فأجابني: «يقحمون أشياء غريبة في جسدي وعقلي فأخرج، وأتبرز في الحمام لأتخلص من ترهاتهم.» وظل على تلك الحال إلى أن أخذته مديرة المصحة خارج الغرفة، ولم يعد.
بعد عدة أيام، سمعتهم يحتفلون لأعرف فيما بعد أنهم نجحوا، ولم أعرف كيف .. في تلك اللحظة شعرت بأن كل شيء قيد الانهيار. أيعقل أن تسقط كل الأحلام بهذا الشكل؟ تلك الأحلام المعدية الغريبة، تلك التي تحمل في طياتها حقيقة ما، إنها تسقط دفقة واحدة .. كان يحلم بالعدالة في هذه المصحة التي رفض أن تصححه ولم يصح أبدا، فهو يدرك جيدا بأن الجنون هو الاعتراف بقذارة العالم، أما الآن فيستسلم للعلاج ويتعافى من حلمه وجنونه وفيما كنت منهمكا بهواجسي سمعت شيئا ما يسقط.
كان الارتطام قويا جدا، يكفي أن تسمعه لتصحو من هواجسك ثم تتساءل ببساطة: «أين رامز إذن؟ وإن كان فعلا قد تعافى، أم هي محض خدعة؟» لم أقبل بهذه النهاية، ورحت أطرق الباب بقوة؛ لأفهم ما الذي حل برامز فعلا.
استجابت عنايات لصوت الطرق، وجاءتني، سألتها عن رامز وعن مصدر ذاك الارتطام الغريب، فقالت: «هما شيء واحد»، ثم أخبرتني أن رامز قرر أن يصعد إلى أعلى المصحة، وظل يصعد حتى وصل أعلى نقطة، ومن هناك هوى، سألتها: «كيف سقط؟» فأجابتني: «سقط سهوا» .. قد تضحك وتقول إنني أقول شعرا سخيفا، فكر كما شئت، ولكن هذه هي الحقيقة، أسقطوه سهوا، وأسقطوا اسمه من القوائم، فقد جاءت مديرة المصحة وأخذت عنايات كي لا تواصل حديثها عن سقوط رامز، وبقي الأمر معلقا إلى أن قالت المديرة بصراحة ووقاحة ووضوح: «رامز لم يوجد قط.» •••
سمعت القصة حرفا حرفا، ونسيت أن أتأمله كيف يحكي وغرقت بما يحكي، بل نسيت دوري كله في المسرحية .. من القسوة أننا جميعا في الفرقة نعرف نصوص شخصياتنا ولا نعرف قصصها، فكيف لمجنون حلق إلى أعلى درجات الحلم أن يهوي؟ كيف لشخص كان هنا ألا يكون لا هنا ولا في قوائم المصحة؟ ومما لا ريب فيه أن حلمي تأثر برامز كثيرا، وبسببه أصيب بالحلم والجنون معا.
Bilinmeyen sayfa