الفصل السادس
وصف محمد علي وتقدير عمله
أما وقد ألقينا نظرة سريعة على أهم حوادث تاريخ محمد علي، فإنه لم يبق علينا إلا أن نعرف الرجل وصفا وأخلاقا - ولو أن الحوادث التي رويناها ومواقفه فيها أظهرت كثيرا من صفاته وأخلاقه؛ لأن خير ما يصف الرجل التاريخي مواقفه في حوادث تاريخه - وأن نزن في ميزان الإنصاف عمله، ونرى إلى أي النتائج أدى. •••
كان محمد علي ربعة القامة، واسع الجبين، بارزه، مقوس الحاجبين جدا، ذا عينين سوداوين، غائصتين في دائرتيهما، وأنف ضخم يغلب عليه الاحمرار، وفم صغير باسم، وكان يتجلى على ملامحه مزيج موزون من الذكاء الدقيق والبشاشة المحببة، على أن تلك الملامح كانت تتشكل بسرعة، بشكل انفعالات قلبه، وكانت لحيته الجميلة البيضاء - واعتناؤه بها كان كبيرا - تحيط وجهه بهالة من نور.
وأما يده فكانت آية في حسن صنعها، وكان قوي البنية سليمها، أنيق الحركة، ثابت المشية موزونها، كأن عليها مسحة من الدقة العسكرية، على أن جسمه كان إذا مشى يترجرج قليلا، مع تمام انتشار قده، وكثيرا ما كان محمد علي يجمع يديه خلف ظهره، ويخطر - وهو كذلك - ذهابا وإيابا في حجر سراياته.
ولم يكن يحب البذخ في الملابس، بل كان يبالغ في بساطتها إلى درجة أن كثيرين ممن لم يكونوا يعرفونه شخصيا، كانوا يظنون أنه أحد الأتباع، لا الباشا العظيم نفسه، وكان الوقار والجلال يكسوان جميع حركاته وسكناته؛ فما كنت تستطيع وأنت في حضرته أن لا تؤخذ بمهابته، وتقول في نفسك «هذا ملك، حقيقة!» مع أنه لم يكن يحتاط البتة بخدم وحشم وحرس مسلح، ولم يكن يقيم على بابه إلا حاجب واحد، وإذا ما دخلت عليه في ديوانه - حيث كان يقيم أكثر أوقاته - وجدته أعزل من السلاح، يتداول في يده علبة نشوق ثمينة أو سبحة نفيسة، وكان كبير الغرام بلعب البليردو، والشطرنج والضامة، لا يستنكف أن يلعبها مع أي ضابط كان من ضباطه، ولو من أصاغرهم، بل مع نفس عساكره.
على أن قناصل الدول وأكابر القادمين في سياحة إلى القطر هم الذين كان يلعب البليردو معهم عادة، غير أنه بالرغم من قلة اعتنائه بمظاهر العظمة كان كبير التدقيق في أن لا تتعدى في حضرته حدود اللياقة والآداب الشرقية.
حكى المستر باركر في كتابه المعنون «مصر وسوريا في عهد سلاطين تركيا الخمسة الأخيرين» أنه - وهو قنصل لدولة بريطانيا العظمى في الإسكندرية - قدم لمحمد علي الأميرال سير بلتني مالكولم فقابله محمد علي وكل وجهه بشاشة وابتسام لا سيما أنه كان في ذلك الوقت كبير الاهتمام بعمارته البحرية ويرغب أن يكلم في شئونها ذلك الأميرال الإنجليزي، وحدث أنه أثناء المحادثة أبدى ملحوظة جعلت الأميرال يضحك بقهقهة طويلة فأنكر محمد علي ذلك عليه ونظر إليه نظرة المستغرب الاستغراب كله، فإنه لم يجسر أحد، إلى ذلك الحين، أن يضحك في حضرته ضحكا عاليا كضحك ذلك الأميرال، على أن هذا لم ينتبه إلى أن عمله كان مغايرا للآداب المطلوبة في حضرة الأمراء والملوك، إما لخفة في عقله وإما لاستهتار منه بأمير شرقي، فأغرق في الضحك عينه مرة ثانية، فمرة ثالثة، فأدرك محمد علي أن ذلك عادة عند الرجل ولكنه غضب منها، ولم تنته مقابلته للأميرال بالبشاشة التي بدأها بها.
وحدث بعد ذلك بعدة أيام أن إنجليزيا آخر موصى عليه من المراجع العليا طلب مقابلة محمد علي وقابله بواسطة المستر باركر عينه ولكنه أبى أن يمتثل للتعليمات التي أسداها له القنصل بشأن كيفية سلوكه في حضرة الأمير، لظنه أنه أدرى بآداب السلوك من المستر باركر، فدخل على محمد علي مرتديا جاكتة بيضاء وبطربوش على رأسه، ولما جلس بين يديه انتزع الطربوش من على رأسه، فبدا رأسه أصلع تمام الصلع أمام عيني الأمير.
فاستنكر المستر باركر عمله وما فتئ يومئ إليه بلبس الطربوش لعلمه أن العادات الشرقية تحتم تغطية الرأس في حضرة الكبراء، ولكن صاحبنا لم يلتفت إلى إشارات القنصل واستمر على ما هو عليه وزاد اعتقاده في أنه أدرى بالآداب الشرقية من القنصل.
Bilinmeyen sayfa