Gilgameş Mahkemesi
هو الذي طغى: محاكمة جلجاميش: في عشر لوحات درامية
Türler
11
أو شعرائها بالتراث الشفاهي المأثور عن جلجاميش، وانعكاس هذا التأثير غير المباشر على تصوير بعض شخصياتها التي تتشابه صفاتها من بعض الوجوه تشابها لا شك فيه مع بعض شخصيات الملحمة البابلية (ففي أخيل وهيكتور وأوديسيوس ملامح من جلجاميش، والساحرة كيريكة في الأوديسة فيها قسمات من وجه عشتار وعنف حبها وغضبها، وربما أمكن التقريب بين مينيلاوس الذي أرسل إلى جنات الإليزيوم ليعيش مع أبطال الإغريق العظام وبين أوتنابشتيم البعيد الخالد في جزيرة الخلود، وكذلك بين بعض أبطال الأساطير اليونانية المشهورين بمغامراتهم وانتصاراتهم على القوى الخارقة - مثل هرقل وبرسيوس وثيسيوس - وبين جلجاميش في صراعه مع الأسود والمردة والثور السماوي). وإذا كان جلجاميش قد ذكر عند بعض الكتاب الإغريق المتأخرين (مثل إليانوس من أواخر القرن الثاني بعد الميلاد وأوائل القرن الثالث في كتابه عن طبائع الحيوان وحكاياتهم، الكتاب الثاني عشر، الفصل الحادي والعشرون)، فيحتمل كذلك أن تكون قصته (أي جلجاميش) قد تسربت إلى شعوب البحر الأبيض المتوسط، مثلها مثل العديد من عناصر السحر والتنجيم والفلك البابلي (وبخاصة الكلداني) والآشوري التي دخلت في مذاهب الغنوص الروحانية وفي الأفلاطونية الجديدة أو المحدثة (نسبة إلى أفلوطين المصري السكندري آخر فلاسفة اليونان العظام ومجدد الأفلاطونية، عاش من سنة 205 بعد الميلاد إلى سنة 270م)، وهنالك احتمالات أخرى - تحتاج إلى دراسات مقارنة مستفيضة لم يبلغ إلى علمي شيء منها - عن تأثير شخصية جلجاميش على الروايات الشعبية العربية عن ذي القرنين، كما وردت في كتاب التيجان وأخبار ملوك اليمن لعبيد بن شريه الجرهمي، وحكايات العجائب والخوارق التي اقترنت بمولد الإسكندر الأكبر، وعلى شخصيات كثيرة من الملاحم الأوروبية في العصور الوسطى وروايات الفرسان في أواخرها. وربما تستحق مسألة تأثيره على بعض أبطال السير الشعبية العربية أو على بعض حكايات ألف ليلة وليلة شيئا من عناية الباحثين في الأدب الشعبي العربي وعلاقته بالآداب السامية القديمة. أضف إلى هذا أن مؤرخي الفن لم يغفلوا عن النقوش التي صورت جلجاميش في صراعه مع الوحوش الكاسرة على الأختام الأسطوانية، ولا عن مجسماته بالنحت البارز في قصور الملوك الآشوريين، وبخاصة قصر خورساباد.
وأما عن الترجمات والاستلهامات الأدبية فأكتفي بذكر ما اطلعت عليه منها، أو قرأت أجزاء منه فيما قرأت من دراسات، وهو قليل من كثير؛ فمن الترجمات ما حافظ على روح الملحمة وهيكلها دون التقيد بالترجمة الحرفية التي تشوبها كثرة الثغرات والفجوات بما يتعذر معه متابعة السياق، مثل ترجمة فيلهيلم فندلانت (برلين 1927م)، وجورج بورخارت (فرانكفورت 1958م)، والأستاذة ن. ك. ساندرز (سلسلة بنجوين 1972م، ولها ترجمة عربية للأستاذين محمد نبيل نوفل وفاروق حافظ القاضي، القاهرة 1970م)، ومنها ما التزم بالترجمة الدقيقة مع استكمال الفجوات الأصلية من الشذرات البابلية القديمة أو الترجمات الحيثية، مثل ترجمة ألبيرت شوت التي سبق ذكرها، وترجمات ألكزندر هايديل، شيكاغو 1963م؛ وجاردنر ومير، نيويورك 1985م؛ وي. س. طومسون، أكسفورد 1930م؛ وأ. أ. شبايزر، ضمن كتاب بريتشارد المعروف: «نصوص من الشرق الأدنى القديم في ارتباطها بالعهد القديم»، برينستون 1955م، 1975م؛ والترجمتين العربيتين عن الأكدية للمرحوم الأستاذ طه باقر، بغداد 1980م؛ والدكتور سامي سعيد الأحمد، بغداد 1984م؛ وترجمة الأستاذ فراس السواح التي وفقت بين ترجمات إنجليزية مختلفة، دمشق 1987م؛ والترجمة الشعرية البديعة للشاعر العراقي الكبير عبد الحق فاضل بعنوان: «هو الذي رأى »، بيروت 1972م؛ وكل ذلك بجانب نصوص من الملحمة وردت في دراسات قيمة، من أهمها في العربية كتاب هنري فرانكفورت وزملائه: «ما قبل الفلسفة، الإنسان في مغامرته الفكرية الأولى»، من ترجمة الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، بيروت 1980م؛ والأسطورة والتاريخ في التراث الشرقي القديم، دراسة في ملحمة جلجاميش، للدكتور محمد خليفة حسن أحمد، بغداد 1988م. حتى إذا تركت حقل الدراسات العلمية والأكاديمية وبحوث علماء الآشوريات في كتبهم ومقالاتهم في مجلة «سومر» وغيرها من الدوريات المتخصصة، أحزنك ألا تجد في العربية عملا أدبيا واحدا استوحى هذا الأثر الخالد باستثناء مسرحية شعرية متواضعة للشاعر العراقي يوسف أمين قصير، بعنوان: «جلجاميش في العالم السفلي»، بغداد 1973م، ومعالجة مسرحية شائقة من نوع «المونودراما» للعرائس التي يحركها وينطقها ممثل واحد هو الفنان العراقي سعدي يونس (وقد أسعدني الحظ بمشاهدتها، ولم يسعدني بالاطلاع على نصها). ولا شك أن هذا دليل كاف على أن الملحمة لم تصل بعد إلى الوعي العام، ولم تحرك وجدان المبدع العربي، وهو أولى الناس بالاهتمام بإرثه وامتلاك ميراثه؛ لعله أن يتصرف فيه تصرف الحر، ويدرك مدى تغلغل «نموذجه الأصلي» في شعوره أو لاشعوره الفردي والجمعي عبر العصور والأجيال. •••
ربما تثير الصفحات السابقة قدرا غير قليل من الدهشة في نفس القارئ الذي لم يتعود من الكاتب أن يقدم لعمله الأدبي بمقدمات علمية ولا شبه علمية، غير أن هذه المقدمة كانت ضرورة لا غنى عنها للتعريف بأثر خالد من آثار تراثنا الثقافي والحضاري من ناحية، وجزء لا يتجزأ من الأدب العالمي لا تزال الدراسات العلمية والفنية تتوالى عنه من مختلف أبعاده من ناحية أخرى، مع الحرص على عدم الدخول فيما لا نهاية له من التفصيلات والتفسيرات التي لا يتحملها هذا التقديم. والواقع أن دوري في هذا العمل الملحمي بلوحاته الدرامية العشر لا يخرج عن كونه مجرد قراءة - أتمنى أن تكون خلاقة كما يقول أصحاب النقد الحديث! - أو هو إن شئت «ترجمة» بالمعنى الأعمق والأشمل لهذه الكلمة، ينصهر فيها أفق المؤلف الأصلي مع أفق قارئه المعاصر، ويتم بينهما التقارب والتجاوب والتعاطف ، مع إدراك أوجه التباين بين الرؤى والأزمنة والتراكيب والسياقات والحضارات (كما يفيض في ذلك أصحاب فلسفة التفسير أو التأويل للنصوص المختلفة - الهيرمينويطيقا - وبخاصة الفيلسوف هخانز جورج جادامر)، ولكنني سأؤجل الحديث عن هذا الدور قليلا لأقدم بعض الملاحظات التي أرجو أن تلقي الضوء على مكانة «جلجاميش» من التراث الإنساني، دون أدنى رغبة في التفاخر أو الزهو به (وإن كان الزهو بعيون التراث حقا مشروعا لأبنائه، كما هو سند نفسي لهم في أوقات الشدائد!): (أ)
إذا لم يكن جلجاميش هو أول بطل إنساني، فهو على التحقيق أول بطل مأساوي في تاريخ الأدب العالمي. وإذا كانت مأساته تكمن في فشله النهائي في التوصل للخلود الذي شقي شقاء لا يوصف في السعي إليه، فإن هذا الفشل نفسه هو سر بطولته وإنسانيته التي تجعله أقرب إلينا من كثير من أبطال المآسي القديمة والحديثة. ومع أن شاعر الملحمة قد جارى الكهنوت أو التقاليد الدينية والأسطورية القديمة في تصوير جماله وقوته في صورة خارقة للمقاييس البشرية، وصرح أكثر من مرة بأن «ثلثيه إلهي والثلث الباقي بشري فان»، فقد حرصت من جانبي على تأكيد إنسانيته وإبراز ضعفه وتردده في كثير من مواقفه وهواجس رؤاه وأحلامه، وعلى تتبع «تطهره» التدريجي من تألهه وتجبره وتسلطه، بل من تمرده المؤلم والعقيم على قوانين الموت والفراق المحتوم. والواقع أن بنية الملحمة نفسها توحي بأنها نوع من القص الإنساني أو «العلماني» كما نقول اليوم؛ فلم يثبت للعلماء أنها كانت تتلى مع الطقوس الدينية كما كان الحال مع قصيدة الخلق البابلية «إينوما إيليش» (عندما في الأعالي)، وبقيت قصة إنسانية على الرغم من إطارها الأسطوري وتدخل الآلهة - وبخاصة شمش - في كثير من أحداثها. أضف إلى هذا أن موت صديقه كان ضربة ساحقة لألوهيته المزعومة، فجرت فيه بشريته المذعورة من «حظ البشر»، وأطلقت بحثه اللاهث وسؤاله المحموم عن الخلود لنفسه أولا ثم لشعبه بعد ذلك. ولا ننسى أخيرا أن مأساويته ترجع في جانب منها إلى التشاؤم القاتم الذي طبع منذ القدم وجود الإنسان في أرض النهرين ؛ بسبب قلقه الدائم من قوى الطبيعة المدمرة، وهجمات المدن المجاورة، وغزوات القبائل البدوية المتوحشة وغاراتها المفاجئة، وخوفه المقيم من مصيره التعس في عالم لا عودة منه، عالم سفلي خال من النور والأمل، كتب فيه على أرواح الموتى أن تعيش كالطيور الصامتة على التراب، وتقتات من الطين، وتتعذب خلف الأبواب المغلقة في قبضة الملكة المخيفة أريشكيجال وزوجها نرجال وزبانيتهما الأشداء. (ب)
وإذا كان الغربيون يؤكدون أن «أوديب» هو أول فرد حاول أن يستقل بنفسه عن روح الجماعة ويخلصها من نسيج تقاليدها وأساطيرها وكهنوتها، وإذا كانوا يفتخرون بأن سقراط هو أول من طبق حكمة معبد دلفي والحكماء السبعة «اعرف نفسك» بصورة أخلاقية عقلية، وأول من تمثلت فيه الذاتية الوجودية الحقة بكل تمزقها بين النهائي واللانهائي، وبين المحدود والمطلق (على نحو ما صورها كير كجارد في رسالته المبكرة عن مفهوم الدعابة مع التركيز المستمر على سقراط)، فمن حق أبناء حضارة هذه المنطقة من العالم أن يردوا عليهم بأن جلجاميش قد سبق أوديب في إصراره على فرديته مهما كلفه ذلك من الاغتراب عن وطنه وشعبه، والمغامرة في اقتحام المخاطر والمهالك، وأنه قد تفوق على سقراط في «الذاتية» التي قادته على الطريق الوعر، طريق معرفة النفس وحدودها ومكانها من العالم وعلاقتها بالآلهة والبشر، وطريق البحث الشائك عن معنى الحياة والموت والخلود. والدليل على هذا أن ملحمته التي ترجع إلى الألف الثالث قبل الميلاد ما زالت تحرك عقولنا وقلوبنا في أواخر القرن العشرين، وما فتئت تثيرنا ببساطتها وعفويتها، دون أن يقلل من استمتاعنا بها أسلوب الاستطراد والتكرار والتقرير والارتجال الذي يطبع الأدب الشعبي والقصص الشعبي بوجه عام. (ج)
انتقد بعض فلاسفة الغرب (مثل فيلسوفي مدرسة فرانكفورت ومؤسسي النظرية النقدية الجدلية، وهما ماكس هوركهيمر وتيودور أدورنو في كتابهما المشترك عن جدل التنوير الذي صدر عام 1971م) حركة التنوير العقلي الأوروبي، وأكدا أن التنوير ظل طوال تاريخه الطويل متداخلا مع الأسطورة التي كان ينتزع نفسه منها لكي يرتد إليها من جديد بصورة أبشع (كما حدث للعقل الذي سقط في اللاعقلانية المروعة مع كارثة قيام الأسطورة النازية وتحطمها). والمعروف أن التنوير الأوروبي قد بلغ ذروته في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وأن أقطابه قد أكدوا سلطة العقل النقدي الذي تقاس عليه كل سلطة أخرى، بما في ذلك سلطة التراث الديني، وعرفه كانط - رأس المثالية الألمانية الحديثة - بأنه هو خروج الإنسان من الوصاية وبلوغه مرحلة الرشد؛ أي مرحلة معرفة الذات والتحرر من الخرافة والإقطاع والتعصب، والاتجاه - على هدى النزعة الإنسانية والفلسفة العقلانية وتطور العلوم الطبيعية - إلى توحيد البشرية العاقلة تحت لواء التسامح والتقدم والاستنارة. والذي يهمنا في هذا المقام أن الفيلسوفين السابقي الذكر قد أرجعا التنوير إلى جذوره الأولى في التاريخ الغربي، وزعما أن «أوديسيوس» - بطل ملحمة الأوديسة لهوميروس - هو أول «مستنير» أوروبي استطاع بخبثه وذكائه التخلص من سحر الأسطورة ومن كيد بعض الآلهة والعمالقة له ولرفاقه في رحلته الخطرة. وبصرف النظر عن مدى صحة هذا الرأي، وعن تأرجح التنوير الغربي منذ ذلك الحين بين التقدم والتراجع، ففي تقديري أن جلجاميش كان أسبق إلى التنوير أو الاستنارة من أوديسيوس بألف وخمسمائة عام على الأقل. كانت مغامراته تحديا مستمرا للأساطير المسئولة إلى حد كبير عن تألهه وجبروته واستعباده لشعبه ولهاثه المضني وراء حلم الخلود المستحيل، وظل يخرج من أساطيره وأحلامه بالتدريج ويتحول عنها خطوة بعد خطوة، حتى يئس منها بعد ضياع نبتة الخلود من يديه، ثم تطهر منها - أو هذا على الأقل هو تفسيري لخاتمة الملحمة! - مع عودته إلى مسقط رأسه في أوروك، وعزمه على وضع يده في يد شعبه لتحقيق الخلود الوحيد المتاح للبشر أثناء حياتهم على الأرض، وهو بناء الحضارة وإيثار ما ينفع الناس ويمكث في الأرض على الشهرة الكاذبة والتسلط الأناني والمجد الشخصي. ومع ذلك فربما ينظر إلي القارئ نظرة المتشكك الساخر وهو يسأل: إلى أين أوصلهم التنوير الذي بدأ مع أوديسيوس، وإلى أين وصلنا بالتنوير الذي بدأه جلجاميش؟! وله وحده أترك الإجابة على هذا السؤال على ضوء محنتنا الراهنة، أو بالأحرى في غياهب ظلماتها.
ليس القدم وحده هو الذي يضفي على جلجاميش هالة الجلال والصدق والجمال؛ لأن أشعة هذه القيم الباقية تنبعث من تكوينها الفني ومضمونها الفكري، والدلالات التي يوحي بها شعرها وأحداثها وشخصياتها على مأساة الإنسان في وجوده القلق، وبحثه عن المعنى والمعرفة، وسؤاله عن سر الحياة والموت والمصير، بجانب دلالتها على النموذج الأصلي أو الأولي - على حد تعبير عالم النفس كارل جوستاف يونج - للشخصية الشرقية المستبدة في بعدها الأسطوري والتاريخي، ومدى ما بقي منها من رواسب فاعلة في وعينا ولاوعينا الحاضر (وإن كان جلجاميش، في تفسير بعض الباحثين والتفسير الذي ارتضيته لنهاية هذا العمل، يقدم مثلا نادرا في تاريخ القهر والقمع الطويل لهذه المنطقة من العالم على الحاكم الذي تطهر من طغيانه)؛ ولذلك فإن جلجاميش وعاء أثري وفني يحتوي على مزيج مأساوي مدهش من مغامرة الإنسان بحثا عن نفسه، وصراعه الأخلاقي مع الشر، ورؤاه ومواقفه الوجودية التي تتذبذب بين الاستغراق في نبع اللحظة الراهنة واغتراف كل ممكناتها، والتصميم على تحقيق أمل «يوتوبي» يبدو في حكم المستحيل. أضف إلى هذا أهم ما اشتهر به جلجاميش وضمن له الشمول والحضور وراء حدود المكان والزمان، وهو سعيه الدائب إلى الخلود الذي يمكنه من الإفلات من «حظ البشر»، ويعينه على تخطي أسوار الفناء الذي يحاصر حياته في كل لحظة، ويلتهم كل أعماله وأتعابه وما بنت يداه؛ ثم إنها تخاطبنا اليوم أيضا - كغيرها من أمهات النصوص في تراثنا الأدبي والحضاري - في سعينا الدائب لمعرفة هويتنا وتحقيقها، وفي تطلعنا لإرساء الأساس الأول المفتقد لوجودنا وتقدمنا على درب التحضر والتطور، ألا وهو الحرية. وهل ثمة سبيل يقربنا من هويتنا مثل تفهم نصوص تراثنا، وتجديد حضورها في وعينا، وجعلها معاصرة لنفسها ولنا في وقت واحد (على حد التعبير الجميل الذي يوجه بحوث المفكر العربي محمد عابد الجابري في التراث العربي والإسلامي)؟! •••
كان حبي لهذه الملحمة هو مصباحي الوحيد على الطريق المليء بالمخاطر والعثرات، وكنت قد اطلعت عليها لأول مرة في سنوات الطلب، وخطر لي في ذلك الحين أن أدخل معها في تجربة فنية أو فكرية لا أذكر معالمها على وجه التحديد، وسرعان ما استبعدت ذلك الخاطر النزق الذي ظل يتقلب في داخلي كالشوكة التي لا يتوقف وخزها المؤلم؛ ذلك أن التجربة كانت فوق طاقتي المحدودة. ومن أنا حتى أتجاسر على الاقتراب من كنز أدبي خالد، لا يسبر أغواره إلا من يستطيع أن يسبر أغوار عالم حضاري كامل، عالم أقف أمام أبوابه وقفة التلميذ البائس البليد، فلا أنا أعرف اللغة الأصلية التي كتب بها، ولا لدي فكرة عن علم الآشوريات وأسراره المحجوبة إلا عن أهل الاختصاص؟! ثم لمن أقدم هذه التجربة وجلجاميش غائب عن وعي القارئ العام، وبيننا وبينه فجوة سحيقة قد لا تقل عن خمسة آلاف عام؟ وشاءت تحولات الأيام والأعمال أن أعكف طوال السنوات الثلاث الماضية على كتاب كبير عن «حكمة بابل» توفرت فيه على تأمل الحكمة البابلية ودراسة نصوصها الأساسية، مثل أيوب البابلي (لدلول بيل نيميقي أو لأمتدحن رب الحكمة)، والمعذب والصديق، وحوار السيد والعبد، وغيرها من نصوص الحكمة والأدب الشعبي السومري والبابلي.
12
Bilinmeyen sayfa