فألهبت هذه الخطبة الوجيزة البليغة أفئدة جميع الحاضرين - وكانوا أكثر من سبعين زعيما - فأقسموا في الحال القسم المطلوب منهم، ولكي يجعلوه مقدسا قداسة لا يتمكن أحد معها من العبث به - مهما اشتدت صروف الليالي - أحاطوه بسياج، عادة ألبانية قديمة: فأمسك اثنان منهم - وكانا أكبر الموجودين سنا - حسام محمد علي من طرفيه ومداه، فمر الجميع فوقه واحدا بعد الآخر، ولم يكن يمكن بعد ذلك - إلا للموت - أن يحل عروة تعهد عقدت بمثل هذا الشكل.
ثم أقدم الحضور على اكتتاب فيما بينهم، فجمعوا - من وقتهم - ألفي كيس سلموها إلى محمد علي، وسرعان ما أرسل هذا رسولا من قبله إلى الأستانة بالتحاويل السمينة، وسرعان ما جد بعد ذلك في تجهيزاته الحربية.
ثم جمع العلماء وعلى رأسهم السيد عمر النقيب والشيخ عبد الله الشرقاوي، وفاوضهم في الأمر، فأجمع رأيهم على إرسال كتابة إلى الباب العالي يشرحون له الحال، ويعرضون بالأمراء المماليك بجارح الكلام، ويحبذون أعمال محمد علي، ولكن بكياسة لا تجعل مجالا للاعتقاد بأن الكتابة موحى بها منه، ثم إذ أتاهم كتاب من القبطان باشا يعرفهم فيه بما قر عليه رأي الديوان، سألوا محمد علي عما يجب أن تكون إجابتهم عليه، فقال لهم: «سأرسل إليكم غدا بصورة الرد.» وفي اليوم التالي أرسلها إليهم فنسخوها، وإذا بها تقول للقبطان باشا إن الجند قد لا يطيعون أميرهم، وقد يثورون إذا علموا باضطراره إلى الرحيل، فيعبثون بالأمن والنساء، وسموه رحيم لا يرضى بذلك.
فاتضح من هذا جميعه أن محمد علي مصمم عل عدم تنفيذ أوامر الديوان، وأن لا شيء يحوله عن تصميمه، وفاتح - هو نفسه - بعض أخصائه في الأمر، فقال لهم: «أيظنون أن مصر دار حمام مفتوحة يدخلها من يشاء؟ إني قد اكتسبتها بحد حسامي! ولن أتخلى عنها إلا مكرها بقوة السلاح، أنا أعرف الأتراك؛ هم قوم يبيعون أنفسهم إذا وجدوا من يشتريها، فأنا سأشتريها، قد فزت بالولاية العام الماضي وأنا على رأس خمسمائة جندي فقط مقلقلي العزم، أفأتخلى عنها اليوم ولدي ألف وخمسمائة بطل كلهم ولاء لي؟!»
وبينما موسى باشا على ظهر سفينة يلح على القبطان باشا بتنفيذ أوامر الديوان، وبينما القنصل البريطاني بالإسكندرية يهتم اهتماما فائقا لحمل القبطان على العمل، ويرسم له خططا للهجوم، ويجند أرواما وإيطاليين في الإسكندرية ويرسلهم مددا إلى الألفي الذي كان في ذلك الوقت يحاصر دمنهور، ويجتهد في تفهيم محمد علي بأن إنجلترا تضمن له البقاء واليا على سلانيك إذا هو رضي بالذهاب إليها، وبينما الألفي - وكان قد وعد الأستانة بألف وخمسمائة كيس، بضمانة الخزينة البريطانية، إذا هي أخرجت محمد علي من مصر - يجد لحمل باقي الأمراء على الاشتراك معه في دفعها ولا يفلح؛ أقبل قنصل فرنسا يضع الألغام تحت مساعي زميله القنصل البريطاني، ويحول إلى محمد علي خدمة خمسة وعشرين مملوكا فرنساويا كانوا تحت لواء الألفي، وما فتئ يؤكد للسفير الفرنساوي في الأستانة أن محمد علي صديق صدوق لفرنسا، وأن بقاءه واليا على مصر يتفق دون وجود سواه - أيا كان - مع المصالح الفرنساوية في القطر، وأقبل السفير الفرنساوي في الأستانة يعضد مساعي الرسول الذي أرسله محمد علي إليها بالحوالات السمينة ، ويعضدها بكل النفوذ الذي كان يستمده من مولاه ناپوليون الأول، صاحب الكلمة العليا في أوروبا، بعد أن قهر النمساويين والروس في وقعة اوسترلتز سنة 1805.
فبعث الديوان إلى القبطان باشا يكل إليه التصرف المطلق في الأمر، وكان القبطان باشا قد أرسل مندوبا إلى الألفي ليأتيه بالألف والخمسمائة كيس السابق ذكرها، فعاد المندوب إليه وقال: «إن الأمير محمد بك الألفي، لعدم تمكنه من الاتفاق مع زملائه على أن يقوموا جميعهم بدفع ذلك المبلغ، يعرض على سموكم أن تقبلوا منه وحده خمسمائة كيس!» فاستشاط القبطان غيظا وقال: «أيظن هذا الرجل أن لحية الصدر الأعظم ولحيتي هزأة؟!» وأقبل في الحال على مخابرة محمد علي في اتفاق يبرمانه.
فاستقر الرأي على أن يدفع محمد علي أربعة آلاف كيس، وأن الديوان والقبطان يبقيانه مقابل ذلك في منصبه، على أن يعود العلماء والأعيان إلى التماس ذلك بعريضة؛ لكيلا يقال إن ذمة الديوان اشتريت، فكتب العلماء والأعيان العريضة وسافر إبراهيم بك ابن الوالي الأكبر بها وبهدايا فاخرة إلى أمير البحر، وبقي رهينة حتى يفي أبوه بتعهده المالي، وأرسل القبطان باشا كتخداه إلى القاهرة بالمرسوم المثبت محمد علي في ولايته، على أن يمتنع عن محاربة المماليك ويتصالح معهم، ففرحت القاهرة ثلاثة أيام متواليات.
وأقلع القبطان باشا في اليوم الثالث من أكتوبر بعمارته، وعاد بموسى باشا والي سلانيك من حيث أتى به، وفي 2 نوفمبر - وكان محمد علي قد دفع الأربعة آلاف كيس - قدم كابدجي من الأستانة بفرمانين: أحدهما يقر محمد علي على سدته، والثاني يأمره بتسفير الحج والمحمل وإرسال ستة آلاف إردب بر إلى جدة.
واستمر الأمر كذلك من دفع أموال سنويا، وتثبيت سنوي، حتى استتبت قدما محمد علي، وأصبح مركزه في مأمن من تقلبات أهواء الديوان. •••
على أنه لم يثبت في مأمن من دسائسه ومكائده إلا بعد أن قضى كتخداه محمد بك لازوغلو على لطيف باشا، آخر من استعمله الديوان لاستخلاص مصر من يدي محمد علي.
Bilinmeyen sayfa