وقف الشيطان عن الكلام هنيهة، واضعا يده على جرح بليغ في جانبه، ثم زاد قائلا: «أما الملاك المسلح وأظنه ميخائيل، فداهية يحسن ضرب السيف، ولو لم أنطرح على الأرض وأمثل دور النزع والموت، لما أبقى مني عضوا بجوار عضو آخر.»
فقال الخوري بصوت تعانقه رنة النصر والتغلب: «ليكن اسم ميخائيل مباركا فقد أنقذ الإنسانية من عدوها الخبيث!»
فقال الشيطان: «ليست عداوتي للإنسانية أشد سوادا من عداوتك لنفسك، فأنت تبارك ميخائيل وهو لم يفدك بشيء، وتجدف
9
على اسمي في ساعة انكساري، مع أنني كنت ولم أزل سببا لراحتك وسعادتك، أتجحد نعمتي وتنكر معروفي، وأنت عائش في ظلال كياني؟ أولم تتخذ وجودي صناعة لك، واسمي دستورا لأعمالك! هل أغناك ماضي عن حاضري ومستقبلي؟ هل نمت ثروتك إلى حد لا تحتمل معه الزيادة؟ ألم تعلم أن زوجتك وبنيك وهم كثيرون، يفقدون رزقهم بفقدي، بل ويموتون جوعا بموتي؟ ماذا تفعل لو حكم القضاء باضمحلالي، وأية صناعة تحسنها إذا أبادت الأرياح اسمي؟ منذ خمس وعشرين سنة وأنت تسير متجولا بين قرى هذا الجبل لتحذر الناس من حبائلي، وتبعدهم عن مصائبي، وهم يبتاعون مواعظك بأموالهم وغلة حقولهم، فأي شيء يبتاعون منك غدا إذا علموا أن عدوهم الشيطان قد مات؟ وأنهم أصبحوا في مأمن من حبائله ومعاقله؟ وأية وطنية يسندها القوم إذا ألغيت وظيفة محاربة الشيطان بموت الشيطان؟ ألا تعلم وأنت اللاهوتي المدقق: أن وجود الشيطان قد أوجد أعداءه الكهان، وأن تلك العداوة القديمة هي اليد الخفية التي تنقل الفضة والذهب من جيوب المؤمنين إلى جيوب الوعاظ والمرشدين؟ ألا تعلم - وأنت العالم الخبير - أنه بزوال السبب يزول المسبب؟ إذن كيف ترضى بموتي، وبموتي تفقد منزلتك، وينقطع رزقك، ويكف الخبز عن أفواه زوجتك وبنيك؟»
وسكت الشيطان دقيقة، وقد تبدلت في وجهه دلائل الاستعطاف بأمارات الاستقلال، ثم عاد فقال: «ألا فاسمع أيها الغبي المكابر، فأريك الحقيقة التي تضم كياني بكيانك، وتربط وجودي بوجودك، في أول ساعة من الزمن، وقف الإنسان أمام الشمس وبسط ذراعيه، وصرخ للمرة الأولى قائلا: «ما وراء الأفلاك، إله عظيم يحب الخير!» ثم أدار ظهره للنور، فرأى ظله منبسطا على أديم التراب، فهتف قائلا: «وفي أعماق الأرض شيطان رجيم يحب الشر!» ثم سار نحو كهفه هامسا في نفسه: «أنا بين إلهين هائلين: إله أنتمي إليه، وإله أحاربه.» ومرت العصور إثر العصور، والإنسان بين قوتين مطلقتين: قوة تصعد بروحه إلى العلاء فيباركها، وقوة تهبط بجسده إلى الظلمة فيلعنها، غير أنه لم يكن يدري معاني البركة، ولا معاني اللعنة، بل كان بينهما كشجرة بين صيف يكسوها، وشتاء يعريها، ولما بلغ الإنسان فجر المدينة، وهي الألفة البشرية، ظهرت العائلة، ثم القبيلة، فتفرقت الأعمال بتفريق الميول وتباينت الصناعات بتباين المشارب والمنازع، فقام البعض من تلك القبيلة بحراثة الأرض، وآخرون ببناء المآوي، وغيرهم بنسج الملابس، وغيرهم بصهر المعادن، في ذلك العهد البعيد، ظهرت الكهانة في الأرض، وهي الحرفة الأولى التي ابتدعها الإنسان بدون حاجة حيوية، أو داع طبيعي إليها.»
وقف الشيطان دقيقة عن الكلام، ثم قهقه ضاحكا بصوت ارتعشت له تلك الأودية الخالية، وكان الضحك قد أوسع فوهات
10
كلومه، فأسند خاصرته بيده متوجعا، ثم شخص بالخوري سمعان وزاده قائلا: «في ذلك العهد ظهرت الكهانة في الأرض ، وإليك يا أخي كيفية ظهورها: كان في القبيلة الأولى رجل يدعى «لاويص» ولا أدري لماذا اتخذ له هذا الاسم الغريب، كان لاويص رجلا ذكيا ولكنه كان بطالا متوانيا
11
Bilinmeyen sayfa