Muhalhil Sayyid Rabi'a
المهلهل سيد ربيعة
Türler
الفصل الرابع عشر
سار المهلهل من معسكر بكر بعد أن أطلقه الحارث بن عباد وهو يجر رجليه، وكان الليل البهيم يلف الصحراء في ردائه الأسود ، فلا يظهر منها في ضوء النجوم الخافت إلا الأفق البعيد خطا متموجا غامضا، وكان يخيل إليه أن ذلك الليل الأسحم يجثم على الأرض فيثقلها، ويهبط بها إلى أسفل في الفضاء. كان رأسه يميد به وخياله يضطرب، وأعضاؤه المتعبة المثخنة بالجراح تنبض بالألم كأنها تضج بالأنين. وكان قلبه أثقل على صدره من ذلك الليل يخفق في خمود وتباطؤ، كأن ضرباته خبط ناقة عشواء ضالة في الظلام.
وجعلت صور حياته تتوارد على ذهنه سراعا كما تتوارد الصور على ذهن الغريق. لقد سار بقومه حينا إلى النصر، وساد فيهم ما ساد حتى كاد يبلغ فيهم مكانة أخيه كليب، ومضت عليه السنون وهو يحرز النصر بعد النصر، ويسفك الدم بعد الدم، ولكن ذلك كله لم يرو غلته من الانتقام، بل كان كلما زاد من القتل والطعن اشتد ظمؤه إلى القتل والطعن، حتى صار القتال قصد حياته كلها، فأنساه المجد والسلطان، وأغلق قلبه عن الرحمة والسلام، ولم يبق في قلبه موضعا لمودة أو رحم. ولم تخمد ثورته لما اعتراه من ضعف، أو ما أصابه من هزيمة؛ فقد كان وهو يجرر رجليه بعد خروجه من معسكر الحارث بن عباد لا يزال يتمثل صور الطعنات التي يدخرها، والضربات التي يعتزم أن يسددها، والدماء التي يريد أن يسفكها. كان غليله الثائر لا يزال يضطرم في قلبه المكدود، لم يزده الخذلان إلا عنفا، ولم تزده الهزائم إلا قسوة.
ومرت بذهنه صورة بجير بن الحارث ابن أخته المسكين، وهو يتوسل إليه بالرحم أن يدعه فلا يسفك دمه بغير جريرة، وتذكر صاحبه الشجاع امرأ القيس بن أبان، وهو ينصحه ألا يمس الفتى البريء بسوء وهو ابن أخته، وتذكر ما جره عليه قتل الفتى من مصائب، بعد أن ثار أبوه الحارث ثورته. تذكر هذا كله ولكن قلبه كان لا يزال يشتعل بالحقد والغل، فلم يحس ندما بل علت وجهه المتعب بسمة قاسية، كأن ذكرى ذلك المنظر قد بعث فيه نشوة وارتياحا. ثم تذكر امرأ القيس بن أبان وهو قتيل عند قضة، وتذكر الخيانة التي زل إليها عندما أباح لحقده أن يخدعه ويملك عليه زمام نفسه، فأطاع الحقد ودل عليه الحارث بن عباد واشترى بالخيانة حياته. تذكر ذلك كله ولكنه لم يحس ندما، بل علت وجهه بسمة قاسية أخرى، واهتزت نفسه هزة تشبه أن تكون نشوة وارتياحا، فإن امرأ القيس كان يخالفه ويعصيه وينصحه، وما كان أحب إلى نفسه أن يتذكر منظره وهو صريع بيد الحارث أبي بجير.
وتنبه المهلهل إلى نفسه في فترة من فترات الصحو بين هذه الخواطر والوساوس، فعجب لقلبه كيف تبدل حتى أصبح كأنه يطيع شيطانا مشئوما يسوقه في سبيله، ولكنه ما كاد يحس هذا اللين يلم به حتى عادت إليه وساوسه وخواطره الدموية، وغاب في سيل من ذكريات ضرباته وطعناته.
ومرت في ضميره سانحة سريعة من الأسف والخجل عندما تذكر خدعته التي خدع بها الحارث واستطاع بها أن ينجو بحياته، وتذكر ما قاله الشيخ الشجاع الفند بن سهل، إذ قال له: «ما أبالي أن أنجو بحياتي كما نجوت يا مهلهل.» لقد كانت سخرية مرة فيها تأنيب وفيها ازدراء، وما كان أحراه أن يربأ بنفسه عن تلك المذلة، فلا يشتري الحياة بذهاب الكرامة، ولكنه أغمض عينيه وهز رأسه بعنف كأنه يريد، أن يبعد عن نفسه تلك الخاطرة المزعجة، وجعل يحمل نفسه على تأمل ما يأتي به الغد القريب من وقائع جديدة يجد فيها شفاء جديدا من غليله، وفرصة أخرى ينكل فيها بعدوه، ويسفك سيلا آخر من دمائه.
مضى المهلهل في صحبة هذه الهواجس المظلمة الثائرة كأنه كان يحاول أن يختفي فيها عن نفسه، وأنس إلى ذلك الظلام الثقيل الذي حوله، وجعل ينتقل من موضع إلى موضع، ويفتح صدره لنفحات الليل الرطيبة الباردة، لعلها تطفئ النيران الثائرة فيه. وجعل يتأمل النجوم ويحادثها، تلك النجوم الأبدية التي طلعت على الأجيال جيلا بعد جيل، واطلعت على اضطراب الإنسان أبد الدهر الطويل، ثم شهدت فناءه طبقة بعد طبقة، وخيل إليه أنها في لألأتها تضحك ساخرة منه، أو أنها تضحك ساخرة من ذلك النصر الذي ظل يضطرب من أجله كل تلك السنين، فإذا هو ينهار كما تنهار الرمال، ولكنه صرف قلبه عن ذلك كله لم يبق فيه إلا تلك الوخزة الأليمة التي كان يحسها كلما تذكر أخاه البطل كليبا القتيل. نعم فإن الجرح الذي أصاب فؤاده من مقتل أخيه كان لا يزال مع مر السنين جرحا داميا موجعا.
وأخذ السير يعرج به في شعاب الفلاة، حتى انتهى به أخيرا إلى شعب خفي في ثنايا واد عميق، فسمع به حسا ينبعث مثل أصوات في حلم، حسا خفيا مضطربا غامضا.
فسار في حذر إلى طرف الشعب من وراء ثنية الوادي، وكان الظلام في داخل الشعب أكثف حلكة من الليل، فلم يستطع أن يتبين أحدا من الجلوس. فوقف وراء صخرة خوف أن يكون هناك بعض أعدائه، وأصاخ بسمعه إلى الحديث وجعل يجهد نفسه في تمييز الأصوات، وتعرف جرسها ونبراتها وخيل إليه أنه يعرفها. لقد سمع تلك الأصوات من قبل، فهي بلا شك أصوات شبان من قومه، كانت ترتفع في نوادي تغلب لكي تنصره وتهتف باسمه وتحيطه بضجة تشبه أن تكون من ترتيل العبادة والتقديس.
واستمع إلى الحديث، وكانت الأصوات واضحة في سكون الليل يزيدها وضوحا هدوء الهواء. وما كاد يقف هناك لحظات حتى كان جسمه يتفصد عرقا. كان الجدال عنيفا ولكنه لم يكن بين جانبين يتنازعان، بل كان بين عصبة مجمعة على لومه والحنق عليه وإن تجادلت في تقدير جرائره.
Bilinmeyen sayfa