فمضت خمسة أيام، ولم يأتهم رد، فملوا الانتظار، وذهبوا جميعا إلى دار ناظر المهمات للاستفهام، فقال لهم هذا الضابط: «إن الباشا مستعد لسماع أقوالكم على شرط أن تذهبوا إليه!»
فأوفد المشايخ اثنين منهم إلى محمد علي، فاستقبلهما ببشاشة، وقال: «أبلغا أسيادنا العلماء أني مستعد دائما لقبول نصائحهم، حتى لو كانت زجرا، ولكني لا أقبل مطلقا الاجتماعات والمخامرات والمؤامرات، فقولا لي من هم الذين أقسموا يمين المقاومة لي!» فلم يجيبا وعادا إلى قومهما بما دار بينهما وبين الباشا من حديث.
وكانت نيران الحسد ترعى منذ مدة قلوب المشايخ، من السيد عمر مكرم لمنزلته الرفيعة عند محمد علي، وكان النقيب في هذه الحادثة روح المقاومة، وبلغ به التحمس فيها أنه قال في اجتماع تال: «إننا نرفع أمرنا إلى الباب العالي، إذا استمر الباشا على غيه، وإني لأتكفل بإنزاله عن السدة التي رفعته أنا إليها!»
فاغتنمها المشايخ فرصة للإيقاع به عند محمد علي، وبلغ من تحاملهم على الرجل أنهم حرضوا الباشا عليه قائلين: «لا تخفه؛ فإنه لا شيء بلانا!» فأكرمهم محمد علي، وبالغ في تقديم التحف إليهم، ثم أفهمهم بأنه إنما استولى على أوقاف المساجد ليصلح ما فسد من أمر جباية الضرائب.
وبعث بعد ذلك يستقدم السيد عمر مكرم، فرفض النقيب الذهاب، فأعاد محمد علي الكرة، فأجاب النقيب: «إذا كان لا بد للأمير من مقابلتي، فليوافني إلى بيت الشيخ السادات!»
فأرسل محمد علي حينئذ سلحداره إليه، مكررا طلبه فما زاد ذلك السيد عمر إلا إصرارا على عناده.
فاستدعى محمد علي حينذاك القاضي وجميع العلماء، ولما استقر بهم المجلس بعث طلبا رسميا إلى السيد عمر مكرم بالحضور، وإذ قوبل هذا الطلب أيضا بالرفض استفز الباشا عليه نفوس الحاضرين - وكان الحسد قد جعلها على استعداد تام لذلك - وعزله في الحال من نقابة الأشراف، وقلدها الشيخ السادات مكانه، ثم طلب إلى الجمعية الحكم بنفي السيد عمر، فأجابت، على أن يمهله ثلاثة أيام.
فرضي محمد علي بالمهلة على شرط أن لا تكون أسيوط محل النفي؛ لأنها مسقط رأس السيد، فعينت له دمياط.
ثم استكتب محمد علي الجمعية عرضا ألصقت فيه بالسيد عمر تهم عديدة تبرر عزله، وأرسل ذلك العرض إلى الباب العالي، لإعلامه بما تم.
فكانت نتيجة انقسام المشايخ على أنفسهم، وارتكابهم من الأمور ما كانوا يعلمونه مخالفا لضمائرهم، أن هيبتهم ضاعت من النفوس، ومكانتهم فيها تلاشت، وأن محمد علي أصبح لا يخافهم ويعتبرهم آلات صماء بين يديه، كما أنه أصبح مطلق اليدين فيما استولى عليه لتعمير خزائنه.
Bilinmeyen sayfa